شبلي الملَّاط
منتصب انتصاب الجِذع، في مقلتيه تموُّجات تجيش في الحدقتين، فما تعلم أتموُّجات غضب هي أم تموُّجات ألم!
بين غريزته ومشيته نَسب وقُربى؛ فهو يمشي ساخطًا على من حوله، ويستمد غريزته من السخط أيضًا، وهو في كلتيهما أعظم الساخطين.
تقلَّبت أعطافه في ترف الأتراك؛ فهو تُركيُّ الخُلق، وقد يكون هذا الاستتراك سجيَّة في نفسه؛ لأنه نجم من بيت نال قِسطه من الوظائف في العهد الحميدي وبعده.
سهْل الفناء واسِعه إلا مع الشعراء، فهو لا يستمرئ قصيدة من قصائد معاصريه، وقد يتقذَّر جميع ما يقرأ من أبواب الأدب في هذا العصر.
أحرق «عمرو بن العاص» مكتبة الإسكندرية لاعتقاده أن في القرآن الكريم ما يتغنى به الناس عن سواه، ولو قُيِّض «للملَّاط» أن يحرق قصائد الشعراء في عصره لحذا حذو بطل العرب في ذلك.
فصيح الديباجة «عنتريُّها» عربي الأسلوب، لم تذله العُجمة بلهاثها، يجلِّي العبارة حتى يُبرِزها في حِلية من البلاغة تذكِّرك بعهد «الرشيد»، وهو في ذلك لا يحتاج إلى التكلف قط.
إذا جلس إلى النظم خبَّ في مجاله خبًّا، فهو لا ينفض يده من القلم حتى يأتي على القصيدة كلها، وقد لا تسلخ «المعلقة» من وقته أكثر من ساعتين.
أخَّاذ، قد تجد في قصائده جميع شعراء العرب من «عنترة» إلى «المتنبي» إلى «ابن هانئ الأندلسي». أما «عنترة» فهو الشاعر الذي لا يزايله فترة، وقد يكون أحبَّ الشعراء إليه.
قال «عنترة» مخاطبًا «عبلة»:
وقال «الملَّاط» في قصيدته «خولة بنت الأزور وأخوها ضرار»:
فكأن الشاعر عندما رنَّت كلمة «فارس» في «خانة» الصدر الأول تذكَّر «مستلئم» «عنترة»، فأخذ يحتال عليها حتى راضَ صعابها فغلَّلها في مطلع الصدر الثاني.
حلال عليه حتى معاني القدماء وصورهم، يستبيح منها لنفسه ما يراه حسنًا، إلا أنه لا يعييه الفن عن أن يطبعها بطابع من روحه.
كساه الحماس حلَّته فهو شاعر الحماس. يحفظ صدرًا عظيمًا من متخير أقوال العرب، فهو يتحكَّم في شأنها تحكُّم المالك بملْكه، وقد يترقَّى بها في مدارج البلاغة حتى يملك عليك إعجابك، وقصاراه في ذلك أن يملكه عليك.
شاعر تَطرَب له وهو على المنبر، وقد يرتفع بك حتى ليوشك أن يقودك إلى ثورة، يتضح لك من هنا أن ﻟ «عنترة» يدًا عليه.
قال «عنترة»:
وقال «الملَّاط» في القصيدة نفسها:
ففي قوله: «سلي كماة الحرب … والبيض قد سلت … وينبئك من شهد الوقيعة …» روح عنترية، بل ألفاظ عنترية تشيع فيك هزة الحماس، وتمضي بك قُدُمًا في الذاكرة إلى أربعة عشر قرنًا سلفت، ومهما جهِد «الملَّاط» ليخوض بطن عصره في قوافيه لا يستطيع أن يطوي من أجيال البادية ليصل إلينا إلا نزرًا قليلًا، فهو يعيش هناك. إن «الملَّاط» طلل من أطلال العرب ولكنه غير بالٍ.
قد يكون شاعر الحماس أجدر من سواه بوضع ألفاظه الصوانيَّة في أفواه الأبطال القدماء؛ فلم أعرف شاعرًا من شعراء اليوم يستطيع أن يُبرز لك شبحًا ناطقًا من هؤلاء الفرسان على لوحة العصر كما يستطيع «الملَّاط».
لا تنحطُّ على قصيدة من قصائد هذا الشاعر إلا رأيت للسيف جولة فيها، كما أنك لا تقع على قصيدة من قصائد «الأخطل الصغير» إلا رأيت فيها جولة للقلب، حتى إنك لتتبيَّن في شعر «الملَّاط» بَريق السيف خلل الدموع.
تمكَّن «الملَّاط» من أدبه ولم يتمكن من دنياه، فلقد شاء القدر أو الحظ العاثر أن يَقْمِره حَقه، وشاء إخوانه أن يطووا عنه كشحًا.
كان الشاعر لخمس سنوات خلت مديرًا لإحدى نواحي الجبل، فدخلتُ عليه في بيته ذات مساء فألفيته يدخِّن النارجيلة وسحابة الألم منتشرة على أديم وجهه، كأنَّ ساعة الغروب شاءت — في ذلك اليوم — أن تحدر عنه لثام الغبطة لتظهر الكآبة وراءه، بحيث يراها لأول بادرة كلُّ مَن ينظر إليه، وكأنَّه شَعر باستغرابي فلم يتركْني في حيرة أحتاج معها إلى استفهام، فنشَر من فمه شفَّافة من الدُّخان وأخذ يردِّد أبيات «الطُّغرائي»:
فأدركتُ ما يجول في خاطره وأية فكرة كدَّرت عليه صفاء الغروب في ذلك اليوم من ربيع ١٩٢٥، فلم أجد كلمة أعينه بها على ما به أفضل من قول «الطُّغرائي»: اصبر لها.
فهزَّ رأسه وصمتَ … وصمتُّ! وإني لأعرف به اكتئابًا حتى انصرفتُ عنه.