أمين تقي الدين … موته اغتراب
موقف على الراديو مثلت به لأول مرة في حياتي دورًا مزدوجًا: فأنا المؤبن، وأنا ربيب المتوفى. أُقيمت الحفلة بمناسبة تعليق صورة أمين تقي الدين في دار الكتب.
للمرة الأولى في حياتي، أودُّ أن أعتذر عما سأقول.
كنت أحسب أنني أفهم الذي أكتب عنه الآن. وكنت — وهذا سر أذيعه للمرة الأولى — ألومه على الكثير الذي لم يفعله.
غير أني حين جلست لأدوِّن كلماتي فيه بأن لي سرًّا وانقشعتُ حكمةً، فأمين تقي الذي أدَّبني وعلمني الكثير في حياته، ألقى علي درسًا بعد مماته حين حاولت أن أرثيه. وأمين تقي الدين المحامي، القوي الحجة، اللبق الفصيح، أفحمني بالأمس وردَّ عن نفسه من القبر تهمةً كانت تختلج في خاطري لأني أحبه، وبقيت سرًّا في خاطري لأني أحبه. أما الآن وقد وضحت براءته، فليس من العقوق أن نتحدث عنها. كنت ألومه بعد أن شببت على الشعر الذي ما نظمه، والنثر الذي ما صاغه، ذلك النهر المتدفق لِم لما يشد اندفاعه إلى الآلات تولد الكهرباء طاقة قوة ومصابيح أضواء.
وحين جلست لأحدثكم عنه اكتشفت السبب. قعدت وغصة الحزن عليه ما زالت آهةً في صدري، وذكرى طفولة أشرف عليها، وفتوةً هذبها وغذاها. جلست على قمة هزة عاطفية ترهف إحساسي، واهمًا أني سأدون أجمل ما كتبت في حياتي، فما إن بدأت حتى تحققت أن من الجريمة صوغ الكلمات، وأن الألفاظ لم تكن ولن تكون أداة الإفصاح. حين يرتفع الإحساس إلى صعيد يطل منه على الله يتأله الإحساس، ويخلع الشعور عن نفسه أردية الكلمات.
يقولون عن الذي يموت أنه انتقل إلى جوار ربه. أكبر ظني أن أمين تقي الدين عاش في جوار ربه طيلة حياته، وهذا الصعيد العالي الذي سكنته نفسه طيلة عمره ملأ نفسه بإنسانية إلهية حتى لا تطيق الكلام لها رسولًا؛ لذلك صمت حيث كان ينتظر أصدقاؤه منه الكلام، ونظم البيت الواحد حين توقعنا منه القصيدة، والقصيدة حيث تساءلنا أين هو الديوان؟ ولكم من مرة رأيته منفعلًا يخلو إلى غرفته وبين يديه قلم، وأمامه أوراقه، ثم يخرج من الغرفة حزينًا باكيًا، أو مقهقهًا طروبًا وأوراقه ما زالت بيضاء.
الرجل الذي أتحدث عنه الآن كان أخًا لأبي. هذه هي حادثة الولادة. ما هذه بالأمر المهم، هذه الصدفة، غير أنه لو لم يكن لي عمًّا لشاقني أن يكون من ذوي قرباي. وإني لأعلم أن بين المواطنين من هم ليسوا بأقل مني شغفًا بهذا الرجل الذي ليس هو من ذوي قرباهم. وإني كذلك لأعلم أن بين المستمعين من هم مثلي يودون أن يكون كل ما بينهم وبين بعض ذوي قرباهم أمر واحد: بِيدٌ دُونَها بِيدٌ.
لعل شغفي به كان من بعض أسبابه أنه شرد عن العادة الشرقية التي تعنكب من الوقار حجابًا بين الابن والأب أو العم وابن أخيه. لقد كان عمي عشيري بعد أن شببت. أذكر يوم مررنا بعين زحلتا وجلسنا عند نبع الصفا فعرَّفني إلى فتاة في مثل عمري: الثامنة عشرة. وبعد أن أحكمت طربوشي ولمست شاربي، رحت أتحدث إلى الفتاة منفردين عن سائر الجمع. ونهض عمي أمين ونهضت بعد ساعتين، فلما ركبنا السيارة سألني: بماذا تحدثتما؟ أجبتُ بسذاجتي القروية: تحدثنا عن الصحافة. فضحك مؤنبًا: «فتاة في الثامنة عشرة، والدنيا صيف، ونبع الصفا، وتُحدِّثها عن الصحافة؟ اخس اخس.»
وعلى ذكر هاتين اللفظتين، فقد كان يبوح عن رأيه في الأدب بألفاظ ثلاثة يكررها، فهو إن قرأ مقالًا أو قصيدةً صاح: اخس اخس، أو كلام فارغ، أو الله الله! وكان أكثر ما يصيح «الله الله!» لكتابي كليلة ودمنة ومقدمة ابن خلدون في الأدب القديم، ولشعر صديقيه شوقي وخليل مطران، ونثر صديقه الآخر ولي الدين يكن في الأدب المعاصر.
وكان يحب اللغة العربية صافيةً لا توحل، عفويةً لا تتصنع. ولا يطيق أن تتسرب إليها ركاكة. وفي ذات يوم فيما كنت أسطر رسالةً إلى صديق قال لي: «اقرأ ما أنت تكتب.» فبدأت: عزيزي فلان، بعد السلام أطمنك عني. فقاطعتني صفعةٌ من يد عمي وصرخة: «كم مرة قلت لك أطمنك عني غلط! قل أطمنك إلي. أكتب بالعربي أو فاكتب بالفرنجي، ولكن لا تكتب بالعربي الفرنجي.»
لم أعرف رجلًا عشق وطنًا مثلما أحب أمين تقي الدين لبنان، ما غالى ولا بالغ حين نظم الشعر فيه. ومن شعره قوله:
لقد صلى للبنان وسجد وتغنى به، ولكن صلواته لم يتخللها شتائم تُصَوب لغير لبنان، ولا دعاية لبغضاء، ولا تجارة بالأحقاد.
لقد أحب الناس جميعهم؛ وضيعهم وسريهم، فتاهم وشيخهم. كان يحس بعاطفة البنوة نحو من تقدمه في العمر مثل إسكندر عمون، ومحمد الجسر، وبعاطفة الأبوة نحو من يصغره؛ مثل: إبراهيم طوقان، وإلياس أبي شبكة، وتوفيق وهبة، والدكتور جورج حداد. لا أعرف أحدًا من الناس ظفر بأخوة الناس مثل أمين تقي الدين. لا أعرف شارعًا في بيروت ولا حيًّا ليس له فيه صديق حميم. من بيت عمر بيهم في حرج بيروت إلى مكتب أولاد خليل عبد العال على المرفأ، ومن بيب حبيب ربيز في رأس بيروت إلى بيت فيليب الزهار على الجميزة. في كل حي، في كل شارع، صادق وأحب وآخى لغير سبب ذاتي أو منفعة، بل لأنه فُطِر على الصداقة والحب والإخاء.
غير أنه لم يكن من طبعه أن يقصر علاقاته وصداقاته على أصحاب الأسماء اللامعة، مثل ميشال زكور، وأسعد عقل، وأنطون الجميل، وموسى تمور، وفؤاد أرسلان، وخليل مطران، وجبرائيل نصار، بل كان من أقرب الناس إلى قلبه بعض البقالين والحوذيين والأكارين وباعة الجرائد. في سنة ١٩٢٢ أو سنة ١٩٢٣ رشح نفسه للنيابة، وكان الانتخاب على درجتين؛ إذ يقترع المندوبون الثانويون للنائب. واقترب يوم الانتخاب وعمُّنا لم يتحرك من مكانه. وأخيرًا اقتنع بأنه من الضروري أن يطوف في الشوف داعيًا لنفسه، فركبنا السيارة، ولما بلغنا صحراء الشويفات وقفنا هنيهةً نتطلع إلى الزيتون تتطاير منه السُّمان، فنزلنا وقضينا النهار في الصيد. كل حملته الانتخابية كانت يوم صيد في الشويفات، في حين أنفق خصمه الإقطاعي ٨٠٠ ليرة ذهبية.
وجاء يوم الانتخاب، وكان على الظافر أن ينال أكثرية ٦٥ صوتًا نال منها أمين تقي الدين ٥٤. وغادرنا بعيدًا وهو منفعل يبكي، فاستغربت هذا منه يقينًا مني أنه كان لا ينتظر أكثر من عشرة أصوات، فلماذا الانفعال؟ سألته فراح يردد: مسكين بشارة، مسكين بشارة! ذلك أن صديقه الشاعر بشارة الخوري كان مرشحًا للنيابة وفشل.
أما مجالسه فليس من الحق أن نختصه بالذكر منها، كانت مجالس الأدباء في «سبلنددبار» في القاهرة، «وتباريس» في بيروت، مجالس طرافة وفكاهة وفكر ورواية. كان ذلك في الماضي البعيد يوم كان الحديث فنًّا أدبيًّا، ويوم لم يتبرم الناس بعضهم ببعض، فيستعينون على طرد سأمهم وضجرهم الواحد من الآخر بلعبة «رولنس».
ما الذي تركه هذا الشاعر الأديب؟ أريد أن أستعمل أدق الموازين وأقسى قواعد النقد، فأجيب أن إنتاجه الجيد يقتصر على بضع مئات من أبيات الشعر؛ بعضها خالد، وحفنة من المقالات قليل منها سيثبت على الدهر. وترك ذكرى حياة عبلة مفعمةً بالمروءات والأنس والحب والإخاء.
كنت في دار الكتب استمع إلى محاضرة تلميذه الآخر — أخي خليل — وحانت مني نظرة إلى حيث ثبتت صور البارزين من اللبنانيين، فلمحت صورة وديع عقل، وأحلف أني سمعت وديعًا يسألني كما كان يسألني عشرات المرات في سنوات العشرين كلما سبقت عمي أمين إلى مجالسه، سمعت وديع عقل يسألني: «أين أمين؟ متأخر كالعادة!» فإلى وديع عقل وغيره من أصدقائه الجالسين خالدين على حيطان دار الكتب أقول: إن رفيقكم أمين آتٍ إليكم بعد أيام؛ فقد تفضلت الحكومة اللبنانية فأصدر معالي وزير التربية مرسومًا بتعليق صورة أمين تقي الدين في دار الكتب. فللحكومة اللبنانية بشخص معالي وزير التربية الشكر.
هنا أود أن أثب من ميعان العاطفة لأذكر لكم أمثولةً أخيرةً تلقنتها من الفاجعة العاطفية:
لقد أحببت هذا الرجل لأقصى ما في مقدرة رجل أن يحب رجلًا. وفي سنة ١٩٣٧ كنت في مغترب بعيد: مانيلا؛ الفليبين، وكان من عادتي إذ أنصرف من مكتبي أن أمرَّ ببناية البوسطة. وقفت أمام صندوق البريد أرى من خلال زجاجه رسالةً عليها طابع لبنان واسمي باللغة العربية. وقفت مشدوهًا خائفًا دقائق طويلة ومفتاح الصندوق بيدي أتطلع إلى الغلاف ولا أفتح الصندوق. ومر بي صديق أمريكي فسألني ما لي واقفًا كالصنم، أجبت أني أخاف منظر هذا الغلاف، فضحك هازئًا قائلًا: يا لك من شرقي معتوه عاطفة! وتناول المفتاح من يدي وسلمني الغلاف. كانت تلك الرسالة نعي عمي أمين.
لم أبك ولم أتفجع، بل ألهمتني الغريزة أن أدفع عني هذه النكبة فحدثت نفسي: إنني بعيد عن أهلي وأصدقائي. كثيرون منهم لا يراسلونني، ولكني أعلم أنهم أحياء أحباء إلي. إذن فلأحسب أن هذا الذي جاءني نعيُّه لا يزال حيًّا بعيدًا عني، ولكنه لا يراسلني.
إلى الذين يُفْجعون بحبيب، أنصح أن يحاربوا الحزن بهذا الخداع العقلي. ترى أهو حقًّا خداع أم حقيقة؟ كثيرون من الرفاق يغتربون إلى كندا وكولومبيا والأرجنتين؛ بعضهم يرجع إلينا، وبعضنا يغترب إليهم، وآخرون يبقون هناك، ونفنى هنا من غير أن نتراسل.
الموت هو اغتراب. في هذا الحديث لم أقل «المرحوم»؛ ذلك لأنني أقنعت نفسي أن عمي أمينًا اغترب عني، أو أنني لا أزال مغتربًا عنه. حيلة الضعيف، ولكنها ناجحة.