كل مواطن خفير
افْتُتِح مؤتمر خريجي الجامعة الأمريكية في قاعة الأونسكو. وتصدَّر القاعة فخامة رئيس الجمهورية اللبنانية، وخلفه صفوف الكراسي الفارغة؛ حيث كان من المفترض أن يجلس الساسة و«الوجهاء». كذلك تخلَّف عن المقصورات في أجنحة القاعة ممثلو السفارات والهيئات، إلا رجل يعتمر كوفيةً وعقالًا، فهمنا بعد ثلاثة أشهر أنه جاء ممثلًا لسماحة المفتي الحاج أمين الحسيني. أما المؤتمرون فلم يبلغ عددهم المائة والخمسين. وكنا خطباء ستةً، أحدهم رئيس الجمهورية. وقد سبق انعقاد المؤتمر شائعة تهمس أن يدًا أجنبيةً تُسيِّره، وساد في مفهوم الناس أنه سيكون مظاهرةً كلاميةً جديدةً؛ لذلك جاءت كلمتي متواضعةً مختصرةً تحدد أهدافًا صغيرةً.
فخامة رئيس الجمهورية.
سيداتي وسادتي، أيها المؤتمرون.
سيكون نجاح هذا المؤتمر كبيرًا إن استطاع أن ينفذ أعمالًا صغيرةً.
غاية هذا المؤتمر كما أُذِيعت وكما بُحِثت وكما خُطِّطت «قضايا العالم العربي».
وقضايا العالم العربي كيف عالجتها، وكيف استعرضتها، وكيف تهجَّأتها، وجدتها لفظةً واحدةً: فلسطين.
لقد احتل جنوب بلادنا ويحتلها عدو له حلفاء وله أعوان.
ومن حلفائه: تخاذُلنا، وأحقادنا، وغرورنا، وتهرُّبنا من مسئولياتنا.
وأكبر أعوانه أن الصراع فينا أصبح مهمةً نَكِلها إلى سوانا. قال هذا المؤتمر لنفسه: «أبدأ بنفسي.»
ولقد اجتمعنا لنطمس خلافاتنا فنوحد جهودنا لعمل شيء، لا لنستعرض انشقاقنا، فنتصايح في عرس فصاحة ومهرجان انفعالات لعمل لا شيء.
ونحن مواطنون قبل أن نكون خريجين، فإن اجتمعنا اليوم كمتخرجين، فليس لنسوِّر نفوسنا في برج عاجي جديد؛ بل لأن جمعية المتخرجين هدمت بعض الحيطان التي سوَّرتنا فئاتٍ وأحزابًا وشيعًا. فهذا المؤتمر هو نقطة التقاء، وهو كذلك نقطة انطلاق نحو سائر الفئات والأحزاب والمنظمات.
قد نخرج بقرار ندعو به الجامعة العربية لنقل مقرها إلى القدس أو قبية أو نحالين، ولكن بعد أن نعقد مؤتمرنا في القدس أو قبية أو نحالين.
ويبتسم الهازئون: ماذا في وسعكم أن تفعلوا؟
نقول: إنه صِفرٌ من رسم حول نفسه دائرة الصِّفر.
لا أصدق أن في هذه الأمة فئةً أو فردًا تعجز أو يعجز عن المساهمة ولو بقدر قليل في دفع الخطر عن البلاد.
لقد اتخذت الجامعة العربية قرارات مقاطعة بعضها لا ينفذ.
هنا، الآن، نحن نراقب تنفيذها وننظم الفرق لها.
بعض أقطارنا ملأى بنشاط الجواسيس والمهربين. هنا ونحن والآن يجب أن نعاون السلطات على مكافحتها، وإن أعياها ذلك تولينا نحن بأيدينا مكافحة الجواسيس والمهربين والخونة. هكذا نوقظ روح الصراع فينا وفي مواطنينا حتى ليصبح شعارنا: «كل مواطن خفير.»
فالضمان الجماعي ينجح متى سانده ضمير حي فاعل جماعي.
يجب أن نثق من النجاح لأننا نثق بأنفسنا وببعضنا. وإن الجهد القليل القصير الذي بُذِل في التمهيد للمؤتمر أثبت أن في كل وسط ودائرة وبيت من يشعرون بالمسئولية ويتجندون لها. هذا المؤتمر يستفزهم وينظمهم.
سمعنا الكثير عن الخيانات في فلسطين، ولكننا أغفلنا أمر البطولات. من شعبنا من قاتل وناضل واستشهد.
ومن شعبنا من يقاتل اليوم في القرى الأمامية. هؤلاء لا يعوزهم الإيمان، ولا تعوزهم البطولة، بل تعوزهم الأسلحة. يجب أن نساهم في توفير الأسلحة لهم، فهم لا يدافعون عن بيوتهم في القرى الأمامية، بل هم يدافعون عن كل بيت من بيوتنا؛ أكان هذا البيت في الكويت، أو بغداد، أو دمشق، أو بيروت، ويدافعون عن القاهرة والرياض إذ يدفعون العدوان الصهيوني.
وتتلوى حية إسرائيل تفح أغنية المحبة في الشرق الأوسط على أنها هديل حمامة السلام. من هذه القاعة يجب أن نُفْهم الدنيا أنه فحيح الأفعى لا هديل الحمام ما يسمعون.
من هذه القاعة يجب أن نُفْهم أصدقاءنا الكثيرين في أنحاء الدنيا أننا نؤمن بصداقاتهم، وأن نفوسنا مشبعة بالمحبة لا تعادي ولا تستعدي.
هذا المؤتمر ما هو بصفر؛ لأنه لن يرسم حول نفسه دائرة الصفر.
كل مواطن خفير. سيكون نجاحنا كبيرًا إن استطعنا أن ننفذ أعمالًا صغيرةً.