على أعتاب هيكل
جلسنا على منصة الخطابة وخلفنا مكتبة الجامعة الأميركية، تلك البناية التي أهداها آل يافث إلى الجامعة، وقد كلفت ما يزيد عن مليوني ليرة. وحقًّا إن المنصة التي جلس عليها نحو من عشرين بأثوابهم العامية، ونياشينهم يواجهها الحشد يترأسه فخامة رئيس الجمهورية، ولفيف من الدبلوماسيين، والدرج الذي استدار بالمنصة. كل هذا أوهم الناظر أن هنالك جمعًا من المتعبدين.
بدأت الخطاب ﺒ «فخامة الرئيس»، ثم خاطبت وزير البرازيل بكلمات برتغالية سرغس لها الجمهور، ثم «سيداتي وسادتي».
صاحب الفخامة.
سيداتي وسادتي.
أمام بطولة الأعمال باطلةٌ هي الأقوال.
ليس للكلام قيمة في هذا الاحتفال إلا أنه تجسيد لعاطفة تنحني بتقدير وخشوع أمام إنتاج الكبر.
إذن فلتكن الألفاظ قليلةً رصينةً متواضعةً هادئةً.
فإنما نحن جالسون على أعتاب هيكل.
إن أول ما يمثله هذا التمثال هو التمرُّد، فلقد وُلِد نعمة يافث في مجتمع لم يسهل لأفراده الثقافة، فطلب الثقافة ثائرًا على أوضاع أرادت أن تحرمه نعمة العلم والدرس والتهذيب، فاقتنصها جهادًا متغلبًا على الحرمان.
وجاء المجتمع يفرض الحدود على نعمة يافث محاولًا أن يسمره إلى مكانه، لا يحقق فيه إمكانيات سخت عليه بها الأجيال من قوة جسدية وأخلاقية وعقلية، فتمرد وهبت به روح الصراع فاغترب.
أقول اغترب ولا أقول انهزم. إن أكثر المنهزمين يهربون وهم قاعدون.
وفي البرازيل وجد تربةً لا صحارى: تربةً تسخو على الحبوب الجيدة، فنبت ونما وازدهر دوحةً هي أسرة اليافث.
وجاء دور الانتقام، فنفذ انتقامه على ذروته من السمو الاجتماعي؛ إذ جاد على الحياة التي اضطهدته وحرمته وشردته بأن أعطاها ما يخفف الاضطهاد والحرمان والتشريد.
وها هو الانتقام يطل باسمًا من مكتبة على شرفة بيروت، ويشرئب في دار بلدية تنهض في ضهور الشوير، وينهمر إحسانًا جوادًا، ويشع في ألف سراج وضَّاء هنا وعبر البحار.
ونفذ نعمة يافث في المجتمع خلال حياته وبعد مماته حقيقةً اجتماعيةً وضرورةً هي الاستمرار والرقي والنمو والتوسع والقوة التصاعدية، فجاء أبناؤه وبناته حاملين رسالة المعلم أبيهم.
كان أيسر على هؤلاء الأفراد أن يسبحوا في بحر من السعة والترف، ثم فيه يغرقون.
كان أهون عليهم أن يشيدوا من أتعاب سواهم أهرامًا من الجاه يشمخ على الناس، وفيه أجسادهم المحنطة يدفنون. كان من المغري أن تتحجر قلوبهم بنايات؛ طوابقها يستغلون، ولكنهم آثروا ممارسة الخير فانطلقوا شاعرين بالمسئولية الكبرى يفعلون.
ليس في مقدور هذه الأمة أفرادها وحكوماتها أن تهب شيئًا لآل يافث يزيد في مكانتهم السياسية أو المالية أو الاجتماعية. ليس في وسعنا أن نسخو على هؤلاء الأسخياء.
غير أن جمعية متخرجي الجامعة، وقد كان نعمة يافث أحد أفرادها، وبعض أعضائنا العاملين هم من أسرة يافث، تود الجمعية أن ترمز إلى فخرها به وبهم، فهي تمنح لأول مرة في تاريخها الآن وهنا الوسام الوحيد: وسام دانيال بلس، يحمله إلى السيد كارلوس يافث؛ حفيد دانيال بلس الكبير، وحامل اسمه الدكتور دانيال بلس.
إن القوة تجوهر نفسها حين تصبح قوةً، ولقد أعطى بنو يافث من قوتهم قدوةً. علينا أن ننفذ الشطر الثاني والأهم والأصعب؛ وهو أن نقتدي.