الضوء كما هو معروف، هو
المصدر الأساس للطاقة، وفي الوقت نفسه يوفِّر معلوماتٍ مهمة عن
البيئة، تشمل تفاصيلَ عن المكان والزمان. في الحيوانات والنباتات
والفطريات يتحكَّم الضوء بالإيقاعات اليومية (Circadian rythms) لهذه الأحياء؛ حيث تُضبط
فعالياتها الأيضية على أساسه. وفي البكتيريا ينظِّم الضوء استجابات
الإجهاد والحركة والاتصال وتكوين الأيضات الثانوية أو المضادات
الحيوية. لاحظ Maresca et al., (2019) أن البكتيريا المائية
Actinobacteria وهي رمِّيَّة
التغذية، تنمو أسرع في الضوء حيث تربط هذا النشاط الأيضي بنشاط
أحياءِ التركيب الضوئي، الذي يكون مُنتِجًا للموادِّ العضوية أثناء
النهار. ووجدوا أن هذه البكتيريا تتحسَّس الضوء بواسطة
الكريبتوكروم من نوع CryB.
وفي بعض الأوَّليَّات؛ مثل اليوغلينا والكلاميدوموناس، وهي أحياء
وحيدة الخلية، تُوجد نقطةٌ عينية برتقالية اللون (شكل ١٢-١). الانتحاء الضوئي الإيجابي باتجاه مصدر الضوء
أو الانتحاء الضوئي السلبي بعيدًا عن مصدر الضوء، مهمٌّ جدًّا
لحياتية هذه الأحياء؛ فالنقطة العينية ليست هي مستقبل الضوء، لكنها
كتلة من صبغة الكاروتين تُغطِّي مستقبِل الضوء من جهةٍ
واحدة.
شكل ١٢-١: الكلاميدوموناس Chlamydomonas
rheinhartii (يسار) واليوغلينا
Euglea
gracilis (يمين). عن:
Williams (2016).
في اليوغلينا المستقبِل الضوئي هو كتلةٌ مضغوطة جيدًا من بروتينٍ
شبيه بالرودوبسين يقع بعد النقطة العينية، ويمتص الضوء في طيف
٥٠٠–٥٢٥ن م.
تتألَّف النقطة العينية في الكلاميدوموناس من أغشية ثالاكويد
وطبقاتٍ غنية بكرياتٍ غنية بالكاروتين. ولهذا الكائن الحي حاملُ
صبغةٍ مرافق للفلافين حسَّاس إلى اللون الأزرق بطيف ٤٤٠ن م
(Williams, 2016).
في الحيوانات المتطورة تمثِّل العين منظومةً ضوئيةً معقدة جدًّا،
تجمع الفوتونات من البيئة المحيطة، تنظِّم كثافتها بواسطة
الحجاب (Diaphragm) وتركِّز
الفوتونات بواسطة مجمع عدساتٍ قابلة للتحكُّم، ثم تُوصلُها إلى
الشبكية التي تحوِّلها إلى إشاراتٍ كهربائية. هذه الإشارات
الكهربائية تُرسل عَبْر مسارٍ معقَّد يربط العين بالقشرة المسئولة
عن الرؤية وغيرها من المناطق في الدماغ، وأخيرًا تقدح ما يعرف ﺑ
«الرؤية الواعية». الشبكية التي تقع في مؤخرة العين هي طبقةٌ
حسَّاسة للضوء، وتحتوي على نوعَين من مُستقبِلات الضوء؛
المخاريط (Cones) والقضبان (Rods). المخاريط وهي خلايا تكون
حسَّاسة للألوان، وعددها يبلغ حوالي ٦ مليون مخروط، ويمكن تمييزها
إلى «حمراء» ٦٤٪ و«خضراء» ٣٢٪
و«زرقاء» ٢٪. هذه التراكيب تكون مسئولةً عن الرؤية العالية
التفريق. القضبان عددُها أعلى بكثيرٍ من المخاريط؛ حيث تكون في عين
الإنسان بحدود ١٢٥ مليونًا، كما أنها أعلى حساسيةً للضوء من
المخاريط بحدود ١٠٠٠ مرة، لكنها أقلُّ حساسيةً للألوان. القضبان
تكون مسئولةً عن الرؤية المتكيِّفة مع الظلام بعد ٣٠ دقيقة من
التعرُّض للظلام، والتي يمكن أن تتحسَّس الفوتونات المفردة
(Pizzi et al.,
2016).
(٢) تأثير الفوتون المفرد في الأحياء
Effect of single photon in living
organisms
الجسيمات المفردة كالفوتونات لها تأثيراتٌ مباشرة في تركيب
الجُزيئات البيولوجية المفردة، كما يحصل في جُزيئات الشبكية حيث
تغيِّر هذه الجُزيئات ترتيبها عند امتصاصها لعددٍ قليلٍ من
الفوتونات، وما يترتَّب على ذلك من حساسيةٍ كبيرةٍ للضوء، كما في
بروتينات الرودوبسين؛ ما يجعل العين من أفضل العدسات على الإطلاق.
بعض الباحثين عَدَّ العين كآلة قياسٍ كمومية (Rieke
& Baylor; Chakravarthi et al., 2008; Devi et al., 2008; Khoshbin-e-Khoshnazar,
2014).
من المعروف الدور الذي يلعبه البروتين رودوبسين الموجود في
الشبكية في المراحل الأولى من عملية الرؤية باعتباره مادةً فعالةً
ضوئيًّا.
شكل ١٢-٢: مستقبلات الرؤية.
(a) مقطعٌ عرضي في العين
يُظهِر العدسة والقزحية والخلايا العصبية على اليمين.
(b) تحتوي الشبكية في
الحيوانات على ملايين الخلايا المستقبِلة القضبانية
والمخاريط. يُظهِر الشكل أشكالَ وترتيبَ الخلايا القضبانية
والمخاريط. (c) الأقراص في
الخلايا المخروطية والقضبانية. هذه الأقراص تكون مجوَّفة
وتتألَّف من أغشيةٍ مشبعةٍ بالبروتين المُستقبِل للضوء
رودوبسين في حالة الخلايا القضبانية، وبضع أنواعٍ من
بروتينات إيودوبسين (Iodopsin) في حالة المخاريط. تم إبراز
الرودوبسين في الشكل. (d)
يمتص الضوء بواسطة الراتينال (أحمر) الجُزيئة الحاملة
للصبغة تقع داخل الرودوبسين (الأنبوبة الزرقاء والسطح
الرمادي)، والتي بدورها تقع في الغشاء الدهني (بني).
الراتينال المثار بالضوء يعاني تفاعُل أزمرة قادحًا إشارة
رؤية. عن: Schulten & Hayashi
(2014).
يعمل الرودوبسين عند تفاعله مع الفوتونات في تحويلِ المجاميعِ
الملحقة به من وضعيةِ cis إلى
وضعيةِ trans، وهذه تُحدِث تأثيرًا
في العصب البصري الذي ينقل الإشارة إلى الدماغ، ومعالجتها لتتشكَّل
الصورة. بيَّن الباحثون Schoenlein et al., 1991 أن عملية
التحوُّل هذه تحصُل خلال ٢٠٠ فمتوثانية فقط؛ ما يجعلها ضمن فترة
التماسُك الكمومي؛ حيث تكون فتراتُ فك التماسك الكمومي بمدَيَات
البيكو أو النانوثانية. كما أكَّد Wang et al. (1994) المبدأ
ذاته في تجاربَ مماثلة. وبيَّن Johnson et al. (2017) أن
التفاعلات الكيموضوئية الفائقة السرعة في الرودوبسين تبدأ
بتحوُّلاتٍ اهتزازيةٍ من الحالة القاعية للمواد المتفاعلة إلى
الحالة المُحفزة بالأنماط الاهتزازية؛ فالتفاعلات الكيموضوئية
الأوَّلية في الرؤية هي أزمرة بروتين الشبكية الرودوبسين وتكون
تفاعلاتٍ اهتزازيةً متماسكة، لكن عوامل
Franck-Condon المسئولة عن بدء
التفاعُل التي يصعُب حلُّها باستخدام الطرق المعتادة، أمكن حلُّها
باستخدامِ مطيافِ الفوتون الثنائي الأبعاد.
حسب Tinsley et al., (2016) فإن التجارب التي
أُجريَت في أربعينيات القرن العشرين، أثبتَت قدرة الناس المدرَّبين
على الظلمة تحسُّس الإشارات الضوئية لحد عددٍ قليلٍ من الفوتونات.
غير أن قدرة الإنسان على تحسُّس الفوتون المفرد بقيَت غير معروفة،
بسبب الضوضاء التي تُرافِق عملية الرؤية في جميع مراحلها، وكذلك
التقنيات المستخدمة خاصةً الضوء من مصادرَ تقليدية. لكن استخدام
ضوءٍ منخفض التغيُّرات الإحصائية سيُزيل تلك الضوضاء المحدِّدة
لتحسُّس المستويات المنخفضة من الضوء. وباستخدام فوتوناتٍ مفردة
بطاقة ٤ × ١٠−١٩ ~ جول، وهي تمثِّل
أضعف إشارةٍ ضوئيةٍ كمومية، تَم إثباتُ قدرة العين البشرية على
تحسُّس الفوتونات المفردة باحتماليةٍ مهمةٍ أعلى من الصدفة. كما
بيَّنَت التجربة أن امتصاص الضوء تحت هذه الظروف يُحدِث تغييرًا في
عملية الاكتساب لنظام الرؤية يتصف بتطورٍ زمنيٍّ يستمر لثوانٍ.
وأكَّد Holmes et al., (2018) أن ملايين الخلايا
القضبانية يتمكَّن كلٌّ منها على تحسُّس الفوتون المفرد.
استعرض Schulten & Hayashi
(2014) البيولوجيا الكمومية للراتينال (Retinal) باعتباره حاملَ صبغةٍ
بيولوجية، معروفًا دوره كمُستقبِل للضوء في الأشكال العليا للحياة،
كما أنه يعمل كهوائي في تحويل طاقة الضوء والانتحاءات الضوئية في
البكتيريا. يُوجد حامل الصبغة في بروتينات الشبكية المختلفة أهمها
مُستقبِل الضوء الرودوبسين (Rhodopsin) ومضخَّة البروتون المسيرة ضوئيًّا
الرودوبسين
البكتيري (Bacteriorhodopsin). يُظهِر الراتينال قدرةً عالية على تكييف
خواص امتصاصه الطيفية، والاختيار الدقيق لنواتجه الضوئية، والتي
تُوجَّه بواسطة بروتينات الشبكية.
الرودوبسين بروتينٌ غشائي (مرتبط بغشاء الخلية) في الخلايا
القضبانية في شبكية عيون الحيوانات، ويحتوي على جُزيئة راتينال
كحاملةِ صبغةٍ محاطةٍ بسبعة لوالبَ غشائيةٍ للبروتين (شكل ١٢-٢).
يعمل الرودوبسين كبروتينٍ مُستقبِلٍ للرؤية الأُحادية اللون خاصة
في الظُّلمة. أما بروتينات الشبكية المناظرة الأخرى وهي
الأيودوبسينات، فتُوجد في خلايا المخاريط، وتعمل كمستقبِلاتٍ لرؤية
اللون في ضوء النهار. تعمل بروتينات راتينال أيضًا في بعض أنواع
البكتيريا كمضخَّات بروتون، مسيرة ضوئيًّا، والتي تحافظ على الجهد
الكهربائي لغشاء الخلية كما في حالة الرودوبسين البكتيري، أو
كمتحسِّساتٍ ضوئيةٍ في الانتحاءات الضوئية البكتيرية.
كل بروتينات راتينال متشابهة تركيبيًّا؛ حيث تتألَّف من سبعة
لوالب، وحامل الصبغة يرتبط مع الحامض الأميني لايسين كمجموعةٍ
جانبية. آليات التنشيط الضوئي لوحدات بروتين الراتينال تتضمَّن
تفاعُل أزمرة ضوئيًّا وعملياتٍ كمومية.
(٣) الراتينال في الرودوبسين والرودوبسين البكتيري
Ratinal in Rhodopsin and
bacteriorhodopsin
شكل ١٢-٣: التركيب الكيميائي لحامل الصبغة راتينال
المرتبط بالحامض الأميني لايسين بواسطة قاعدةِ شيف
بروتونيةٍ لبروتون التحسُّس رودوبسين. ذرة النتروجين في
الآصرة تكون بروتونية. هيكل البوليين للراتينال ينتهي في
جهة اليمين بقاعدة شيف البروتونية وفي الجهة اليسرى بحلقة
-ionone. الأواصر المزدوجة مرسومة بشكل خطَّين
مزدوجَين، مثل آصرة ١١-١٢ تُظهِر حاجز طاقةِ التواء عاليًا
جدًّا تمنع التحوُّل التلقائي
٠º١٨٠º. أما
الأواصر الأحادية فتُظهِر حاجزَ طاقةِ التواءٍ منخفضًا.
عن: Schulten & Hayashi
(2014).
يُظهِر الشكل ١٢-٣ التركيب الكيميائي لحامل
الصبغة راتينال، وهو بشكل سلسلة بوليين بستة أواصرَ مزدوجةٍ وإحدى
نهايتَيها ترتبط تساهميًّا مع وحدة الحامض الأميني لايسين من خلال
قاعدة شيف (Schiff base) بروتونية
والنهاية الأخرى بحلقة -ionone. مع امتصاص الضوء يعاني جزء البوليين من تحوُّل
إلى آيزومير مختلف، من خلال دوران إحدى الأواصر المزدوجة ١٨٠°. هذا
التغير سريع جدًّا؛ يحصل خلال ٥٠٠–٥٠ فمتوثانية، ويُجبر الراتينال
على التكيُّف مع هذا التغيُّر، وفي حالة الرودوبسين ينشط شلَّالٌ
من التفاعُلات الإشارية تشمل البروتينات الأخرى. أخيرًا، تُضخَّم
إشاراتُ الرودوبسين بما يكفي لتغيير الجهد الكهربائي الداخلي
للخلية القضبانية، وإطلاق الخلايا العصبية التي تربط الشبكية
بمنطقة الدماغ المسئولة عن الرؤية.
في حالة الرودوبسين البكتيري، التغير في داخل البروتين الناتج عن
الأزمرة الضوئية للراتينال، يحفِّز انتقال البروتون من داخل إلى
خارج غشاء الخلية البكتيرية؛ حيث يُوجد الرودوبسين البكتيري مؤديًا
إلى شحن الخلية البكتيرية طاقيًّا.
ويقدِّم الباحثان Schulten & Hayashi
(2014) تفاصيل الآليات والعمليات الكمومية لعمل
البروتينات المتحسِّسة للضوء، ويخلُصان إلى أن بساطة تركيب
الرودوبسين وحركيات تفاعُلات التنشيط الضوئي، جعلَت الرودوبسين من
أكثر النُّظم المدروسة لكشف التأثيرات الكمومية في الوظائف
البيولوجية.
أطياف امتصاص الضوء للرودوبسين وللأنواع الثلاثة من الأيدوبسين
تغطِّي مدًى واسعًا من الضوء المرئي؛ فالامتصاص الأقصى للرودوبسين
يكون في ٥٠٠ن م، وهو الطول الموجي ذو الشدة الأقصى على سطح الأرض.
أما الأيدوبسينات البشرية الثلاثة فتغطِّي ٤٠٠–٥٠٠ن م، ٤٥٠–٦٣٠ن م
و٥٠٠–٧٠٠ن م. وهكذا فإن خواص امتصاص الأيدوبسينات تسمح لها
بالتفريق الجيد بين الدرجات اللونية.
إن أطياف امتصاص الرودوبسينات البكتيرية متكيفة مع بيئتها؛
فالرودوبسينات sRI
وsRII تعمل كمتحسِّسات للانتحاءات
الضوئية، ولها أطيافُ امتصاصٍ مختلفة؛ كونهما يؤديان وظيفتَين
متعاكستَين؛ فالامتصاص الأقصى للرودوبسين
sRI هو ٥٧٨ن م، وهو قريب جدًّا من
قمة امتصاص الرودوبسين البكتيري الذي يعمل كمضخةٍ أيونية، ويُحدِث
انتحاءً ضوئيًّا موجبًا باتجاه الضوء. بينما الرودوبسين
sRII بقمة امتصاص ٤٩٨ن م، فيقود
إلى الانتحاء الضوئي السلبي حاميًا البكتيريا من التأثيرات الضارة
للضوء. وحسب Sia et al., (2014) فإن قدرة النُّظم
البيولوجية ومنها الشبكية على تحسُّس الفوتون المفرد هي بذاتها
حالةٌ كمومية. وأشار الباحثون إلى أن التجارب السابقة تُظهِر أن
الخلايا القضبانية تستجيب بشكلٍ مختلفٍ لمصادر الضوء ما إذا كانت
متماسكةً كموميًّا، أو مصادر ضوءٍ حرارية. وإن هذه الخلايا لها
القدرة على استخلاص المعلومات عن الإحصاء الكمومي لمصدر
الضوء.
وبيَّن الباحثون أن الأزمرة الضوئية تحصل بسرعةٍ فائقةٍ تقل عن
٢٠٠ فمتوثانية وبكفاءةٍ عالية. هذه العملية تشمل تحوَّل الطاقة بين
حالاتٍ إلكترونيةٍ مختلفة لجزيئة الراتينال. وعند امتصاص الفوتونات
تعاني جُزيئة الراتينال تحوُّلًا إلكترونيًّا من حالة الاستقرار
القاعية إلى الحالة المثارة العالية الطاقة. ويؤدِّي المزيد من نقل
الطاقة إلى تغيُّراتٍ شكليةٍ للرودوبسين وما يتبعه من نقل الإشارة.
يعتقد بعض الباحثين أن هذه السرعة والكفاءة العالية للأزمرة
الضوئية تعتمد على تأثيراتٍ كموميةٍ عابرة. لكن حسب
Sia et al.,
(2014) فإن التأثيرات الكمومية، خصوصًا التماسك
الكمومي، يمكن أن تلعب دورًا في عملية توصيل الضوء. وتُظهِر
التجارب الحديثة إمكانية حصول التراكُب الكمومي في الرودوبسين
البكتيري باستخدام الليزر للتحكُّم الضوئي لجُزيئة الراتينال في
الرودوبسين البكتيري، وتحويله من حالة الكل-ترانس
(all-trans) إلى آيزوميرات ١٣–سيز
(13-cis) تحت ظروفِ شدةٍ ضعيفةٍ
وعالية.