جبهة الحياة
كانت الدعوات تنهال عليَّ من كل المدارس في حفلاتها السنوية، فلما انضممت إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي انقطعت هذه الدعوات، إلى أن ضربت النخوة في رأس مدرسة الأميركان في طرابلس فوُجِّهت لي دعوة وحبلًا طوله عدة أميال قيدتني به، فكان هذا الخطاب.
ملاحظة: نهر البارد قريب من طرابلس، وفيه مخيم للمشردين من فلسطين.
كانوا فيما مضى — وبعضهم لا يزال حتى اليوم — يبدأ أحدهم؛ أي الخطيب، خطبته بقوله إنه سُئِل أن يلقي خطابًا فتردد بقبوله شاعرًا بعجزه.
أما أنا فلا أريد أن أقول إني سُئِلت أن ألقي خطابًا. بالطبع لو لم يسألوني لما خطبت. ولا أقول إني ترددت بالقبول شاعرًا بعجزي، فأنا — بالعربي المفلطح — لا أشعر بالعجز، ولا أقول ترددت؛ لأني لم أتردد بتاتًا، فلقد صرت إلى يوم أشتهي فيه أن أُدْعى إلى إلقاء خطاب.
ولقد ذكرت إدارة هذه المدرسة في رسالة الدعوة أن أتفضل فلا أبحث في السياسة والأحزاب، فأجبتها أن مثل ذلك مثل من يدعو ضيفًا إلى وليمة ويسأله ألا يأكل برجله، ولا يرمي بالملح والبهار في عيون الضيوف. ألا فلتطمئن الإدارة، وليطمئن الضيوف، فإني أعرف آداب السلوك على المائدة، فلن أكسر الصحون، ولن أسرق الملاعق، ولن أضع «زنود الست» في صحن الشورباء، وفوق ذلك، وأهم من كل هذا أني لن أغمس اللقمة خارج الصحن.
أسائل نفسي: لمَ هذا التحذير؟ ما هذه الخشية؟ ما هو سبب الخوف من دعوتي إلى الحفلات؟ وما هذه الحجارة التي تتساقط حولي كل يوم؟
الجواب بسيط وواضح، وهو أنني كنت بالأمس في سيران العيش، والدنيا لهو وأكل وشراب ودعاب ومباسطة، والناس كلهم صديق وعشير ونديم وزميل مثلي يتنزه على رصيف الحياة، واليوم أنا في جبهة الحياة.
جبهة الحياة هو موضوع حديثنا اليوم.
نحن الآن مجتمعون في حفلة تقليدية لنمنح وثائق لفئة من فتياننا وفتياتنا الأحباء؛ تشهد أنهم تجاوزوا إحدى مراحل الدراسة، فمنهم من يثابر على تحصيل العلوم، ومنهم من ينزل إلى معترك العيش.
يتبادر إلى الأذهان فورًا حقيقتان، كلتاهما مؤلمة؛ الأولى: أن في بلادنا ألوفًا وألوفًا من الفتيان والفتيات يملكون كل مؤهلات النجاح، ولكن المجتمع لم يفسح لهم سبيل تحصيل العلم، فهم أيضًا المحرومون من فرصة الإنتاج، والأمة — ونحن منها — محرومة من الانتفاع من إنتاجهم الكامل، والحقيقة الثانية — وهي أبشع وأشد إيلامًا: هي أن مصائب هذه البلاد جاءت على أيدي أبناء المدارس لا على أيدي الأُميينَ.
إذن فمسئولية الذين يتمتعون بنعمة الدراسة تتضاعف على قدر الحرمان الذي ينزل بمن يبقون عن المدارس منفيين، وهذه المسئولية تتضاعف من جديد حين نذكر أن الجيل المتعلم القديم لم ينتج في مجموعه، بالرغم من مروءة بعض أفراده وإخلاصهم، إلا ما أنزل في البلاد الفساد والتدمير. إذن، وقد أفلس الجيل القديم، فما هي مسئوليات الجيل الجديد؟
إنها تُخْتصر بعبارة واحدة؛ وهي أن يفهموا وحدة الحياة. ليست الأمة محمديين ومسيحيين، ما هي بمثقفين وغير مثقفين، ما هي سياسة واقتصاد، ولا مادة وروح، ما هي رجل وامرأة، ولا عسكريون ومدنيون، ولا هي منطقة تُضَاف إلى منطقة، وكتلة تتعاون مع كتلة. الحياة هي جوهر واحد، وكل ما ذُكر ولم يُذكر هو أحد مظاهر الحياة.
متى وضحت هذه الحقيقة التي يقرها العلم، وتفرضها المصلحة، وتصقلها العاطفة، ويجوهرها التاريخ ويقيمها برهانًا نجاح الأمم التي آمنت بها ومارستها دستورًا مشى بها إلى القوة، وتثبتها النكبات التي نزلت بالأمة التي خرقت هذا الدستور؛ متى وضحت هذه الحقيقة الكبرى تجلت طريق كل فرد منا، وجعلت من كل فتًى وفتاة يحمل شهادةً أو لا يحمل مقاتلًا يعرف مكانه في جبهة الحياة وفي خط النار.
مكانكم أيها الفتيان والفتيات في جبهة الحياة وفي خط النار؛ لأن الحياة كانت سخيةً عليكم حين وفرت لكم أسلحة العلم، ولأننا اليوم يجب أن نعيش في حالة طوارئ من عمل وتفكير.
أما الذين يؤثرون النزهات على كورنيش العيش، ويؤثرون أنس المجالس ورفاهيتها، فلتمش بهم خطاهم نحو نهر البارد، لعلهم ينظرون إلى خيام اللاجئين ويعتبرون. إن أول واجباتكم هو العمل؛ فالجيل الذي تقدَّمكم جعل فضيلتين مزيفتين من نقيصتين معيبتين؛ الأولى: أنه لا يشتغل بيديه، والثانية: أنه لا يقاتل بيديه. ولقد ذهبت به الأنانية فاغتصب مركزًا مفضلًا في المجتمع بسبب منطق جشع مغلوط، كان من نتيجته قبول الناس بنظرية هدامة؛ وهي أن الذين ظفروا بالشهادات هم أرفع منزلةً في المجتمع الذي حرم سواهم ويسر لهم هذه الشهادات؛ لذلك أمسى هذا الشعب فرقتين: (أساتذة – وغير أساتذة). إني أفهم أن يُنَادى معلم المدرسة أو المحامي بيا أستاذ. أما سواهما، فالأستاذ هو المواطن صاحب المكانة واللقب المزيف الممتاز.
إن أول حاجاتنا هو العمل: العمل الجريء، والعمل الجريء يبدأ بالتفكير الجريء، بل إن الجرأة هي أحد عناصر الفكر؛ فالذي يشد عقله إلى عقال من قيود التقاليد خائفًا من التفلت منها لا يستطيع الانطلاق في فضاء الفكر الحر. كثيرون بيننا — وأغلبيتهم أساتذة — من يرسلون الآراء رصاصات تُطْلق في الفضاء؛ رصاصات لا تفتك برذيلة، بل كل فضيلتها أنها تدوي موهمةً الناس أن مطلقها من أبطال التحرر والتبصر. هؤلاء ما هم برجال فكر، بل قبضايات آراء. إن نظام السير الذي ليس له من مزية إلا أنه يعرقل السير، ويسبب الاصطدام تلو الاصطدام، يجب أن يُنْسف من أساسه أو يُبَدَّل. ونحن منذ أربعمائة سنة نستبدل شرطيًّا بشرطي خائفين أن نفعل الفعل الكبير، وهذا الفعل الكبير يبدأ بالنطق الكبير، وهو القول إن نظامنا وتفكيرنا ومحاولاتنا كلها مغلوطة من أساسها. إن السير فوضى، والاصطدامات كثيرة، وأكثرنا أساتذة يزيدون البلبلة بالتزمير.
إن العمل الجريء يثب بكم حالًا من ملاجئ العيش الآمنة إلى جبهة الحياة وخط النار. هناك ينتظركم الاضطهاد والحرمان. هناك تتجهم لكم الوجوه الباسمة. هناك تتساقط حولكم الحجارة وتتفجر القنابل. هناك ينتشر حولكم ضباب من غازات الإشاعات السامة، ولكن لا تخافوا؛ إذ إنكم هناك، وإذ ذاك تستشعرون في نفوسكم ضياءً من الإيمان يطرد عنكم الخوف والوحشة.
قلت إن العمل هو أول الواجبات. عمل ماذا؟ ولمن؟ وما هو الحافز على العمل؟
متى عرفنا الحافز فهمنا لماذا يجب أن نعمل، وعرفنا لمن نعمل، وما الذي يجب أن نعمل.
إن العلم يفسر سلوك الإنسان والثقافة توجهه. إن الإنسان حين يخلق نظامًا يحاول أن يبدع وسيلةً تحميه. لقد جربنا هنا النظام الطائفي، فتذابحنا طوائف، وتباعدنا شيعًا، وجربنا النظام الفردي فكان الإقطاعي المستعبد الثري، وكان الخانع الفقير زلمة الإقطاعي. وازدهر الفرد الذي تحفزه إلى العمل كلمة «أنا» يغني نفسه على حساب سواه، ويحتل مكانًا يقذف عنه مواطنه أو مواطنيه، ولا يهمه على جثة من يمشي، ومصلحة من يدوس حتى ينفذ مآربه. إن النكبات التي حلت بنا ومظاهر الانحلال التي تغمرنا أكثر سببها أننا لم نفهم أن الحياة هي وحدة، وأن الولاء يجب أن يكون لا لمدينة ولا لمنطقة ولا لطائفة ولا لفرد، بل يجب أن يكون للأمة، ومتى أعطينا هذا الولاء المطلق للأمة أولًا وأخيرًا استقامت أمور المدينة والطائفة والمنطقة والفرد، ولم يعد بيننا ظالمون ومظلومون، ولا مفضلون ومضطهدون، وقمنا بالعمل الكبير حين نستعيد الحلم الكبير. هنا أقف خوفًا من أن أتهم نفسي بأنني أستاذ يزمر، فيما يرى السير معرقلًا، فأتوجه بالكلام البسيط إلى الفتيان والفتيات الذين نحتفل بفوزهم فأختصر القول:
إن المجتمع الذي سهل لكم سبيل الثقافة فيما هو حرم سواكم، له عليكم دين كبير يجب وفاؤه.
إن أكثرنا لا يشعر أو لا يريد أن يشعر بوجود النار حتى تحرقه. أما أنتم فعليكم أن تعترفوا بالمخاطر التي تحيق بنا، وتهدد كياننا، وتتجندوا حالًا لقتالها.
حذار أن تصبحوا أساتذةً. إن الخطر والفساد والتفكك توحي بالصراع، والصراع يفرض النظام، فيجب أن يكون لنا دستور واضح يقيد أعمالنا وينظمها ويضبطها. والنظام يفرض الانتظام.
إن العمل يعني الإنتاج، فلا تذهبن جهودكم في التهديم والبغض والعداء. يجب ألا ننسى أن كل من يخالفنا في الرأي يبقى أبدًا مواطننا؛ له علينا واجب الود.
إن المواطن حين يذيب فرديته في مجتمعه لا يمحق شخصيته ولا يحقرها؛ إذ ليس من سبيل إلى تمجيد الفرد مثل وحدته في مجتمعه. هذه مناقب بشرت بها الأديان قبل أن أثبتت حقيقتها الوقائع.
حذار المسكرات. إن أفتك أنواع الخمور هو سكرة الألفاظ. نحن نكاد نغرق في سيل من الكلمات، وهذا الطوفان الكلامي طغى على أعمالنا. لقد تسلح الجبن بالكلمات فكان أكبر مخترع للمعاذير. إن أكثر مواطنينا يعيشون في ترف الذل متكئين على مخدات ناعمة من معاذير، متأنقين بالفصاحة، يقولون إن هذه الأمة انتهى أمرها. أما أنتم — والعلم حليفكم — فيجب أن تكون لكم الثقة بأُمَّتكم، ومتى احترمتموها منعتم الغير من تحقيرها واضطهادها.
ما هذه انفعالات أسجلها كلامًا، ولكنها حقائق دفعنا ثمنها بكرامتنا وبخيراتنا، وقبضها عملةً مصكوكةً بدمائنا بعض مواطنينا، وبعض الأجانب العائشين بين ظهرانينا؛ فلقد عرفنا الأجانب في إيران، وفي البلدان التي تحترم نفسها يعطون فيما هم يخضعون. أما هنا فإنهم يتغطرسون فيما هم ينهبون.
متى فهمنا أن الحياة وحدة لا شذرات ولا شظايا، نذرنا النفس لخدمة الكل، فاستقامت أمور الأجزاء، ومن هذه الأجزاء كل فرد منا. إذ ذاك لا يعود عندنا شذرات ولا شظايا، بل حياة مفعمة بالخير خصبة، نحياها لأننا نفعل فيها.
لا أدري إن كنت أطلت الجلوس على هذه المائدة، وعساي لم أكسر صحنًا، ولم أغمس لقمةً خارج الصحن، ولكني واثق وأؤكد لكم أن جيوبي خالية من ملاعق مسروقة.