حبيب جاماتي
درج في لبنان وتدرَّج في مصر، فهو يناصي بخلقه أعنان إباء الأَرز، ويجاري بسباطة قلمه سباطة ماء النيل.
خلعت عليه الأيام خمسًا وثلاثين حجة.
على جبينه الأسمر طيف من الكآبة، وفي مقلتيه المنفرجتين لُمَعٌ من الذكاء، وعلى مرشفيه الجميلين عذوبة تفرط في الحنين والحنان.
مُلِّيَ الحُبَّ في تباين ألوانه، وانتحت عليه النساء انتحاء الظِّباء على مَعين، ولو وفِّق في مشتهيات أدبه كما وفِّق في مشتهيات قلبه لعلا في المال على لحظ المترفين.
عصبيُّ المزاج إلى حد الجنون، سريع في غضبه، سريع في رضاه، وقد تكون هاتان الخلَّتان دليلًا على سلامة طويَّته.
أحبَّ لبنان حبًّا تدلف به إلى الغرام، فلذلك تسمع من صرير قلمه أنَّة الغريب وحنَّة المشتاق.
زواه التطرُّف عن جوانب الحكمة والتعقل، فهو متطرِّف في سياسته، متطرِّف في أدبه، ولقد أدَّاه خُلقه الغريب إلى طلب الجنرال «سرايل» للبِراز عندما أطلق هذا مَدافعه على دمشق، وذلك على يد جمعية الصحافة بباريس، فرفض.
نَجَمَ من بيت وجاهة وفضل، فهو كريم النبعة، مفطور على خُلُق صُقِل بما تهيَّأ له من أسباب التهذيب، وما تناهى إليه من عزة النفس.
مُلِمٌّ بأطراف العلوم التي يحيط بها زمانه والتي لم يُفتح على كثيرين أن يبسطوا بمداخلها، إلا أنه آثر الأدب حرفة له وإن يكن سوَّد اليد البيضاء ما بينه وبين دهره.
هو اليوم في جريدة «البلاغ» المصري لسان حال الوفد، وله تحرير «روز اليوسف» ضلع صليب، وفي «مصر الحديثة» جولات خطرة.
أمَّا حياته فهي حياة كل أديب يستشعر الأدب فوق كلِّ شيء، لا يسير في طُرق معيشته على نظام، فهو ينام ساعةَ يحلو له النوم، وينهض من فراشه ساعةَ يستطيب النهوض، ويتناول الطعام ساعةَ يجوع، أو ساعةَ يفيق من سُبات الخيال فينتبه إلى أن هناك جوعًا وهناك غذاء، إذن فهو عدو بطنه، يأكل اليوم في الساعة الثانية عشرة، وغدًا في الساعة الثالثة، وبعد غدٍ في الساعة العشرين، وقد لا يتناول ما يسمِّيه الناس طعامًا، وهكذا في النوم، وهكذا في النهوض.
ضعيف اليقين في الناس إلى حد اليأس، وقد يكون ضعف يقينه فيهم سببًا لاستعدائه النفْس على الجامعة البشرية وعلى المرأة بوجه خاص، فهو يحب النساء ويمقت الزواج.
إذا ضمه مجلس آدميٌّ يخلد إلى الصمت حتى ينتفض المجلس إلا من المخلصين، فيزجي عنه الموقف الأول، وينطلق في أداء النكتة إثر النكتة حتى يردَّ على القوم الزهو والغبطة. يشرب الكونياك، وقد يدمن في شربه، ويدخِّن كثيرًا. أما القهوة فهو يستحنُّ إليها إذا جلس إلى قلم، فتراه يُتبِع الفنجان بالفنجان.
يتقصَّى حوادث التاريخ ولا فرق عنده أكان أمينًا في سردها أم غير أمين، فمن يقرأ «تاريخ ما أهمله التاريخ» يتضح له أن المؤلف إنما هو روائي أكثر منه مؤرِّخًا.
يكتب ليعيش، ويعيش ليكتب، فهو في أدبه رجُلان: تاجر وأديب، أديب في قصصه التي حذا بها حذو الكاتب الفرنسي «ده موباسان»، وفي أبحاثه التاريخية التي ضمَّنها فكرة تمُتُّ إلى الهدم والبناء، وتاجر في رواياته التمثيلية أو في بعضها.
لقد عرَّب ما ينيف عن ثلاثين رواية أخرجتها فِرَق رمسيس، وجورج أبيض، وفاطمة رشدي، وعمر بك سري، وألَّف خمس روايات: «عبد الرحمن الداخل»، «إبراهيم باشا وفتح سوريا»، «الثورة»، «غادة أنقره»، و«عنتر».
أمَّا «عنتر» فهي الرواية التي مثَّلتها فرقة رمسيس في بيروت، ولو لم تظهر ممسوخة على مسرح التياترو الكبير لجرت في النجاح شأوًا بعيدًا وكان لها من الشهرة ما كان لرواية «شكري غانم» في باريس، ومتى علمنا أن شركة ألمانية اشترت هذه الرواية لترجمتها إلى اللغة الألمانية اتضح لنا أن مؤلِّفها إنما كان فيها أديبًا لا تاجرًا.
في سنة ١٩٢٤م فتح «المقطم» بابًا جديدًا في عالم الصحافة دعاه «النقد المسرحي» وعهد به إلى «حبيب جاماتي»، فكتب فيه سلسلة طويلة كانت فاتحة عهد جديد في الصحافة؛ إذ إن كثيرًا من الجرائد المصرية شأت شأو «المقطم» وفتحت هذا الباب في أعمدتها.
تمكَّن من اللغة الفرنسية وله فيها جولات في صحف باريس، وفي «الاجبت نوفل» و«الاسبوار». أما جولاته في هاتين الصحيفتين فقد نفض فيها كنائن سياسته المتطرفة التي أدت الحكومة إلى منع الصحيفتين من دخول سوريا ولبنان، وكان بعض هذه الجولات سببًا لإحالته إلى النيابة.
إذا انتجعت داره في شارع الملكة نازلي لا ينحط نظرك إلا على قليل من الرياش، ولا تقع إلا على أهرام من الصحف والكتب والمجلات، نذر لحراستها طوائف من اللُّعب، فهناك عبدٌ أحمر الشفتين قرفلي الشعر، يضحك لك ضحك البرق في ليلة قاتمة، وهناك آنسة مبطَّنةٌ أحشاؤها بمندوف من القطن، تجيل فيك عينين زرقاوين ساخرتين، وهنالك دُبٌّ سفوح الجفن يتخفَّى لك وراء صحيفة «البلاغ» أو «روز اليوسف»، فكأن هذا الأديب الغريب الأطوار أراد أن يجمع بين خيال الأدب وحقيقته، بين أحلام الأديب ويقظته، فأشار إلى سخريات الحياة بأن تجاور نتاج الأفكار.