ينشأ المجال المغناطيسي عن حركة الدقائق المشحونة وتتناسب
قوَّتُه مع كمية الشحنات وحركتها. والمجال المغناطيسي هو أحد أشكال
القوة الكهرومغناطيسية (انظر الفصل الثامن).
على مستوى الجسيمات تحت الذرية مثل الإلكترون، ينشأ العزم
المغناطيسي نتيجة البرم المغزلي
(Spin). كما ينشأ المجال
المغناطيسي نتيجة مرور التيار الكهربائي في مُوصِّل. وهنا يمكن أن
يكون المجال المغناطيسي مستقرا (Static) إذا تولَّد عن تيارٍ كهربائيٍّ
مستمر (Dierct
current)؛ كالذي يتولَّد عن بطارية، أو يكون متناوبًا
عندما ينشأ عن تيارٍ كهربائيٍّ متناوب (Alternative current) كما في الكهرباء المستخدمة في
المنازل والمعامل وغيرها. المجال المغناطيسي المستقر أو المستمر هو
الذي لا يتغير مع الزمن، على عكس المجال المغناطيسي المتناوب الذي
يتغير مع الزمن. ولبعض المواد مثل الحديد خاصيةٌ مغناطيسية نتيجة
احتواء ذراتها على إلكتروناتٍ مفردة غيرِ مرتبطة بلفٍّ مغزليٍّ
متماثل.
تُقاس قوة المجال المغناطيسي بوحدات تيسلا (Tesla
= T)، كما تُستخدَم وحداتٌ أصغر هي غاوس
(Gauss = G)؛ حيث إن:
كما تُرفق هذه القيم عادةً بقيم التردُّد للموجات المغناطيسية
ووحداتها بالهيرتز (Hz).
الكرة الارضية تعمل كمغناطيسٍ نتيجة وجود صهير الحديد، وموادَّ
مشحونة متحركة في مركزها. وهكذا للأرض مجالٌ مغناطيسي إلا أنه
ضعيف؛ فهو يكون بقوة بين ٧٥ إلى ٢٥ ميكروتيسلا () في القطبَين وخط الاستواء على التوالي. مع ذلك
فهو يقي الأحياء من التأثيرات المدمرة للأشعة الكونية والأشعة فوق
البنفسجية. وحيث إن الخلايا الحية تحتوي على الكثير من الأيونات
والمركَّبات المشحونة وبعض المواد الممغنطة، فمن غير المستبعَد أن
يكون للمجالات المغناطيسية تأثيراتٌ مختلفة عليها. وهكذا يُوجد
المجال المغناطيسي أينما توافَر التيار الكهربائي أو تبادل
الأيونات، ليس في الكواكب فقط، وإنما في القلب مثلًا حيث يكون بقوة
١٠−١٠ تيسلا أو في الدماغ
١٠−١٥ تيسلا (Tarlacı
& Pregnolato, 2015).
وبسبب ضعف المجال المغناطيسي الأرضي، يلجأ الباحثون إلى استخدام
مجالاتٍ مغناطيسيةٍ بقوًى مختلفة من أجل دراسة تأثيرها على
الفعاليات الحيوية في مجاميع الأحياء المختلفة.
من خلال استعراض تأثير المجالات المغناطيسية على الأحياء الدقيقة
والفطريات، يؤكِّد الباحثون أن الاستجابة لها واضحة، ليس في هذه
المجاميع فقط، وإنما في جميع الممالك الأحيائية الخمسة، على الرغم
من وجود اختلافات في آليات الاستجابة (Pazur
et al.,
2007).
تستجيب العديد من أنواع
البكتيريا
الممغنطة (Magnetotactic bacteria) والأحياء الحقيقية النواة الوحيدة الخلية
كالحيوانات الابتدائية
الدوارة (Dinoflagellates) والهدبيات وكذلك الفطريات، للمجالات
المغناطيسية. البكتيريا الممغنطة هي بكتيريا تُظهِر انجذابًا
مغناطيسيًّا (Magnetotaxis) حيث
تتحرك بواسطة أسواط، وتتوجَّه حركتُها بالمجال المغناطيسي المحلي
الضعيف بما يصل إلى ٠٫٥ غاوس (Gauss) أو ٠٫٥ × ١٠−٤
تيسلا (T). هذه البكتيريا تتحسَّس
المجال المغناطيسي بواسطة أجسامٍ مغناطيسيةٍ (Magnetosomes) في السايتوبلازم
(Blakemore, 1975). يتألَّف الجسم
المغناطيسي من بلورة حديدٍ
مغناطيسي (Ferrimagnetic) محاطةٍ بغشاءٍ خاص (شكل ١١-٢ و١١-٣).
(٢) تأثير المجالات المغناطيسية على الفعاليات الحيوية
Effect of Magnetic Fields on Biological
Activities
المجالات المغناطيسية المستمرة المتوسطة (٠٫١–١ ملي تيسلا) حفزَت
نمو البكتيريا Pseudomanas
fluorescens وStaphylococcus albus
والفطر Aspergillus
niger. في حين خفضَت نمو الفطرَين
Alternaria
alternate وCurvularia inaequalis
بنسبة ١٠٪. بينما زادت عدد الكونيدات للفطرَين بنسبة ٦٨–١٣٣٪
وثبطَت تكوين الكونيدات في الفطر Fusarium oxysporum
بنسبة ٧٩–٨٣٪ (Nagy & Fischl,
2004). كما ثُبِّط نمو البكتيريا الخضراء المزرقة
Anabaena
doliolum في ٣٠٠ ملي تيسلا. بينما خُفض
النمو في Acanthamoeba بتأثير المجال
المغناطيسي المستقر ٧١ و١٠٦ ملي تيسلا. وخفَّض المجال المغناطيسي
المنخفض (٤٠٠ ميكروتيسلا) تكوين البراعم في الخميرة
Saccharomyces
cerevisiae بنسبة ٣٠٪
(Kimball, 1938; Berk et al., 1997; Pazur et al., 2007; Makarevich,
1999).
أدى تنمية الفطرَين المُمرِضَين للحشرات
Beauveria
bassiana وIsaria fumosorosea على
وسطٍ زرعي يحتوي على ماءٍ مُعامَل بمغناطيسٍ دائم أو التعريض
لمجالٍ مغناطيسي إلى زيادة معدل نموهما وإمراضيتِهما ضد يرقاتِ بعض
أنواع الحشرات (Jaworska et al., 2016).
وأظهرت الدراسات زيادة معدَّل نمو البكتيريا
Escherichia
coli وBacillus subtilis تحت
تأثير المجال المغناطيسي المتناوب من ٠ إلى ٢٢ ملي تيسلا (١٦ و٥٠
هيرتز) كما قَلَّ تلاصُق الخلايا في البكتيريا الأخيرة. بينما كان
للتردُّدات العالية ٦٢ كيلوهيرتز تأثيرٌ قاتلٌ للبكتيريا
E.
coli (Aarholt
et al., 1981; Ramon et al., 1987; Pazur et al., 2007).
وسبَّب المجال المغناطيسي المتناوب ١٫٨ ميلي تيسلا بتردُّد ٧٢
هيرتز زيادةَ معدَّل انقسام الحيوان الابتدائي
Paramecium
tetraurelia وهذا التأثير مرتبط مع
أيونات الكالسيوم (Pazur et al., 2007; Dihel et al., 1985).
المجال المغناطيسي المُتناوِب المعتدل (٦٦٠–٢٠٠ ميكروتيسلا، ٥٠
هيرتز) أعاق معدَّل النسخ لأوبيرون لاك (lac operon) في البكتيريا E. coli. وسبَّب مثل هذا
المجال في ١٫١ ميلي تيسلا و٦٠ هيرتز زيادةً في عامل النسخ
σ32 ووحدة للإنزيم RNA
polymerase في ١٫٥ ميلي تيسلا. كما أحدث المجال
المغناطيسي زيادةً أو تخفيضًا في معدَّل التعبير الجيني لثلاثين
نوعًا من البروتينات؛ ما يشير إلى احتمال حساسية عملية الترجمة إلى
التأثير المغناطيسي. أما المجال المغناطيسي القوي (١٤٫١ تيسلا)
فسبَّب زيادةً في التعبير الجيني ﻟ ٢١ جينا، وتخفيض التعبير الجيني
ﻟ ٤٤ جينًا في البكتيريا اللاهوائية Shewanella oneidensis
دون التأثير على النمو. في حين لم يحصُل تأثيرٌ على التعبير الجيني
في الخميرة Saccharomyces
cerevisiae في المجال المغناطيسي بين
١٠ و٣٠٠ ميلي تيسلا، ٥٠ هيرتز. وسبَّب المجال المغناطيسي ٠٫١٣–٠٫٣
تيسلا زيادةً بخمسة أضعاف تخليق البورفيرين، وزيادة التعبير الجيني
لإنزيم 5-aminolevulinic acid
dehydratase في بكتيريا التركيب الضوئي
Rhodobacter
sphaeroides (Pazur
et al., 2007; Goodman
et al., 1994; Cairo et al., 1998).
وبيَّنَت الأبحاث حساسية الإنزيمات للمجال المغناطيسي خارج الجسم
الحي (In Vitro)؛ فالمجال المغناطيسي
المستقر بقوة ٢٠ ميكرو تيسلا خفَّض نشاط الإنزيم
Ca2+/calmodulin-dependent cyclic nucleotide
phosphodiesterase بالاعتماد على أيونات
الكالسيوم، وهذا يُشير إلى أهمية المجال المغناطيسي الأرضي في
التفاعُلات المرتبطة بالكالسيوم (Liboff et al., 2003; Pazur et al., 2007).
كما أن الارتفاع أو الانخفاض المعتدل في قوة المجال المغناطيسي
الأرضي في اختبارات خارج وداخل الجسم الحي، أثَّر في نشاط
الإنزيمَين المفتاحيَّين في تخليق الميلاتونين في الغدة الصنوبرية
والشبكية
Hydroxyindole-O-methyltransferase
وN-acetylserotonin transferase.
وفي الحمام خفَّض نشاط الإنزيم الأخير بقوة عند تعرُّضها لدوران
بخمسين درجة أفقيًّا للمغناطيس الأرضي لمدة ٣٠ دقيقة في منتصف
الليل (Pazur et al., 2007; Cremer-Bartels et al., 1984).
وأدى المجال المغناطيسي القوي ٦ و٧ تيسلا إلى تخفيض نشاط الإنزيم
L-glutamic dehydrogenase وتخفيض
نشاط الإنزيم Carboxydismutase من
السبانخ في مجالٍ مغناطيسي بقوة ٢ تيسلا. كما تأثَّر نشاط
الإنزيمات Trypsin
وOrnithine decarboxylase
وCytochrome-C oxidase بالمجالات
المغناطيسية (Cook & Smith, 1964;
Haberditzl, 1967; Mullins et al., 1999; Nossol et al., 1993; Pazur et al., 2007).
تم دراسة تأثير نبضاتِ المجال المغناطيسي القليلة التردُّد
وإشعاعات الليزر القليلة الشدة، على نمو الفطريات المُحلِّلة
للبوليمرات. التشعيع يمكن أن يحفِّز أو يثبِّط النمو وتكوين
السبورات، وكذلك نشاط الإنزيمات المحلِّلة
Catalase
وPeroxidase
(Makarov et al., 2019).
المجال المغناطيسي المتناوب (١٤٫٦ ميلي تيسلا، ٦٠ هيرتز) حافَظ
على البكتيريا Salmonella
typhimurium من الإجهاد الحراري. كما
أن التعرُّض للمجال المغناطيسي حفَّز تكوين بروتين الصدمة الحرارية
HSP70 في حشرة الدروسوفيلا
(Goodman & Blank, 1998; Pazur et al., 2007; Williams et al., 2006).
ويُظهِر أيضُ الأحياء المختلفة استجاباتٍ متباينةً لتأثير
المجالات المغناطيسية؛ فالمجال المغناطيسي المتناوب (٠٫٥ ميكرو
تيسلا، ١٠٠–٢٠٠ هيرتز) يخفِّض معدَّل التنفس في الخميرة
S.
cerevisiae بمقدار ٣٠٪. بينما يرفع
المجال المغناطيسي (٤٫٩، ٥٠ هيرتز) مستوى
ATP بمقدار ٣٠٪. وفي البكتيريا
الخضراء المزرقة Spirulina
platensis يسبِّب المجال المغناطيسي
المتناوب المعتدل (١٠ ميلي تيسلا) تحفيزًا للنمو والتركيب الضوئي
وتخليق الصبغة، بينما يسبِّب تثبيطًا في قوة ٧٠ ميلي تيسلا
(Russel & Webb, 1981; Lei & Berg,
1998; Hirano et al., 1998;
Pazur et al.,
2007).
تم دراسة تأثير المجال المغناطيسي بقوةٍ ضعيفة ٥، ٧، ١٠، ٣٠، ٥٠
غاوس على نمو الفطر Aspergillus flavus وتكوين سُم
الأفلاتوكسين. أظهرَت النتائج تأثير القطب المغناطيسي الجنوبي؛ حيث
زاد تكوين السم ضعف معاملة السيطرة، وحوالي ٢٠ ضعفًا مقارنة بتأثير
القطب المغناطيسي الشمالي (Ahmad et al., 2013).
الكثير من الحيوانات تتحسَّس المغناطيس الأرضي؛ مثل الرخويات
والمفصليات وأنواعٍ من كل مجاميع الحيوانات الفقارية، بينما لا
يتمكن الإنسان بحواسِّه وحدها من تحسُّس هذا المجال المغناطيسي. من
الحيوانات التي تستخدم المجال المغناطيسي كبوصلةٍ داخلية، الطيور
المهاجرة ومنها خاصة أبو الحناء الأوروبي Erithacus rubecula
والطيور الجواثم والحمام الزاجل Columba livia domestica
وطيور السواحل ومعظم مجاميع الحيوانات الفقارية والقشريات والحشرات
والرخويات والسلاحف البحرية (Wiltschko &
Wiltschko, 2005).
بعض هذه الحيوانات تستخدم البوصلة لعبور المحيطات، وأخرى
تستخدمها لإيجاد طينةٍ أفضل لمسافاتٍ قصيرة، والبعض الآخر يستخدم
شدة ومَيَلان المغناطيس الأرضي لتحديد موقعه الجغرافي
(Johnsen & Lohmann,
2008).
(٣) المغناطيس
الأرضي Geomagnet
تمثِّل الكرة الأرضية مغناطيسًا هائلًا؛ حيث يكون قطباه قريبَين
من قطبَي دورانها حول محورها. ويُعتقد أن المجال المغناطيسي الأرضي
ينشأ من حركة السائل الموصل كهربائيًّا في جوفها؛ والذي يكون
غنيًّا بالحديد. والمجال المغناطيسي الأرضي كميةٌ اتجاهية تتضمَّن
ثلاثة مكوناتٍ هي: الاتجاه
الصاعد (Inclination) والاتجاه
النازل (Declination) والشدة (Intensity) (Nordmann et al., 2017).
خطوط المجال المغناطيسي
الأرضي تنبعث من القطب الجنوبي، وتدور حول الأرض لتدخل القطب
الشمالي. وهكذا تتجه خطوط المجال المغناطيسي إلى الأعلى في نصف
الكرة الجنوبي، وموازية لسطح الأرض في منطقة الاستواء المغناطيسي،
ثم تتجه إلى الأسفل في نصف الكرة الشمالي. الميلان المغناطيسي
الصاعد (زاوية
الميل Inclination angle) هي الزاوية بين الخط المغناطيسي الموقعي والخط
الأفقي، يتغير باستمرار مُظهرًا تدرُّجًا منتظمًا من زاوية
−٩٠º في القطب المغناطيسي الجنوبي إلى
+٩٠º في القطب المغناطيسي الشمالي،
وتكون ٠º في الاستواء المغناطيسي (شكل
١١-١). أما شدة المجال المغناطيسي الأرضي
الممثَّلة بطول السهام في الشكل، فتكون أعلى عند القطبَين، وأقل
قرب الاستواء المغناطيسي. وبذلك تشكِّل تدرُّجًا ينطلق من القطبَين
نحو الاستواء في نصفَي الكرة الأرضية. غير أن هذا الانتظام
المغناطيسي يمكن أن يتشوه موضعيًّا بوجود موادَّ في القشرة العليا
للكرة الأرضية، بتغيُّرٍ بسيط زيادةً أو نقصانًا في شدة المجال
المغناطيسي. كما يمكن أن تتعرَّض شدة المجال المغناطيسي الأرضي إلى
تغيراتٍ صغيرةٍ يومية، نتيجة الإشعاعات الكهرومغناطيسية الصادرة من
الشمس. وحيث إن الميَلان الصاعد والميَلان النازل والشدة هي
مؤشراتٌ جيوفيزيائية متمايزة، فيمكن لأيٍّ منها أن يُستخدَم من
قِبل الحيوانات في هجراتها.
وهكذا، يوفِّر المغناطيس الأرضي مصدرًا مهمًّا للمعلومات
الملاحية؛ فثمَّة معلوماتٌ اتجاهية توفِّرها اتجاهات الخطوط
المغناطيسية، والتي يمكن أن تُستخدَم كبوصلة من قِبل الحيوانات،
كما توفِّر الشدة المغناطيسية والميَلان معلوماتٍ تُسهِم في رسم
«خارطة» ملاحية توضِّح الموقع (Wiltschko &
Wiltschko, 2005; Nordmann et al., 2017).
شكل ١١-١: المجال المغناطيسي الأرضي. السهام تشير إلى
الاتجاهات المغناطيسية الموقعية، وأطوالها تتناسب مع شدة
المجال المغناطيسي الموقعي. القطبان المغناطيسيان
والاستواء المغناطيسي مميَّز باللون الأحمر. مُحوَّر عن:
Wiltschko & Wiltschko
(2005) وزاوية الميل عن:
McFadden & Al-Khalili
(2014).
ومن أجل نجاح الطيور في هجراتها السنوية، عليها تحديد اتجاه
طيرانها بدقة؛ حيث لا يكفي تمييزها للقطب الشمالي عن الجنوبي، ولا
التوجُّه نحو خط الاستواء أو أحد القطبَين؛ فمثلًا المتابعة بواسطة
الأقمار الصناعية لطائر البقويقة الشريطيِّ الذيل
Limosa lapponica
baueri في رحلته من ألاسكا إلى
نيوزلاندا تبيَّن أنه يطير عَبْر المحيط الهادي مسافة ١١٠٠٠كم. دون
توقُّف. وهكذا فإن الخطأ في الاتجاه بدرجاتٍ قليلة يمكن أن يكون
كارثيًّا (Gill Jr et al., 2009). وهكذا لا بُد من
الاستعانة ببوصلةٍ مغناطيسيةٍ عالية الدقة لتحديد وتصحيح الاتجاه،
تعمل في الليل أيضًا، علمًا أن الليل ليس معتمًا تمامًا. وتُشير
الأبحاث إلى أن دقة هذه البوصلة في تحديد المجال المغناطيسي بحدود
٥º أو أقل (Hiscock
et al.,
2016).
كما يرى Vacha (2019)، ثمَّة
آليَّتان للتحسُّس المغناطيسي في الحيوانات البرية هما:
الفيريمغناطيسية (Ferrimagnetism)
التي تعتمد على وجود بلورات المغنتيت. والتفاعل الكيميائي
لأزواج الجذور (Radical pairs).
ويمكن أن تتواجد الآليتان جنبًا إلى جنب لأغراضٍ مختلفة، كما
يُتوقَّع عملهما في الطيور (Wiltschko et al., 2006). أو أنهما
تكونان منفصلتَين كلٌّ في نوعٍ مختلف من الأحياء
(Thalau et al., 2006). كما لا يُستبعَد
احتمالُ عملهما بصورةٍ مشتركةٍ في تركيب مستقبل
(Qin et al.,
2015).
وكان Johnsen & Lohmann
(2008) قد رجَّحا وجود ثلاث آلياتٍ لتحسُّس المجال
المغناطيسي؛ الفيريمغناطيسية والتحفيز الإلكترومغناطيسي والتفاعل
الكيميائي المكوِّن لأزواج الجذور. كلها تعتمد على أحد الأسس
التالية؛ تضخيم التأثير المغناطيسي، أو استخدام مادةٍ عالية
الحساسية للمغناطيسية، أو عزل المنظومة عن الحمام الحراري (Thermal bath).
شكل ١١-٣: البكتيريا الممغنطة التي تحتوي على سلسلة
من الأجسام المغناطيسية. الشكل في المربع يوضِّح
تفاصيل الجسم المغناطيسي. عن:
(Schuler,
2008).
شكل ١١-٤: نموذجان افتراضيان لتحويل الطاقة
الكهربائية إلى قوةٍ فيزيائية عن طريق فتح قناة
الأيونات الموجبة في غشاء الخلية ممكنًا من الإشارات
العصبية. تجمُّعات من بلورات المركَّبات المغناطيسية
(يسار) مرتبطة ببوابة قناةٍ متحسِّسة للقوة بواسطة
خويطٍ من الهيكل الخلَوي تتحرك على طول قوة المجال
المغناطيسي الأرضي. وسلسلة من بلورات المركَّبات
المغناطيسية لها عزمٌ ثابت تدور حسب المجال المغناطيسي
الخارجي (يمين) ويقوم الخويطُ بنقل العزم إلى القناة
الأيونية. عن: Vacha
(2019).
تتضمَّن وجود المغنتيت (Magnetite) أوكسيد الحديد الأسود وغيره من
مركَّبات الحديد؛ لشدة تفاعلها مع المجال المغناطيسي. هذه
المنظومة تُوجد في الهائمات والبكتيريا؛ حيث تكون بهيئة سلاسلَ
من بلوراتِ المواد الفريمغناطيسية بشكل مغنتيت
(Fe3O4)
أو غريغيت
(Fe3S4)
نانوية الأبعاد (شكل ١١-٢). كما وُجدَت
هذه المواد المغناطيسية في حشرات نحل العسل والطيور وسمك
السلمون وسلاحف البحر وغيرها (Shaw et al., 2015).
تُعتبَر هذه المواد خيارًا طبيعيًّا لعمل بوصلة؛ كونها ذاتَ
قدرةٍ عاليةٍ على التفاعل مع المجالات المغناطيسية التي تُحدِث
ترتيبًا للفِّ المغزلي للإلكترونات. يؤثِّر المجال المغناطيسي
بقوة على هذه المنظومة بحيث يجعل الخلية تدورُ حول نفسها. كما
أن للمجال المغناطيسي مركبةً عمودية تتحسَّسها الخلية؛ حيث
تُحدِّد بواسطتها العمق من أجل إيجاد منطقة التركيز المناسب
للأوكسجين. هذه الآلية تتضمن وجود قناةٍ حسَّاسةٍ للحركة
ومرتبطة ببلورات المغنتيت التي هي أيضًا مرتبطةٌ بغشاء الخلية.
تعمل سلسلة بلورات المغنتيت كإبرة البوصلة؛ حيث تتراصَف مع
المجال المغناطيسي الأرضي، مسلطةً عزمًا على القناة الحساسة
حركيًّا حيث تنشِّطها مؤديةً إلى تدفُّق أيوناتٍ موجبة ولا
استقطابية لغشاء الخلية (Nordmann et al., 2017) (شكل
١١-٣) مؤدية إلى تحسُّس المجال المغناطيسي
والحركة نحو المناطق الأكثر مناسبةً للحياة.
انطلاقًا من عدم امكانية الفصل بين الكهربائية والمغناطيسية،
فمن الممكن قيام تركيب معين بتحويل المعلومات حول المجال
المغناطيسي الأرضي إلى محفز كهربائي (Nordmann
et al.,
2017).
تعتمد هذه الآلية على الحساسية الفائقة لتحسُّس الكهربائية
والموجودة في بعض الحيوانات البحرية؛ مثل أسماك القرش وسمك
الشفنين وغيرها. وتعتمد هذه الآلية على قوة لورينز
(Lorentz force) حيث إن حركة
قضيبٍ موصِّل خلال مجالٍ مغناطيسيٍّ تُولِّد توزُّعًا غير
منتظمٍ للشحنات؛ فلو غُمر القضيب في وسطٍ مُوصِّل حيث يكون
ثابتًا بالنسبة إلى المجال، تتكوَّن دائرةٌ كهربائية. تمتلكُ
هذه الحيوانات البحرية بضع مئاتٍ من قنواتٍ طويلة تبدأ من
فتحاتٍ صغيرة على الجلد وتنتهي داخل الجسم. لهذه القنواتِ
جدرانٌ مقاومةٌ للكهربائية بينما تكون ملآنة في الداخل بمادةٍ
جيلية، عالية التوصيل للكهربائية، وهكذا تعمل كقابلوات
كهربائية. في نهاية القنوات تُوجد أمبولات من مجمَّعات خلايا
لورينزيني (Lorenzini)
الحسَّاسة للغاية للتغيُّرات الصغيرة في الفولتية (شكل ١١-٥). هذه المنظومات لا تتمكَّن من تحسُّس
التيار المستمر، لكنها تتحسَّس التيار المتناوب. قُدِّرَت عتبة
التحسُّس لهذه الآلية بحدود ٢ ميكروفولت/م، علمًا أن حركة
القرش في المياه البحرية يمكن أن تُولِّد ٢٥ ميكروفولت/م. حركة
رأس القرش إلى الأمام والخلف يمكن أن تساعد على موازنة التشويش
المُتولِّد عن الكهربائية للتيارات المائية.
ثالثًا: أزواج
الجذور Radical pairs
تعتمد هذه الآلية على العزل الفعَّال لعزم الإلكترون وعزم
النواة عن المحيط وتتضمَّن تفاعلاتٍ كيموحيوية. التفاعلات
الكيموحيوية المعتمدة على المجال المغناطيسي معروفة، غير أن
تحسُّس المجال المغناطيسي المعتمد على التفاعلات الكيميائية
يواجه تحدياتٍ مهمة؛ منها المجال المغناطيسي الأرضي الضعيف؛
حيث إنه يساوي ٥٠ ميكروتيسلا، فتحوُّل الحالات الجُزيئية
المستندة إلى انشطارات
زيمان (Zeeman splitting) هو واحد بالخمسين مليون من طاقة الحمام
الحراري kT في درجة حرارة الجسم
(١−٢٧ × ١٠ مقابل ٥ ×
١٠−٢١ جول). وهكذا فمعدَّل معظم
التفاعلات الكيميائية وتكوين النواتج سوف لا يكون حسَّاسًا
للمجال المغناطيسي الأرضي. غير أن صنفًا من التفاعلات
الكيميائية المتضمِّنة أزواج الجذور تُظهِر حساسيةً غير عادية
لقوة ووضعية المجالات المغناطيسية. كما أن مثل هذه التفاعلات
لعمل بوصلة تتطلَّب أن يكون أحد المواد المتفاعلة على الأقل،
غير متحرك، وتكون له وضعيةٌ ثابتة بالنسبة للمجال المغناطيسي.
علمًا بأن جميع الجُزيئات البيولوجية عدا التركيبية منها تدور
باستمرار حتى بروتينات غشاء الخلية. الحل جاء على يد
Klaus Schulten سنة ١٩٨٢م،
وطوِّر بعد ذلك من قِبل Thorsten
Ritz.
شكل ١١-٥: تحفيز التحسس المغناطيسي.
(a) منظر جانبي لرأس
سمك القرش يُظهِر أمبولات مُستقبِلات إلكترون
لورينزيني (النقاط الحمراء) والقنوات الملآنة بالمادة
الجيلية الموصِّلة للكهربائية (الخطوط الرمادية).
الخطوط الحمراء التي تُسمَّى الخطوط الجانبية تُستخدَم
لتحسُّس التذبذُب في الماء المحيط.
(b) مخطَّط يوضِّح
أنبوبتَين مع قنواتَيهما. مع سباحة القرش شرقًا بسرعة
v ستُسبِّب حركتُه
عَبْر البُعد الأفقي للمجال المغناطيسي الأرضي
Bh قوةً دافعةً
كهربائية عمودية بمقدار vBh. ولكون
جسم القرش وخاصة جلده عالي المقاومة الكهربائية، يؤدي
الانخفاض في الفولتية بسبب كثافة التيار
ρJ
إلى عدم وجود فرق جهد بين السطح الظهري والسطح البطني
للحيوان. لكن التوصيل الكهربائي العالي للقنوات،
يؤدِّي إلى هبوطٍ كبيرٍ في الفولتية عَبْر الأمبولات.
الخطوط السميكة السوداء تُشير إلى المجال الكهربائي
المحيط بالقرش والمُخترِق له. مُحوَّر عن:
(Johnsen & Lohmann,
2008).
حسب Hore (2011)، فإن أحدًا
لم يكن ليُصدِّق أن مجالًا مغناطيسيًّا ضعيفًا كالمغناطيس
الأرضي يمكن أن يؤثر على التحول الكيميائي لجزيئةٍ ما إلى
أخرى؛ فقوة المجال المغناطيسي الأرضي هو أضعف بمائة مرة من قوة
مغناطيس الثلاجة. والسبب يعود إلى حقيقةٍ معروفةٍ هي أن
الجزيئات في حركةٍ دائمة تصطدم الواحدة بالأخرى فتدور حول
نفسها وتتذبذب. والطاقة المصاحبة لهذه الحركات العشوائية هي
طاقةٌ حرارية وتُتخذ كمقياسٍ تُقارن بها الطاقات الأخرى كما
سبق التطرُّق إليه؛ فالأواصر الكيميائية التي تربط الذرات في
الجُزيئات، هي بحدود ١٠ إلى ١٠٠ مرة أقوى من الطاقة الحرارية
وهو ما يفسِّر عدم تكسُّرها. وهكذا فإن تعريض الجُزيئات إلى
مقاديرَ من الطاقة أصغرَ بكثيرٍ من الطاقة الحرارية سوف لا
يحقِّق شيئًا ويكون ضمن الحركة العشوائية المستمرة. وهكذا
يُفترَض أن يكون تأثير المجالات المغناطيسية؛ حيث إن الجُزيئات
المفردة هي ذاتُ مغناطيسيةٍ ضعيفة، ولا تستجيب حتى لتأثير
المغانط القوية المصنَّعة فما بالك بالمغناطيس الأرضي الضعيف؟!
لكن الواقع يخالف منطق أن المجال المغناطيسي الضعيف لا يغيِّر
الفاعلية الكيميائية. ويُقرِّب الباحث المسألة بمثالٍ بسيط؛
فلو أخذنا كتلةً منتظمة من الغرانيت بثقل ١كغم مستقرة على
الطاولة، هل ستتمكَّن قوة الذبابة الضعيفة من قلبها؟ بالتأكيد
لا. لكن لو حاولنا إيقاف قطعة الغرانيت على أحد حوافها، فإنها
تكاد لا تقف وتكون عرضةً للتأرجح. الآن وهي في هذه الحالة
الحرِجة، لو حطَّت الذبابة على قطعة الغرانيت من جهة اليمين،
فإن القطعة ستسقط على جهة اليمين كما في الشكل ١١-٦ وستكون القشَّة التي كَسرَت ظهر البعير؛
فطاقة الذبابة على ضآلتها يمكن أن تحقِّق شغلًا. أو يمكن أن
يكون للطاقة القليلة تأثيراتٌ كبيرة، بشرط أن تكون المنظومة في
الحالة المناسبة كونَها ليست في حالة التوازن.
شكل ١١-٦: لاحظ كيف يمكن لذبابة أن تُسقِط كتلةً
ثقيلةً من الغرانيت! لفهم كيف للمغناطيس الأرضي الضعيف
أن يؤثِّر على التفاعُل الكيميائي. عن:
(Hore, 2011).
في الكيمياء يمكن تطبيق هذا المبدأ باستخدام جُزيئاتٍ معينة
(تمثِّل كتلة الغرانيت في المثال أعلاه) تُنقل إلى حالة
اللاتوازن المناسبة عَبْر تجهيزها بطاقةٍ كافية. عندها سيكون
لطاقةِ المجالِ المغناطيسي الضعيفة (طاقة الذبابة في المثال)
القدرةُ على إحداث التأثير المطلوب. مثل هذه الجُزيئات هي
أزواج الجذور (Radical pairs)
التي تكون قصيرة العمر.
تتكون الجذور الحُرة في الخلايا خلال تفاعُلات الأكسدة خاصة
في ظروف الإجهاد. من أمثلتها أنواع الأوكسجين الفعَّالة مثل
H2O2
وOH−
وO.
وغيرها وجذور النتروجين الفعَّالة
NO−.
ويمكن أن تتكوَّن الجذور نتيجة تعرُّض الجُزيئة لفوتونات الشمس
مُسبِّبةً انشطارها إلى جذور. طاقة الفوتونات تُسبِّب كسر
الآصرة التي تربط ذرتَين ضمن الجُزيئة، وحيث إن الآصرة
الكيميائية هي رابطةٌ من إلكترونَين؛ فعند كسرها سيكون كل
إلكترون في أحد جذرَين، وبذلك سيتكوَّن زوجُ جذور في كل مرة.
وحيث إن الإلكترونَين المنفصلَين نتيجة كسر الآصرة هما في حالة
تشابُكٍ كمومي (Entanglement)،
فإنهما سيبقيان كذلك بعد انفصالهما كلٌّ في أحد زوجَي الجذر.
وهكذا يكون الجذر (Radical) هو
جُزيئة بعددٍ فردي من الإلكترونات. الزوج جذر
(Radical pair) لا يعني ببساطة
زوجًا من الجذور الكيميائية، وإنما زوج جذرَين متشابكَين
كموميًّا.
من المعروف في ميكانيك الكم أن الإلكترون كونَه جسيمًا تحت
ذريٍّ يدور حول نفسه إضافة لحركاته الأخرى. هذا البَرم أو
الدوران يُسمَّى البَرم المغزلي
(Spin) ويمتلك عزمًا
مغناطيسيًّا. البَرم المغزلي يكون عند مراقبته أو قياسه (فك
التماسك Decoherence) مع اتجاه
عقرب الساعة أو ما اصطُلح عليه «أعلى Up» أو أن يكون باتجاه عكس عقرب الساعة أو
«أسفل Down». وعند عدم
مراقبته (حالة التماسُك
Coherence) فإنه يكون في حالة
تراكُبٍ كمومي (Superposition)
حيث يكون العزم المغزلي بالاتجاهَين في الوقت نفسه. وحيث إن
كلًّا من الإلكترونَين المتشابكَين يتبعان أحد الجذرَين، سيكون
لكل جذرٍ عزمٌ مغزلي؛ لذلك يمكن أن تتأثَّر حالة العزم المغزلي
بالمجالات المغناطيسية. الإلكترونان المنفردان الموجودان كلٌّ
في أحد الجذرَين، يمكن أن يكون لهما عزمٌ مغزليٌّ متعاكس
(منفرد، غير متوافق ↓↑) أي في
حالةِ عزمٍ مغزليٍّ واحدة
(Singlet) كأن يكون أما أعلى
أو أسفل، أو لهما العزم المغزلي نفسه (ثلاثي
Triplet، متوافق
↑↑) في ثلاثِ حالاتٍ محتملةٍ
أعلى أو أسفل، أو الاثنَين معًا (في حالة تراكُبٍ كمومي)
(Hore & Henrik, 2016).
كما أن الجذرَين يكونان في حالةِ تراكُبٍ كموميٍّ حيث يمكن أن
يكونا في الحالة المنفردة والثلاثية في نفس الوقت. لتوضيح هذه
المسألة فإن للإلكترون عزمًا مغزليًّا يساوي ١ / ٢، فعندما
يكون لزوجِ الإلكتروناتِ عزمٌ مغزليٌّ متعاكس
↓↑، فإن ١ / ٢ − ١ / ٢ = ٠
وهذا ما يُعبَّر عنه بحالة العزم المغزلي المنفردة. لكن عندما
يكون العزم المغزلي للإلكترونَين بالاتجاه نفسه
↑↑ يصبح: ١ / ٢ + ١ / ٢ = ١.
يغيِّر التأثيرُ المغناطيسي البرمَ المغزلي من الحالة المنفردة إلى الحالة الثلاثية (Tarlacı &
Pregnolato, 2015). وهكذا ستكون ثمَّة ثلاثُ
حالاتٍ محتملة (McFadden & Al-Khalili,
2014). تحصُل التفاعُلات الكيميائية حسب قاعدة
هوند (Hund’s Rule) بتكوين
الآصرة فقط بين إلكترونَين لهما عزمٌ مغزلي متعاكس. وعندما
تُكسر الآصرة بحالةٍ معيَّنة كأن تتعرَّض إلى فوتونات، يتموضع
كل إلكترون في جُزيئةٍ معيَّنة، وبذا ينشأ الزوج الجذري،
ويحتفظ كل إلكترونٍ بعزمه المغزلي الأصلي؛ أي كما في الحالة
المنفردة؛ لذلك يمكن أن يُعاد تكوين الآصرة بسهولة. الحالة
الثلاثية (التراكب) تُعجِّل تفاعُل الجذر وتكوين الناتج، بينما
تكون الحالة المنفردة في وضعيةِ توازُن بين المواد المتفاعلة
والناتج. غير أن تأثير المجال المغناطيسي يمكن أن يغيِّر العزم
المغزلي لأحد إلكترونَي الجذر المتعاكِسَي الاتجاه، وبذلك
يُحوِّل الحالة المنفردة إلى ثلاثية (تراكُب)
(Hore & Henrik, ؛2016 Maria,
2011). وحسب تعبير Hore
(2011) يمارس زوجُ الجذر رقصةً معقدة تتمثل
بالتذبذب بين الحالة المنفردة والحالة الثلاثية وبالعكس ملايين
المرات في الثانية. وهذا يحصُل نتيجةَ التماسُك الكمومي للبَرم
المغزلي للإلكترونَين. وحيث إن الحالة المنفردة والحالة
الثلاثية متماثلتان طاقيًّا، لكنهما غير متساويتَين
احتماليًّا، فإن مجال المغناطيس الأرضي رغم ضعفه (أقل من ١٠٠
ميكروتيسلا) سيؤثِّر في توقيتات ومَدَيات هذه الرقصة، مثلما
غيَّرَت الذبابة وضعيةَ كتلة الغرانيت في المثال السابق. وهكذا
سيعمل المجال المغناطيسي على ترجيحِ احتمالاتِ ناتج هذا
التفاعُل أو ذاك. وإذا كان ذلك يعتمد على وضعية زوج الجذر؛
فسيكون ذلك تحسُّسًا للاتجاه من خلال تحسُّس التغيُّر في كميةِ
أحدِ نواتجِ التفاعُل (شكل ١١-٧).
شكل ١١-٧: رسمٌ تخطيطيٌّ لآلية زوج الجذور للتحسُّس
المغناطيسي. (a) في
الجُزيئات المتخصِّصة باستلام الفوتونات
(الكربتوكرومات) يقوم الضوء بعملية نقل إلكترون بين
الجُزيئات المانحة (D)
والجُزيئات المستقبِلة
(A) مُولدًا زوجَ جذرٍ
في الحالة المنفردة (سهام
↓↑) أو الحالة
الثلاثية (سهام ↑↑).
التحوُّل المتبادَل بين الحالة المنفردة والحالة
الثلاثية (السهام الزُّرق) تتغيَّر تحت ظروف المجال
المغناطيسي المختلفة (كمثال، وضعية
A)
(OA) أو
B
(OB) والتي بدورها
تُغيِّر نسبةَ نواتجِ الحالة المنفردة إلى نواتج
الحالة الثلاثية (معبَّر عنها بحجم السهام السفلية).
(b) الضوء الداخل إلى
العين (مثلًا الشعاعَين
A
وB) يسير تكوين زوج
جذور في جُزيئات الكربتوكروم موجَّهةً طبيعيًّا على
سطح الشبكية (سهام خضر) في الموقعَين ١ و٢ واللذَان
هما موجَّهان بزوايا مختلفة
(u) نسبةً إلى المجال
المغناطيسي الخارجي (الخطوط الزُّرق). عدم التجانُس في
تكوين زوج الجذور عَبْر سطح الشبكية يُمكِن أن يؤدِّي
إلى إسباغ انطباعٍ إضافيٍّ للمجال المغناطيسي لنظَر
الحيوان. مُحوَّر عن: Shaw et al.,
(2015).
للبحث عن موقعِ وجودِ
تفاعُل هذه الجذور الحرة التي تتحسَّس المجال المغناطيسي
الأرضي، استعرض McFadden & Al-Khalili
(2014) محاولاتِ العلماء لتحديده؛ فقد اعتقد
Klaus Schulten وهو منطقي في
ذلك أن يكون هذا الموقع هو الدماغ. وفي محاضرة ألقاها
Schulten سنة ١٩٧٨م، بيَّن أن
فريقه تمكَّن من تكوين زوج جذورٍ متشابكةٍ باستخدام أشعة
الليزر. ومن الحاضرين كان حائز جائزة نوبل في الكيمياء فيما
بعدُ Dudley Herschbach الذي
سأل عن موضع الليزر في الطيور، فكان الجواب المنطقي هو عين
الطير باعتبارها المسئولة عن تحسُّس الإشارات الضوئية. وقبل
ذلك اقترح Mike Leask سنة
١٩٧٧م، أن مصدَر التحسُّس المغناطيسي يقع في المُستقبِلات
الضوئية في العين. متأثِّرًا بهذه النتائج، أجرى
Wolfgang Wiltschko تجاربَ على
الحمام الزاجل Columba
livia domestica حيث بيَّن أن
تشويش المجال المغناطيسي أدى إلى عدم قدرة هذه الطيور في
الاهتداء إلى مواقعها الأصلية. كما أن نقل هذه الطيور في
صندوقٍ مظلمٍ دون تشويش المجال المغناطيسي، أدى أيضًا إلى
صعوباتٍ في عودة الطيور عند إطلاقها إلى المواقع الأصلية؛ ما
يعني أن الضوء ضروريٌّ لرسم الخارطة المغناطيسية لها.
سنة ١٩٩٨م، تم اكتشاف البروتين الصبغي كربتوكروم
(Cryptochrome) في عيون حشرات
ذباب الفاكهة Drosophila ودَورَه في الإيقاع
اليومي (Circadian rhythm)
المعتمد على الضوء. الكربتوكرومات
(Cryptochromes) هي بروتيناتٌ
فلافينية تعمل كمستقبِلاتٍ ضوئية، شُخِّصَت أولا في النبات
النموذجي الخردل Arabidopsis thaliana حيث تلعب
أدوارًا مهمةً في النمو والتميُّز، ثم تم تشخيصها في الأحياء
البدائية النواة، والعديد من الأحياء الحقيقية النواة. وتعمل
هذه المركَّبات في الإيقاع اليومي للحيوانات، والتحسُّس
المغناطيسي في الطيور المهاجرة. والكربتوكرومات شديدة القرب من
الإنزيمات المُحللة ضوئيًّا
Photolyases التي هي تطوُّر
بروتيناتٍ فلافينية قديمة تحفِّز تصليح
اﻟ DNA المعتمد على الضوء
(Chaves et al., 2011). وكان
Henbest et al., (2008) قد أشاروا إلى أن
المجال المغناطيسي يؤثِّر على زوج الجذور المتكوِّن ضوئيًّا من
الفلافين-تربتوفان في اﻟ
Photolyases في البكتيريا
Escherichia
coli.
وُجدَت أربعةُ أنواعٍ من الكربتوكرومات في عيون الطيور هي:
Cry1a
وCry1b
وCry2
وCry4. وتشير المُعطَيات إلى
أن Cry1a هو الجُزيئة
المستقبِلة للضوء والمحدِّدة للاتجاه Wiltschko
& Wiltschko, (2019).
أثبت الباحثون Zeng et al., (2018) الاستجابة
المغناطيسية لكربتوكروم ١ المثبَّت على قطبٍ كهربائيٍّ من
الذهب عند تعريضه للضوء الأزرق. وباستخدام جهاز قياس الفولتية،
قدَّموا الدلائل على تحفيز المجال المغناطيسي لنقل الإلكترون
المُحفز ضوئيًّا من الكربتوكروم ١ إلى القطب المغناطيسي مظهرًا
معدَّلَ استجابةٍ مغناطيسيًّا ثابتًا وتيارًا كهربائيًّا
متغيرًا. كما أن آلية نقل الإلكترون المتضمِّنة تكوين جذورٍ
مُحفزة ضوئيًّا في الكربتوكروم تكون حسَّاسة للمجال المغناطيسي
الضعيف. وإن الجذر الحر الطويل البقاء هو المسئول عن تيار فاراداي الإلكتروكيميائي
الذي تم كشفُه. وكمُستقبِل للضوء، فإن كشف وجود معدَّلٍ ثابتٍ
تغيَّر بنسبة ٥٫٧٪ بنقل الإلكترون مقابل مجالٍ مغناطيسيٍّ ٥٠
ميكروتيسلا له معنًى مهمٌّ في إشارات المجال المغناطيسي،
وعملية الإيقاع اليومي تحت تأثير المجال المغناطيسي.
ومعروف أن الكربتوكروم يمكن أن يُكوِّن جذورًا حرة عند
تفاعله مع الضوء. سنة ٢٠٠٠م، نشَر فريق
Schulten بضمنهم
Thorsten Ritz
(Ritz et al., 2000) بحثًا مهمًّا
حدَّدوا فيه الكربتوكروم على أنه المُستقبِل الذي يعمل في
البوصلة المغناطيسية للطيور. كما أن تحديد موقع الطيور في مجال
المغناطيس الأرضي يعتمد على الرؤية.
يعتمد عملُ هذه المنظومة على امتصاصِ فوتون من الضوء الأزرق
من قِبل جُزيئة الصبغة الحسَّاسة للضوء
FAD الموجودة في جُزيئة
البروتين كربتوكروم حيث يعاني تفاعلاتِ أكسدة-اختزال. تُستخدَم
طاقة الفوتون لإطلاق إلكترونٍ من إحدى ذراتِ جُزيئة
FAD مخلِّفة فراغًا
إلكترونيًّا ليتكوَّن شبه الكينون
FADH° مُكوِّنًا الجذر الأول.
هذا الفراغ يمكن أن يُملأ بإلكترونٍ آخر يُمنَح من زوجٍ من
الإلكترونات المتشابكة كموميًّا في جُزيئة الحامض الأميني
تربتوفان (Tryptophan) ضمن
جُزيئة الكربتوكروم حيث يعاني مزيدًا من الاختزال الضوئي
مُكوِّنًا FADH− والذي ستُعاد
أكسدتُه بمعزلٍ عن الضوء. وخلال هذه العملية يتكوَّن الجذر
الثاني Wiltschko & Wiltschko,
(2019). مع التشديد على أن الإلكترونَين
يبقيان متشابكَين كموميًّا (شكل ١١-٨).
وهكذا يمكن لهذَين الإلكترونَين أن يُكوِّنا حالاتِ تراكُبٍ
منفردة (Singlet)/ثلاثية (Triplet) والتي هي المنظومة
الكيميائية الفائقة الحساسية للمجال المغناطيسي، والتي سبق
الحديث عنها والتي يتمكَّن الطير بواسطتها من تحديد موقع القطب
المغناطيسي الأقرب.
شكل ١١-٨: الكربتوكروم
(Cryptochrome) هو
المستقبِل المغناطيسي المعتمد على زوج الجذور.
(a) المكوِّنات
الرئيسة لهذه الصورة المظهرة للكثافة الإلكترونية هي
حامل الصبغة فلافين أدنين ثنائي التيوكليتيدات
Flavin adenine dinucleotide
(FAD) وثلاث جُزيئات من الحامض
الأميني تربتوفان
(Tryptophan) المشتركة
في اختزال حامل الصبغة المذكور إلى
FADH.
(b) بعد إثارة
الكربتوكروم بواسطة فوتون الضوء الأزرق، ينتقل الفراغ
من FADH عَبْر سلسلة
وحدات الحامض الأميني تربتوفان (خطوات التفاعُل موسمة
بثوابت الزمن، والتربتوفان بزمن بقاء حالة جذورها).
البَرم المغزلي للإلكترون
S1
وS2 يسبق المجال
المغناطيسي الموضعي المتكوِّن بفعل المجال المغناطيسي
الخارجي B ومساهمة
I1
وI2 من البرم المغزلي
النووي على الجذرَين. إرجاع الفراغ من تربتوفان ٣٢٤
إلى FADH يُخمِد
الحالة الفعَّالة للكربتوكروم لكن ذلك يحدُث فقط عندما
يكون البرم المغزلي لإلكترونَي الجذرَين في الحالة
المنفردة (singlet).
عن: Johnsen & Lohmann
(2008).
تمكَّن Liedvoge et al., (2007) من عزل
الكربتوكروم (Cryptochrome 1a)
من شبكية طائر الدخلة Sylvia borin بطُرقٍ جُزيئيةٍ
وأثبتوا أن هذه الفلافوبروتينات تُستثار فعلًا بواسطة الضوء في
الطيف الأزرق مؤديةً إلى تكوين الجذور الحرة وفترةُ بقائها
بحدود الملي ثانية (ms)،
ومؤكِّدين أن هذه الخواص البيوفيزيائية تُرشِّح هذا البروتين
كوسيطٍ ضوئيٍّ أساسي نموذجي، وكمُستقبلِ بوصلةٍ مغناطيسيةٍ
تعتمد أزواج الجذور.
ويُشير Wiltschko & Wiltschko
(2014) إلى أن
Cry1a في عين الدجاج وطيور أبو
الحناء الأوروبي، يُوجَد في أغشية الأقراص في الأجزاء الخارجية
لمخاريط UV−. وتُبيِّن
الدراسات النسيجية المناعية أنها تنشَط بالأطوال الموجية من
الضوء، التي تسمح بتوجيه البوصلة المغناطيسية في الطيور.
ويُظهِر الشكل ١١-٩ وجودَ هذا البروتين في
الشبكية واستجابتَه للأطوال الموجية المختلفة من الضوء.
شكل ١١-٩: كمية كربتوكروم
Cry1a المُنشط والموسم
بمصلٍ مضادٍّ معيَّن في شبكية عين الدجاج بعد تعريضه
للضوء بأطوالٍ موجيةٍ مختلفة.
UV: ٣٧٣ن م
UV, B: ٤٢٤ن م ضوء
أزرق، T: ٥٠٢ن م ضوء
تركواز، G: ٥٦٥ن م ضوء
أخضر، Y: ٥٩٠ن م ضوء
أصفر، R: ٦٣٥ن م ضوء
أحمر. عن Wiltschko & Wiltschko
(2014).
علاوةً على تأكيد Stapput et al., (2010) على
اعتماد البوصلة المغناطيسية للطيور في تحديد اتجاهات طيرانها
على الضوء؛ فإنهم بيَّنوا أن معلومات تحديد الاتجاه التي يحصل
عليها الطير، تتم بواسطة العين اليمنى؛ فباستخدام ورقٍ لتغطية
العين حيث تُستخدم أوراقٌ لا تشوِّش الرؤية، أو أوراقٌ
تشوِّشها بنسبة ٧٠٪، تبيَّن أن تغطية العين اليسرى بورقٍ
يشوِّش الرؤية لا يؤثِّر على تحديد طيور أبو الحناء الأوروبي
Erithacus
rubecula لاتجاهات طيرانها، لكن
تغطية العين اليمنى بورقٍ يشوِّش الرؤية يؤدي إلى تشويش قدرتها
على تحديد الاتجاه.
انتبه باحثون إلى طبيعة الضوء الذي تتحسَّسه أزواج الجذور في
البوصلة الكيميائية؛ فالأبحاث السابقة في هذا المجال تعتبر أن
الضوء الذي ينشِّط أزواج الجذور، وبالتالي عمل البوصلة
الكيميائية وتحسُّس المجال المغناطيسي، هو غير اتجاهي وغير
مُستقطب، وأن امتصاص الضوء يكون متجانس الاتجاه
(Isotropic)؛ فقد بيَّن
Muheima et al., (2016) أن ضوء السماء
الطبيعي يدخل شبكية عيون الطيور باتجاهٍ أُحاديٍّ عَبْر
القرنية والعدسات، ويكون مُستقطبًا جزئيًّا. كما أن جُزيئات
الكربتوكروم تمتص الضوء المُستقطب باتجاهٍ محدَّدٍ ما يوحي أن
البوصلة المعتمدة على الضوء هي صميميًّا حسَّاسة للاستقطاب.
وتَم إثبات هذه الفرضية بتجاربِ سلوكِ طيور الفنجز
Taeniopygia
guttata وتحسُّسها للضوء المُستقطب
وغير المُستقطب المسلَّط من أعلى؛ فقد توجَّهَت الطيور جيدًا
عند تسليط الضوء المُستقطب حيث يكون محوره موازيًا للمجال
المغناطيسي الأرضي. غير أن توجُّه الطيور يُشوَّش عند تسليط
الضوء المُستقطب بمحورٍ عمودي على المجال المغناطيسي
الأرضي.
وتُظهِر التجارب حول سلوك الطيور ثلاثَ خصائصَ لبوصلتها
المغناطيسية:
(١)
تعمل تلقائيًّا ضمن نافذةٍ وظيفيةٍ ضيقة حول شدة
المجال المغناطيسي المحيط، لكنها يمكن أن تتكيَّف مع
الشدَّات الأخرى.
(٢)
أنها بوصلة ميل (Inclination
compass) لا تعتمد على قطبية المجال
المغناطيسي، وإنما على الطبيعة المحورية لخطوط
المجال.
(٣)
تحتاج إلى ضوء بموجاتٍ قصيرة من الأشعة فوق
البنفسجية إلى اللون الأخضر ٥٦٥ن م
(Wiltschko & Wiltschko,
2014).
البوصلة المغناطيسية والبوصلة الكيميائية المعتمدة على
أزواج الجذور
Magnetic compass and radical pairs
chemical compass
حسب McFadden & Al-Khalili
(2014) فإن البوصلة المغناطيسية يمكن أن
تشوَّش بالمجال المغناطيسي المستقر، وهو ما يحصُل عند
تقريب قضيبٍ مغناطيسي، وكذلك بالمجال المغناطيسي المتناوب،
عند تعريضها إلى قضيبٍ مغناطيسيٍّ يدور بسرعةٍ بطيئةٍ
معيَّنة؛ أي بتردُّد واطئ تتمكَّن البوصلة من متابعته،
بينما يتلاشى التأثير في التردُّدات العالية.
أما البوصلة الكيميائية فهي تعتمد، كما سبق شرحه، على
حالة التراكُب الكمومي للحالة المنفردة، والحالة الثلاثية
لزوج الجذر؛ والتي ترتبط بتغيُّر الطاقة وبالتالي
بالتردُّد. هذا التغيُّر بين الحالتَين الذي يحصل بتردُّدٍ
يمكن أن يكون بملايين المرَّات في الثانية. وهكذا يُمكِن
أن تتأثَّر هذه المنظومة بتردُّد المجال المغناطيسي عن
طريق الرنين فقط، عندما يكون تردُّد المجال المغناطيسي
بنفس تردُّد زوج الجذر؛ أي أن يكونا متوافقَين. في هذه
الحالة يقوم الرنين بضخ الطاقة في المنظومة، والتي ستؤدي
إلى تغيُّر التوازُن الحرِج بين الحالة المنفردة والحالة
الثلاثية. وهذا ما تبيَّن من تجربة فريق
Ritz-Wiltschko حيث إن
تعريض الطيور إلى مجالٍ مغناطيسي بتردُّد ١٫٣ ميغاهيرتز
سبَّب تشويشًا لقدرتها على التوجُّه، بينما التردُّدات
الأعلى أو الأقل من ذلك كان تأثيرها أقل. وهكذا يبدو أن
المجال يتوافق رنينه مع شيء يتذبذب بتردُّدٍ عالٍ جدًّا في
البوصلة الكيميائية للطيور. وهكذا صار من الجلي أن هذه
البوصلة ليست بوصلةً مغناطيسيةً عادية، وإنما مع زوج جذور
متشابكة كموميًّا في حالاتِ تراكُبٍ منفردة وثلاثية.
وعزِّزَت هذه النظرية بالعديد من التجارب اللاحقة
(Kerpal et al., 2019).
ومن أجل تحقُّق هذه الظاهرة الكمومية لا بد من بقاء حالة
التشابك لميكرو ثانية على الأقل، لإتمام عمليات التقلب
لتذبذبات المجال المغناطيسي، ومن أجل تفادي فك التماسُك.
وكان Liedvoge et al., (2007) قد أشاروا إلى
فترة بقاء الجذور الحُرة في شبكية طائر الدخلة بالميلي
ثانية؛ أي ألف مرة أكثر من الحد الأدنى. وبيَّنَت الحسابات
المعتمدة على نظرية المعلومات الكمومية لمعطَيات التجارب
الخاصة ببوصلة زوج الجذور، أن ظواهر التراكُب الكمومي
والتشابُك الكمومي فيها تستمر لعشرات الميكروثانية على
الأقل، وهو وقتٌ يكفي للحيوان أن يستغلها في تحسُّس المجال
المغناطيسي الأرضي، ويحدِّد اتجاه طيرانه. كما يؤكِّد عمل
ميكانيك الكم في تحسُّس المجال المغناطيسي في
الحيوانات
(Gauger et al., 2011). وأكَّد
Fay et al., (2020) أن المقاربات
شبه التقليدية لحركيات البَرم المغزلي لأزواج الجذور، يمكن
أن توفِّر فقط وصفًا كافيًا لتكوين نواتج التفاعل غير
المتناظر، حينما لا يكون ثمَّة ارتباطُ لفٍّ مغزليٍّ
إلكتروني. وهذه الحالة من غير المرجَّح أن تتماشى مع وظيفة
تحسُّس المجال المغناطيسي. ومع أن الطرق شبه التقليدية
يمكن أن تعمل جيدًا مع أزواج الجذور القصيرة البقاء مع
ارتباط لفٍّ مغزليٍّ أقوى، والتي يمكن معها معاملة
التآثُرات الفائقة الدقة كاضطرابات، يبدو أن المحاكاة
الصحيحة لتأثيرات المجال المغناطيسي غير المتناظر المناسبة
للتحسُّس المغناطيسي، تحتاج إلى حسابات ميكانيكا الكم
الكاملة؛ لذلك يستنتج الباحثون أن التحسُّس المغناطيسي
للطيور بأزواج الجذور، له مكانٌ حقيقيٌّ في البيولوجيا
الكمومية.
هذه النتائج حفَّزَت البحث في هذا الموضوع، وتم الكشف عن
التحسُّس المغناطيسي في أنواعٍ كثيرةٍ من الطيور بما فيها
غير المهاجرة؛ مثل الفنجز Taeniopygia
guttata
(Pinzon-Rodriguez & Muheim,
2017) والحمام الزاجل
Columba livia
domestica
(Wiltschko and Wiltschko, 1981;
1998) والكركند الشوكي والراي اللسَّاع
وأسماك القرش والحيتان والدلافين والدجاج
Gallus
gallus وحشرات النحل والصراصر
والميكروبات. هذه النتائج تشير إلى أن وجود نظام كهذا في
هذا الطيف الواسع من الحيوانات؛ يعني أنه نتاجٌ تطوُّريٌّ
لمئات الملايين من السنين وربما أكثر. إنه مثالٌ رائع
لاكتشاف وتطبيق الأحياء لأهم ظواهر ميكانيك الكم
(McFadden & Al-Khalili, 2014;
Hiscock et al.,
2016).