وصية السيد «موسار»
مذهولًا .. منشغلًا باكتشافاته الغريبة، أرهق موسار ذهنه بتلك الأفكار التي كان يمكن أن تؤدي به إلى الجنون .. لولا أن أنقذه الموت منها بمرض غريب قاسٍ؛ كان ذلك من حسن حظ عقله، ولسوء حظ أصدقائه الذين حزنوا عليه؛ فقد كان عزيزًا عليهم، وكانوا يُقدِّرونه ..
هذه الصفحات القليلة موجهة إلى قارئ مجهول في زمن قادم، تكون لديه الشجاعة على مواجهة الحقيقة، والقدرة على تحمُّلها. أمَّا الضعيف فعليه أن يتجنب كلماتي تجنُّبَه للنيران؛ فليس لديَّ شيء مريح له. كما أنني لا بدَّ من أن أُسرع؛ فالوقت المتبقي لي في هذه الحياة قصير، ومجرد كتابة عبارات قليلة يتطلَّب جهدًا فوق طاقة البشر، وهو ما ليس في استطاعتي الآن، لولا الإكراه الداخلي الذي يدفعني إلى نقل معرفتي وما تعنيه بالنسبة لعالم المستقبل.
الأطباء يقولون: إنني أعاني من شلل في المَعِدة. ولكن مصدر هذا المرض لا يعرفه أحد غيري، شلل ينتشر سريعًا في سائر الأطراف وأعضاء جسمي الداخلية؛ يُجبرني ليلًا ونهارًا على الجلوس كالمسمار في الفراش مسنودًا بالوسائد من حولي، وعلى الغطاء بجوار يدي اليسرى دفتر، أمَّا اليُمنى فعاجزة تمامًا، تقليب الصفحات هو واجب خادمي المخلص «مانيه»، الذي أوصيت بأن يكون مسئولًا عن تركتي.
لم أتناول إلا غذاءً سائلًا على مدى ثلاثة أسابيع. وفي اليومين الأخيرين كان مجرد شرب جرعة ماء؛ يسبب لي آلامًا لا تُحتمل. على أيَّة حال؛ لا يجب أن أتوقَّف عند حالتي الراهنة أكثر من ذلك، ولا بدَّ أن أكرِّس البقية الباقية من طاقتي لوصف اكتشافي. هذه أولًا بضع كلمات عن نفسي.
اسمي «جان جاك موسار»، وُلِدت في «جنيف» في الثامن عشر من مارس عام ١٦٨٧، كان والدي صانع أحذية، لكن سرعان ما أن وجدت نفسي طموحًا إلى مهنة أخرى؛ فعملت صبيًّا لدى صائغ. بعد سنوات قليلة تقدَّمت لامتحان ممارسة المهنة، وكان العمل الذي أنجزته — وهذا من سخريات القدر — عبارة عن طاقم من الياقوت في غلاف من الذهب على شكل محارة. بعد عامين من التجوال، ومشاهدة جبال الألب والمحيط، وما بينهما من أراضٍ شاسعة؛ استقرَّ بي المقام في «باريس»، حيث وجدت وظيفة لدى المعلِّم «لامبير»، الصائغ في شارع «فيرديلييه».
موته الباكر حمَّلني مسئولية ورشته بشكل مؤقت، وبعد عام تزوجتُ أرملته، وهكذا حصلتُ على درجة «صائغ مؤهل» يتمتع بكافة الحقوق المهنية لطائفة الصاغة.
وعلى مدى العشرين سنة التالية، نجحتُ في تحويل المحل الصغير في شارع «فيرديلييه» إلى أكبر وأشهر محل للمجوهرات في باريس كلها. كان كل زبائني من أرقى العائلات والمتنفذين وذوي العلاقة بالقصر والبلاط. الخواتم والبروشات والتيجان التي أصنعها وجدت طريقها إلى هولندا وإنجلترا وألمانيا، كثير من الرءوس المتوَّجة عبرت عتبة محلي. في عام ١٧٣٣، أي بعد عامين من وفاة زوجتي الحبيبة؛ شرُفت بتعييني جواهرجيًّا في بلاط «دوق أورليانز».
كان لدخولي تلك الدوائر المرموقة في مجتمعنا؛ أثره البالغ على تطور تفكيري ونمو شخصيتي. أفدت كثيرًا من الحديث والمناقشات التي اعتدت عليها، ومن الكتب الكثيرة التي كرَّست لها كل دقيقة من وقتي. وبمرور السنوات أصبح لديَّ معرفة واسعة، وفهم عميق، في أمور العِلم والفن والأدب؛ لدرجة أنني أصبحتُ أعتقد — دون أيِّ غرور — أنني رجل مثقف، بالرغم من عدم إكمال دراستي في مدرسة عليا أو جامعة. اختلطتُ بكل الصالونات المشهورة، واستقبلت — ضيوفًا عليَّ — عددًا كبيرًا من مشاهير العصر: «ديدرو»، «دوند يلاك»، «داليمبير» … كلهم جلسوا على مائدتي. المراسلات التي نعمت بها مع «فولتير» لعدة سنوات سيجدونها بين أوراقي بعد أن أموت. كنت — حتى — أعدُّ «روسو» الخجول واحدًا من أصدقائي.
أنا لا أسجِّل هذه التفاصيل بغرض التأثير على قارئي المستقبلي — هذا إن وُجِد — باستدعاء تلك الأسماء الشهيرة. أنا — بالأحرى — أحاول أن أتجنب اللوم عندما أُزيح الستار عن اكتشافاتي الفذة. ربما قيل إنني شخص أحمق، لا يجب أن تؤخذ مزاعمه على محمل الجد؛ لأنها صادرة عن جاهل بالعِلم والفلسفة، ولكنني أتخذ من أولئك الرجال شهودًا على صفاء ذهني، وقدرتي على التمييز. أمَّا بالنسبة لأي إنسان لا يريد أن يأخذني على محمل الجد؛ فإنني أقوله له: «ومَن أنت يا صديقي لكي تُعارض رجلًا احترمه عظماء عصره، وكانوا يعتبرونه ندًّا لهم؟»
بنمو مصنعي، واتساع مجال عملي؛ أصبحتُ ثريًّا. إلا أنني مع تقدُّم العمر تضاءلت أمامي بهجة الذهب والأحجار الكريمة، لم يعُدْ شيء من ذلك يفتنني، وأصبحت الكتب والدراسات العلمية أكثر قيمة في تقديري. وهكذا قررت قبل الستين: أن أنسحب من عالَم التجارة، وأقضي ما تبقى لي من عمر في تقاعُد رغد، بعيدًا عن صخب العاصمة. وبهذا الهدف اشتريت قطعة أرض بالقرب من «باسي»؛ حيث ابتنيت بيتًا واسعًا بحديقة جميلة متنوعة النباتات والأشجار وأحواض الزهور والمجاري المائية والممرات النظيفة المفروشة بالحصباء، كان المكان كله معزولًا عن العالم الخارجي بسور كثيف من أشجار البَقْس، وكان بهدوئه الساحر يبدو مكانًا ملائمًا لرجل يريد أن يَنعَم بسنوات قليلة من السلام والمتعة بين هموم الحياة ولحظة الموت.
في الثاني والعشرين من مايو ١٧٤٢، وكنت في الخامسة والخمسين؛ انتقلتُ من «باريس» إلى «باسي»، وعكفت على حياتي الجديدة. ياه! عندما أفكر الآن في السعادة الهادئة! .. في ذلك اليوم الربيعي الذي وصلت فيه إلى «باسي»! أو عندما أفكر في تلك الليلة؛ عندما ذهبت إلى الفراش لأول مرة في حياتي دون توقُّع لأن أقوم من النوم وأستقبل يومًا جديدًا من الكدِّ ومواعيد التسليم والاستعجال والقلق! بلا صوت سوى حفيف الأشجار؛ كنت أضع رأسي سعيدًا هادئًا على الوسادة نفسها .. الوسادة التي أجلس عليها الآن مثل الحَجَر، لا أعرف إن كان ينبغي لي أن أبارك ذلك اليوم أم ألعنه؟
منذ ذلك الحين، أصبح طريقي طريق تدميرٍ ذاتيٍّ تدريجيٍّ مؤدٍّ إلى حالتي الراهنة .. البائسة! ولكن .. منذ ذلك أيضًا بدأت الحقيقة تتكشَّف لي شيئًا فشيئًا. انكشف السر! سر البداية، مسار حياتنا ونهايتها، عالمنا .. كل هذا الكون!
وجه الحقيقة بشع، مرعب، يُحدِّق قاتلًا مثل رأس «ميدوسا»، ولكن مَن يَجِد الطريق نحو الحقيقة، سواء بالمصادفة أو بالبحث الذي لا يهدأ؛ لا بدَّ من أن يسير فيه إلى نهايته، لا بدَّ من أن يكمله، حتى وإن كان ذلك لن يجلب له سلامًا ولا راحة ولا جزاءً ولا شُكورًا من أحد! وهنا يا قارئي المجهول؛ توقَّف، واسأل نفسك قبل مواصلة القراءة: هل أنت قوي بما يكفي لكي تسمع أسوأ ما في الموضوع؟
ما سوف أقوله لك يفوق الخيال والتوقُّع؛ بمجرد أن أفتح لك عينيك ستبصر عالمًا جديدًا، ولن ترى القديم أبدًا. وسيكون العالم الجديد كريهًا؛ سيحمل معه الظلم والحزن والتمزُّق، سيخنق كل توقُّع لأمل باقٍ أو مفرٍّ أو راحةٍ أبعد من أنك الآن تعرف الحقيقة، وأنَّ الحقيقة نهائية! لا تواصل القراءة إن كنت تخشى الحقيقة، نحِّ هذه الصفحات جانبًا إن كان الحسم يوقع الرهبة في نفسك. وإن كنتَ تنشد السلام الروحي؛ تجنَّب كلماتي!
لا حياء في الجهل ولا خجل، إنه السعادة بعينها بالنسبة لكثيرين، بل إنه — في النهاية — السعادة الوحيدة الممكنة التي يمكن أن يقدِّمها لنا هذا العالم .. ففكِّر قبل أن تنفض عنك جهلك! ما ينبغي أن أقوله لك الآن شيء لن تنساه؛ لأنك تعرفه في صميم قلبك بالفعل، مثلما كنتُ أعرفه أنا قبل أن يتكشَّف لي، كل ما فعلناه هو أننا كنَّا نُقاوم الرغبة في الاعتراف به والتعبير عنه؛ أقول لك: العالم محارة .. محارة تنغلق على نفسها دون رحمة.
هل تُقاومني؟ هل تُحاول أن تحصِّن نفسك ضد هذا الاستبصار؟ لا غرابة في ذلك، إنها خطوة واسعة فعلًا، لا يستطيع المرء أن يقوم بها فجأة؛ ضباب العصور كثيف، ولا يمكن أن تُبدِّده نبضة ضوء مفاجئة .. مهما كانت كبيرة. وبدل ذلك؛ نحن في حاجة إلى مائة مصباح صغير، ولذلك سوف أستأنف حكاية قصة حياتي؛ لكي يمكنك — بالتدريج — أن تُشاركني تلك الاستنارة التي حلَّت بي.
لقد وصفت لك الحديقة التي كانت تُحيط بمنزلي الجديد، والحقيقة أنها كانت حديقة صغيرة، متنوعة الزهور والنباتات والأشجار النادرة، لكنني راعيت قبل ذلك كله أن أغرس فيها ورودًا. منظر الوردة المتفتحة يبعث في نفسي السكينة والطمأنينة، أعطيت البستاني مطلق الحرية في التفاصيل. ورغبةً من الرجل الطيب في إدخال السعادة والبهجة على نفسي؛ قام بزراعة سياج عريض من الورد، في الناحية المواجهة للمنزل من الغرب. لم يكن يتصوَّر أنني — بالرغم من حبي الشديد لمنظر الورد — لا أحبه هكذا مبعثرًا دون انتظام، بل لعله لم يتصوَّر أبدًا أن يكون تخطيط حوض الورد على ذلك النحو هو بداية فصل جديد وأخير في تاريخ الجنس البشري. لم تنمُ أشجار الورد، ظلَّت السوق صغيرة وبائسة، بل إنَّ معظمها جفَّ بالرغم من الريِّ الجيد المنتظم، وبينما ازدهرت كل نباتات الحديقة الأخرى؛ لم يُنبت الورد برعمًا واحدًا خارج شبَّاكي الغربي. تكلَّمت مع البستاني الذي كانت نصيحته الوحيدة هي إعادة حرث الحوض كله ووضع تربة جديدة، صدمني ذلك كحلٍّ معوِّق، ولأنني لم أحبذ أن يكون الورد هكذا قريبًا جدًّا من المنزل؛ قرَّرت إزالة السياج كله، وبناء شرفة ملحقة بالصالون؛ يمكن أن ينعم المرء بالنظر منها إلى الحديقة كلها، والاستمتاع بروعة الغروب.
راقت لي الفكرة، واستولت عليَّ لدرجة أن قرَّرت تنفيذها بنفسي. شرعت في إزالة أشجار الورد، وتقليب التربة؛ لكي تُغطَّى بعد ذلك بالحصباء والرمل، وطبقة تحتية لوضع الأحجار. استخدمت المجراف، وبعد قليل اكتشفت أنَّ ما يخرج به من الأرض ليس تربة رخوة، بل إنه كان في كل مرة يرتطم بطبقة صلبة، لونها يميل للبياض، تجعل الحفر أكثر صعوبة. استخدمت مِعولًا لخلخلتها، تهاوت تحته وتكسَّرت إلى قطع صغيرة، جمعتها ووضعتها جانبًا. ضيقي بهذا الجهد الإضافي قلَّل من اهتمامي الخاص بتلك الصخور غير العادية، إلى أن وقعت عيناي على المجراف الذي كنت على وشك أن أفرغه؛ رأيت حَجَرًا في حجم قبضة اليد، وجسمًا دقيق الشكل ملتصقًا به. وضعت المِعول من يدي وتناولت الحَجَر، ولدهشتي كان ذلك الجسم الملتصق عبارة عن محارة متحجِّرة، وهنا توقَّفت عن الحفر ودخلت المنزل؛ لكي أفحص ما وجدتُه جيدًا.
تبيَّن لي أنَّ المحارة قد نَمَت ثابتة في الصخرة، وكان من الصعب التمييز بينهما حتى في اللون، للمحارة درجة اللون الأبيض الأصفر الرمادي نفسها، كما أنها متموِّجة ومنبسطة كالمروحة، بشكل يؤكِّد تعرُّقها البارز، كانت في حجم الجنيه الذهبي الفرنسي. أمَّا الجزء الخارجي فيُشبه المحار الذي تجده على شواطئ «نورماندي»، و«بريتاني»، والذي يُشبه صحنًا من صحون الغداء الشائعة. وعندما تناولت سِكِّينًا، وخدشت سطحها لكي أكسره؛ لم يكن هناك فرق بينها وبين الحَجَر الملتصقة به. طحنت القطعة المكسورة من المحارة في هاوَن، وقطعةً من الحَجَر في هاوَن آخر، كانت النتيجة في الحالتين هي المسحوق الأبيض نفسه، بلونه المائل للرمادي. وعند مزجه بقليل من الماء كان يُشبه الطلاء المستخدم في بياض الجدران؛ المحارة والحَجَر مكونان من المادة نفسها.
لم أتبيَّن في البداية تلك المعاني الرهيبة المتضمَّنة في هذا الاكتشاف، كنت مأخوذًا بما افترضتُ أنه اكتشاف فريد، وتصوَّرت أنه مجرد نزوة عارضة من الطبيعة، لم يكن بمقدوري أن أتخيل شيئًا أبعَد من ذلك، لكن سرعان ما وجدت سببًا جعلني أغيِّر رأيي.
بعد فحص دقيق للمحارة، عُدت إلى حوض الورد؛ لأرى إن كانت هناك محارات أخرى. لم أُمضِ وقتًا طويلًا في البحث. مع كل خبطة مِعول، ورَفعة مجراف؛ كانت تخرج محارة أخرى. والآن، وبعد أن عرفت ما كنت أبحث عنه؛ وجدت محارًا في كل مكان، وحيث كنت أرى رمالًا وأحجارًا من قبل. وخلال نصف الساعة جمعت أكثر من مائة محارة، ثم توقفت عن العدِّ؛ كنت في حاجة إلى عيون أخرى لكي أراها كلها!
لم أستسلم للتوجُّس الذي ملأني يا عزيزي القارئ؛ فانتقلت إلى الجانب الآخر من الحديقة، وبدأت الحفر هناك. وفي البداية وجدت ترابًا وجيرًا، لكنني وجدت حَجَر المحار على عمق نصف المتر، حفرت في مكان ثالث ورابع وخامس وسادس، وفي كل مكان — أحيانًا من أول خبطة مِعول، وأحيانًا على أعماق أبعد — وجدت محارًا، وأحجار محار، ورمل محار. في الأسابيع التالية قمت بجولات في المنطقة المحيطة، حفرت في البداية في «باسي»، ثم في بولونيا، و«فرساي»، إلى أن حفرت — بشكل منتظم — طريقي عبر باريس كلها من «سان كلود» إلى «فنسان»، ومن «جنتي» إلى «مونت مورنس»؛ دون أن أفشل مرة واحدة في الحصول على المحار. وعندما كنت لا أجده؛ كنت أجد رمالًا وأحجارًا مطابِقة له من ناحية المادة. وعلى طول مجرى «السين»، و«المارني»؛ كان المحار مُلقًى بغزارة على الشواطئ الصخرية، بينما كان عليَّ في «شارنتون» — حيث كان يُراقبني حُرَّاس مستشفى الأمراض العقلية بكل ارتياب — أن أدقَّ لكي أحفر رأسيًّا بعمق خمسة أمتار قبل أن أضرب بمِعولي. وبعد كل خبطة كنت أجمع عيِّنات قليلة من المحار، ومن الصخور المحيطة؛ لكي أفحصها جيدًا بالمنزل، وكانت النتيجة هي نفسها في كل مرة .. مثل أول محارة تمامًا؛ لم يكن هناك أيُّ فرق بين كل المحارات في المجموعة .. حتى في الحجم، وباستثناء الشكل؛ لم يكن هناك اختلاف بينها وبين الأحجار الملتصقة بها.
هذه النتيجة للأبحاث والجولات أثارت سؤالين مهمين، خشيت كثيرًا واشتقت طويلًا أن أجد إجابة لهما؛ أولًا: ما مدى انتشار المحار تحت الأرض؟ ثانيًا: كيف ولماذا يتكوَّن المحار؟ .. بعبارة أخرى: ما الذي يجعل قطعة حَجَر عاديَّة تأخذ ذلك الشكل المحدَّد وتصبح محارة؟ ربما يَعِنُّ لك يا عزيزي القارئ أن تقاطعني هنا لتقول: إنَّ أسئلة كَتِلك قد تمَّت مناقشتها بالفعل منذ زمن بعيد بواسطة «أرسطو»، أو إنَّ تكوُّن المحار ليس اكتشافًا أصيلًا ولا مدهشًا، وإنَّما هو ظاهرة عادية منذ ألف سنة مثلًا؛ ولكنني أستطيع أن أرد على ذلك قائلًا: مهلًا يا صديقي! مهلًا! لا تتعجَّل! فأنا أبعَدُ ما أكون عن الادِّعاء بأنني أول من اكتشف محارةً متحجِّرة، وأيُّ شخص يمتلك عينًا مهتمة بالطبيعة؛ لا بدَّ من أن يكون قد رآها، ولكن أحدًا لم يكرِّس لها تفكيرًا عميقًا ولا تدبيرًا منطقيًّا كما فعلت. وأنا بالطبع مُطَّلِع على كل ما كتبه فلاسفة الإغريق عن أصل الكوكب الذي نعيش عليه، وكذلك القارات، والمشهد الطبيعي، وكل ما له تأثير على اكتشاف محار متحجِّر. وبعد أن انتهيت من الجانب العملي في بحثي، طلبت من «باريس» كل الكتب التي تلقي الضوء على مشكلة المحار.
رُحتُ أفتش في كل الكتابات التي تناولت علوم الكونيات والمعادن والجيولوجيا والفلك وكافة المواد المتعلقة بها، قرأت لكل الكُتَّاب الذين تكلَّموا عن المحار؛ بدءًا من «أرسطو» إلى «ألبرتوس ماجنوس»، ومن «ثيوفراستوس» إلى «جروستست»، ومن «ابن سينا» إلى «ليوناردو»، كل ما خرجتُ به هو أنَّ أولئك المفكرين استعرضوا معرفة واسعة عن تكوُّن المحار ومظهره وتوزُّعه، إلا أنهم عندما جاءوا إلى أصوله وتكوينه الداخلي، والسبب الحقيقي لوجوده؛ لم يكن عندهم ما يقولونه.
وبعد دراستي للنصوص؛ فقد تمكَّنتُ — على أيَّة حال — من الإجابة عن السؤال: إلى أيِّ مدًى استولى المحار على الأرض؟ وعلى اعتبار أنه ليس هناك حاجة للإبحار حول الأرض للتأكُّد من أنَّ السماء زرقاء؛ فقد وصلت بالفعل إلى افتراض أنَّ المحار يظهر حيثما حفرت بحثًا عنه.
ولم أكتفِ بالقراءة عن اكتشاف المحار في أوروبا، وفي عرض آسيا، وفي أعلى القمم وأعمق الوديان النهرية؛ بل إنني قرأت كذلك عن جير المحار، ورمل المحار، وحَجَر المحار، والمحار المزروع في القارات المكتشفة حديثًا في شمال وجنوب أمريكا. وكل ذلك أكَّد مخاوفي مِمَّا قرأت في النصوص الباريسية، وهو بالتحديد: إنَّ كوكبنا قد أصابه التلف بسبب المحار ومشتقاته، وإنَّ ما نراه على أنَّه العالم الواقعي (المراعي والغابات، والبحيرات والبحار، والحدائق والحقول، والأراضي البور، والسهول الخصبة) ليس أكثر من عباءة لطيفة — ولكنها واهية — فوق قلب شديد القسوة! ولو أننا أزحنا هذه العباءة الرقيقة؛ فلسوف يظهر كوكبنا هذا مثل كرة بيضاء رمادية مكوَّنة من عدد كبير من المحار المتحجِّر، كل محارة في حجم الجنيه الذهبي الفرنسي، كوكب كهذا لا يمكن أن تستمر فوقه حياة. إنَّ المرء لا بدَّ من أن يرفض ذلك الاكتشاف الذي يرى أنَّ العالم يتكوَّن أساسًا من المحار، ويَعتبر ذلك أمرًا غريبًا إذا كان المقصود به الإشارة إلى حالة من الثبات والاستقرار، لكن لسوء الحظ فإنَّ الحال ليس كذلك. دراساتي المسهبة التي يمنعني الموت الوشيك من أن أصفها بالتفصيل؛ قد بيَّنت لي أنَّ تحجُّر العالم عملية مستمرة وسريعة. وفي زماننا هذا تُقدِّم لنا عباءة الأرض دلائل كثيرة على الهشاشة والتمزق في جميع الجوانب؛ العباءة تمَّ مضغها وأكلها في مواضع كثيرة. وهكذا نعرف من الكُتَّاب والمؤلفين القدامى أنَّ جزيرة «صقلية»، والساحل الأفريقي الشمالي، وشبه جزيرة «أيبيريا»؛ كانت من بين الأراضي الأكثر خصبًا في العالم القديم. وكما يعرف الجميع الآن؛ فإنَّ تلك المناطق نفسها — مع استثناءات طفيفة طبعًا — تتكوَّن من التراب والرمال والحجارة التي تُشكِّل المرحلة الأولى من المحار. والشيء نفسه ينطبق على معظم الجزيرة العربية والشمال الأفريقي، كما ينطبق على مناطق من أمريكا لم يتم اكتشافها من قبل كما تقول آخر التقارير. وفي بلادنا هذه التي نعتبرها أرضًا متميزة؛ هناك دليل على وجود تلك العملية المستمرة نفسها.
وهكذا أصبحت العباءة رقيقة، وفي سُمك إصبَع واحدة. في مناطق «بروفنس» الغربية، و«سيفنس» الجنوبية؛ المساحة التي سقطت فريسة للتحجُّر من سطح الأرض تزيد عن مساحة أوروبا، أمَّا سبب الانتشار الكبير للمحار والمواد المُكوِّنة له؛ فيرجع إلى دورة الماء التي لا ترحم.
ولأنَّ المحيط يُزوِّد المحار الحيَّ بالبيئة الصالحة للتواجد فيها؛ فإنَّ الماء يصبح الحليف الأول أو — بالأحرى — العنصر الأصلي المكوِّن لأحجار المحار؛ فالماء — كما يعرف كل متعلِّم — عبارة عن دورة لا نهائية تسحبه فيها أشعة الشمس من البحر؛ فيتجمَّع على هيئة سُحب تحملها الرياح لكي تسقط على هيئة أمطار على الأرض. المطر يملأ الأرض ويتغلغل في التربة ويصل إلى أصغر جزئياتها، ثم يتجمَّع في ينابيع وجداول، ويتكاثر في مجارٍ مائية وأنهار تشقُّ طريقها عائدة إلى البحر. في مرحلة اختراقه للأرض وتغلغله فيها؛ يقوم الماء بدوره الحاسم في انتشار المحار. وعن طريق التشبع تتفتَّح الأرض تدريجيًّا، وتتشقَّق وتتآكل؛ حينئذٍ يتسرَّب الماء إلى العمق، حتى يصل إلى طبقة المحار، ويكون قد اغتنى بما امتصَّه من التربة، وبذلك يقدِّم التغذية اللازمة لتكاثر المحار. بهذه الطريقة يكون سطح الأرض في حالة نحول مستمر، بينما تواصل طبقة المحار نموها باستمرار. وبوُسع أيِّ شخص أن يتأكد من هذا الاكتشاف بأن يغلي قليلًا من مياه الآبار في قِدر؛ سيلاحظ تكوُّن ترسبات بيضاء في قاع القِدر وعلى أجنابه، كما يلاحظ تكوُّن قشرة سميكة من تلك الترسبات في القُدُور التي تُستخدم لذلك الغرض باستمرار.
وإذا كسر شخص ما تلك القشرة المتكوِّنة، وطحنها في هاوَن؛ فسيجد مسحوقًا مثل ذلك المتخلِّف عن أحجار المحار. بينما إذا أجرى شخص آخر التجربة نفسها بماء المطر؛ فإنه لن يجِد أيَّة ترسبات. ولعل قارئي المجهول قد فهم الآن ذلك الموقف الباعث على اليأس، الموقف الذي يواجه العالم، وهو أنَّ الماء الذي لا نستطيع الحياة بدونه يومًا واحدًا؛ هو الذي يُدمِّر الأرض التي هي أساس وجودنا، كما يقوم بدور الحليف لعدوِّنا القاتل، الذي هو المحار. وهكذا فإنَّ تحوُّل العناصر التي تمنح الحياة على الأرض إلى أدوات حجرية بهدف تدميرنا؛ أمر حتمي، ولا سبيل لمقاومته. كما يحدث ذلك التغير الصارخ أو المسخ لتنوع الطبيعة المزدهر؛ عندما تأخذ شكل المحارة.
ولكن .. فلنكفَّ عن تقديم مفاهيم زائفة أكثر من ذلك عن نهاية العالم، سوف ينتهي بنا الأمر إلى التحجُّر. هذا شيء مؤكَّد مثل شروق الشمس وغروبها، مثل ارتفاع السحب وسقوط المطر، مصيرنا هو التحجر. وسوف أصف لك هذه العملية بالتفصيل في صفحة تالية، ولكن قبل ذلك لا بدَّ من دحض الاعتراضات التي سترتفع ضدي، والتي أفهمها جيدًا؛ لا أحد يريد أن يعترف بالأسوأ، كما أنَّ الخوف يولِّد الكثير من الاحتمالات والافتراضات، أمَّا الاسترشاد بالحقيقة وحدها؛ فذلك واجب الفيلسوف فقط. ولكنني كما أوضحت من قبل: فإنَّ فلاسفتنا المحترمين — وبكل أسف — يفشلون عندما يكون المطلوب منهم تفسير ظاهرة المحار؛ كثيرون منهم يستخفُّون بالأمر، ويرون أنه ليس أكثر من مصادفة أو فلتة من فلتات الطبيعة التي تطبع الحجر على شكل محارة لسبب أو آخر. أمَّا بالنسبة لأي شخص ذكي؛ فإنَّ ذلك التفسير السطحي المريح — والذي يتم الترويج له حتى يومنا هذا من قِبل المؤلفين الإيطاليين — سوف يتضح أنه سخيف وغير عِلمي، للدرجة التي تجعلني أوفِّر على نفسي مشقَّة مناقشته.
وهناك رأي آخر، يحسُن أن نتناوله بجدية أكثر (كما كان يفعل الفلاسفة العظام دائمًا) يقول: إنَّ المحيط — فيما قبل التاريخ — كان يُغطي العالم كله، وإنه عندما انحسر خلَّف المحار وراءه. والدليل على هذا التأكيد أنَّ كل الدارسين يعتمدون رواية الإنجيل عن الطوفان، والتي تقول: إنَّ الماء كان يغمر الأرض كلها .. حتى أعلى قممها. وبالرغم من أنَّ هذا التفسير قد يبدو لغير المطَّلِع مفيدًا إلى حدٍّ ما لتوضيح الصورة؛ إلا أنني أختلف معه من وجهة نظري الأكثر عِلمًا بذلك؛ نحن نقرأ في كتاب «موسى» أنَّ الماء غمر العالم ثلاثمائة وسبعين يومًا كاملة، وأنَّ قمم الجبال — حيث كان يوجد كثير من المحار كما في السهول — كانت مغطاة بالماء لمدة مائة وخمسين يومًا فقط، وأنا أتساءل: كيف يمكن لطوفان مُدَّته قصيرة كتلك أن ينجح في أن يدفع إلى الشاطئ بكميات كبيرة من المحار، كتلك التي نراها اليوم؟
على أيَّة حال، فإنَّ المحار السابق على عهد الطوفان — قبل آلاف السنين — لا بدَّ من أن يكون قد طُحن وتحوَّل إلى رماد؛ بسبب عوامل الطقس. وحتى إذا كان المحار قد بقي لأسباب غير معروفة؛ فذلك لا يكفي دليلًا على الحقيقة الثابتة، وهي تزايُده بشكل متواصل. وهكذا يكون أي تفسير أو شرح لطبيعة المحار — غير الذي أقول به — لا أساس له من الصحة. ونحن إلى الآن نرى أنَّ سطح كوكبنا عُرضة لتحوُّل متواصل من مكوناته المتعددة إلى مادة المحار؛ وهذا يُقرِّبنا من افتراض أنَّ التحجر يمثِّل مبدأً عامًّا يحكم الحياة الأرضية كلها، وليس الأرض فقط. هو مبدأ لكل شيء، كل كائن في العالم؛ إنه يحكم الكون كله في الحقيقة. لقد أقنعتني نظرة واحدة من التلسكوب منذ زمن بعيد؛ بأنَّ القمر الذي هو أقرب الجيران لكوكبنا هذا؛ يقدِّم لنا مثالًا عمليًّا ونموذجًا للتحجر الكوني. والحقيقة أنه وصل إلى نفس المرحلة التي تواجه الأرض الآن، وهي بالتحديد: تحوُّل جميع المواد بشكل كامل إلى مادة المحار. والمعروف أنَّ هناك علماء فلك — حتى في البلاط — يؤكِّدون أنَّ القمر كوكب مُلائم؛ توجد عليه تلال بها غابات، ومروج خضراء، وبحيرات، ومحيطات. والحقيقة أنه لا يوجد عليه أيُّ شيء من ذلك. ما يعتقد أولئك الهواة أنه محيطات؛ ليس سوى صحارٍ من المحار. وما يضعونه على خرائطهم بوصفه سلاسل جبلية؛ ليس سوى أكداس مكدَّسة من أحجار المحار لا حياة فيها، وكذلك كل الأجرام السماوية. ولسوف تؤكِّد الأجيال القادمة — ذات العقول الأكثر ذكاءً، وأجهزة التلسكوب الأكثر كفاءة — أنني محقٌّ.
لكن الشيء المرعب، والأكثر إثارة للخوف من تحجُّر الكون؛ هو الاضمحلال المتواصل لأجسادنا، وتحوُّلها التدريجي إلى مادة المحار. وهي عملية عنيفة؛ لدرجة أنها في كل حالة لا بدَّ أن تؤدي إلى الموت. عند الحمل يتكوَّن الجنين — إن جاز لنا التعبير — من كتلة صغيرة، هي مادة لزجة أو غروية، لكنها تكون خالية من المادة المُكوِّنة للمحار؛ إلا أنَّ الترسبات تتراكم عليها أثناء عملية نموها في الرحم. عند الميلاد تكون ما زالت طريَّة، كما نرى في رءوس الأطفال حديثي الولادة؛ لكن في خلال فترة زمنية قصيرة يصبح لعظام ودماغ الجسم الصغير غطاء جامد .. حَجَري، ويصبح عود الطفل أكثر صلابةً نوعًا ما، وهذا من شأنه أن يُدخل السرور إلى قلب الوالدين؛ فهو — في نظرهم — قد بدأ يأخذ شكل الإنسان العادي، ومن أسفٍ أنهم لا يدركون أنَّ ذلك هو بداية عملية التحجر، وأنَّ الطفل الصغير بمجرد أن يبدأ الجري؛ يكون قد بدأ التقدُّم الوئيد نحو نهايته المؤكَّدة، والمعروف أنه يتمتع بحالة أفضل بكثير من حالة الرجل المسنِّ.
بين كبار السن، يمكن أن نرى فعلًا الأثر الكامل للتحجُّر الإنساني: البشرة تصبح أكثر صلابة، الشعر يتساقط، الشرايين والقلب والمخ تتكلَّس، الظَّهر ينحني .. يأخذ شكل المحارة، الجسم كله ينثني، وفي النهاية تتداعى في المقبرة كومة بائسة من الأحجار المكسورة. بَيد أنَّ تلك ليست النهاية؛ فالمطر سوف يتساقط، وقطراته سوف تتغلغل في الأرض، والماء سيَنخُر الجسد البائس؛ ليتآكل وتتفتت أوصاله إلى نُثار، يهبط إلى طور المحارة؛ حيث يجِدُ مستقَرَّه النهائي.
أمَّا إذا كان هناك مَن يرى أنَّ هذه الصورة خيال جامح، أو مَن يتهمني بتأكيد ما ليس مؤكَّدًا؛ فإنني أسأله: ألم تُلاحظ تحجُّر جسدك عامًا بعد عام؟ ألم ترَ كيف تصلَّبت حركتك؟ وكيف ذويت جسدًا وروحًا؟ هل نسيت كيف كنت تتقافز وتنثني وتلوي جسدك وأنت طفل؟ كيف كنت تقع وتقوم عشرات المرات يوميًّا وكأنَّ شيئًا لم يكن؟ ألا تتذكَّر بشرتك الرقيقة الحسَّاسة، وحيوية جسدك القوي واللَّدْن في الوقت نفسه؟ انظر الآن إلى نفسك! الجلد ذبل وامتلأ بالثنيات والتجاعيد، وجهك عابس وجبينك مقطَّب، جسدك متصلِّب يُحدث صريرًا إن قمتَ أو قعدت، كل حركةٍ جهد، وكل خطوةٍ قرار، وهناك خوفٌ دائم من الوقوع والانكسار مثل قِدر من الفخَّار الهشِّ، ألا تشعر بذلك؟ ألا تشعر بالمحارة في كل نسيج جسمك؟ ألا تشعر بها تمتدُّ نحو قلبك؟ إنَّ نصف قلبك في قلب المحارة بالفعل، وكذَّاب مَن ينكر ذلك؛ أنا نفسي أعظم نموذج وأتعس نموذج للإنسان الذي دمَّره المحار، وبالرغم من أنني — على امتداد حياتي كلها — كنت أشرب ماء المطر لكي أقلِّل من نمو مادة المحار قدر استطاعتي؛ إلا أنني من بين كل البشر عانيت من الهجوم المدمِّر.
عندما بدأت كتابة هذه الوصية منذ أيام قليلة؛ كنت ما زلت أستطيع أن أستخدم يدي اليسرى بسهولة، الآن .. تحجَّرت الأصابع؛ لدرجة أنني لم أعد قادرًا على أن أضع القلم من يدي دون مساعدة الآخرين، ولأنَّ الكلام يسبب لي آلامًا حادة بالفعل .. تجعل الإملاء مستحيلًا؛ فأنا مضطر الآن للكتابة من الرسغ مع حركة دفع وجذب مصاحبة من ذراعي كله.
تحجُّري السريع هكذا وبهذا الشكل الاستثنائي ليس مُصادَفة؛ لقد شغلتُ نفسي بالمحار طويلًا، وجليت الكثير من أسراره؛ فاختارني من بين البشر جميعًا لهذه النهاية الخاصة .. القاسية، وبالرغم من أنَّ المحارة لا تواجه أيَّ خطر يتهدَّد قوتها؛ إلا أنها تشعر بخطرِ كشْف سرِّها الذي تحفظه بكبرياءِ حَقودٍ نزَّاعٍ للانتقام. ربما يدهشك يا قارئي أن تسمعني أتحدَّث عن تلك الأشياء التي لا حياة فيها مثل الحَجَر، وكأنها كائنات قادرة على إقامة علاقة سببية مع شخصٍ معيَّن، وتريد الانتقام منه.
لذا فسوف أشركك معي في السر الأخير والمرعب، سر محارة الماء التي تدخل بسببها في خطر واضح، خطر مواجهة مصيرٍ مثل مصيري. منذ البدايات الأولى لتجربتي مع المحار؛ كنت أتساءل كيف يتسنَّى لحَجَر مكوَّن من مادة المحار أن يستمرَّ ليأخذ ذلك الشكل الثابت المحدَّد للمحارة؟
وكان كل الفلاسفة الذين حاولوا أن يُجيبوا عن هذا السؤال المهم؛ يتركوننا دائمًا في الظلام. المناقشة الوحيدة لقوة عملية التحجر جاءت من قِبل الكاتب العربي «ابن سينا»؛ إلا أنه لم يستطع أن يقول لنا شيئًا عن مصدر تلك القوة، ولا عن أسباب ظهورها على هذا الشكل. أمَّا أنا — ومن ناحية أخرى — فسرعان ما أصبحتُ مقتنعًا بأنَّ هناك قوة غير محدَّدة وراء عملية التحجر الكوني. وليس هذا فقط؛ وإنَّما هي قوة نشطة، مباشرة، تعمل حسب إرادة فيض عُليا، إرادة وحيدة .. مقتنعًا، كما كنتُ، بوجودها؛ حيث إنني أدركت قوة ذلك الفيض من خلال المحار المتحجِّر. إلا أنني لم أستطع أن أتخيَّل ذلك الكائن المُستمَدَّة منه تلك الإرادة، أيُّ كائن ذلك الذي يمكن للمرء أن يتخيَّله وقد صمَّم على خنق الجنس البشري، وتصحير العالم، وتحويل السماء والأرض إلى محيط من الحَجَر؟!
أمضيت عامًا كاملًا في التأمل والتفكير، حبست نفسي في مكتبي وأجهدت عقلي، عدت إلى الطبيعة علَّني أجِد إلهامًا؛ وكان ذلك كله بلا جدوى. وفي النهاية ولا بدَّ أن أعترف بذلك؛ وجدتُني أتوسَّل إلى ذلك الكائن المجهول .. الملعون .. ملتمِسًا علامة اعتراف. لم يحدث أيُّ شيء؛ راحت أفكاري تدور في المسارات القديمة نفسها، والحياة في مدارها القديم الممزَّق. بدأتُ أفكر أنَّ «موسار» المسكين سوف يغرق، وينزل إلى المحار مثل كل الجنس البشري؛ بسبب إدراكه للحقيقة النهائية.
غير أنَّ شيئًا عجيبًا حدَثَ، لا بدَّ من أن أصفه لك، لكنني لا أقدر على وصفه؛ لأنه يشغل كونًا بكامله، وبمعنًى آخر أريد أن أقول: إنه موجود فوقَ وخلفَ مجال الكلمات، سأحاول تفسير ما لا يفسَّر، ووصف ما لا يُوصف، بتوضيح أثر ذلك عليَّ. إن استطعت أن أجعل نفسي مفهومًا؛ فذلك يتوقَّف عليك يا قارئي المجهول، يا مَن تبِعتني إلى هذا المدى؛ أعرف أنك ستفهمني إن كان لديك الإرادة لتفعل.
هذا ما حدث قبل عام، ذات يوم صيفي باكر؛ كان الجو جميلًا، والحديقة تامة الازدهار، عبق الورد يصحبني أينما سِرتُ، والطيور تُغرِّد وكأنها تُحاول أن تقنع العالم كله بأنها خالدة، وأنَّ ذلك لم يكن أحد أصيافها الأخيرة قبل مجيء المحار. منتصف النهار والشمس محرقة؛ جلست لكي أستريح على المقعد الخشبي في ظلِّ شجرة التفاح، خرير ماء النافورة يتهادى إلى مسمعي. شعرت بالإرهاق؛ فأغمضت عيني، فجأةً بدا صوت النافورة كأنه يعلو إلى أن تحوَّل إلى زئير، ثم حدث ما حدث! شيء ما حملني من الحديقة إلى عالَم الظلام، لم أعرف أين أنا؛ ظلام مطبق، وقرقرة، وزئير غير أرضي، وأصوات تهشيم وطحْن. في تلك اللحظة بدا لي — إن جرؤت على التعبير — أنَّ مجموعتَي الأصوات: المياه الهادرة، وطحن الحَجَر؛ هي أصواتُ خلقِ العالم. تملَّكني الخوف، وفي ذروة الرعب كنت أتعثَّر في الظلام وأقع على الأرض، إلى أن ابتعدتُ عن الأصوات، وخرجتُ إلى النور الساطع، كنت مستمرًّا في تعثُّري وسقوطي في النور خارج ذلك المكان المظلم الذي كنت أراه الآن كتلةً ضخمة من السواد الكثيف .. وكلَّما سقطتُ على الأرض؛ أرى ضخامة مساحته. وفي النهاية اكتشفت أنَّ الكتلة السوداء عبارة عن محارة، المحارة انشقت إلى جزءين؛ فتحتْ جناحيها الأسودين مثل طائر ضخم، وغطَّت بهما الكون كله. ونزلتْ عليَّ، على العالم، على كل ما هو موجود، على النور؛ ثم أطبَقَت الجناحين في ليلٍ أبدي، ولم تترك وراءها سوى الزئير والطحن.
وجدني البستاني مُلقًى على الممر المفروش بالحصباء، كنت قد حاولت القيام من على المقعد، ولكنني سقطت من شدة الإعياء، حملني إلى داخل المنزل، ووضعني في الفراش .. ولم أقُم بعدها، كنت في حالة من الضعف أزعجَت الطبيب، ولمدة ثلاثة أسابيع لم يطرأ أيُّ تحسن؛ بقي الألم الذي يُطبِق أسنانه على مَعِدتي، ألم يتزايد يومًا بعد يوم، وينتشر في جسدي كله، هذا هو مرض المحار الذي جعلني حالة نموذجية بعد أن اختارني من كل الجنس البشري .. لأنني الرجل الذي رأى المحارة.
كان لا بدَّ من أن أدفع ثمنًا باهظًا مريرًا لتلك الاستنارة، لكنني أدفعه سعيدًا؛ لأنني الوحيد الذي عرف إجابة السؤال النهائي: القوة التي تمسك بالعالم كله في قبضتها وتدفع بكل شيء إلى حتفه، الإرادة العليا التي تتحكَّم في الكون، وتحكم عليه بالتحجر كبرهان على كلية قدرتها وكلية وجودها، وذلك كله نابع من المحارة الأولى العظيمة التي خرجت من أعماقها الداخلية لفترة قصيرة؛ لكي تجعلني أشاهد قدرها الرهيب.
ما رأيتُه كان رؤيا لنهاية العالم؛ عندما يستمرُّ تحجُّر العالم، ويصل إلى مرحلة يُضطر فيها الجنس البشري للاعتراف بقوة المحارة، عندما يصرخ البشر عاجزين مرعوبين، طالبين العون والخلاص من آلهتهم؛ سيكون الرد الوحيد للمحارة العظمى هو أن تفتح جناحيها وتطبقهما على العالم، ثم تطحن كل شيء بداخلها.
والآن بعد أن أخبرتُك بكل شيء يا قارئي المجهول؛ ماذا يبقى لكي أقوله؟ كيف أعزيك؟ هل أهرف بهراء مثل الفلاسفة والمفكرين عن خلود الروح وقيامة الجسد؟! هل أُقلِّد الآخرين بإعلان الخلاص الإنساني عن طريق عبادة المحارة؟! وما يمكن أن يُحقِّق ذلك؟ ولماذا أكذب؟ يُقال: إنَّ المرء لا يستطيع العيش دون أمل، ولكن ذلك لم ينقذ أحدًا من الموت. كل ما يهمني — وأنا أشعر بأنني لن أعيش إلى الغد — هو ألَّا أبدأ الكذب في آخر ليلة لي على وجه الأرض: منتهى الراحة هو أن أَصِل أخيرًا إلى نهاية طريق موتي، أمَّا أنت يا صديقي المسكين .. فما تزال في منتصف الطريق.
خاتمة بقلم «كلود مانيه»
خادم السيد «موسار»
اليوم هو الثلاثون من أغسطس عام ١٧٥٣، تُوفِّي سيدي الطيب المعلِّم «موسار»، وهو في السادسة والستين من العمر، وجدتُه في الصباح الباكر جالسًا في فراشه، في وضعه المعتاد، لم أستطع أن أغمض له عينيه؛ لأنَّ جفنيهما لا يمكن تحريكهما، عندما حاولت أن آخذ القلم من يده، انكسر إبهامه الأيسر كالزجاج، وجد مُغسِّل الجثة صعوبة بالغة في أن يضع الملابس عليها؛ حيث كان الجسد قد بقي متخشبًا في وضع الجلوس منذ مداهمة الموت له. أوصى الدكتور «بروكوب» صديق سيدي وطبيبه؛ بطلب تابوت قائم الزوايا.
وهكذا في الأول من سبتمبر؛ كان المشيِّعون في مدافن «باسيه» يرون أمامهم قبرًا قائم الزوايا؛ حيث غُطِّيَ سيدي بألف وردة، وأُودع مثواه الأخير؛ فليرحم الله روحه!