يوسف الخازن
وجهٌ نبيلٌ يدعو إلى الاحترام، طفَت عليه كآبة التمرُّد المقهور، فمسحته بخيال من التردُّد والحيرة.
شعر مشعَّث الحلقات؛ يكاد ينبو عن مغرسه، فهو في سفح طربوشه الأحمر كسُحُب من الدخان الأشهب الرمادي حول عمود من اللهيب.
عينان لاهثتان في وقبيهما كسنَّورين مزجيَّين قعدا يستريحان بعد أين.
وجبينٌ لا هو بالعريض ولا الضيِّق، تكالبت عليه الغضون فلا ينفض عنه الوجيب ولا يسرو جلباب التفكير إلا ساعةَ تعرج إليه خاطرة من النكات في لهو الحديث.
أما نكاته فتخرج من أطيب معادن المزح منبتًا.
يمشي مشية التائه الحامل على كاهله تبعة أمر مريب، ما يؤكد لك أنه حدر عن وجهه لثامًا كان يظهره بمظهر القويِّ أمام من يستدلُّ ببصر ضعيف.
ذهبت قامته في مذاهب الجوِّ وانتصبت مستقيمة كساق النخلة، ولقد استوى لها من روعة الجلال ما لم يستوِ لكثير من زملائه النُّوَّاب.
إذا وقع نظرك على سيارة تقِلُّ رجُلًا فردًا متقوِّسًا على عصاه وقد تجمَّع بعضه إلى بعض كمن به قفة المقرور، أو إذا سمعت رجُلًا يتحدَّث في حلقة من الناس تتخطَّفه بأبصارها وتترامى بالنظرات عندما تسمعه منه فيخلط العامية الكسروانية بما علق في ذاكرته من العامية المصرية، وهو بين الآخذ بأذيال عدم الاكتراث بمن حوله، أو إذا جُلتَ جولةً في أروقة «بكركي» فوقع نظرك على رجُل يهُشُّ بعصاه على الهواء كدولاب الناعورة، ورأيتَه يقرع بابًا فلا يُفتح، فيسأل أحد الخدم: فين فلان؟ فيجيبه هذا: خرج من ساعة يا سيدنا الشيخ. فيقرع بابًا آخر، ثم ينقضُّ على آخر، فعلى آخر، ولا يبرح يخوض بطن الأروقة قارعًا الأبواب كأنما هي له طلقًا حتى يفتح الجولان في وجهه؛ فقُل هذا الشيخ «يوسف الخازن».
•••
كان الشيخ «يوسف الخازن» في نظر الكسروانيين رأس إخوانه النُّوَّاب، فأداله صمته عن ذلك المقام العالي حتى في نظر هؤلاء.
لقد عرف فيه الشعب اللبناني رجُل المجلس في وقفات كان له فيها الكلام الفصل، إلا أنه ما لبث أن ركد جانبًا وأمسى في المجلس كأنما هو في منزل قلعة.
لقد رأيت النُّوَّاب في شتى مواقفهم فما أرى أحدًا منهم يشبهه؛ كان يطأ عقب المشاكل ليحلَّها، وهو من أهل العلم بمواقع الحق، فأمسى يطأ عقب الأموات ليرثيها، وقد يكون له في ذلك مآرب أخرى. كان يصرف بين الشعب والحكومة فأصبح يصرف بين الأرواح والله.
سمعت الشيخ «يوسف» منذ سنة يضرب في أرض لبنان خطيبًا، فيحثُّ الناس على انتخابه بألوان من الكلام، فجمعت عاطفتي لهذا الرجُل إلى ما اتَّصف به من ماضٍ شريف، وإذ كبر في صدري أن يُزجَّى هذا الرجُل عن كرسيِّه، أرسلت فيه أبياتًا من الشِّعر، جاء فيها:
ولكن عُدتُ اليوم فاستخرتُ الحق في القفول عن عقيدتي فيه، وقلتُ في نفسي: «لم يكن على المندوب من غضاضة في أن ينكر، وعلى الشعب في أن يعثر!»
لم نكن نأخذ على الشيخ «يوسف» مأخذًا لو لم يكن يربي على كثيرين من زملائه النُّوَّاب في فنون السياسة والعلم، فهو راسخ في الصحافة والأدب، إذا عالج أمرًا أحاط به من جميع أطرافِه.
ويعزُّ علينا أنْ لا يذكر الناس من روائع الشيخ إلَّا نكاته، وأن يقولوا: «لقد زرناه في المواقف الحرجة، فلم نجده ذلك الرجُل!»
وإني لأرى الحق في جانب من قال: «لقد كان مَثلُ غليان الشيخ يوسف في المجلس مَثلَ نشيش الماء في القِدر لا تُرفع عن النار حتى يخمد الماء في جوفها.»