فؤاد حبيش
مقبل العمر، ربعة القامة، منتصبها، أسود المقلتين، منفرج الجبين، أسمر البشرة في حمرة شفافة الأديم، منفتل الأعضاء صليبها.
يدف في سيره دفيف الطائر، فلا توشك رجله أن تلمس الأرض حتى تنبو عنها، كأنما الأرض من تحته أسلاك من الكهرباء، أو كأنه يرى الجماهير من حوله أثقالًا تزعجه في طريقه؛ فيمشي فيها مشية المخفِّ الذي ليس لطبعه الدقيق صبر على الناس.
تحسَّر من قبعته صيفًا وشتاءً، ولو قدِّر له أن يتكشَّف من جميع ثيابه لفعل، فهو يذهب مذهب العراة ويأخذ بآرائهم؛ اعتقادًا منه أن مذهبهم هذا إنما هو المذهب الصحي المهذَّب.
لا يعدل بمذهبه الجديد مذهبًا على الإطلاق، ولا يريد أن يجاوز مبدأه إلى غيره، فهو يدَّعي له الإصلاح، ويلجأ إلى الحجة في ما يدَّعي، والويل لمن يناقضه شهوته فيه؛ فإنه ليضمر وراء شفتيه لسانًا جموحًا ضرَّسته ألوان الجدل.
قال «علي بن أبي طالب»: «إن الناس رجلان: متَّبِع شرعة، ومبتدِع بدعة.» والشيخ «فؤاد» هو الرجل الأول؛ إذ إنه لم يبتدِع مذهب العري بل اتَّبعه، فما كتابه «رسول العري» — الذي أوقَعَ الواقعة عند صدوره — إلا بوق من أبواق الغرب تكلم فيه برجع قول قد قاله بعض أدباء الغرب من قبله، إلا أن القول هذا في بلاد تخزن أخلاقها وعاداتها وتتمسك بمبادئها ونزعاتها هبط به على مستوى الرجل الثاني، فهو إذن متَّبِع شرعة ومبتدِع بدعة في آن واحد.
أما أنا فلا أتحيَّز للكاتب «حبيش» في ميوله ولا أناقضُه إياها، فقد يكون مدعوًّا فيها إلى أمر واضح صحيح، وقد لا يكون، إلا أني أحب ستر عورة الإنسان ولو نقص في جسمه، ولو أتيح لي ستر عورة الوجه البشري لأقدمت عليه، فكم في الناس من أعوروا أخلاقهم على وجوههم، فهم في حاجة معها إلى ستار كثيف …
يخبط العشواء في بعض أفكار يبنيها على دعائم مشبوهة، فهو يلوي بها لسانه في وجود الخالق، ويزعم أن البشر إنما هم تريكة الصدف، والويل لمن يقرعه بالحجة وينهنهه عن زعمه.
أخذ الله بقلبه إلى الحق!
قال «علي بن أبي طالب»: «الويل لمن جحد المقدَّر، وأنكر المدبَّر. زعموا أنهم كالنبات ما لهم زارع ولا لاختلاف صورهم صانع!»
لا يستدل أحدًا على السراط القويم ولا يتعظ بكلام أحد، فهو يسير على هواه، ويستحمد خطاه، ولئن نزل على آراء «أندره جيد» وتأثر به، إنه لفتح عظيم فتحه هذا الأديب الفرنسي في أخلاق هذا الأديب العربي.
ما يحث الناس على اتِّباع مذهب إلا ويسبقهم إليه، ما يثبت لك أن هذا الكاتب صادق في مبادئه، قانع بها عن عقيدة راسخة، وإن تكن مدخولة.
مفكِّر، ترى في كتاباته روحًا جديدًا، وآراء صائبة، لا يتلوَّن في معاقدها، ويحسب أنه يأخذ فيها بالخير والإصلاح، ولكني ضعيف اليقين في نجاحه إلا إذا مهَّدت المدارس أخلاق الناشئة لقبول مثل هذه الأفكار وتشرُّبها.
قال الأستاذ «حبيش» في معرض حديثه عن الحب: «أعتقد أن على المحبِّ أن يبدأ حبه في الجسد لينفذ من خلاله إلى النفس، وربما استغرق ارتيادُ مجاهل شعور حبيب واحد الحياةَ كلَّها.»
وقال في معرض حديثه عن الفتاة والزوجة: «إن الفتاة العفيفة والزوجة الفاضلة مَن تحافظ على فضيلتها بنفسها، لا خوفًا من زوجها والناس، ومَن تصون عفافها بيدها، لا على يد أبيها وأمها والجيران … وإنه لأحبُّ إليَّ أن تستشهد مئات الفتيات والزوجات في سبيل تقوية فتاة واحدة وتحصين زوجة واحدة من أن تحيا المئات مستضعفات يقدِّمن رِجْلًا ويؤخِّرن أخرى، وبين الإقدام والإحجام أقدام تعثر فتهوي بصاحبتها، وعفاف يتردَّد فيُهتك، وفضيلة تضطرب فتُستدرَج. أما إذا استُبيحَت الأعراض فلتُستبَح عن قوة لا عن ضعف، فذلك أفضل لها وأجلُّ.»
فكرة جليلة، إلا أن المرأة إذا لم تقرن هذه الفكرة بالثقافة السامية، تزلُّ بها قدمها فتصبح وبالًا عليها.
لا يزال الأستاذ «حبيش» في ريق العمر، فهو لم يستوف منه أكثر من ست وعشرين سنة، وسيكون له في عالم الفكرة الاجتماعية شأن خطر، ولكنك لا تعلم أيَّان يومه، فلندعه يلغم الصخور التي تعترض طريقه، فلعله يصل فيها إلى هدف جليل.