القرميدة المكسورة
«دير مشموشة» يقع تحت جزين في جنوب لبنان. والحفلة يحضرها فخامة رئيس الجمهورية الشيخ بشارة الخوري. حول الدير جموع ترقص وتلعب بالسيف والترس، وأمام الجموع شخصيات منتفخة تُعْرف بالزعماء، والقاعة محتشدة، والخطباء يُسبِّحون ويمجِّدون ويُبخرون، والتصفيق يتعالى كلما ذُكِر اسم رئيس الجمهورية اللبنانية. على بعد مترين من الرئيس، وقد توسط حلقةً من مطران ورهبان وموظفي الحكومة، ألفيتُ «القرميدة المكسورة».
صاحب الفخامة، حضرات الآباء المحترمين، سيداتي وسادتي.
لساعة خلتْ كانت في سقف هذا الدير قرميدة مكسورة.
أريد أن أعترف أنني أنا الذي كسرتها. أريد أن أعترف أن عواطف عنيفة في نفسي كانت تتماوج في صباي، وأن أعنفها كان بغضي للمسيحيين.
كنت في ذلك الحين كأكثر غلمان الدروز يبهجني أن أسمع بمقتل مسيحي. وليلة أمس ضافنا في بعقلين رفاقي الثلاثة: بطرس سماحة، وميشال سماحة، وبطرس عواد. ولقد أكد لي هؤلاء الضيوف — إخوتي الثلاثة — أنهم في صباهم كانوا يفرحون لأمور ثلاثة: تعطيل المدرسة، وقبض الخرجية، والسماع بمقتل درزي.
ها نحن اليوم، نجتمع في هذا المحفل وقد سلَكنا إليه طرقًا متفرقةً، وها نحن وقد بلغنا هدفنا؛ هذه الروضة الثقافية الروحية، لم يقاتل بعضنا بعضًا بسبب الدروب المختلفة التي سلكناها للوصول إلى هذا الهدف، ولكننا في زمن الغباوة يوم كنا جهلةً عميًا، كنا نتباغض ونتقاتل ونتطاحن بسبب الطرق المختلفة التي نسلكها للوصول إلى الهدف الواحد؛ هذه الدروب التي نسميها الأديان، وهذا الهدف الأسمى: الخالق العظيم.
أما القرميدة المكسورة فقصتها أنني مرت بهذه الناحية خلال الحرب الأولى في طريقي إلى جزين، وكنت يومئذ غلامًا فسألت رفيقي المكاري عن هذه البناية الفخمة في الوادي فقال لي وهو يصرف بأسنانه: «دير مشموشة!» فصوبت نحو الدير نظرة عداء فانكسرت القرميدة. ولئن صعد الآن أحد منا إلى السقف فوجده سليمًا؛ فلأنني إذا أطللت على دير مشموشة هذا منذ ساعة — أي بعد ثلاثين عامًا — تطلعت إلى السقف ثانيةً بنظرة حب وحنان، فالتحمت القرميدة المكسورة وعادت سليمةً.
بين الإنسان والحيوان فوارق كثيرة، ولعل أظهرها أن الإنسان يتبدل خلال ربع قرن، والحيوان لا تتبدل عاداته في عشرات السنين. ونحن في هذه البقعة الجنوبية من جبل لبنان أثبتنا أننا بشر على الرغم من أننا لم نستبدل المحراث بالتراكتور، ولم تكثر القصور التي بنيناها خلال هذه السنين، وعلى الرغم من أنه ليس بوسعنا أن نزدهي بمشاريع عمرانية، ولكننا تغلبنا على ما هو أفتك بنا من الفقر المادي والعلمي والعمراني، وحققنا أمنيةً أسمى من الثروة والرفاه.
هنا كانت الطائفية على أقذرها وأفتكها، وهنا قتلناها ودفناها، إلى الأبد دفناها.
إن في وسعنا أن نباهي سائر لبنان، وأن ندعو إخواننا في المدن والأرياف من جمهوريتنا ليتخذونا مثالًا للألفة والتسامح والأُخوة.
حين اغتربت عن لبنان عام ١٩٢٥، كانت عصاباتنا من دروز ومسيحيين تقطع الطرق حول هذه الهضاب والأودية للفتك بأي فرد من الطائفة المعادية. كان أفراد تلك العصابات أبطالًا نُعْجب بهم، ونفتح لهم منازلنا ومعابدنا ملجأً. يا ويل قوم أبطالهم مجرمون!
في تلك الأيام، أقمنا للبغضاء أصنامًا وعبدناها، غير أنه كان منا أناس لا يسمون المجرمين أبطالًا، ولا يدعون التناحر الطائفي تقوًى وعبادةً. ولقد كان لي حظ حضور حلقة في بيروت بعض أشخاصها ميشال زكور، وبشارة عبد الله الخوري، وجبرائيل نصار، وأمين تقي الدين، وسليم تقلا، وكامل وفؤاد حمية، ووديع وأسعد عقل. كانوا يجتمعون في مقهى تباريس. هؤلاء كانوا يعرفون أنهم وجيرانهم مواطنون، ومواطنون فحسب، وكان يؤلمهم مقتل المسيحي كما يؤلمهم مقتل الدرزي. وكانوا يفهمون أن في التشاحن على اختيار أي سبيل نسلكه للوصول إلى الله كفرًا بالله. هؤلاء الرجال وألوف مثلهم في لبنان، من مقيمين ومغتربين، هم الذين طهروا لبنان من جرائم الطائفية، وصهروا عناصره الدينية، فصار الواحد منا يشعر بأنه مواطن لا درزي ولا مسيحي.
سنة البشر التغيُّر، ولكن التغيُّر قد يكون من سيئ إلى أسوأ، أو من حسن إلى سيئ، أو من سيئ إلى حسن. ونحن فيما نفخر بالتبدُّل الجميل من التعصب الديني إلى التسامح، يجب أن نعترف أننا في سائر مناحي الحياة قد تصدَّعنا حتى الانهيار.
موائدنا مثقلة بالطعام، وكواراتنا فارغة. نقاتل من أجل التوافه جارنا القريب وما هو بعدوٍّ، ونغفل عن قتال عدونا الحقيقي وحرُّ أنفاسه يلفح وجوهنا. تستعبدنا الأناقة، ويستهوينا الثراء أيًّا كانت طرقه. من أيدينا تفوح رائحة الرشوة، ومن أناملنا يقطر دم الفقير. نحن نعيش في حياتنا الاقتصادية والسياسية والأخلاقية في سكرة غطرسة، وليس بعد السكرة إلا وجع الرأس. نتبع القوي الذي ينفعنا ويؤذي جارنا. نريد أن تتقلص آفاقنا حتى يضيق عالمنا فنبدو فيه كبارًا.
في زمن يجب أن نماشي به سنة النشوء والارتقاء، ونرفس عنا العادات القبيحة، أحيينا نحن أبناء لبنان؛ بلد العلم والنور، أحيينا عادات في الأفراح والمآتم وشتى المناسبات، عادات نتأدب إن سميناها عادات همجية. حين يفتقر الواحد منا أو يضعف ندوس عليه؛ لأنه فقير ضعيف.
نحن في لبنان نعرف أن نعيش، بل لا ينقصنا لنحذق فن العيش على أتمِّه إلا أن نتعلم كيف يجب أن نموت. نموت مستبسلين من أجل عشرة قروش، أو وظيفة، أو رأس بندورة، أو شتيمة، ولكن ليست لنا الجرأة الأدبية لأن نتفوه بكلمة قاسية، وليست لنا الشجاعة الجسدية لأن ننهض للمطالبة بحق عام. ما هو بكبير من تستفزه الصغائر. طريق المجد مُنِعت عن الرياء والتملُّق. ومن قضى حياته منحنيًا أمام القوي لا تلمع الشمس على جبينه.
هذا قليل قليل من كثير كثير لا يَجْمل الآن قوله ولا أنتم تجهلونه، غير أني لا أعدد هذه المصائب لأكون رسول اليأس، لا بل إنني متفائل، فمتى بلغ السائر قعر الوادي فلا يبقى أمامه إلا الصعود.
أعود بكم إلى عام ١٩٣٥، يوم تذابحنا هنا مسيحيين ودروزًا. كانت أيامًا سوداء، ولكنها مضت إلى الأبد. وكل هذه الآفات التي لا تحسن في نظرنا اليوم ستغيب إلى الأبد؛ ذلك لأنه كما كانوا في عام ١٩٢٥ حلقات من رجال ناقمة على التعصب الطائفي، كذلك في هذا اليوم ألوف من الرجال يرون عبر هذا اليوم. في لبنان اليوم ألوف من حلقات شبيهة بحلقة تباريس، وقوة هذه الحلقات في كونها غير منظورة وغير مسموعة.
سنة الحياة هي التغيُّر والتبدُّل.
كنا في ليلة عيد رأس السنة عام ١٩٤١ في مانيلا؛ عاصمة الفلبين، في نعمةٍ وزهوٍ وطمأنينة، وصحونا في اليوم الثاني وأعلام الغزاة فوق رءوسنا، وأمتعتنا وأملاكنا وحياة كلٍّ منا رهن إشارة. لقد عشنا أربعين شهرًا بين الدمار والقتال والجوع، ووجدنا أن أثمن ما يتسلح به الإنسان للطوارئ هو حب جيرانه واحترامهم إياه.
في طقوس الرهبنة المسيحية عادةً من أسمى العادات، وهي ما يسميه الكهنة الرياضة الروحية. جميل بنا أن نأخذ عن الرهبان هذا الطقس الديني، فيخلو الواحد منا إلى نفسه يعرفها صامتًا؛ إذ ذاك نكتشف أننا في شتى مناحي الحياة في هذا البلد مشينا القهقرى، وأنه يجب علينا أن نصحو من هذه السكرة؛ إذ ذاك نكتشف أننا في لبنان نعيش في صالون الحياة تبهر عيوننا الأنوار التي أضأناها فوق رءوسنا، فلا نرى العتمة التي تكتنف المنزل وتملأ سائر الغرف.
أيها السيدات والسادة، حذار حذار! ماذا أعددتم للطوارئ؟ بعض البراكين يرعد ثم ينفجر، وبعض البراكين ينفجر من غير أن يرعد.
ليس بيننا من لم يكسر قرميدةً في حياته، وإني وقد خبرت هذا الجرم أجد أن في لحم القرميدة المكسورة نشوة لذة تفوق الجذل البهيمي الذي يثيره في النفس كسرها.