أنا لبناني … فأنا عربي
تلفن لي منذ أيام صديقي عبد الله المشنوق مقهقهًا: «كمشتك!» قلت له: ما الخبر؟ أجاب: أمامي خطاب لك في «المقاصد الإسلامية الخيرية» نبشته، وتقول فيه إنك عربي. أين هذا منك اليوم في عقيدتك السورية القومية الاجتماعية؟ سأنشر هذا الخطاب من جديد «وأفضحك.»
إن كان هنالك من فضيحة فأنا أتولى نشرها بنفسي. إن العروبة — وهي بعض الإيمان في عقيدتنا — تطهر من أدرانها، وتصفو من رغوتها ووحولها حين تتجوهر في حقيقة علمية، وتنتظم في وحدات واقعية فتصبح بناءً لا «قعقور» خرائب مكومة.
واجهت الجمع في المقاصد الإسلامية الخيرية عامذاك، وكلهم ذكور، فبدأت خطابي: «سيدا … عفوًا سادتي.» وبعد تلك الحفلة أصبحت النساء يحضرن الاجتماعات النسوية.
معظم الخطباء يعتذرون عن التطويل. أريد أن أعتذر عن الاختصار. أرادوني أن أتكلم نصف ساعة. خطابي لا يتجاوز ربع الساعة. حين عتبوا علي لقصر الخطاب قلت لهم: «ربع ساعة خطابة مني، ومنكم أيها المستمعون ربع ساعة تصفيق.»
بيد أني أخشى أن أسمع ربع ساعة خطابةً، وأسمع ربع ساعة تصفيرًا.
ذلك لأنني سألتكم في صراحة قد تكون مؤلمةً.
حين يقابل الغريب الغريب لأول مرة يحكم عقدة الكرافتة، ويمشط شعره ويزرر سترته. في هذا المجتمع أحسب نفسي في بيتي وبين أهلي، فلا عجب إن جاء خطابي منبوش الشعر لابسًا البيجاما.
هذا المحفل واضح العروبة، وإني رجل قد أتخلى عن كل ما أدعيه في الحياة، ولكني أمدح نفسي بالإصرار على أني صافي العروبة.
حين شردتني الحياة عن كورنيشها العريض، وأسلكتني دربًا فرعيةً ضيقةً نائيةً، وقذفت بي من الحاضرة الكبرى إلى كهف مهجور. لم أنس حين دخلت الكهف أن أغرس على مدخله علم العروبة، وأن أنير سراجها في زاويته.
أمهد بهذا الكلام لأني سأقسو بالانتقاد. سأجور عليكم لأنني واحد منكم.
هذا المجتمع هو إسلامي. كلية المقاصد هي إسلامية في اسمها ونزعتها وأساتذتها وتلامذتها وتعاليمها.
لقد أدى الإسلام إلى المدنيَّة ألف رسالة غالية من أجملها رسالة التسامح.
إني أُجلُّ الإسلام، وكذلك أُجلُّ المسيحية. في منزلي نسخة عربية من القرآن الكريم، ونسخة إنكليزية من التوراة المقدسة. حين أتوق إلى أن أسمو بعاطفتي وتفكيري إلى جو أثيري؛ فقد أجود القرآن، وقد أتغنى بالأسفار على حسب قرب أيٍّ من الكتابين إلى يدي، فكلاهما متساوٍ في قربه إلى قلبي.
لو أنه أُعطي لي شغف التمتع بروعة الخشوع في المعابد لما همَّني أن ركعت أمام المذبح أو أمام المحراب.
الإسلام شاسع الآفاق، وليس بمسلم من ينكمش في زاوية فيحمل جاره على أن ينكمش في زاوية.
العروبة قرة عين الإسلام، ومن أشد الناس ولاءً للعروبة أناس ما هم بمسلمين. فيا أيها الفتيان الذين هم اليوم إلى الحياة واثبون؛ حذار أن تجعلوا من سلوككم حافزًا لغير المسلمين الذين سكنوا دار العروبة أن يشعروا أنهم ضيوف مكرمون، ولكنهم ليسوا من أصحاب الدار، وأما الذين لم يدخلوها، فاسمعوهم النداء بالصوت العذب والقول الجميل: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ.
ولا ريب أن في كل طائفة وفي كل بلد وأمة مجرمين يقتاتون بالضغينة، ويزدهرون في العداء. هؤلاء الضالون نراهم قبالتنا، ولكننا نراهم كذلك على جانبينا لو تلفتنا يمنةً ويسرةً. وما نحن متطلعون إلى آفاق جديدة؛ إذ نقصر عليهم نظرنا. وما هو بعادل من يشير إلى القبيح الذي يواجهه، ولا يشير إلى القبيح الذي يكاتفه.
وإني أريد أن أضع روحي على كفي فأبحث بصراحة وصدق موقف اللبناني الصميم، الذي هو كذلك عربي صميم من لبنان والعروبة. نحن في هذا البلد لم نعتد الروية، ولم نألف عمق التفكير، ولم نمارس النزاهة العقلية. العقائد الكبرى كالشخصيات الكبرى ما هي بمواد أولية خالصة، بل هي في معظم الأحيان مركب من مختلف العناصر بينها متناقضات. الشخص الذي يُوصف بكلمة ما هو في غالب الأحيان بشخص عظيم، والعقيدة التي تُشْرح بعبارة ما هي بعقيدة ذات بال.
ليس لبنان بقصيدة زجلية أو موال عتاب. قبل أن يصبح لبنان دولةً كان لبنان ولما يزل بعض أرواحنا، لبنان هو واقعي كقبضة من ذهب، غريزي كحب الأم، جميل كرؤيا.
أنا لبناني إذن فأنا عربي، أنا لبناني عربي، إذن فمن النكبة علي أن تكون هذه القطعة من الدنيا من طوروس إلى العريش، ومن المتوسط إلى الصحراء غير وحدة سياسية لا تتجزأ، غير أن النكبات على درجات! سيظل لبنان دولتي، ودستوره دستوري، وعلمه علمي، ولن أفكر بتغيير ما ولن أطمح إليه، ولن أقبل به حتى أسمع أصوات المطالبة بالتغيير ترتفع من باحات بشراي وزغرتا والنداء للوحدة ينطلق من أجراس كنائس بكفيا ودير القمر. وفيما أنا أرهف أذني لسماع هذه الأصوات أعلم علم اليقين أنني أخدم العروبة بأن أبقى لبنانيًّا صميمًا، أضع كتفي إلى أكتاف جيراني، وأشد أواصر الأخوة ما بيني وبينهم.
إن سمو الخلق يبلغ ذروته حين لا يضل الرجل عن الجمال فيما يستقبحه، والقبح فيما يستحبه، وإن التفكير يبقى عاديًّا حتى يضع المستقرئ أمام عينيه مجهرًا يريه في اللون الواحد كل أظلة اللون. أما أن نندفع في التعصب، فيلون نظرنا ما نرى، حينئذ نصبح كدراويش الهند يرقصون سكارى بخمر يستقطرونها من جنبات نفوسهم، وعبدة أوهام يتمتعون في نعمة العيش، ولكن الأوهام لا تدوم.
ومن الأوهام أن تعتقدوا أيها القادمون على الحياة أن لبنان خرافة، وأن تجهلوا أنه من أشد الناس ولاءً للبنان مَن هم من أشد الناس ولاءً للعروبة.
هنا أقف غير فخور بنفسي. هنا أقف فأبتهل إلى الله أن يمنحكم أيها الفتيان الجرأة التي أحس أنها تعوزني. ليتني أُعْطيت الإقدام فأنزل على هذا المنبر بطلًا، أو أُحْمل عنه شهيدًا، ولكن الكلمات التي أغص بها أنتم تسمعونها، والقول الذي أخاف أن أنطق به أنتم تفهمونه. نساء اليهود تحمل السلاح وتقاتل؛ فأي سلاح تحمله نساؤنا وكيف تقاتل؟ نساء الدنيا أُوتِين الحرية والمساواة والعلم، وهن ينشرن الظرف واللطف والأنوثة والرقة. فما هو الدور الذي تلعبه نساؤنا؟ أمم الأرض يساهم في بنائها وازدهارها مائة بالمائة من شعبها، فما الذي يساهم به خمسون بالمائة من شعبنا؟ من العار أن تبقى المرأة حيث هي، ومن الخسران أن نهدر نصف ثرواتنا وقوانا. هل فيكم جسور يحمل المشعل؟ وذو بأس يقول الكلمة التي أجبن أن أتفوه بها؟ هل منكم فدائي يطمح أن يكون بطلًا ولا يخاف أن يمسي شهيدًا؟ هل منكم من يمزق بيديه ما يجب أن يُمَزَّق؟ لئن كان الجواب نفيًا، فما أشدك ظلامًا يا صباح الغد!
وأخيرًا، أيها الفتيان الأحباء، كلمة لا يوحيها حب الوعظ، ولا تمليها الثرثرة.
الحياة كريمة جوادة، الحياة تعطي أكثر مما تأخذ، فلئن جادت الحياة عليك بطيباتها، فانعم بها بأن تشاطرها سواك. نشوة السكر لذيذة، وهج الشهوة جميل، الظفر يكهرب الحياة، ولكن ليس في الدنيا من شعور أبعث للزهو من سرورك بتضحية تقوم بها، أو عطاء تبذله! لئن جادت عليك الحياة بالطيبات، فانعم بها بأن تشاطرها سواك.
كذلك الحياة قاسية، الحياة ظالمة ومجرمة، هي تأخذ أكثر مما تعطي. أمامكم في السنين المقبلة أيام مريرة. لقد سلحتكم هذه الكلية بالعلم والدراسة، وصقلت أخلاقكم، وشددت عضلاتكم. ضعوا في أيديكم سلاحًا غير منظور. لئن ضنت الحياة عليك بالطيبات فروِّها بالسراب. كهرب عقلك بمس من الجنون. حين تُمنى بخيبة انظم بيتًا من الشعر أو اركض نصف ميل. انشد أغنيةً. احص الملايين من الليرات الذهبية التي لا تملكها. اقطف زهرةً. اكسر صحنًا. انفخ دولاب أوتوموبيل. البط بغلًا. أقم لنفسك عرشًا وبايع نفسك بالعرش. حذار حذار إذ يصيبك الفشل أن تنقم على نفسك أو دهرك أو قريبك أو صديقك.
لئن جادت الحياة عليك بالطيبات فانعم بها بأن تشاطرها سواك، ولئن ضنت الحياة عليك بطيباتها فروِّها بالسراب.