أمين تقي الدين
حَسن الأمَّة، تغشَّى وجهَه شحوب جميل يتحيَّر بين لونَي الفجر والصباح، وتملَّت مقلتيه العربيتين عذوبة صوفية تبتَّلت إليه ملاوة من الدهر ولمَّا تزل.
حُمِّل من عسف الزمن أوزارًا ثقالًا، وقد يكون سبب ذلك أنه آوى إليه صِدق الضمير فلم يتمنَّ يومًا ولم يُدهِن. جَبل من صعيد طيب، فهو صورة الله في خلقه، وقليلًا ما يقع الصديق في خلائف الأرض على صديق مثله.
تجلس إليه فترى على أديمه الجميل ظلًّا من جمال النفْس، فكأنَّ جسده ونفْسه نَجَما من سلالة واحدة، أمَّا حديثه فلا تغشاه غَبرة من التكلُّف، فهو حديث النفس المرسلة على فطرتها، وما أجمل الفطرة التي لا تستغشي في نفس الأديب غير ثوبها.
وتجلس إليه — وقد لا يُقدَّر لك أن تجلس إليه إلا إذا اتَّسق لك جانب من الأدب — فلا تلبَث أن تحسَّ في نفسك بميل إلى عذوبةٍ فيه لا تعلم أيًّا من عروقه أوعاها في دمه، على أنك لا تجدك إلا وقد أُخذتَ بما يَسلُكه فيك من سِحر الكلام في مساغه، ولا تشعر بصوتك إلا وقد خشع له وسُكِّرتْ أبصارك إلا عليه.
علَتْ به السن إلى الخمسين، إلا أنه ما برح يُمسِك بعِصَم الشباب وطلاقته. نديُّ الكفِّ، يستوي الكرم مع يده في أعالي مجاليه، وقد يكون الكرم شرَّ ما به، وهو القائل في شعره:
دُونك هذه النادرة: كنت أملكُ حقًّا في شركة مياه بيروت، وكان هذا الحق يَسُحُّ عليَّ نَزْرًا من المال كل سنة، وشاء سوء الطالع يومًا أن تتمرَّد عليَّ الشركة فتُضرِب عن دفع ما حُقَّ لي في ذمتها طوال ثماني سنوات، فهرولتُ إلى الشيخ «أمين» في مكتبه والغضب يُجهِّم أسارير وجهي، وبعد أن عرضتُ له أمري مرسِلًا نفسي على استمطار ألوان التهديد على كل مَن يَتِرني حقي أو تؤدِّيه الجسارة إلى هضمه — وأنا إذ ذاك في الواحدة والعشرين، في نَزَقِ الحداثة وكبريائها — عملت له وكالة دفع أجرها من جيبه؛ لأن جيبي في تلك الآونة كان خاويًا يَصْفَرُ صَفِير العقل الطائش، وانكفأتُ عنه مطمَئنًّا إلى القضية.
ومرَّ أسبوع، فإذا نحن من عيد الفصح على ثلاثة أيام، وإذا المرض لا يزال ملازمًا جيبي، وقد دلاني ببلية أنقضت ظهري وأسقطتني في يدي، فهِمتُ على نفسي أسأل الله الفرج، إلا أن الله في ذلك الحين أبى أن يُردئني على ما بي، حتى كدت أقنط قنوط الكافر المنذور لحطب جهنم، لو لم تفتح الصدف في وجهي كوة سعيدة برز لي منها جيب الشيخ أمين.
– أسعد الله صباح أستاذي الشيخ.
– أهلًا … أهلًا …
ولما أحلَّني المكان وآذنتني الحاجة أن السيكارة في يدي تكاد تنتصف ولم أفتح منقاري بعدُ، تنحنحتُ، وقلتُ: جئتُ أُراوِد محفظتك على نفسها.
فانتبذ الشيخ من دعوى كان يدرسها، وصغى إليَّ بوجهه وصدره، وقال مستفهِمًا: ماذا تعني؟
قلتُ: جئتُ أسترفِدك بعض ليرات قد أكون أحوَج منك إليها.
فضحك ضحكة لم يقصِد فيها، وقال لي: على الشركة أن تدفع لك، وليس عليَّ!
فقلتُ: لقد حدث انقلاب في جيبي بوَّأك منزلها، فأصبحتِ الشركة أنت وأنت الشركة، ومحفظة الشيخ «أمين» لا تحتاج إلى حُجة أدلى من هذه لترغي وتجفئ بزبدها، فما هي إلا خمس ثوانٍ حتى رأيتها تمُجُّ من شفتيها ست عشرة ورقة سورية وليرة عثمانية، احتنكتُ ذريتها كما يحتنك الجراد الزرع، كأني حلفت ألَّا أُبقي منها ما يخبر عنها، وكأني آلَيْتُ على نفسي أن أغادر جيب الشاعر المحامي أعجفَ طاويًا كما كان جيبي، وأن أعكس الآية عكسًا، فبدَلَ أن أدفع له أنا يدفع لي هو.
سمعتُه ليلة، وقد ظهَرَ المنبرَ في الحفلة التذكارية للمرحوم «سليم سركيس»، يلقي قصيدة أطيب من العافية، فحبستُ نَفَسي عليه حتى أَتمَّها.
بالله تراه وهو يلقي فقد تظنُّه وهو يترجَّح كالمبخرة أحد الشعراء في شِيَع الأولين. أُشرِب في قلبه البلاغة في الكلام، فإنك لترى على شعره صِبغة العروبة الصافية، وإنك لترى أبيات قصيدته غُرفًا من فوقها غرف.
يكره التفريط في لغة الأجداد، ويزعم أن الأدب الجديد إنما هو متاع إلى حين، فهو لا ينحطُّ على قصيدة من قصائد اليوم إلا ويراها خاوية على عروشها، بالغة من الهزال النهاية، ذلك أنه لا يريد شعرًا عرَّفه الخيال وطيَّبته الرموز، ولو قُدِّر له أن يردَّ على اللغة فطرتَها لأعادها سيرتها الأولى.
قال لي يومًا إنه دخل متحف اللوفر في فرنسا ليشهد روائع الفن، فأعيَتْه سليقته القحطانية عن تفهُّم الرموز في تلك الأشباح، فرُدَّ على عَقِبه.
ومعظم أدب اليوم يُغْني فيه الخيال والرمز إلى جانب السليقة والعاطفة والفن، فلا غرابة إذا ضُربتْ عليه المسكنة في عُرف الشيخ «أمين».
ولكنَّ الأمر الذي يدهشنا في عقيدة الشيخ الشاعر هو أنها لا تمتُّ بصِلة إلى شعره الذي يَرِينُ عليه الخيال وتَجمَح فيه العاطفة الرمزية، إذن فلقد كان عليه وهو الذي فتح في الخيال والصورة فتحًا أمكنه من ناصية الشاعرية الخالدة، الشاعرية التي تمشي وشاعرية اليوم في حلبة واحدة، بدليل هذين البيتين المثقَّفين:
كان عليه ألَّا ينظر إلى الأدب الحديث نظرته هذه، وأن يُنزِل رجالَه العاملين المنزِلة التي يسَّرتْها لهم الثقافة، والتي لم يترقَّوا في قِمَّتها إلَّا على مسالك دامية أكلت من أفلاذهم، وشربت من دموعهم.
إن الشيخ «أمين تقيُّ الدين» يعرف هذه الحقيقة، ويعرف أن نُبوَّه عنها إنما هو متاع إلى حين.