محمد الجسر
جُبِلَ من صعيد العمالقة، فهو رفيع النجاد، منتصب كالأسطوانة، أشمط الناصية، نحاسيُّ البشرة، مزمَّل الرأس بعمامة كأنها غيمة على هضبة.
حَذَت جبينه قارصه السياسة في اصطكاكها، فطلت أديمه بخيال من لونها الناريِّ.
في مقلتيه الصارمتين بريق صناعة تلقف أسرارها، وعِلم بمهبِّ ريحها، هي صناعة السياسة.
أما طلعته فتوحي الوقار في جميع صورها!
ليس بين الذين يحترفون السياسة مَن قُدِّر له أن يعمِّر طويلًا في مطرح واحد كالأستاذ «الدبَّاس» والشيخ «محمد الجسر». فلقد أوشك الشيخ «محمد» أن يحتل رئاسة المجلس احتلالًا لم يسبق لرجل من قبل؛ ذلك لأنه عرف أن يعالج بدهائه وحنكته جميع العمُد التي تدعم كرسيَّ الرئاسة.
صلْبٌ! قد يهي منبر الرئاسة تحت صلابة رأيه! فلو كان الشيخ «محمد» نائبًا لاستطاع أن يخدم بلاده بما أوتيه من الحزم والجرأة أكثر من خدمته إياها وهو رئيس، إلا أنك لا تعلم أي سر من أسرار الطبيعة ينطوي عليه هيكل هذا الرجل فيجعله جديرًا بأن يكون قمة.
إذا وقع نظرك على سيارة تقلُّ رجلًا كأنه من أصلاب المردة، على جسده قفطان، وفي وجهه شعور جزَّها المقص فأبقى منها في مغرسها آثارًا خفيفة كسيقان السنابل التي يبقيها المنجل بعد الحصاد؛ فقل هذا الشيخ «محمد الجسر».
عرف الشيخ «محمد» أن يتسلَّل إلى مداخل السياسيين في هذا البلد، وأن يستلَّ منهم ذاتيتهم من غير أن يدَع أحدًا يستلُّ ذاتيته منه، وهذا لعَمْري ضرب من السياسة الرشيدة المقرونة إلى كثير من الحكمة.
ولقد عرف أخلاق الفرنسيين المسودين، وهو رجل تقلَّبت أعطافه في مختلف الوظائف، وعرف أن الوقوف في وجه القادر ضربٌ من الجهل، فوسَّط حكمته وتعقُّله بينه وبين الانتداب، ولو كان الشيخ «محمد الجسر» مبسوط العلم — بلغة «راسين» — مع ما هو عليه من النضوج في الفكر والدهاء في السياسة؛ لكان في هذا البلد علَمًا لا يخفق في مستواه علَمٌ.