قافلة جمال
كانوا على همة أن يمثلوا روايةً في حفلة «عبية» المدرسية، وراح الخطباء يقفون أمام الستار الذي يحجب المسرح. وقفت وقلت: «الحمد لله، فهذا مكان لا يخاف الإنسان فيه أن يدير ظهره إلى ستار لا يدري ما وراءه.» ولسببٍ ما، شد أحد التلامذة الممثلين بالستار فتمزق، وانكشف المسرح، فأضفت: «والحمد لله، فنحن في مكان لا نهرب منه إن بان ما اختفى خلف الستار.» وألقيت خطابي. يسرني، وقد أتاح لي طبع هذا الكتاب، أن أسجل على نفسي شيئًا من نقيصة التملق الذي تغلغل في كلامي.
للرجل في حياته حادثتان: الولادة والموت.
نقيم الأفراح للأولى، وللثانية المناحات والمآتم.
أما أنا ففي هذا المعبد، هنا في عبية، وفي هذه الساعة أجد أني أهمُّ أن تصيبني في حياتي حادثة ثالثة هي حادثة الكهولة.
فحين أمد يدي إلى جيبي وانتزع منها هذه النظارات لأضعها على عيني أكون قد فعلت هذا لأول مرة في حياتي. هكذا أعترف أنني أصبحت كهلًا.
حين يُولد الطفل يأتي المهنئون فنطعمهم «المغلي»، ولو أني أقمت حفلةً لكهولتي وجاءني الناس، لطفت عليهم بكئوس ملأت أنصافها بالمغلي، والأنصاف الثانية بزوم الزيتون، ووضعت في كل كأس شيئًا من حب الصنوبر؛ لأذكرهم بأفراح الحياة، وشيئًا من شظايا حجارة الصوان؛ لأذكرهم بتلك البلاطة التي ستعلو صدورنا حين نموت؛ تلك البلاطة التي ستغطي القميص الحريري، أو القميص القطني، أو الجسد الذي لا يرتدي قميصًا.
وبعد، فقد لا يكون من مغزًى لكأس مُلِئت بالمغلي وبزوم الزيتون، ومزجت بحبوب الصنوبر وحصى الصوان، فنحن في كل يوم نحيا قليلًا ونموت قليلًا.
يسمون هذا الشهر شهر توزيع الشهادات المدرسية، موسم الخطابة، غير أنه وقد كثرت وقفاتي في هذا الموسم لا أدري إن كنت زارعًا أو حاصدًا، ولا أعرف إن كنت جئت لأبيع أو لأشتري. في الأحد الماضي، كنا في حفلة مدرسة الشوير حيث ألقيت خطابًا، وفي الساعة نفسها كانت مدرسة كفر شيما تقيم حفلتها، وكان يلقي فيها خطابًا أخي بهيج.
وتقدمت سيدة من بهيج تقول: أنت هنا وسعيد في الشوير، وفي الأسبوع القادم خطاب في عبية؟!
أجاب بهيج: ما العمل؟ هذه بضاعتنا.
سؤال عادي، وجواب قد يكون عاديًّا، ولكن الحكيم يجد المغازي في الأقوال العادية. كلنا صاحب بضاعة، كلنا بائع وشارٍ، مُصدِّر ومستورد، منتج ومستهلك. هذا المعهد تشترون فيه الثقافة بمال جناه آباؤكم من بضاعة باعوها، وبأموال أخرى قدمها رجال جنوها من بضاعة باعوها. ليس الاتجار بعار. العار إن ساءت البضاعة أو فسدت السوق. كلنا يذكر الحداء: «نحن نبيع الروح للي يشتري.» لقد باعها — وهي كل ما يملك من بضاعة في السوق التي تعرفونها — فتى الجبل فتاكم: عادل النكدي.
في مثل هذا المعهد تدرسون وتجهدون لأمرين؛ الأول: لتعدوا نفوسكم لبيع البضاعة غير المغشوشة، والثاني: لتتدربوا على شراء البضاعة غير المغشوشة. بين الاثنين علاقة وثيقة؛ لأن الحياة مثل التجارة: عرض وطلب. وصحيح القول أنه من الصعب أن يجزم المفكر في أيهما أكبر أهمية؛ معرفة ما يبيعه الإنسان أو معرفة ما يشتريه؛ لأن الطلب يخلق العرض. لقد راجت في لبنان بضائع لم يعرف مثلها الألمان ولا الأميركان ولا الإنكليز ولا الطليان، ولا شهدوا لها شبيهًا لا في الصين ولا في الأرجنتين ولا في اليابان ولا في بلوخستان، وربح بها تجارها وأثروا واعتزوا؛ ذلك لأن تلك البضاعة نحن نشتريها.
حول بيتنا في بيروت — الآن وقد جاء الصيف — أرى في كل صباح السجاد يتدلى على بلكونات الجيران، وأسمع أصوات العصي تنهال على السجاد تطرد منه الغبار. إني كلما أرى الخادمة تهوي بالعصا على السجادة أشعر كأن تلك العصا نزلت على رأسي، وأذكر ذلك اليهودي في مانيلا «الفلبين» الذي عَريتْ قاعته من السجاد، وازدانت حيطان صالونه بوصولات التبرع للجمعيات الصهيونية. واليوم ذلك اليهودي له دولة، وأصحاب السجاد بعضهم على الحصيرة، وبعضهم على أحقر من الحصيرة.
ونحن لو احترمنا الناس لا بسبب الأوتوموبيل الذي يركبون، ولا المأدبة التي بها يسخون، ولا الكرافتات التي بها يزدانون، ولا السجاد الذي به بيوتهم يفرشون، بل لأجل المساهمة بمثل هذه الأعمال النبيلة التي قام بها هذا المعهد، وهذا الميتم، لاغتصبنا النبل والعمل الكريم، ولطغت قيم الروح على قيم المادة.
أعود إلى نظاراتي فأذكر أن من مظاهر الكهولة إبداء النصح.
- فأولًا: ليتعلم الواحد منكم مهنةً أو حرفةً وليتقنها. في نظر الله وفي نظر أشراف البشر العمل طبقة واحدة. سائق الترامواي وطبيب الأسنان، أستاذ المدرسة ومصلح الأحذية، الممرضة وخادمة البيت، كلهم عند الله وعند الراقين من الناس في صف واحد. أتقنوا عملكم. كثيرون من الإخوان يأتون في طلب عمل. تسأل الواحد ما الذي في وسعك أن تعمل يجيب: «إشمكان.» إن الذي يطلب «إشمكان» يحصل على عمل في الحياة اسمه «إشمكان.» الصخر بضاعة غير رائجة، الحجر المنحوت تقدرون أن تبيعوه.
- ثانيًا: ليس لكم من عدو. ابن العائلة الثانية ما هو بعدوكم. ابن الضيعة المجاورة ما هو بعدوكم. ابن الطائفة الثانية ما هو بعدوكم. إن الذي يبيعكم العداء والخصام والمشاكسة يبيعكم سمًّا ويتَّجر بجهلكم. بضاعة العداء تدرُّ الربح على بائعها فقط. وحين ترفضونها لن يجدوا لها مشتريًا. لن تجنوا من العداء والبغضاء إلا الجريمة والخسارة. حين وصلت «الفلبين» عام ١٩٢٥ جاءني نسيب لي رحمه الله فهمس في أذني أن لي هناك عدوين كامل حمادة وزوجته، فصدقت لأنني كنت قد صحبت من هنا «ستوك» من سقط المتاع، ما يسميه التجار «جوبًا» من البغضاء. وصرنا إلى يوم أصبح فيه كامل حمادة وزوجته أحب إليَّ من أهلي، وصرت أحب إليهم من أهلهم. وجَنَينَا كلنا من هذه الألفة ربحًا ماديًّا، وما هو أثمن من الربح المادي: هو الشركة الروحية؛ إذ يشاطر الإنسان أخاه الإنسان ضحكاته ودموعه. امش نحو هذا الذي تتوهمه عدوك خطوةً وابتسم، تر أنه هو الآخر كذلك مشتاق إلى أخوَّتك والتعاون معك.
- ثالثًا: — أي الجمل الثلاث — اشتروا البضاعة الجيدة حيث وجدتموها. بعض البضائع الجيدة لا تُبَاع في «الأوكازيون» ولا يُعلن عنها. من أقبح التعابير التي اخترعتها الصحف هو اصطلاح «الطبقة المثقفة»، وبشاعة هذا التعبير هو أن يُخْلق من المثقفين «طبقةً»؛ هذه الطبقة قد لا تطلب البضاعة إلا في الأسواق الشهيرة؛ حيث عمرت الثقافة. قصب السكر دسم وشهي في «الدامور»، وهو كذلك دسم وشهي في «أنطلياس». اقرءوا كتب الفلسفة وطالعوا سير العظام، وقولوا لي هل تجدون الإيمان والتقوى والقناعة والنزاهة أعمر وأصلب في أي مكان من الدنيا، منها ها هنا في قلوب أجاويد الدروز؟
النصيحة الرابعة، الجمل الرابع: هو نصيحة سلبية. لقد وهبنا الله فصاحةً في النطق وبلاغةً في التعبير وكياسةً في السلوك. كل هذا نفخر به ولكننا فيه مسرفون. ليس من الضروري إن تزوج واحد منا أو مات منا رجل أن يحضر العرس أو المأتم كل أهل الأرض.
ورد سلام، تهانٍ وتعازٍ، تلغرافات شكر وتلغرافات معايدة، بطاقات، باقات زهور، سهرات، مجاملات … لقد كركبنا الحياة كثيرًا.
من أشهر رجال هذه البلدة حكيم اسمه الدكتور جميل كنعان. لقد عرفته منذ ربع قرن وعالجني موفَّقًا. وحين رجعت من غربة هذه السنوات الكثيرة كنت أشتهي أن أراه لنتبادل كلمة «مرحبًا»، على أنه وقد «قصر في السلام علي» أحب أن أؤكد لكم أنه لم يصبح من أعدائي. حين أجتمع به قد أعاتبه وقد لا أعاتبه. على كل حالٍ طمئنوه أنني «مش رح قوِّسه.»
ما دامت بضاعته جيدة فلا أبالي إذا هو لم يناد علي: «تفضل يا خواجة.»
هنا تزدوج النصيحة، فهاكم توءم جمال خوفًا من أن تطول القافلة. حذار أن تعجبوا بشخصين: الأديب وموظف الحكومة.
أما الإعجاب بالأديب فيرجع أمره إلى الماضي القريب يوم كان أكثرنا أميين، فسطع كل من نظم بيتًا أو خط سطرًا أو ألقى كلمةً. صدقوني أيها الفتيان، إنه لا يستحق الإعجاب أكثر هذا الذي تقرءون وتسمعون. لقد سُمُّوا بحق «حملة أقلام». أكثر ما ينشر الفرقُ بينه وبين العادي والمبتذل أنه كلمات طُبِعت. لا تحسبوهم أبطالًا هؤلاء الذين باعوا أقلامهم كما باعت البغي عرضها.
إن أقل ما في مقدوركم فعله هو ألا تحذوا حذوهم.
أما إن كان بينكم «فلتة» عبقري، فلست أرجوه أن يصم أذنيه عن سماعي؛ لأنه لاهٍ عن الاستماع إلي وإلى سواي بالإصغاء إلى خفقات قلبه.
أما موظف الحكومة فيرجع عهد الإعجاب به إلى يوم كان الباشا باشا. صدقوني؛ إن هذه الهالة من العظمة التي تحيق بأيٍّ كان من موظفي الحكومة ستختفي.
وهذه النصيحة الأخيرة ما هي بجمل، بل هي ناقة ذلول.
أعطوا شيئًا من جهودكم وتفكيركم وأموالكم للخدمة العامة. أقول أموالكم؛ على العلم بأن أكثركم ليسوا بموسرين. ليس في الدنيا فقير، كلنا أغنياء. من ليس في قدرته أن يعطي المليون فليعط المائة ألف أو الليرة أو القرش الواحد. فقرُنا ليس في الجيوب، بل هو في القلوب.
كثيرون منا لا يعرفون السباحة، وما انغمسوا في البحر قط: هؤلاء تفوتهم نشوة الانطلاق في الماء المنعش، ولا يعرفون لذة الابتراد متحررين من أثوابهم.
تحرروا من أثواب الأنانية والتقتير وانغمسوا في بحر العطاء. أعطوا القليل أو الكثير. إنكم تحسنون إلى أنفسكم إذ تحسنون إلى سواكم. أعطوا من الوقت والجلد والمال خدمةً عامةً مجردةً. إنكم إذ ذاك تقتربون من أخيكم الإنسان.
قلت في بدء خطابي: إني لا أعرف إن كنت حاصدًا أم زارعًا، شاريًا أم بائعًا. أما الآن فقد وضح الأمر. لقد جئت إلى هذا المعهد الكريم لأبيع قافلة جمال ولا أدري ما حظي في هذه الصفقة. كل ما أعرف أنه في مثل هذا السوق أحب أن أتجر.