مطرقة الإله
كانت قريةُ بُوين بِيكَن الصغيرة تجثم فوق ربوةٍ بلغَ من شدةِ انحدارها أنَّ برج الكنيسة السامق ما كان يبدو للناظر إلَّا كقمةِ جبلٍ صغير. كان يوجد دكانُ حدَّادٍ عند أسفل الكنيسة، عادةً ما كان يُضيء فيه وهجُ النيران الأحمر، وكانت تتناثر فيه دائمًا المطارقُ وخردةُ الحديد؛ في مقابل هذا، وعلى الجانب الآخر مِن تقاطعٍ يفتقر إلى عناية التخطيط، من الطرق المرصوفة بالحصى، كان يقوم فندق «ذا بلو بور»، الفندق الوحيد في القرية. عند تقاطع الطرق هذا، وساعةَ بزوغ ضوء فجر يزدان باللونين الفِضي والرصاصي، التقى في الشارع شقيقانِ ودار بينهما حوار؛ مع أن أحدهما كان يبدأ اليوم، بينما كان الآخر يُنهيه. كان القس المُوقر ويلفريد بُوين شديدَ التدين، وكان في طريقه لأداء بعض الصلوات أو التأمُّلات التي يؤدِّيها بتزمُّتٍ عند الفجر. أما أخوه الأكبر، الكولونيل المحترم نورمان بُوين، فلم يكن متدينًا بالمرة، وإنما كان جالسًا على المقعد الطويل أمام فندق «ذا بلو بور» مرتديًا ملابس السهرة الرسمية، ويشربُ ما يُمكن للملاحِظ المتأمِّل أن يعدَّه إما كأسه الأخيرة من كئُوس يوم الثلاثاء، وإما الأولى من كئُوس يوم الأربعاء. لم يكن الكولونيل يُدقِّق في هذا الشأن.
كانت عائلةُ بُوين واحدةً من العائلات الأرستقراطية القليلة جدًّا التي يمتدُّ تاريخها فعليًّا إلى العصور الوسطى، وقد حمل فرسانُها، في الحقيقة، ألويتَهم إلى فلسطين في الحروب الصليبية. لكن من الأخطاء الفادحة أنْ يتصور المرء أنَّ لمثل هذه العائلات منزلةً كبيرةً في الحفاظ على أعراف الفروسية. فباستثناء الفقراء، قلةٌ من الناس هم الذين يحافظون على التقاليد. إن الأرستقراطيين لا يعيشون وفقًا للتقاليد، وإنما وفقًا للصرعات المستحدَثة. كان آل بُوين ينتمون لعصابات الموهوك في عهد الملكة آن، ولجماعات الماشرز المتهتكين في عهد الملكة فيكتوريا. لكنَّ أخلاقهم ازدادت سوءًا في مائتي السنة الماضية، شأنهم في ذلك شأن أكثر من واحدةٍ من الأسر الموغلة في القِدَم، حتى استحالوا إلى مجرد سكِّيرين ومنحرفين من الطراز الأول، حتى لقد وصلَت بهم الحال إلى أنْ شاع عنهم أنه قد مسَّهم شيءٌ من الجُنون. لا شكَّ أنه لم تكد توجد أيُّ نزعةٍ إنسانية في سعي الكولونيل الضاري وراء اللذَّة، ولا شكَّ كذلك أن إصراره المستمر على ألَّا يعود إلى بيته حتى الصباح كان يدل بوضوحٍ على ما يُعانيه من أرَقٍ رهيب. كان كهلًا حسنَ الهيئة طويلَ القامة، لكنَّ المدهشَ للغايةِ أن شعرَه كان لا يزال يحتفظ بلونِه الأصفر. كان من الممكن أن يبدو أشقرَ وشبيهًا بالأسد فحسْب، لكنَّ عينيه الزرقاوين كانتا غائرتين جدًّا في وَجهه لدرجةِ أنهما كانتا تبدوان سوداوَين. كما أن كلًّا منهما كانت شديدة القرب من الأخرى. كان له شاربٌ أصفر طويل جدًّا؛ وعلى جانبيه انثناءةٌ أو تغضُّنٌ عميقٌ من فتحة أنفه وحتى فكِّه، مما جعل نظرةَ ازدراءٍ تبدو محفورةً في وجهه. كان يرتدي فوق ملابس السهرة معطفًا غريبًا ذا لونٍ أصفر فاتح، بدا أشبه برداءٍ منزليٍّ خفيفٍ جدًّا منه بمعطف، وكان يضع على مؤخِّرة رأسه قبعةً خضراءَ زاهيةً غريبةَ المظهر ذاتَ حافةٍ واسعة، من الواضح أنها كانت إحدى قبعات الشرق الغريبة التي ارتداها دونما تدقيق. كان الكولونيل يتباهى بظهوره بمثل هذه الملابس المتنافرة؛ كان يتباهى لأنَّه دائمًا ما كان يجعلها تبدو متناغمةً بعضها مع بعض.
أما أخوه راعي الأبرشية فكان أصفرَ الشَّعر أنيقَ المظهر هو الآخر، لكنه كان يرتدي الملابسَ السوداء المحكمةَ الإغلاق إلى ذقنه، وكان حليقَ الذقن والشارب، ومثقفًا، وكان يتصف بقليلٍ من عصبية المزاج. ويبدو أنه ما كان يعيش إلَّا من أجل عبادته؛ لكن ثمةَ مَن كان يقول (وخصوصًا الحداد، الذي كان مِن أتباع الكنيسة المشيخية) إنَّه كان يغلب عليه حبُّ العِمارة القوطية لا حب الرب، وإنَّ ملازمته للكنيسة إنما كانت شكلًا آخر أصفى من أشكال ذلك التَّوْق — الذي كاد يكون توقًا مَرَضيًّا — إلى الجمال، والذي جعل أخاه مهووسًا بالنساء والخمر. كانت هذه التُّهمة مشكوكًا فيها؛ لأنَّ وَرَعَ الرجل في أرض الواقع كان أمرًا مفروغًا منه. في الواقع، كانت تلك التُّهمة ناجمةً في الأغلب عن سوءِ فهمٍ ناشئٍ من الجهل؛ سوءِ فهمٍ لحُبِّ العُزلة والصلاة السرية، وقد استند سوءُ الفهم هذا إلى أنَّ الناس كانوا يرونه في أحوال كثيرة راكعًا، لا أمام مذبح الكنيسة، وإنما في أماكن غريبة، في السراديب أو في البهو المُعمَّد، أو حتى في برجِ الجرس. كان في تلك اللحظة على وشك دخول الكنيسة عبر ساحة دكَّان الحداد، لكنه توقَّف وقطَّب جبينه قليلًا عندما رأى عيْنَيْ أخيه الغائرتين تُحدِّقان في الاتجاه نفسه. لمْ يُهدر راعي الأبرشية لحظةَ تخمينٍ واحدةً يَفترض فيها جدلًا أن يكون الكولونيل مهتمًّا بدخول الكنيسة. لم يتبقَّ سوى ورشة الحداد، ومع أن الحداد كان من الطائفة البيوريتانية ولم يكن من رعيته، فقد سمعَ ويلفريد بُوين بعض الفضائح عن زوجته الجميلة والمشهورة نوعًا ما. ألقى راعي الأبرشية نظرةَ ارتيابٍ على الورشة، ووقف الكولونيل يكلِّمه ضاحكًا.
قال: «صباح الخير يا ويلفريد. إنني أسهر على رعايةِ قومي كما يفعل ربُّ ضيعة صالح. أنا ذاهبٌ الآن لزيارة الحداد.»
نظر ويلفريد إلى الأرض، وقال: «لكنَّ الحداد ليس في بيته. إنه في ضاحيةِ جرينفورد.»
أجاب الآخر بضحكٍ مكتوم: «أعرِف، وهذا ما دفعني لزيارته.»
قال رجلُ الدين وعينُه تنظر إلى حصاةٍ في الطريق: «نورمان، ألا تخشى الصواعقَ أبدًا؟»
سأل الكولونيل: «ماذا تقصد؟ أأنت من هواة علم الأرصاد الجوية؟»
قال ويلفريد، دون أن ينظر إلى أعلى: «أقصد، أَلَا تتوقَّع أبدًا أنْ يصيبك الربُّ بصاعقةٍ وأنت في الشارع؟»
قال الكولونيل: «ماذا؟ أظن أنك تهوى الخرافات.»
ردَّ رجلُ الدين بسرعةٍ وقد اعتراهُ الغضب، بعدما لُدِغ في الجزء الحيِّ الوحيد من كيانه: «وأنا أعلم أن هوايتك هي التجديف على الربِّ. لكن إذا كنتَ لا تخشى الرب، فإنَّ لديك مبرِّرًا قويًّا لكي تخشى الناس.»
رفع الأخُ الأكبرُ حاجبيه في أدَبٍ وقال: «أخشى الناس؟»
قال الكاهن بصرامة: «إنَّ بارنز الحداد هو أضخمُ وأقوى الرجال في الأربعين ميلًا المحيطة بنا. أعرف أنك لستَ جبانًا ولا ضعيفًا، لكنه يستطيع أن يطيحَ بك من فوق الجدار.»
أصاب هذا الكلامُ غايتَه؛ لأنه كان صحيحًا، وأخذَتِ الغَضنةُ العابسةُ المجاورةُ للفم وفتحة الأنف تزدادُ اكفهرارًا وعُمقًا. وقف الكولونيل بوين برهةً، ونظرةُ الازدراءِ الكئيبةُ مرسومةٌ على وجهه، لكنه استعاد بشاشتَه اللاذعةَ في لمح البصر وراح يضحك، كاشفًا — من تحت شاربه الأصفر — عن سِنَّيْنِ أماميتين كأسنان الكلاب. وقال باستهتارٍ بالِغ: «إن كان هذا ما سيحدث، يا عزيزي ويلفريد، فلقد كان من الحكمةِ إذن أنْ يخرجَ آخِرُ أبناء آل بوين مرتديًا بعضَ أجزاء دِرعه.»
وخلعَ القبعة المستديرة الغريبة المطليةَ باللون الأخضر، وأراه أنها كانت مُبطَّنةً من الداخل بالفولاذ. أدرك ويلفريد أنها في الواقع إنما كانت خُوذة يابانية أو صينية خفيفة، أخذها الكولونيل من إحدى الغنائم التي كانت مُعلَّقةً في قصر الأسرة القديم.
قال أخوه بتكبُّر: «إنها أوَّل قبعةٍ وقعَتْ عليها يدي. دائمًا القبعة الأقرب؛ والمرأةُ الأقربُ كذلك.»
قال ويلفريد في هدوء: «إن الحداد في ضاحية جرينفورد، وتوقيت عودته غير معروف.»
بعد ذلك مباشَرةً استدارَ ودخل الكنيسةَ مُطأطِئًا رأسَه، وراح يرشم على صدره علامةَ الصليب إشارةَ مَن يتوسَّل من أجل الخلاص مِن رُوحٍ نجِسة. كان يتوق إلى تناسي تلك البذاءة في نسيم الفجر البارد المُنبعث من بين الأروقة القُوطيةِ المُعَمَّدة الشاهقة الارتفاعِ داخل الكنيسة، ولكن في صباح ذلك اليوم، كان مُقدَّرًا لسلسلةِ الطقوس الدينية الهادئة، التي اعتادَ على ممارستها، أنْ تعوقَها صدماتٌ صغيرةٌ أينما توجَّه؛ فعندما دخل الكنيسةَ، التي دائمًا ما كانت — قبل ذلك اليوم — خاليةً في تلك الساعة، رأى شخصًا جاثيًا على ركبتيه؛ رآه ينهض على قدَميه سريعًا ويأتي إلى ضوء النهار الساطع عند المَدخل. عندما رأى راعي الأبرشية ذلك الشخصَ جمَدَ في مكانه من المفاجَأة. فلم يكن ذلك المُبكِّر إلى الصلاة سوى معتوهِ القرية، ابن أخي الحداد، وهو شخصٌ لا يهتم ولا يستطيع أن يهتم بالكنيسة ولا بأيِّ شيءٍ آخر. كان يُلقَّبُ دائمًا ﺑ «جُو المجنون»، ويبدو أنه لم يكن له اسمٌ آخر؛ كان شابًّا متجهمًا قويَّ البنيةِ مُترهلَ المِشية، وكان له وجهٌ أمهقُ البياض، وشعرٌ قاتمٌ مسترسل، وفمٌ مفتوحٌ على الدوام. عندما مرَّ بجوار الكاهن، لمْ تَشِ ملامحه البلهاءُ بما كان يفعله أو يُفكِّر فيه. لمْ يكن يُعرَف عنه قبل ذلك قطُّ أنه كان يصلي. أيُّ نوع من أنواع الصلوات ذاك الذي كان يصلِّيه حينئذ؟ صلواتٌ عجيبةٌ بالتأكيد.
سمَّرت المفاجأةُ ويلفريد بوين في مكانه طويلًا بما يكفي لرؤية المعتوه وهو يخرج إلى ضوء الشمس، وبما يكفي حتى لرؤية أخيه المُتهتك وهو يُمطِره بوابلٍ من المزاح اللطيف. كان آخِر ما رآه هو منظر الكولونيل وهو يُلقِي بالبنسات في فم جُو المفتوح، وكان منظره يوحي بأنه يحاول جادًّا أن يصيب الهدف.
هذه الصورة القبيحةُ التي أضاءت الشمسُ أجزاءها، والتي جمعت بين الغباء وقسوة الحياة؛ دفعتِ الناسكَ أخيرًا إلى أداء صلواته طمعًا في التطهُّر واستدرارًا لأفكارٍ جديدة. توجَّهَ الرجل إلى أحد المقاعد في البهو المعمَّد، وعندما جلس عليه أصبح تحت نافذةٍ ملوَّنةٍ كان يحبها وكانت دائمًا ما تُسكِّن روحه؛ كانت نافذةً زرقاء مرسومًا عليها صورة ملاكٍ يحمل زهور الزنبق. وهناك بدأ رويدًا ينسى الفتى المعتوه، وينسى وجهَه الشاحبَ وفمَه الشبيه بفم السَّمك، وبدأ كذلك ينسى أخاه الشرير الذي يمشي مِشيةَ أسدٍ أنحلتْه ضراوةُ الجوع، وراح يغوص عميقًا في ذينك اللونين الباردَين العَذْبَين لأزاهير فضية وسماء في زرقة الياقوت.
بعد مرور نصف ساعةٍ وجده جيبز، إسكافيُّ القرية، في هذا المكان، وكان قد أُرسِل إليه في شيءٍ من العجَلة. نهض ويلفريد على قدَمَيه في الحال؛ إذ كان يعرف أنه ما كان جيبز ليأتي إلى مثل ذلك المكان مطلقًا لأمرٍ هَيِّنٍ. كان الإسكافيُّ — كغيره في كثيرٍ من القُرى — مُلحدًا، وكان ظهورُه في الكنيسة أغربَ قليلًا من ظهور جو المجنون فيها. كان صباحًا حافلًا بالألغاز اللاهوتية.
سأل ويلفريد بُوين بطريقةٍ رسميةٍ بعض الشيء: «ما الأمر؟» لكنه بالرغم من هذا مدَّ يدًا مرتعشةً إلى قبعته ليتناولها.
كانت نبرةُ الملحد وهو يتكلم مُحمَّلةً باحترامٍ بالغٍ غير عادي، حتى لقد كان بها بحَّةُ تعاطف، إذا جازَ القول.
قال هامسًا: «أرجو المعذرةَ يا سيدي، لكننا رأينا أنَّه ليس من الصواب ألَّا نخبرك على الفور. أخشى أنَّ أمرًا مُروعًا بعضَ الشيءِ قد وقع يا سيدي. أخشى أنَّ أخاك …»
أطبَقَ ويلفريد يدَيْه الواهِنتين، وصاح بانفعالٍ مُتعمَّد: «أيَّ شرٍّ قد ارتكبَ هذه المرة؟»
قال الإسكافيُّ وهو يسعل: «يا إلهي! يؤسفني أن أقول إنه لم يفعلْ شيئًا يا سيدي، ولن يفعلَ بعد الآن شيئًا. يؤسفني أنه في خطرٍ شديد. يجدر بك حقًّا أن تنزل معي يا سيدي.»
تبع راعي الأبرشية الإسكافيَّ نزولًا على سُلَّمٍ لولبيٍّ قصير أوصلَهما إلى الخارج، عند مدخلٍ أعلى من الشارع نوعًا ما. بنظرةٍ خاطفةٍ واحدةٍ رأى بوين المأساةَ منطرحةً تحتَه كورقةِ خريطة. كان خمسة أو ستة رجالٍ يقفون في ساحة دكان الحداد، كان أغلبهم يرتدون السواد، وكان أحدهم يرتدي زيَّ مُحقِّق. كانوا يضمُّون الطبيب، وقَسَّ الكنيسة المشيخية، وكاهنَ المعبد الكاثوليكي الذي كانت تنتمي إليه زوجةُ الحدَّاد. كان هذا الأخير يتحدَّث إليها بصوتٍ خافتٍ، وبسرعةٍ شديدةٍ في الواقع، بينما جلستْ — وهي امرأةٌ بارعةُ الجمال ذات شعر ذهبيٍّ محمر — تَنشِج بالبكاء فوق أحد المقاعد وهي غير قادرةٍ على الرؤية. بين هاتين المجموعتين، وبعدما أُزِيلتْ عنه لتوِّها الكومةُ العُظمى من المطارق، كان يرقد رجلٌ يرتدي ثيابَ السهرة الرسمية، منكفئًا على وجهه مبسوطَ الذراعين والرِّجلين. كان ويلفريد يستطيع أن يُقسِم — وهو في ذلك المكان المرتفع — إنه يعرف كلَّ قطعةٍ من ملابسه وكلَّ جزءٍ من هيئَته، وُصُولًا إلى خواتم أسرة بوين في أصابعه؛ لكنَّ الجمجمةَ لم تكن سوى لطخةٍ بشِعةِ المنظر، وكأنها نجمةٌ صُنِعت من القتامة والدماء.
لم يُلْقِ ويلفريد بوين سوى نظرةٍ واحدةٍ عَجْلَى، أسرع بعدها بالنزول على السلم الذي أدَّى به إلى الساحة. حيَّاه الطبيبُ، الذي كان طبيب العائلة، لكنَّ ويلفريد لمْ يكد ينتبه لأيِّ شيء. لم يستطع سوى أن ينطق متلعثمًا بهذه الكلمات: «أخي مات. ما معنى هذا؟ ما هذا اللغز المرعب؟» ساد المكانَ صمتٌ حزين، ثم أجابه الإسكافي، وكان أكثر الحاضرين صراحةً، قائلًا: «رعبٌ كبيرٌ يا سيدي، لكن ليس في الأمر كثيرُ غموضٍ.»
سأل ويلفريد، وقد علا الشحوب وجهه: «ماذا تعني؟»
أجاب جيبز: «إن الأمر واضحٌ بما فيه الكفاية. ثمة رجلٌ واحدٌ فقط في الأربعين ميلًا المحيطةِ بنا يُحتمل أن يكون هو مَن ضرب مثل هذه الضربة، وهو الرجل الذي لديه المبرِّر الأعظم لفعل هذا.»
قاطعه الطبيب، وكان رجلًا طويل القامة ذا لحيةٍ سوداء، قاطعه بشيءٍ من العصبية قائلًا: «يجب ألَّا نُصدر أيَّ حُكمٍ مسبق دون أدلةٍ كافية، لكنْ يكفيني أن أؤيِّدَ ما يقوله السيد جيبز عن طبيعة الضربة يا سيدي؛ إنها ضربةٌ لا تُصدَّق. يقول السيد جيبز إنَّ رجلًا واحدًا فقط في هذه المنطقة يُحتمَل أن يكون هو مَن فعلها. لكنني أقول إنه لا يمكن أن يكون أيُّ أحد قد فعلَها.»
سرَتْ رِعدةُ تَطَيُّرٍ في بدن راعي الأبرشية النحيل، وقال: «لا أكاد أفهم ما تقول.»
قال الطبيب بصوتٍ خافت: «سيد بُوين، إن التعابيرَ المجازية لَتخذلني حقًّا. لا يكفي القول إنَّ الجمجمة قد هُشِّمتْ تهشيمًا كقشرةِ بيضة. لقد نفذَتْ شظايا من العظم إلى جسمه وإلى الأرض مثلما ينفذ الرصاصُ في حائطٍ من الطين. لقد كانتْ يدَ عِملاق.»
سكت الطبيبُ لحظةً، راح ينظر خلالها بجديةٍ عبر نظَّارته؛ ثم أضاف: «ليس للأمر سوى منفعةٍ واحدة؛ وهي أنه يُبرئ ساحة معظم الناس دفعةً واحدة من الشبهة؛ لأنك إن اتُّهمتَ أنت أو أنا أو أيُّ رجلٍ ذي جسمٍ طبيعيٍّ في القرية بارتكابِ هذه الجريمة، فسنُبرأُ منها كما يُبرأ طفلٌ رضيعٌ من سرقة عمود نيلسون.»
أعاد الإسكافيُّ كلامه في عناد: «هذا هو ما أقوله؛ يوجد رجلٌ واحدٌ فقط يمكن أن يكون هو مَن فعَلها، وهو الرجل الذي قد يرغب في فِعلها. أين سيميون بارنز، الحداد؟»
قال راعي الأبرشية متلعثمًا: «إنه في ضاحيةِ جرينفورد.»
تمتم الإسكافيُّ قائلًا: «أو على الأرجح في فرنسا.»
قال الكاهن الكاثوليكيُّ القصير القامة، الذي كان قد انضم إلى المجموعة، بصوتٍ واهنٍ كئيب: «لا، ليس في أيٍّ من هذين المكانين. في الحقيقة، إنه قادم في الطريق في هذه اللحظة.»
لم يكن الكاهن القصير القامة من نوع الرجال الذين يروق للعَين أن تنظر إليهم، بشعره البنيِّ الخشن ووجهه المستدير الجامد. لكنه حتى لو كان في مثل روعة أبولو ما كان أحدٌ سيرغب في أن ينظرَ إليه في تلك اللحظة. استدار الجميعُ وراحوا يحدِّقون إلى الطريق الذي يشقُّ الأرض الواسعة المستوية تحتَهم، والذي كان يسير عليه بالفعل، بخُطاه الهائلةِ الاتساعِ وبمطرقةٍ تعلو كتفه، سيميون الحداد. كان رجلًا عملاقًا بارز العظام، ذا عينين سوداوين غائرتين تُنذِران بالسوء، ولحيةٍ سوداء تحت ذقنه. كان يسير ويتكلم بهدوءٍ مع رجلين آخَرَين؛ وبالرغم من أنه لم يُرَ قبل ذلك قطُّ شديدَ الابتهاج، فقد بدا مسترخيًا للغاية.
صاح الإسكافيُّ الملحد: «يا إلهي! وها هي ذي المِطرقةُ التي فعل بها فِعلته.»
قال المفتش، الذي كان رجلًا مقبول المظهر ذا شاربٍ رملي اللون، وكانت هذه أول مرةٍ يتكلم فيها: «لا، بل ها هي ذي المطرقة التي ارتكب بها فِعْلتَه، هناك بجوار سور الكنيسة. لقد تركناها هي والجثة في مكانهما تمامًا.»
أخذ الجميع يُجيلون أبصارهم هنا وهناك، وعبر الكاهن القصيرُ إلى الناحية الأخرى، وفي صمتٍ راح ينظر نحو الأسفل إلى الأداة في مكانها الذي تَقبع فيه. كانتْ من أصغر المطارق وأخفِّها، وما كانت لتلفتَ الانتباه من بين البقية؛ لكنْ كان على حافتها الحديدية دمٌ وشعرٌ أصفر.
بعد فترةٍ من الصمت تكلمَ الكاهن القصيرُ دون أن ينظر إلى أعلى، وكان في صوته الحزين نبرةٌ جديدة، قال: «لم يكن السيد جيبز على صوابٍ حينما قال إنه لا يوجد غموض في الأمر. يوجد على الأقل لغزُ السببِ الذي يدفع رجلًا ضخمًا كهذا إلى الشروع في إيقاع ضربةٍ كبيرةٍ كهذه بمثل هذه المطرقة الصغيرة للغاية.»
صاح جيبز بانفعال: «أوه، لا تلتفتوا إلى هذا. ما الذي يجبُ علينا أن نفعله مع سيميون بارنز؟»
قال الكاهن بهدوء: «دعوه وشأنه. إنه قادمٌ إلى هنا من تلقاء نفسه. إنني أعرف هذين الرجلين اللذَين معه. إنهما رجلان صالحان للغاية من ضاحية جرينفورد، وقد جاءا لزيارة المعبد المشيخي.»
في اللحظة نفسها التي كان الكاهن يتكلم فيها انعطف الحدادُ الطويل القامةِ حول زاوية الكنيسة، وسار بخطًى واسعةٍ إلى ساحة دكانه. ثم وقف هناك دون أدنى حراكٍ، وسقطت المِطرقة من يده. أما المفتش، الذي ظلَّ محتفظًا بأدبٍ لا سبيل إلى اختراقه، فتوجَّه إليه مباشَرةً. وقال: «لن أسألك يا سيد بارنز إنْ كنت تعلم أيَّ شيءٍ عمَّا حدَث هنا. لستَ مضطرًّا لقول شيء. أرجو ألَّا تكون على علمٍ بما حدث، كما أرجو أن تتمكَّن من إثباتِ هذا. لكنْ يتعيَّن عليَّ أن أتابع إجراءات القبض عليك باسم جلالة الملك بتُهمة قتل الكولونيل نورمان بوين.»
قال الإسكافيُّ بانفعالٍ متطفل: «لستَ مضطرًّا لقول أيِّ شيء. إنَّ عليهم أن يُثبتوا كل شيء. إنهم لم يثبتوا بعدُ أنه هو الكولونيل بوين، والرأسُ مهشَّمٌ تمامًا هكذا.»
انفرد الطبيب بالكاهن، وقال له: «لن يُبرِّئَه ذلك. إنه مأخوذ من القصص البوليسية. لكنني كنتُ طبيبَ الكولونيل، وكنت أعرف جسمَه أفضل مما كان هو نفسه يعرفه. لقد كان له يدان جيِّدتان للغاية، لكنهما كانتا غريبتَين جدًّا. كان إصبعاه الثاني والثالث متماثلَين في الطول. أوه، هذا هو الكولونيل من دونِ شكٍّ.»
عندما رمقتْ عيناه الجثةَ المهشمةَ الرأسِ على الأرض تبعتْهما عينا الحدَّاد القويَّتان، وهو واقفٌ دون حراكٍ، واستقرَّتا فوقها كذلك.
قال الحداد بهدوءٍ بالغ: «هل مات الكولونيل بوين؟ إذن فقد ذهب إلى الجحيم.»
صاح الإسكافي الملحد: «لا تقل أيَّ شيء! أوه، لا تقل أيَّ شيء!» وهو يتراقص من نشوة الإعجاب بالنظام القانوني الإنجليزي؛ لأنه ما من رجلٍ أشد تمسُّكًا بالقانون مِن عَلمانيٍّ مخلصٍ لمذهبه.
التفت إليه الحدَّادُ بوجهٍ وقورٍ كوجهِ أيِّ متعصِّب، وقال: «قد ينفعكم أيها الكفار أن تراوِغوا مراوغةَ الثعالب؛ لأنَّ قوانين الدنيا تُحابيكم، لكنَّ الربَّ يحمي خاصَّتَهُ في كَنَفه، كما سترون اليوم.»
ثم أشار إلى الكولونيل، وقال: «متى مات هذا الكلبُ غارقًا في خطاياه؟»
قال الطبيب: «لطِّفْ عباراتِك.»
«لطِّفْ عباراتِ الكتاب المقدس، وسوف ألطِّف أنا عباراتي. متى مات؟»
قال ويلفريد بوين متلعثمًا: «لقد رأيتُه في السادسة من صباح اليوم، وهو لا يزالُ على قيد الحياة.»
قال الحداد: «الربُّ صالحٌ. سيدي المفتش، ليس لديَّ أدنى اعتراضٍ على أن تقبض عليَّ، لكنَّك أنت الذي قد تعترض على القبض عليَّ. لا يُقلِقني كثيرًا أن أغادر المحكمةَ دون أن تشوبَ سمعتي شائبة، لكن ربما يُقلِقك أنت أن تغادر المحكمة بهزيمةٍ مُنكَرةٍ في سجلك المهني.»
كانت هذه أولَ مرة ينظر فيها المفتش الرَّصين إلى الحداد نظرةً متحمِّسة؛ وهكذا فعل الآخَرون جميعًا، ما عدا الكاهن القصير الغريب، الذي ظلَّ ينظر إلى المطرقة الصغيرة التي نفَّذت الضربةَ الرهيبة.
واصَلَ الحداد كلامَه بوضوحٍ مُمِل: «ثمة رجلان واقفان خارج هذه الورشة. إنهما تاجران صالحان من ضاحية جرينفورد تعرفونهما كلكم، وسوف يُقسِمان على أنهما رأياني في الوقت من قبل منتصف الليل وحتى انبلاج الفجر، كما رأياني لمدةٍ طويلةٍ بعد هذا ونحن في غرفة لجنة إرسالية الإحياء الديني التي كنَّا فيها، والتي ظلَّتْ منعقدةً طوال الليل، إننا ننقذ أرواح الناس بإخلاصٍ شديد. في جرينفورد ذاتها عشرون رجلًا يمكنهم القَسَم على أنني أمضيتُ كل هذا الوقتِ هناك. لو كنتُ كافرًا يا سيدي المفتش، لَتركتُك تتابع المضي إلى هاويتك، لكنَّ كوْني مسيحيًّا يُحتِّم عليَّ أنْ أمنحك فرصتك، وأن أسألك إنْ كنتَ ستستمع الآن إلى دليلِ وجودي في مكان آخَر وقتَ وقوعِ الجريمة، أم ستسمعه في المحكمة.»
بدا المفتش للمرة الأولى مشوَّشَ الذهن، وقال: «بالطبع سيسعدني أن أبرِّئَك تمامًا الآن.»
خرج الحدَّاد من ساحة دكانه بنفسِ الخطى الواسعة الوئيدة، وعاد إلى صديقَيْه القادمَين من ضاحية جرينفورد، واللذَين كانا في الواقع صديقَين لكل الحاضرين تقريبًا. قال كلٌّ منهما كلماتٍ قليلةً لمْ يخطر مطلقًا على بالِ أحدٍ أن يُكذِّبها. وبعدما تكلَّما أصبحتْ براءة سيميون راسخة كرسوخِ الكنيسة العظيمة القائمةِ فوقهم.
سيطرت على الجمع حالةٌ من الصمتِ كانت أشدَّ غرابةً وتعذُّرًا على الاحتمال من أي حديث. وهنا دفعتْ راعي الأبرشية رغبتُه في فتح الحوارِ إلى أنْ قال للكاهن الكاثوليكي بغضب: «تبدو مهتمًّا بهذه المطرقة للغاية، أيها الأب براون.»
قال الأب براون: «نعم، إنني مهتمٌّ بها. لِمَ هي صغيرةٌ جدًّا هكذا؟»
استدار إليه الطبيب، وصاحَ قائلًا: «يا للعجبِ! هذا صحيح. مَن الذي قد يَستخدم مطرقةً صغيرة، وحوله عشر مطارق أخرى أكبر منها؟»
ثم همس في أُذن راعي الأبرشيَّة قائلًا: «فقط ذلك النوع من الناس الذي لا يستطيع رفْعَ مطرقةٍ كبيرة. ليست المسألةُ مسألةَ تفاوتٍ في القوَّة أو الشجاعة بين الجنسين. إنما هي مسألةُ ما في سواعد كلٍّ منهما من قدرةٍ على رفع الأشياء. بوسع امرأةٍ جريئةٍ ارتكابُ عشر جرائمِ قتلٍ بمطرقةٍ خفيفةٍ دون أن يرمش لها جَفن، لكنها لا تستطيع أن تقتل خنفساء بمطرقةٍ ثقيلة.»
كان ويلفريد بوين يحدِّق فيه وقد تملكَتْه حالةٌ من الرُّعب، بينما أمالَ الأبُ براون رأسَه قليلًا وراح يستمع باهتمامٍ وانتباهٍ صادقَين. أكدَّ الطبيبُ كلامَه في همسٍ أخفضَ من ذي قبل قائلًا: «لماذا يَفترض هؤلاء الحمقى دائمًا أنَّ الشخصَ الوحيد الذي يكره عشيق الزوجة هو زوجها؟ في تسعٍ من كل عشر حالاتٍ يكون أكثر شخصٍ يكره عشيقَ الزوجة هو الزوجة نفسها. مَن يدري أيَّ عجرفةٍ عامَلَها بها، أو أيَّ خيانةٍ أبداها لها! انظُر هناك!»
أشار الطبيبُ إشارةً خاطفةً إلى المرأة ذات الشَّعر الأحمر الجالسةِ على المقعد. كانت قد رفعتْ رأسها أخيرًا، وكانتِ الدموعُ قد أخذتْ تجفُّ فوق وجهِها الرائع. لكنَّ عينَيْها كانتا مُثبتَتْين على الجثةِ تُحملقان فيها بنظرةٍ غاضبةٍ متوترةٍ فيها شيءٌ من البلاهة.
أما القَسُّ الموقر ويلفريد بوين فأتى حركة بسيطة برأسه، وكأنه يطرد عن نفسه أيَّ رغبةٍ في أن يعرف؛ لكنَّ الأب براون راح يتكلَّم بطريقته غير المبالية، وهو ينفض عن كُمه ما علق به من رماد التنُّور.
قال: «إنك مثل كثير جدًّا من الأطباء؛ علومكم الذهنيةُ موحيةٌ حقًّا بالمزيد من الأفكار، لكنَّ علومكم المادية هي التي لا تُطاق نهائيًّا. إنني أُقِرُّ بأنَّ رغبة المرأةِ في أنْ تقتل شريكها في الفحشاء أكبر بكثيرٍ من رغبةِ الزوج، الذي رفع دعوى الطلاق، في أن يقتله. كما أقِرُّ بأنَّ أيَّ امرأةٍ ستلتقط دائمًا مطرقةً صغيرةً بدلًا من أُخرى كبيرة، لكنَّ الصعوبةَ متعلقةٌ باستحالةٍ جسمانية. ما كان لأيِّ امرأةٍ على الإطلاق أن تتمكَّن من سحق جمجمةِ رجلٍ حتى تسويها بالأرضِ هكذا.» ثم أضاف وهو غارقٌ في التفكير، بعد صمتٍ قصير: «إن هؤلاء الناس لم يفهموا الأمر فهمًا كاملًا. لقد كان الرجلُ في حقيقة الأمر يرتدي خوذةً حديدية، وقد بعثرتْها الضربةُ مثلَ زجاجٍ مكسور. انظُر إلى تلك المرأة. انظر إلى ذراعَيْها.»
ألجَمَ الصمتُ ألسنتَهم جميعًا مرةً أخرى، ثم قال الطبيبُ في شيءٍ من العُبوس: «حسنٌ، ربما أكون مُخطئًا، ولكل أمرٍ ما يعارضه، لكنني مُصِرٌّ على الفكرة الأساسية. ما من رجلٍ يختار تلك المطرقة الصغيرة، في حين كان قادرًا على استخدام مطرقة كبيرة إلَّا أن يكون أحمق.»
بعد هذه الكلمات مباشَرةً وضع ويلفريد بوين يدَيْه الهزيلتين المرتعشتين على رأسه، وبدا أنه قبض بهما على شعره الأصفر الخفيف. لكنه أنزلهما بعد لحظةٍ، وصاح قائلًا: «هذه هي الكلمةُ التي كنتُ أريدها؛ لقد قلتَ الكلمةَ المنشودة.»
ثم تابَعَ قائلًا، وهو يسيطر على اضطرابه: «لقد قلتَ: «ما من رجلٍ يختار المطرقة الصغيرة إلَّا أن يكون أحمق».»
قال الطبيب: «نعم، وماذا إذن؟»
قال راعي الأبرشية: «حسنٌ، لم يفعلها سوى أحدِ الحمقى.» حدَّق فيه الباقون بأعينٍ استوقَفَها كلامُه واستحوذَ عليها بالكامل، ومضى هو يتكلمُ باهتياجٍ أنثويٍّ محموم.
فصاح في اضطراب: «أنا قسيس، وينبغي للقسيس ألَّا يكون سافِكَ دماء. أعني … أعني أنه ينبغي له ألَّا يتسبَّب في إعدام أحد. وإنني لَأشكرُ الربَّ لأني أعرف المجرم بوضوحٍ الآن؛ لأنه مجرمٌ لا يُمكن الحكمُ عليه بالإعدام.»
سأل الطبيب: «ألن تتهمه بجريمة القتل؟»
أجاب ويلفريد بابتسامةٍ واسعة، وشت بسعادةٍ غريبة: «لن يُعدَم إذا اتهمتُه بها. عندما دخلتُ الكنيسة في صباحِ هذا اليوم وجدتُ مجنونًا يصلي هناك؛ ذلك المسكين جو، الذي ظلَّ يتعرَّض للإساءة طوال حياته. الربُّ وحده يعلم كيف كانت صلاته؛ لكنْ ليس من المستبعَد أن نتصوَّر أنَّ صلوات مثل هؤلاء القوم الغرباء مقلوبةٌ كلها رأسًا على عقب، ومن المحتمَل جدًّا أنَّ أحد المجانين قد يُصلِّي قبل أن يقتُل رجلًا. عندما رأيتُ جو المسكين آخِرَ مرةٍ كان مع أخي، وكان أخي يسخر منه.»
صاح الطبيب قائلًا: «يا للعجب! أخيرًا، هذا هو الكلام. لكنْ كيف تفسِّر …»
كان الموقَّر ويلفريد يكاد يرجف من الإثارة؛ لأنه أدرك الحقيقة، وقال مُتهلِّلًا: «أَلَا ترون؟! أَلَا ترون؟! هذا هو الافتراض الوحيد الذي يشتمل على كلا الأمرَيْن الغريبَيْن، ويجيب على كلا اللغزَيْن. اللغزان هما المطرقة الصغيرة والضربة الكبيرة. ربما يكون الحداد هو مَن ضربَ الضربةَ الكبيرة، لكنه ما كان ليختار المطرقة الصغيرة. أمَّا زوجته فيُحتمَل أنها كانت ستختار المطرقة الصغيرة، لكنها لم تكن لتتمكَّنَ من القيام بالضربة الكبيرة. لكن المجنون يُحتمَل أن يكون قد فعل الأمرَيْن. أما عن المطرقة الصغيرة؛ يا إلهي، إنه مجنون ومن الجائز أن يكون قد التقط أيَّ شيء. وأما عن الضربة الكبيرة، أفما سمعتَ قبل ذلك قطُّ أيها الطبيب، أنَّ المجنون قد يكون في قوةِ عشرة رجال أثناء النوبةِ التي تصيبه؟»
أخذَ الطبيبُ نفَسًا عميقًا ثم قال: «يا للعجب! أعتقد أنك أصبتَ الحقيقة.»
كان الأب براون قد ثبَّتَ عينيه على المتكلم جيدًا جدًّا ولفترةٍ طويلةٍ جدًّا، بحيث ثبت له أنَّ عينيه الكبيرتين الرَّماديتين، الشبيهتين بعينَي الثور، لم تكونا في الواقع شديدتي الضآلة مثل بقيةِ وَجهه. وعندما ساد الصمتُ قال باحترامٍ بيِّن: «سيد بوين، إنَّ افتراضك هو الافتراض الوحيد من بين ما اقتُرِح حتى الآن، الذي يمكن أن يصمد أمام النقد من كل جهة، كما أنه لا يمكن دَحْضُه من حيث الجوهر؛ لذا أعتقد أنك جديرٌ بأن تعرف أنني مُوقنٌ تمامَ اليقين أنه ليس الافتراض الحقيقي.» وبعدما قال هذا مباشَرةً مضى الرجل الغريبُ القصيرُ القامة بعيدًا، وعاد يُحدِّق في المطرقة من جديد.
همس الطبيبُ لويلفريد بتبرُّمٍ: «يبدو أن هذا الرجل يعرف أكثرَ مما يُتوقَّع منه. إنَّ أولئك الكهنة الكاثوليكيين مفْرِطو الدهاء.»
قال بوين، وقد بدا عليه الإرهاق الشديد نوعًا ما: «لا، لا، إن المجنون هو مَن فعلها. إن المجنون هو مَن فعلها.»
ابتعدت المجموعة التي تضم رجُلَي الدين والطبيب عن المجموعة الأكثر رسمية، والتي تضم المفتش والرجل الذي كان قد قبض عليه. عندئذ، ومع أنَّ جمعَهم نفسَه قد تفرَّق، سمِعوا الآخرين يتكلمون. نظر الكاهنُ إلى الأعلى بهدوء، ثم نظر إلى الأسفل مرةً أخرى عندما سمع الحداد يقول بصوتٍ عالٍ: «أرجو أن أكون قد أقنعتُك يا سيدي المفتش. أنا رجلٌ قويٌّ كما تقول، لكنْ لا يمكن أن أكون قد قذفتُ بضربةِ مطرقتي من ضاحية جرينفورد إلى هنا. ليس لمطرقتي جناحان لتطير مسافةَ نصف ميلٍ فوق السياجات والحقول.»
ضحك المفتش بوُدٍّ وقال: «لا، أعتقد أنَّ من الممكن اعتبارك بريئًا من تلك التهمة، بالرغم من أنَّ هذه من أغرب المُصادَفات التي رأيتُها في حياتي. يمكنني فقط أن أطلب منك أن تساعدنا بكل ما في وُسعك في العثور على رجلٍ في مثل حجمك وقوتك. يا إلهي! قد تستطيع مساعدتنا، لو أنك فقط تمسك به! أظن أنك شخصيًّا لا تستطيع أن تخمِّن مَن عساه يكون ذلك الرجل، أليس كذلك؟»
قال الحداد الشاحب الوجه: «ربما أستطيع أن أخمن مَن هو، لكنه ليس رجلًا.» ولمَّا رأى الأعين المذعورة تلتفتُ إلى زوجته الجالسة على المِقعد الطويل، وضع يده الضخمةَ على كتفها وقال: «ولا امرأةً كذلك.»
سأل المفتش مازحًا: «ماذا تعني؟ إنك لا تعتقد أن الأبقار تستخدم المطارق، أليس كذلك؟»
قال الحداد بصوتٍ مخنوق: «لا أظن أنَّ أيَّ مخلوقٍ قد أمسكَ بتلك المطرقة. وفيما يتعلق بالوفاة، أظنُّ أن لا يدَ لأحدٍ في موت الرجل.»
خطا ويلفريد خطوةً مفاجئة إلى الأمام، وراح يحدِّق فيه بعينين تستعِرَان غضبًا.
قال الإسكافيُّ بصوته الحاد: «أتقصد أن تقول، يا بارنز، إنَّ المطرقة قفزَتْ من تلقاء نفسها، وضربت الرجل وأسقطتْه صريعًا؟»
صاح سيميون قائلًا: «آه، يمكنكم أيها السادة أن تحدِّقوا، وتضحكوا ضحكاتٍ مكتومة كما تشاءُون. وأنتم يا رجال الدين يا مَن تحدِّثوننا في أيام الأحد عن كيف عاقَبَ الربُّ الملكَ سنحاريب في هدوءٍ تام، أعتقد أنَّ ذلك الذي يَسير في كل منزل دون أن تراه عين، هو مَن دافَعَ عن شرَف بيتي، وأردى ذلك المفسِدَ صريعًا أمام بابه. أعتقد أن القوة التي كانت في هذه الضَّربةِ هي نفسُها القوة الكامنة في الزلازل، وليس قوةً أقل من هذا.»
قال بوين بصوتٍ يعجز الوصفُ مطلقًا عن إدراكه: «أنا شخصيًّا حذَّرتُ نورمان من الصاعقة.»
قال المفتش بابتسامةٍ خفيفة: «إن تلك القوةَ خارجةٌ عن سلطتي القانونية.»
أجابه الحداد: «لكنك لستَ خارجًا عن سلطان الرب. تأكَّدْ من هذا.» وأدار لهم ظهره العريض ودخلَ إلى منزله.
قاد الأبُ براون ويلفريد، الذي كان يعتريه الاضطراب، بعيدًا، وعامَلَه مُعامَلةً مترفقةً ودودة، وقال: «لنخرج من هذا المكان المُفزِع يا سيد بوين. أتسمح لي بإلقاء نظرة داخل كنيستك؟ إنني أسمع أنها من أقدمِ الكنائس في إنجلترا.» ثم أضاف، وقد قطَّبَ وجهه تقطيبًا مضحكًا: «إننا نهتم بعضَ الشيء، كما تعلم، بالكنائس الإنجليزية القديمة.»
لكنَّ ويلفريد بوين لم يبتسم، فهو لم يتميز قطُّ بحِس الدعابة. وإنما أومَأَ برأسه موافِقًا في شيءٍ من الحماس، حيث كان مستعِدًّا تمامًا لشرح عظمة العمارة القوطية لشخصٍ أكثر قابليةً لمشاركته وجدانيًّا من الحداد التابع للكنيسة المشيخية أو الإسكافي الملحد.
قال بوين: «بالتأكيد، فَلْندخل من هذا الجانب.» وتقدَّم أمامه إلى مدخل الجانب العلوي للكنيسة، القائم عند قمَّة درجات السلم. عندما صعد الأب براون درجة السلم الأولى ليلحق به أحسَّ بيدٍ فوق كتفه، فاستدار ليلمحَ وجهَ الطبيبِ النحيل المكفَهِر، الذي جعله الشكُّ أكثر اكفهرارًا.
قال الطبيب بصوتٍ أجش: «سيدي، يبدو أنك تعلم بعض الأسرار عن هذا الأمر المفجع، هل لي أن أسأل إنْ كنتَ ستحتفظ بها لنفسك؟»
أجاب الكاهن وهو يبتسم ابتسامةً ودودةً للغاية: «عجبًا أيها الطبيب، ثمةَ مبررٌ معتبرٌ جدًّا يدفع رجلًا له مثلُ مهنتي إلى الاحتفاظ بالأسرار لنفسه عندما يكون غيرَ متأكدٍ منها، وهذا المبرِّرُ هو أنَّ واجبه دائمًا أنْ يحتفظ بها لنفسه عندما يكون متأكِّدًا منها. لكنْ إذا كنتَ ترى أني أسأتُ الأدب معك أو مع غيرك بتكتُّمي على هذه الأسرار، فسوف أفعل أقصى ما تعوَّدتُ عليه؛ سأعطيك تلميحَينِ مهمَّيْن للغاية.»
قال الطبيبُ بعبوس: «حسنٌ، ما هما يا سيدي؟»
قال الأب براون بهدوء: «أولًا، الأمر له علاقةٌ كبيرةٌ بمجال معرفتك. إنه متعلقٌ بالعلوم الطبيعية. إن الحداد مخطئ، ربما ليس في قوله إن الضربةَ كانت من عند الرب، ولكنْ بالتأكيد في قوله إنها حدثت نتيجةً لمعجزة. لمْ تكن معجزةً أيها الطبيب، إلَّا بقدر ما يَصدُق على الإنسان نفسِه مِن أنَّه معجزة، بقلبه الغريب الشرير والمتسم بشيءٍ من النبل بالرغم من هذا. إن القوة التي حطَّمت تلك الجمجمة معروفةٌ بين العلماء؛ إنها واحدةٌ من أكثر قوانين الطبيعة خضوعًا للمناقشة.»
لم يزد الطبيبُ، الذي كان ينظر إليه بجدَّيةٍ شديدة والتجهُّم يعلو وجهَه، على أنْ قال: «والتلميح الثاني؟»
قال الكاهن: «التلميح الثاني هو هذا: هل تذكر كيف كان الحداد، بالرغم من إيمانه بالمعجزات، يتكلَّم بازدراءٍ عن التفسير الخيالي الذي فَحْواه أنْ يكون لمطرقته جناحان، وأن تكون طارت مسافةَ نصف ميلٍ عبر الريف؟»
قال الطبيب: «نعم، أذكر هذا.»
أضاف الأب براون بابتسامةٍ عريضة: «في الواقع، لقد كان هذا التفسير الخيالي أقربَ شيءٍ للحقيقة مِن بين ما قيل اليوم.» وبعد هذا مباشَرةً استدار، وصعد السلم بتثاقُلٍ خلف راعي الأبرشية.
وقف القَسُّ ويلفريد ينتظره شاحبَ الوجهِ نافدَ الصبر، وكأنما كان تأثير هذا التأخير الوجيز على أعصابه كالقشَّة التي قصمتْ ظهر البعير، وما إنْ رآه حتى قاده على الفور إلى زاويتِه المفضَّلة من الكنيسة، ذلك الجزء من البهوِ المعمد الأقرب إلى السقف المزيَّن بالنقوش، والمضاء بنور النافذة الرائعةِ المرسومِ عليها صورةُ الملاك. أخذ الكاهن الكاثوليكي القصيرُ القامة يستكشف كلَّ شيء باستقصاءٍ ويُظهِر إعجابَه به، متكلِّمًا بابتهاجٍ لكن بصوتٍ خفيضٍ طوال الوقت. عندما رأى أثناء بحثه ذلك المَخرجَ الجانبي، وذاك السلمَ الحلزوني الذي نزل عليه ويلفريد مسرعًا ليجد أخاه وقد مات، أسرعَ الأب براون هو الآخَر بالصعود عليه وليس بالنزول، برشاقة قرد، وجاء صوتُه واضحًا من الأعلى، وهو واقفٌ على إحدى الشرُفات الخارجية.
حيث نادى قائلًا: «تعالَ واصعد إلى هنا يا سيد بوين، سيُفيدك الهواءُ.»
تبعه بوين، وخرج إلى ما يشبه الشرفة الحجرية أو البلكون خارج المبنى، والتي يمكن للمرء من خلالها أن يرى ذلك السهلَ اللامتناهي الذي تقوم عليه رَبوتُهم، والذي تغطيه الأشجارُ بعيدًا عند حدود الأُفُقِ الأرجواني، وتبدو القرى والمزارع فوقه مثل الرقْش على الثوب. كانت ساحة الحدَّاد تبدو تحتَهم واضحةَ المعالم مربعةَ الأركان، لكنْ صغيرةً للغاية، وكان المفتش لا يزال واقفًا فيها يدوِّن ملاحظاته، والجثةُ لا تزال منطرحةً فوقها كذبابةٍ مسحوقة.
قال الأب براون: «ربما يصلح أن يكون خريطةً للعالم، أليس كذلك؟»
أومَأَ بوين برأسه دلالةً على الموافقة، وقال بوقارٍ يكسوه حزنٌ شديد: «بلى.»
كانت دعائمُ المبنى القوطيِّ المعلَّقةُ القريبةُ منهما، والواقعةُ أسفل منهما مباشَرةً تنحدر خارجَه بقوةٍ في الفراغ، وكان انحدارها يبعث على الغثيان، ويُذكِّر المرءَ بالسرعة التي يهوي بها مَن ينتحرون. تتسم عمارةُ القرون الوسطى بمسحةٍ من قوةِ جبابرة التيتان، بحيث إنها تبدو دائمًا لمن ينظر إليها، من أيِّ جانبٍ من جوانبها، وكأنها تندفع بعيدًا، مثل متنِ حصانٍ مهتاج. نُحِتت هذه الكنيسة من حجارةٍ قديمةٍ صمَّاء، كان الفِطْر العتيق يكسوها كما تكسو اللِّحى وُجوهَ الرجال، وكانت أوكار الطيور على جوانبها كالبُقع على وجوههم. لكنهم كانوا، بالرغم من هذا، إذا نظروا إليها من الأسفل يرونها ترتفع مثلَ نافورةٍ باتجاه النجوم؛ وإذا نظروا إليها، مثلما ينظرون إليها الآن، من الأعلى، يرونها تتدفَّق مثل شلالٍ يَنصبُّ في حفرةٍ بلا قرار. لقد تُرِك هذان الرجلان الواقفان في برج الكنيسة وحيدَيْن مع الجانب الأكثر رعبًا للعمارة القوطية؛ وهو تأثيرها المُخيف الذي تُوحيه في النفس بقِصَرِ الأشياء عن طولها الحقيقي، وما تخلقه من عدم التناسب كذلك؛ ومع تلك المناظر التي تصيب المرء بالدوار، ورؤية الأشياء الضخمة في صورة صغيرة، والأشياء الصغيرة في صورة ضخمة؛ ومع تلك الفوضى الحجرية المعلَّقة في الهواء. كانت تفاصيلُ المباني الحجرية، تلك التفاصيل التي تبدو ضخمةً عندما يُنظَر إليها من قريب، تَخِفُّ ضخامتُها في مواجهة لوحةٍ من الحقول والمزارع، فتبدو صغيرةً إلى حد التفاهة عندما يُنظَر إليها من بعيد. كان ثمة نحتٌ لصورةِ طائرٍ أو وحشٍ ما في أحد الأركان، وكان يبدو مثل تنينٍ ضخمٍ يسير أو يُحلِّق مُدمِّرًا تلك المراعي والقرى الواقعة أسفل منه. كان الإطار المحيط كله خطيرًا ومُشوِّشًا للذهن، وكأنما كان الرجلان مُعلَّقَين في الهواء بين جناحَين يهتزان لجنِّيٍّ عملاق، وكانت تلك الكنيسةُ العتيقةُ في مُجملها، بارتفاعها وفخامتها الشبيهَيْن بارتفاع وفخامة كاتدرائية، تبدو مستقرة فوق البلدة المُضاءة بضوء الشمس، وكأنها عاصفةُ مطر شديدة.
قال الأب براون: «أرى أن الوقوف في هذه الأماكن العاليةِ خطيرٌ بعضَ الشيء، ولو كان من أجل الصلاة. لقد جُعِلت المرتفعات من أجل أن يُنظَر إليها، لا من أجل أن يُنظَر منها.»
سأل ويلفريد: «أتعني أن المرء قد يسقط منها؟»
قال القَسُّ الآخَر: «أعني أن روحَ المرء قد تسقط، إذا لم يسقط جسمُه.»
علَّق ويلفريد بصوتٍ خافتٍ للغاية: «إنني لا أكاد أفهمك.»
واصَلَ الأب براون كلامه في هدوء: «انظُرْ إلى ذلك الحداد مثلًا، إنه رجلٌ طيب، لكنه ليس مسيحيًّا حقيقيًّا؛ فهو متعجرفٌ جافي الطبع عديمُ الصفح. في الواقع، إن ديانته الاسكتلندية اخترعها قومٌ كانوا يُصلُّون على التلالِ والأجراف العالية، وقد تعلَّموا النظرَ إلى البَشَرِ مِن عَلٍ، أكثرَ مما تعلَّموا النظرَ إلى السماءِ فوقهم. إنَّ التواضُع هو صانع العمالقة. إنَّ الأشياء التي يراها المرءُ عظيمةً عندما ينظر إليها من الوادي، لا يراها إلا صغيرةً عندما ينظر إليها من القمة.»
قال بوين باضطراب: «لكنه … لكنه لم يفعلها.»
قال الآخَر بصوتٍ غريب: «لا، إننا نعلم أنه لم يفعلها.»
وبعد لحظةٍ استأنفَ كلامه، وهو ينظرُ في هدوءٍ إلى السَّهلِ بعينَيْه الرماديتَيْن الشاحبتَيْن، وقال: «لقد كنتُ أعرف رجلًا بدأَ أمرُه بممارسة العبادة مع الآخرين أمام مذبحِ الكنيسة، لكنه بدأ بعد ذلك يحبُّ الصلاة في الأماكن العالية والمنعزلة، في بعض الأركان أو المحاريب في برج جرس الكنيسة أو أبراجها الأخرى. وذاتَ مرةٍ وهو في أحد هذه الأماكن التي تُصيب المرء بالدوار، حيث بدا له العالَم كلُّه وكأنه يدور تحتَه كالعجلة، أخذ عقلُه يدور هو الآخر، وتخيَّلَ أنه الرب؛ لذا، وبالرغم من أنه كان رجلًا صالحًا، فقد ارتكبَ جريمةً فظيعة.»
حوَّلَ ويلفريد وجهَه بعيدًا، لكنَّ يدَيْه النحيلتين استحالتا إلى اللونين الأزرق والأبيض، وهو يشدُّ بهما على حاجز الشرفة الحجري.
«لقد توهَّمَ أنَّ من حقِّه الحكمَ على الناس ومعاقَبة العُصاة. إنَّ مِثل هذا التفكير ما كان ليخطر بباله قطُّ، لو أنه كان يجثو بركبتَيْه على الأرض مع الآخَرين، لكنَّه كان يرى الناس جميعًا يسيرون تحته كالحشَرات. لقد رأى أحدَهم يختال في مشيته على نحوٍ استثنائيٍّ تحته مباشَرةً، رآه يسير متغطرسًا ظاهرًا للعين بتلك القبعة الخضراء الزاهية التي كان يَرتديها؛ رآه حشرةً سامَّة.»
نعقت الغربان في أركان برج الجرس، لكنْ لم يصدر أيُّ صوتٍ آخَر، حتى واصَلَ الأب براون كلامه قائلًا: «لقد أغراه بارتكابِ فعلته كذلك أنه كان يملك واحدةً من أفظع قوى الطبيعة؛ أعني الجاذبية، ذلك الاندفاع الجنوني والمسرِع الذي تعود به كلُّ مخلوقات الأرض إليها إذا ما أُطلِقتْ. انظر، إن المفتش يختال في مشيته تحتَنا مباشَرةً في دكان الحدَّاد، ولو أنني قذفتُ حصاةً من فوق حاجز الشرفة هذا، فستكون في مثل قوة الرصاصةِ عندما تصدِمه. ولو أنني رميتُ مطرقةً، ولو حتى مطرقة صغيرة …»
ألقى ولفريد بوين إحدى رجلَيْه على حاجز الشرفة، لكنَّ الأب براون أمسَكَه على الفور من ياقةِ ثوبه، وقال برقةٍ بالغة: «ليس من هذا الباب، هذا الباب يؤدِّي إلى الجحيم.»
عاد بوين مترنحًا إلى الحائط، وحدَّقَ فيه بعينَيْن مرعبتَيْن.
ثم صاح قائلًا: «كيف تعرفُ كل هذا؟ أشيطانٌ أنت؟»
أجاب الأب براون بوقار: «إنني إنسان، لذا فالشياطين كلُّها في داخلي.» ثم بعد صمتٍ قصير قال: «أنصِتْ إليَّ جيدًا، إنني أعلم ما فعلتَه، أو على الأقل يمكنني تخمين الجزء الأكبر منه. عندما تركتَ أخاكَ كان يعتمل في صدرك غضَبٌ شديدٌ مُبَرَّر، لدرجة أنك التقطتَ مطرقةً صغيرة، وأصبح لديك شبه مَيلٍ إلى قتله بسبب بَذاءة لسانه. لكنك تراجعتَ عن هذا، ودفعتَ بها تحت مِعطفك المغلق، وأسرعتَ بالدخول إلى الكنيسة. وهناك أخذتَ تصلِّي باضطرابٍ في أماكن عدَّة، تحت النافذة المرسوم عليها صورة الملَاك، وفي الشرفة بالأعلى، ثم في شرفةٍ أعلى منها حيث رأيتَ قبعة الكولونيل الشرقية، وكأنها ظهرُ خنفساء خضراء تزحف في بُطء. عندئذٍ تحرَّكَ شيءٌ داخل روحك، وتركتَ صاعقةَ الرب تسقط.»
وضع ويلفريد يدًا واهنةً على رأسه، وسأل بصوتٍ خافت: «كيف عرفتَ أن قبَّعته كانت تشبه خنفساء خضراء؟»
قال الآخر وعلى فمه طيفُ ابتسامة: «أوه! كان هذا من باب الفِطْنة. لكنْ أنصِتْ إليَّ مرةً أخرى، لقد قلت إنني أعرف كل هذا، لكنْ لن يعلم به أيُّ شخصٍ آخر. الخطوة التالية متروكةٌ لك؛ فأنا لن أتخذ أيَّ خطوات أخرى، سوف أختم على هذا بالختم الذي أضعه على اعترافات الناس. وإذا سألتَني عن السبَب، فإن ثمة العديد من الأسباب، وليس من بينها ما يهمُّك سوى واحد فقط. إنني أُوكِل الأمورَ إليك لأنك لمْ توغل بَعدُ في الانحراف، كما يوغل سفَّاكو الدماء. إنك لم تساعد في تثبيت التهمة على الحداد في حين كان ذلك سهلًا؛ ولا على زوجته، وقد كان ذلك سهلًا أيضًا. وإنما حاولتَ أن تلقي بها على الفتى الأبله لعلمك أنه لنْ يتعرَّض للأذى. كانت هذه واحدةً من الومضات التي من مَهامِّي العثورُ عليها في سفَّاكي الدماء. والآن انزل إلى القرية، وامضِ في طريقك حرًّا كالرياح؛ فلقد قلتُ كلمتي الأخيرة.»
نزل الرجلان على السلم الحلزوني في صمتٍ تام، وخرجا إلى ضوء الشمس بجوار دكان الحدَّاد. رفع ويلفريد بوين مِزلاجَ بوابة الفناء الخشبية على مهل، وتوجَّهَ إلى المفتش وقال: «أريد أن أسلِّم نفسي؛ لقد قتلتُ أخي.»