إلياس فيَّاض
تردَّى من رأس الكهولة إلى الشيخوخة، فهو في الستين أو أعلى سنةً منها. دخل جسده في وَقَب، إلا أن بريقًا من كوكب الشباب ما يزال يعصم مُقلتَيه من ظلمة العمر، وقد يكون هذا البريق صبغة الشاعرية التي لم يبرح لها في قلبه مشعلها الحي.
تدلَّى إلى كرسيٍّ في الوزارة اللبنانية وانحطَّ على خشبة في مجلس النواب، ولكنه لم يرتفع بهما عن مستوى الشاعر «إلياس فياض»، فهو من المحافظين على مقامهم الحقيقي، لا يحادد فطرته أو يتآمر على تلثيمها بلثام المراكز شأن الذين لا يحفظون في نفوسهم حرمة لنفوسهم.
إن الشاعر الصادق ليتغنَّى بمقامه عن أيِّ مقام، ويعلم حق العلم أنه ما من قمة في العالم ترتفع على القمة التي بوَّأته السماء ذروتها.
إذا أخلد إليك يحدِّثك عرفت أنك في حضرة رجل من وجوه الثناء، لا يتزيَّد في كلامه ولا يغالي، وإذا حدَّثك عن ماضيه نفض جملة كنائنه فلم يُبقِ سهمًا في كنانة.
عليَّ وعلى أعدائي يا رب!
لا يتحيَّف من حق أحد؛ لأنه لا يريد أن يتحيَّف أحدٌ من حقِّه، وإذا وقع على شيء جميل يقول: هذا جميل، ويجهر بقوله، فلا يتزحف إلى ستر الحقيقة بستار من الحسد شأن الكثيرين من الشعراء الذين لم ينض بيدهم إلا مجاجة من الشِّعر، فلا يستوون على حسنة من حسنات القريب إلا وترهف الغيرة أعصابهم فيلوون بها ألسنتهم.
خلص في شعره إلى بعض غايات الأدب، وهذا فتح من الله ونصر مبين!
خبط ورق الشِّعر الإفرنجي فركم منه كومًا مهر بها ديوانه العربي، ولكنه أخرج بعضها في بزٍّ جميل أنساكَ فنَّ النسَّاج الأول، وهذا لعمري بعض الفتح والنصر.
إذا قرأتَ شعره استمرأتَ مرعاه الخصيب، إذ إنك لتقع فيه على سهولة في اللفظ ووضوح في التعبير وسموٍّ في المعنى. فمثل شعره مثل غدير صافٍ لا تشقى العين في رؤية الحصيات الآمنة في قعره.
وقد يخيَّل إليك أن هذه الصَّنعة السائغة في جعل الكلام قريب التناول إنما هي من المسائل الهيِّنات، ولكنْ ما أهون الحرب على النظارة!
وإذا جلستَ إليه جلستَ إلى قصيدة من قصائده، فحديثه يأخذ إِخذ شعره في الطلاوة، إلا أن هذا يُربي على ذاك بجمال الألوان.
يساور المعاني مهما تناءت، فيكبح جماحها، ويأتي منها بخلاق وافر، فلا تدمدم عليه كتائبها ولا تثني صدرها عليه؛ إذ تعرف أنها لن تكون داخرة في قصره السحري، ولن يلبسها في خدره غير ما تعودت أن تلبسه من تحف الخز والديباج.
ثلاثة مقاطع من قصيدته الساحرة «ليالي النيل» أراها على فقري أغلى ثمنًا من جواهر شاه العجم، وأرفع رأسًا من ناطحات السحاب في مدينة العجائب!
إلَّا أنَّ المقطع الأخير جنى على الشاعر فحرمه لذة الأبوَّة، والحكاية أنَّ إكسير الزواج سرى يومًا في عروق الأستاذ «فياض»، فصحت عزيمته عليه، وإذ هو يبحث عن عروس من لحم ودم عثرت مقلتاه بهذا المقطع، فانتبه إلى أنه لم يبق أعزب، وأنَّ ليلًا من ليالي النيل المقدَّسة عقد له السرَّ على غزال من بني الإفرنج، فحال عن فكرته عملًا بالآية الكريمة هذه: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً.
ولكن هذا الإكسير ما لبث أن دار دورته الثانية في عروق الشاعر فملكها، على أنَّ القسيس الذي عقد له في هذه المرة لم يكن من نسل الليالي، ولم تكن الشموع التي أُوقدت له من هيكل السماء، ولم تصمت القصور والدور في عرسه، ولم تهتز موجات النيل سرورًا به، ولم يتنهَّد الماء وترجع الشواطئ وتترجرج «الذهبيَّات»، ولم يغضب «فيَّاض» في هذه المرَّة على الصباح الغادر كما غضب عليه في عرسه الأول، ولم يعرض عليه شاعر «مفلس» خمسمائة جنيه جزاء زواجه كما عرضها عليه «خليل مطران» في المرَّة الأولى.