العلم هو جهدٌ معرفيٌّ تراكمي، يهدف إلى فهم الطبيعة
عن طريق البحث، وصولًا إلى منظومة فرضياتٍ ونظرياتٍ تنفيها أو تؤكِّدها
التجربة، ويُطوِّرها النقد دائمًا.
علم الحياة هو أحد العلوم الصِّرفة؛ التي تشمل الفيزياء والكيمياء
والرياضيات والجيولوجيا. وهذه العلوم تسير بمسلكَين متكاملَين؛
العلم الأساس (Basic science) والذي
يدرُس الموضوع بذاته بهدف إغناء المعرفة دون توقُّع التطبيق المباشر
لنتائجه، والعلم
التطبيقي (Applied science) الذي يدرُس الموضوع برجاء الحصول على نتائجَ
تطبيقيةٍ مباشرة أو قريبة. كلا المسلكَين ضروريان؛ حيث إن العلم الأساس
يمكن أن يُوفِّر خلال مسيرته أو نتائجه منطلقاتٍ لأبحاثٍ تطبيقيةٍ
مهمة. مثلًا عزل وتشخيص أحد الكائنات الحية الدقيقة غير المعروفة، بحث
أساسًا يمكن أن يُوفِّر مجال البحث التطبيقي بغرض استغلاله كمصدرٍ
غذائيٍّ أو دوائي. الدراسات الأساسية في وراثة الأحياء مكَّنَت من
انطلاق العديد من الأبحاث التطبيقية، في مجال تحسين السُّلالات
الحيوانية والنباتية؛ بقصد زيادة إنتاجيتها أو مقاومتها للأمراض. من
جانبٍ آخرَ فإن العلوم التطبيقية وما تُنتِجه من تقنياتٍ متطوِّرة،
يُمكِن أن تُحفِّز الأبحاث الأساسية وتيسِّرها. كمثال التقنية النانوية
كشفَت عن ظواهرَ غيرِ عادية تُظهِرها الموادُّ في الأبعاد المِجهَرية،
والكشف الذي قدَّمه تلسكوب هابل عن تباعُد المجرات، أسهم في تكوين
نظرية الانفجار العظيم.
لقد كشف علم الحياة للعلماء أعقد منظومة في الطبيعة على الإطلاق
لدراستها، كما أن العلماء في شتى فروع العلم هم أنفسُهم نُظمٌ
بيولوجيةٌ (Sergi, 2009). وحسب تعبير
Goel (2008) فإن النُّظُم البيولوجية
تُوفِّر مختبرًا ممتازًا لسبر أغوار تآثُر المادة والطاقة
والمعلومات.
علم الحياة أو البيولوجيا يهدف إلى دراسة ظاهرة الحياة والكائنات
الحية وتآثُرها فيما بينها ومع البيئة. تراكُم المعلومات والتعقيد
العالي للمواد الحيوية والتنوُّع الهائل للكائنات الحية وتطوُّر تقنيات
البحث العلمي، أدَّى إلى نشوء فروعٍ عديدةٍ لعلم الحياة التقليدي؛
شَملَت علوم المظهر (Morphology)
والتشريح (Anatomy) وتقسيم الأحياء (Taxonomy) والخلية (Cytology) والأنسجة (Histology) والأجنة (Embryology) والفسلجة (Physiology) والوراثة (Genetics) والحيوان (Zoology) والنبات (Botany) والبكتيريا (Bacteriology) والفطريات (Mycology) والطحالب (Algae) والفايروسات (Virology) وفي مرحلةٍ متقدِّمةٍ علم الحياة الجزيئي (Molecular biology)
وعلم الوراثة
الجزيئية (Molecular genetics) والتقنية
الحيوية (Biotechnology). كما تلاقى علم الحياة مع العلوم الأساسية
الأخرى، فنشأَت علوم الكيمياء
الحيوية (Biochemistry) والفيزياء
الحيوية (Biophysics) والإحصاء
الحيوي (Biostatistics) والمعلوماتية
الحيوية (Bioinformatics) وأخيرًا وليس آخرًا بزغ علم الحياة الكمومي (Quantum biology).
وهكذا تأريخيًّا، اتجه علم الحياة من دراسة الأحياء والظواهر
البيولوجية العامة إلى التفاصيل التركيبية والفعاليات الخلَوية، إلى
الكشف المتزايد العمق على المستويات الجُزيئية والذَّرية وتحت
الذَّرية. من جانبٍ آخر، ركَّز ميكانيك الكَم عند نشوئه على الظواهر
المِجهَرية للفوتونات والإلكترونات والذرَّات. لكن مع الوقت تزايد
توجُّه الفيزيائيين لدراسة الأجسام والظواهر المتزايدة التعقيد. وهكذا
تقاربَت الأبعاد المدروسة في البيولوجيا والفيزياء، وبرز السؤال عما
يمكن أن تقدِّمه فيزياء الكَم في ولعلوم الحياة (Arndt
et al.,
2009).
إن جذور بيولوجيا الكَم تعود إلى أربعينيات القرن العشرين حيث أصدر
P. Jordan سنة ١٩٤٣م كتابًا متسائلًا
فيه ما إذا كانت قوانين الفيزياء الذرية والكمومية ذات أهميةٍ أساسيةٍ
للحياة، واستخدَم لأول مرة مصطلح البيولوجيا الكمومية Quanten-Biologie (Huelga &
Plenio, 2013).
(١) لماذا علم الحياة
الكمومي Why Quantum Biology
نتيجة التقدم العلمي والتقني برزَت اتجاهاتٌ بحثيةٌ جديدة، تهدف
إلى التحقُّق من تأثيرات فيزياء الكم في البيولوجيا، والتي تحدُث
في أبعادٍ مكانيةٍ وزمانية تسمح للظواهر الكمومية والتقلُّبات
البيئية بالتداخُل المثمر، لتمكين العمليات البيولوجية.
في النصف الأول من القرن العشرين ورغم التقدُّم الهائل في علم
الحياة بكافَّة فروعه، ورسوخ نظرية التطوُّر لدارون، وكَشفِ الكثير
من التفاصيل التركيبية والتفاعلات الكيموحيوية في الكائنات الحية،
كان ثمَّة الكثير من الأسئلة المهمة التي ينبغي الإجابة عنها؛
منها: طبيعة المورثات، وتكوين البروتينات، وعمل الإنزيمات، ونشوء
الحياة؛ والتي اعتَمدَت على مبادئ الفيزياء والكيمياء
التقليدية.
عشر سنواتٍ بعد حصوله على جائزة نوبل، ألقى نيلز بور (Niels Bohr) أحدُ مؤسِّسي فيزياء
الكَم محاضرة عنوانها «الضوء والحياة Light and Life» سنة
١٩٣٢م في كوبنهاكن. في هذه المحاضرة أثار سؤالًا حول ما إذا يمكن
أن تُسهِم نظرية الكم في الفهم العلمي للنُّظُم الحية. وكان ضمن
مستمعيه ماكس
ديلبروك (Max Delbrück) الذي ألهمَه حديثُ نيلز بور، وأسهَم في تأسيس
علم الحياة الجُزيئي، وحاز على جائزة نوبل سنة ١٩٦٩م، لاكتشافاته
في علم الوراثة (Marais et al., 2018).
سنة ١٩٤٤م، نشر الفيزيائي النظري المعروف، وأحد مؤسِّسي ميكانيك
الكم، أروين
شرودنجر (Erwin Schrődinger) كتابا صغيرًا بعنوان: ما هي الحياة؟
What is
Life? تساءل فيه عن كفاية ميكانيك
نيوتن وقوانين الديناميكا
الحرارية (Thermodynamics) في تفسير الظواهر الحياتية خاصةً طبيعة وعمل
المورِّثات والتي يستند عليها علماء البيولوجيا؛ فقد جلَب علمُ
الوراثة وانعزال الصفات الوراثية، ودقة عمل الجينات التي لم يكن
يُعرف شيءٌ مهمٌّ عن تركيبها اهتمامَ هذا العالم. أشار شرودنجر إلى
أن انعزال الصفات الوراثية يفترض التجزُّؤية (Discreteness) وهي صفةٌ أساسيةٌ
في ميكانيك الكَم؛ حيث إن الطاقة والموادَّ في الكون، كما أشرنا
سابقًا، تُوجَد بشكلٍ مجزَّأ بهيئة كمَّات (Quanta) ومن هنا سكَّ اسمُ ميكانيك الكَم (Quantum mechanics). وهكذا
استنتَج شرودنجر أن حوامل الصفات الوراثية لا بد أن تكون بهيئة
جُزيئات.
انطلق شرودنجر من فكرة أن دقة عمل الجينات تتطلَّب ألا تكون
مؤلَّفةً من أعدادٍ هائلةٍ من الذرات والجُزيئات؛ فلو كانت كذلك
فإنها ستخضع لقوانين الديناميكا الحرارية (الفيزياء التقليدية)
التي تعتمد على الإحصاء أو معدَّل تأثير الجزيئات؛ حيث إن
الجُزيئات المفردة في نظم كهذه تسلُك سلوكًا عشوائيًّا، والذي
يُمكِن أن يُنتِج «النظام من خلال الفوضى» ودرجة عدم الدقة
(التشويش) فيه تكون عاليةً نسبيًّا. وللتوضيح نُورِد المثال
التالي: ظاهرة
الانتشار (Diffusion)؛ فعند وضعنا لقطرة حبر أو صبغة (كلٌّ منهما
يحتوي على أعدادٍ هائلةٍ من الجزيئات) في كميةٍ من الماء موضوعةٍ
في كأسٍ زجاجية، تبدأ الصبغة بالانتشار في الماء تدريجيًّا، وبشكلٍ
فوضويٍّ بسبب الحركة العشوائية الناتجة عن الطاقة الحركية لجُزيئات
الصبغة وجُزيئات الماء. وعلى الرغم من الحركة العشوائية لجزيئات
الصبغة بجميع الاتجاهات، إلا أن معدَّل حركة الجُزيئات سيكون من
المنطقة التي فيها تركيز هذه الجُزيئات عالٍ إلى المناطق التي يكون
فيها تركيزها واطئًا. وبعد فترة من الوقت سيكون تركيز الصبغة في
المحلول متجانسًا. وهكذا نتج النظام (التوزُّع المُنتظِم لجُزيئات
الصبغة في المحلول) من خلال الفوضى. لكن طالما أن الجينات تُظهِر
درجةً عاليةً من الدقة؛ حيث نسبة الشذوذ (الطفرات) منخفضة جدًّا،
فمن المرجَّح حسب شرودنجر أن تكون الجينات منخفضةَ عدد الذرات؛
وبالتالي لا تخضع لقوانين الفيزياء التقليدية، بل لفيزياء الكم.
رجَّح شرودنجر أن يكون حجم الجين بحدود مكعَّبٍ حَرفُه ٣٠٠
أنكستروم (= ١ × ١٠−١٠م). هذا الحجم
سيتألف من حوالي ١ مليون ذرة؛ بناءً على ذلك سيكون معدَّل الخطأ
(الشذوذ أو الطفرة) يساوي ١ / ١٠٠٠ (واحد مقسوم على الجذر التربيعي
للعدد) لو أن عمل الجين يعتمد على الفيزياء التقليدية (الديناميكا
الحرارية). في حين أن معدَّل الطفرات التي تُظهِرها الجينات هو أقل
من ١ في المليار؛ بناءً عليه يُرجَّح خضوع الجينات لقوانين ميكانيك
الكَم وعمل مبدأ «النظام ينشأ من النظام». المسألة الجوهرية هنا أن
البيولوجيا تعتمد على تراكيبَ صغيرةٍ عالية التنظيم، لكنها ذاتُ
فعاليةٍ غيرِ عادية (انظر إلى الفعاليات المتنوعة جدًّا، والتي
تُظهِرها ملايين الأنواع من الكائنات الحية، ولا يمكن للمواد غير
الحية إظهارُها). هذا ما يميِّز المادة الحية عن غير الحية في
كونها يمكن أن تُظهِر تأثيرات ميكانيك الكم في درجات الحرارة
العالية، ومع وجود جُزيئاتٍ كثيرةٍ جدًّا، والذي لا تُظهِره المواد
غير الحية في الطبيعة إلا على المستوى المِجهَري، أو تحت ظروف
درجات الحرارة المنخفضة جدًّا (قرب
−٢٧٣مº) وفراغٍ شبهِ تامٍّ في
المُختبَر، والذي سنناقشه لاحقًا. وهكذا لخَّص شرودنجر الجوانب
الجُزيئية الصاعدة حينها في علوم الحياة، وكان كتابه مُمهِّدًا
لبزوغ علم الحياة الجُزيئي.
في النصف الثاني من القرن العشرين، شهد علم الحياة تطورًا
نوعيًّا بظهور علم الحياة الجُزيئي، الذي تكفَّل بدراسة الأسس
الجزيئية للظواهر الحيوية المفتاحية؛ فقد تم كشف تركيب جُزيئة اﻟ
DNA وآليات تضاعُفها وتركيب وعمل
الجينات وجُزيئات RNA وتكوين
البروتينات بضمنها الإنزيمات ودورها في حياتية الخلايا الحية.
أحدَث هذا العلم تطورًا شاملًا في جميع فروع علم الحياة باتجاه كشف
الأُسس الجُزيئية للظواهر البيولوجية. مكَّن هذا العلم من النظر
إلى الخلية الحية على أنها منظومةُ إكثار ومعالجة المعلومات، تحتوي
على الكثير من المكائن النانوية التي تطوَّرَت طبيعيًّا، والتي
تحتاج إلى ميكانيك الكم لوصفها في بعض مستوياتها
(Abbott et.
al., 2007). وحسب Davis
(2007) فإن مؤسِّسي ميكانيك الكم الآخرين بضمنهم
نيلز بور وويرنر هيزمبرغ ويوجين وغنر، شارَكوا شرودنجر في إقراره
إلى أن فيزياء الكم هي المفتاح لفهم الحياة. وارتكزَت أفكارُ
مؤسِّس التقنية
النانوية (Nanotechnology) أريك
ديكسلر (Eric Drexler) على مُنجَزات البيولوجيا الجُزيئية وآليات عمل
اﻟ DNA والرايبوسومات والبروتينات
والفايروسات في بناء مكائنَ نانويةٍ تُحاكي المكوِّنات الأحيائية؛
حيث تتمكَّن من تكوين منتجات، وتتمكَّن من نَسخِ نفسها
(Dexler, 1986). كما تلاقت الفروع
العلمية الصاعدة؛ التقنية
النانوية (Nanotechnology) والتقنية الأحيائية (Biotechnology) والتقنية الكمومية (Quantum technology)
ومعالجة
المعلومات الكمومية (Quantum information processing) لتُشكِّل ما يُعرف ﺑ
BINS اختصارًا ﻟ
Bio-Info-Nano-Systems
(Abbott et.
al., 2007). إضافةً إلى ما تقدَّم فإن
مساهمة علم الحياة الكبرى في تعزيز وتعميق نظرية التطوُّر لجارلس
دارون؛ حيث توضِّح فِعلَها ليس في مجال نشوء وتطوُّر الأحياء فحسب،
بل في جميع المجالات بما فيها تطوُّر الكون والمجتمعات واللغة
والاقتصاد وغيرها. وهكذا تَبلوَر مصطلَح الداروِنية العامة (Universal Darwinism)
(Dawkins, 1976; Blackmore, 1995; Dennett,
1995) والداروِنية الكمومية (Quantum Darwinism) التي تفسِّر ظهور الحقيقة
الموضوعية في العالم المرئي عن الاحتمالات العديدة لحالات النظام
الكمومي عَبْر آليات التعدُّد والاختلاف وانتخاب الحالة الأصلح من
خلال الانتخاب الطبيعي (Zurek,
2009). من ناحيةٍ أخرى ومع تَبلوُر ميكانيك الكَم
برز تفسيران لحصول الحقيقة الكمومية في الواقع العادي المرئي؛
الأول عُرف بتفسير كوبنهاجن، وتبنَّاه نيلز بور وويرنر هايزنبرغ،
والذي يقول بأن الحقيقة هي ذاتية (Subjective) تعتمد على المُراقِب؛ حيث تؤدِّي مراقبته أو
قياسه للظاهرة أو التجربة إلى انهيار دالَّة الموجة الكمومية على
احتمالٍ واحدٍ من العديد من الاحتمالات الممكنة في العالم العادي.
التفسير الثاني الذي تحمَّس له آينشتاين وشرودنغر يُقِر بأن
الحقيقة موضوعية (Objective)
ومستقلة عن مسألة المراقبة أو القياس. ويؤكِّد زوريك، الفيزيائي
النظري الأمريكي من أصلٍ بولوني، على موضوعية الحقيقة من خلال عمل
الداروِنية الكمومية، كما ذكرنا أعلاه. هذه المعضلة بل نشوء وتبلور
الأفكار عمومًا قادت إلى التساؤل عن آلية عمل الدماغ البشري،
والتفكير في عموم الأحياء بما فيها الأحياء الدقيقة كي يتم
التأكُّد من «فعلية» الحقائق التي نُكوِّنها عن العالم. وهكذا
أصبحَت دراسة الوعي موضوعًا غاية في الأهمية ليس لعلماء الأحياء
فحسب، بل للفيزيائيين والرياضيين أيضًا (Penrose,
1989; 1994; Tegmark, 2007; 2014; Hameroff & Penrose,
2014; Adamatzkya et al.,
2018).
من ناحية المكان، فإن أجسام الأحياء كبيرة، تُقاس بالأمتار
والسنتمترات كما هي معظم الحيوانات والنباتات والكثير من الفطريات
والطحالب، وبعضها كالبكتيريا والأركيا تُقاس بالميكرومترات. هذه
الأبعاد تُعَد كبيرةً بمقاييس ميكانيك الكمَ الذي يعمل بأبعاد
النانو والبيكو والفمتومتر على مستوى الجُسيمات الذَّرية والذَّرات
والجُزيئات. هذه الأبعادُ للكائنات الحية يُفترض خضوعها لقوانين
الفيزياء التقليدية، وهي كذلك فعلًا، كما هو حال الأجسام غير الحية
الكبيرة. لكن كما هو معروفٌ فإن هذه الأجسام تتألَّف من جُسيماتٍ
وذرَّات وجُزيئات، والعامل الرئيس الذي يفرق الأجسام الحية عن غير
الحية، هو نوعية الجُزيئات وتعقيدها وتنظيمها الفريد. ومن ناحية
الزمان، يحصُل التماسُك
الكمومي (Coherence) الذي هو شرطُ تحقُّق الظواهر الكمومية في
أوقاتٍ قصيرةٍ جدًّا، تُقاس بالفيمتوثانية (١ ×
١٠−١٥ ثانية) والبيكوثانية (١ ×
١٠−١٢ ثانية) أو النانوثانية (١ ×
١٠−٩ ثانية) عادة، نتيجة حصول
فك التماسُك (Decoherence) الذي
ينقل الفعل الكمومي إلى الحالة التقليدية التي نتلمَّسها. وفي
الكائنات الحية تحصُل العديد من التفاعُلات والفعاليات الحيوية في
فتراتٍ زمنيةٍ قصيرة جدًّا تُقاس بالفمتوثانية والبيكوثانية
والنانوثانية، وبعضها بالميكروثانية (Maldonadoa
& Gómez-Cruzb, 2014) والميلي ثانية؛ فعلى
المستوى الأساسي، جميع الأشياء هي كمومية؛ لأنها كلها مبنيةٌ من
حالات وقواعدَ كمومية تحكُم الذرات (Brookes,
2017). وهكذا فإن الماكنة الكيميائية التي تُسيِّر
النُّظم البيولوجية، تتألَّف من تراكيبَ جُزيئيةٍ معقدة، وهي
بأبعادٍ نانوية ودون النانوية. وبذلك ستخضع الماكنة الكيميائية
للأحياء لقوانين ميكانيك الكم. ومن المعروف أن ميكانيك الكم يلعب
دورًا مركزيًّا في الكيمياء (Lloyd,
2011). كما أن الطبيعة الاحتمالية للعمليات
البيولوجية تتماشى مع الطبيعة الاحتمالية لمكوِّنات المنظومة
الكمومية (Ozhigov, 2015).
من ناحيةٍ أخرى، لا تتبدَّى الظواهر الكمومية في التجارب
الفيزيائية، إلا في ظروف خُلُو المكان من الجُسيمات والذَّرات
والجُزيئات غير تلك التي قيد الدراسة، وفي درجاتِ حرارة منخفضةٍ
جدًّا تقترب من الصفر المطلق (−٢٧٣مº)
والعزل التام عن البيئة؛ تجنبًا للتشويش وحصول فكِّ التماسُك.
وبذلك فإن الاعتقاد الذي كان سائدًا يستبعد حصول الظواهر الكمومية،
أو أن يكون حصولها على نحوٍ عابرٍ في النظم البيولوجية لوجود
اكتظاظٍ شديدٍ بأنواعٍ مختلفةٍ من الجُزيئات ودرجة الحرارة
الفسلجية، التي تحصل فيها الفعاليات البيولوجية، والتي هي عاليةٌ
جدًّا مقارنة بدرجات الحرارة المنخفضة التي تتطلَّبها الحالة
الكمومية في التجارب الفيزيائية المذكورة آنفًا. مع ذلك أظهرَت
الأبحاث والدراسات الحديثة تجلي ظواهر ميكانيك الكَم على نحوٍ
مؤثِّر (غير عابر) في عددٍ مهمٍّ من الفعاليات الحيوية؛ كالتركيب
الضوئي، وهجرة الطيور المهاجرة، وحاسَّة الشم في الحيوان والإنسان،
وآلية عمل الإنزيمات والقنوات الأيونية في أغشية الخلايا والطفرات،
وغيرها، والحاجة إليها في تفسير نشوء الحياة. وحسب
Ogryzko (2009) فإن أي شيء بغَض
النظر عن كونه كبيرًا أو صغيرًا، يمكن أن يكون له بعض الصفات
التقليدية (يخضع لقوانين الفيزياء التقليدية) وكذلك بعض الصفات
الكمومية، فمثلًا الإلكترون كشيءٍ كموميٍّ كما هو معروف، مع ذلك
فله صفاتٌ تقليديةٌ كالكتلة والشحنة مثلًا. ويؤكد زوريك، وهو
الباحث الرئيس في موضوع فك التماسُك، على أن الحالة التقليدية (وهي
الأشياءُ أو الظواهرُ التي نشاهدها ونتعامل بها في الواقع اليومي)
هي الحالة الكمومية (الأصلح) التي تم انتخابها، وأصبحَت حقيقةً
موضوعيةً من خلال الداروِنية الكمومية (Zurek,
2002; 2003; 2009).
ويعتقد الباحثون، وهم مُحِقُّون من وجهة نظري، أن التطور من خلال
الانتخاب الطبيعي ولعددٍ لا يُحصى من تجارب ومحاولات الصح والخطأ
في عددٍ هائلٍ من أشكال الحياة، وبيئاتٍ غاية في التنوُّع على
امتداد مليارات السنين، يُمكِن أن يكون قد حل مشكلة فكِّ التماسُك
الكمومي؛ بحيث صارت الحالات الكمومية على المستوى المتوسِّط أو
الكبير خواصَّ ضروريةً لبقاء الكائنات الحية. وكما سنرى في الفصول
القادمة الأدوار الأساسية التي تلعبُها الجُسيمات تحت الذَّرية
كالفوتونات والإلكترونات والبروتونات والذَّرات والجُزيئات وكذلك
المجالات الكهرومغناطيسية في تركيب وعمل الخلايا وهي خاضعةٌ
لقوانين ميكانيك الكَم؛ فمن الممكن أن تمتد إلى مكوِّنات الخلية من
الإنزيمات والأحماض النووية والعُضَيَّات الخلَوية والتي هي نانوية
الأبعاد أو تجمُّعات لتراكيبَ نانوية. كما أن الكثير جدًّا من
الفعاليات الحيوية داخل الخلايا تحصل بسرعةٍ فائقةٍ تُقاس بالفمتو
والبيكو والنانوثانية؛ ما يجعل من الممكن أن تمتد الحالة الكمومية
عَبْر الخلايا وإلى الأنسجة والأعضاء. وإن تحقُّق الظواهر الكمومية
في العديد من الفعاليات الحيوية في الكائنات الحية، ربما يستند إلى
القدرة التي طوَّرَتها الأحياء في التخلُّص من الضوضاء عَبْر
ترشيحها (Hameroff et al., 2014). كما سنرى أن ثمَّة
ظواهرَ بيولوجيةً تُوظَّف فيها الضوضاء المتولِّدة عن اهتزاز
الجُزيئات في خلق حالة التماسُك الكمومي.
وكما يرى Arndt et al., (2009) فإن نسبةً مئويةً
قليلة من التحسين في المنظومات الحية يمكن أن تعمل فرقًا في
بقائها؛ لذلك يكون حصول الظواهر الكمومية مثل التماسُك والتشابُك
في المنظومات الحية حتى وإن كان لفتراتٍ زمنيةٍ قصيرة جدًّا،
ومناطق في المكان صغيرة جدًّا، يمكن أن يكون لها فوائد في بقاء
الأحياء. كل المنظومات الحية تتألَّف من جُزيئات، وإن جميع
الجُزيئات تُوصف بواسطة ميكانيك الكَم. لكن تقليديًّا، بسبب الفارق
الكبير في المقاييس بين المنظومات التي تُوصف بميكانيك الكَم
(نانومترات وما دون) والمنظومات البيولوجية، إضافةً إلى الخواص
التي تبدو مختلفةً بين المواد غير الحية والمواد الحية، أبقت بعض
الفصل بين النوعَين من المعرفة. مع نشوء وتطوُّر التقنيات
المُختبَرية كالمطيافية الفائقة السرعة، ومطيافية الجُزيئة
المُفرَدة والتصوير المِجهَري الموقوت، وتصوير الجُسيمة المُفردَة،
مكَّنَت من دراسة الحركيات البيولوجية المتزايدة الصِّغَر مكانيًّا
وزمانيًّا، كشَفَت عن عملياتٍ مختلفةٍ ضرورية لوظائف المنظومات
البيولوجية، والتي تعتمد على التبادُل الحسَّاس بين التأثيرات
الفيزيائية الكمومية والتقليدية؛ فبيولوجيا الكَم هي استخدام نظرية
الكَم لجوانب في البيولوجيا تفشل الفيزياء التقليدية في وصفها على
نحوٍ صحيح. من المؤكَّد أن جميع المنظومات الحية تتألف من جُزيئاتٍ
وذرَّاتٍ وجُسيماتٍ تحت ذرية، وهذه هي ساحة ميكانيك الكَم. ومع
تطوُّر تقنيات البحث صار بالإمكان دراسة الحركيات البيولوجية على
مقاييسَ متزايدةٍ الصِّغَر مكانيًّا وزمانيًّا، واعتمادها على
تبادُل الأدوار الحسَّاس بين التأثيرات الفيزيائية الكمومية
والتقليدية. وهكذا ينحو البيولوجي الكمومي إلى استخدام نظرية الكم،
لمعالجة جوانب البيولوجي التي لا تتمكَّن الفيزياء التقليدية من
تفسيرها (Marais et al., 2018).
وهكذا تعمَّقَت واتسعَت الحاجة إلى نشوء علم الحياة الكمومي
لتقصِّي أهميته، وإمكانات حدوثه، وتفسير الظواهر البيولوجية التي
لم تجد لها تفسيرًا بعدُ، باستخدام الكيمياء والفيزياء
التقليدية.
وحسَب Huelga & Plenio
(2013) فإن بيولوجيا الكَم هو مجالٌ صاعدٌ من
البحث يهتم بالكشف التطبيقي والنظري للظواهر الكمومية غير العابرة
في المنظومات البيولوجية.
لقد توالى على نحوٍ متزايد، نشرُ الأبحاث وعقدُ المؤتمرات
والمحاضرات، ونشرُ عددٍ من الكُتب حول البيولوجيا الكمومية
مثل:
-
Quantum evolution: Life in the
Multiverse (McFadden, 2000).
-
Human nature: fact and fiction
(McFadden, 2006).
-
Aspects of quantum biology (Abbott
et al.,
2007).
-
Life on the edge The coming of age of
quantum biology (McFadden & Al-Khalili,
2014).
-
Quantum effects in biology (Mohseni
et al.,
2014).
في الشكل
٣-١، عرضٌ لأهم الأعمال التي
ساهمَت في إرساءِ قواعدِ هذا العلم الصاعد.
عالَج
Huelga & Plenio
(2013) موضوع بيولوجيا الكَم وثبَّتا الملاحظات
التالية:
- (١)
النُّظُم البيولوجية هي منظوماتٌ مفتوحة، يتوجَّب أن
تُرفَد بالطاقة باستمرار للمحافظة على حالة اللاتوازن التي
هي ضرورية للحياة. غير أن المنظومات المفتوحة ومنها
المنظومة البيولوجية تكون حارةً ورطبةً وضوضائية
(لاكتظاظها بالجُزيئات المختلفة) وبالتالي ستكون معرَّضةً
للتقلُّبات البيئية، والتي تؤدي إلى فك التماسُك الكمومي
سريعًا وتثبيط الظواهر الكمومية. وهكذا يبدو للوهلة
الأُولى عدم إمكانية عمل الظواهر الكمومية في البيولوجيا.
غير أن ثمَّة دلائل تشير إلى عكس ذلك؛ فالتراكيب
البيولوجية الفعَّالة كالبروتينات والأحماض النووية وعلى
المستوى الجُزيئي عمومًا، تحصُل التفاعلات والفعاليات
البيولوجية بسرعةٍ فائقةٍ تُقاس بالبيكوثانية
والفمتوثانية، وفي أبعادٍ نانوية؛ وبالتالي يمكن أن تحصُل
معها الظواهر الكمومية قبل أن تتمكَّن البيئة من تحطيمها.
وحسَب المعلومات الكمومية، فإن الضوضاء في المنظومات التي
هي ليست في حالة التوازُن يمكن أن تدعم التماسُك والتشابُك
الكمومي. وهكذا فإن الحركيات الكمومية ستتعزَّز من خلال
تبادُل التأثير مع البيئة بما يُشجِّعها أو يُولِّدها.
والمسألة الواجب التحقُّق منها ما إذا كانت الطبيعة قد
وظَّفَت الظواهر الكمومية كآلياتٍ غيرِ عابرة، وعملُها لا
يمكن تفاديه، وهي ليست مجرَّد ناتجٍ ثانويٍّ عن عمل
الظواهر الكمومية على مستوى الأواصر الكيميائية.
- (٢)
البيولوجي والحركية والنقل. من المؤكَّد أن المنظومات
البيولوجية تراكيبُ حركيةٌ تتطلب التزوُّد بالطاقة
والتخلُّص من الإنتروبي، للحفاظ على حالة اللاتوازن
المطلوبة. هذا يستدعي عمليات نقلٍ بضمنها نقل طاقة التهييج
والجُسيمات.
- (٣)
الخواصُّ الكمومية والفوائد. تتميَّز الظواهر الكمومية
بالعديد من الخواص التي تميِّزها عن الظواهر الفيزيائية
التقليدية، والتي يمكن أن تُحسِّن من الوظائف البيولوجية.
تشمل هذه ظاهرتَي التماسُك الكمومي والتداخُل، التي
تُفرِزها الخاصية الموجية للجُسيمات تحت الذرية والتي
تُسرِّع العمليات. كما تُوفِّر حالة التشابُك الكمومي
حساسيةً أكثر للإشارات الخارجية. كما تُوفِّر حالة
التجزُّؤ أو كمومية الطاقة من حصول تردُّداتٍ اهتزازيةٍ
تُمكِّن من بناء أدواتِ تحسُّس.
- (٤)
منظوماتٌ كموميةٌ مفتوحة. المنظومات البيولوجية منظوماتٌ
مفتوحةٌ على اتصال مع البيئة، في الوقت الذي تكون
التقلُّبات الحرارية للبيئة نافعةً لتسيير التفاعُلات
الكيميائية وتشكل (انثناءات) البروتينات، فإن فوائد اتصال
المنظومات البيولوجية والبيئة تكون أقل وضوحًا في العالم
الكمومي؛ حيث ستبرزُ حالات فك التماسُك. ولكن وُجد أن
التآثُر بين المنظومة البيولوجية والبيئة يمكن أن يُوجِد
حالاتٍ كموميةً كالتماسُك والتشابُك، كما توضح في التركيب
الضوئي. معرفة آليات حصول مثل هذه الخواصِّ الكمومية في
عمليات النقل والعمل الإشاري والتحسُّس سيكون ذا فائدةٍ
كبيرة.
- (٥)
البيئة مركَّبة التأثير. البيئة ليست سلبية في التأثير
على المنظومات البيولوجية؛ فالبيئة تُظهِر نوعَين رئيسَين
من التأثيرات على المنظومة البيولوجية؛ خلفية ناعمة عريضة
ذات ذاكرةٍ قصيرةٍ وتتآثَر مع المنظومة البيولوجية من خلال
تقلُّباتها، مسببةً ضوضاء وحالاتٍ محدَّدةً تشبه حركةً
اهتزازيةً طويلة المدى، يمكن أن تقود إلى تبادُلٍ حركيٍّ
غير متوازن شِبه متماسِكٍ بين المنظومة والبيئة. هذه
الخلفية الناعمة تعود في الغالب إلى بيئة البروتين وعمليات
الضوضاء الناشئة عن المذيبات، بينما المظاهر الحادة يمكن
أن تتسبَّب من اهتزاز الجُزيئات الموجودة في سقالاتِ
البروتين. هذه الخواص تختلف عن البيئة التي تُدرس عادةً في
التقنيات الكمومية، وتكشف عن تأثيراتٍ غيرِ عابرة، والتي
اكتُشفَت من قِبل الطبيعة وتتطلَّب دراسةً جدِّية.
- (٦)
حالة اللاتوازن والتأثير العكسي. العديد من العمليات
المهمة لبيولوجيا الكَم تُحفَّز بالتكوين المفاجئ لإثارةٍ
أوليةٍ كمثل الطاقة الكمومية، التي يتوجَّب نقلُها والتي
تُبعِد المنظومة عن حالة التوازن. ونتيجةً لهذه الإثارة
المفاجئة لا المنظومة ولا البيئة ستبقيان ثابتتَين.
حركياتُ اللاتوازن هذه ستؤدِّي إلى اضطراباتٍ بيئيةٍ
مصدرها المنظومة، وتأثيرٍ عكسيٍّ من البيئة ذاتها على
المنظومة، وبذلك يحصُل تبادُلٌ حركيٌّ بين المنظومة
والبيئة. وإذا كانت الاضطرابات البيئية تخُص الخلفية
الناعمة العريضة فسترجع بصورةٍ سريعةٍ جدًّا إلى حالة
التوازن بسبب ذاكرتها القصيرة. أما إذا أُثيرَت حالةٌ
حادةٌ مرتبطة بنمط اهتزازاتٍ طويلةِ الأمد، فستؤدي إلى
حركةٍ شبهِ متماسكةٍ طويلةِ الأمد للبيئة، مع احتمال قدْحِ
تبادُلٍ شِبهِ مُتماسكٍ مع المنظومة. هذا وغيره من تبادُل
اللاتوازن بين المنظومة والبيئة، يمكن أن يكون له تأثيراتٌ
مهمةٌ على حركيات المنظومة واتجاه نقل الطاقة، كما يمكن أن
يؤدي إلى حصولِ تماسُكٍ كموميٍّ طويل الأمد في
المنظومة.
(١-١) ميكانيك نيوتن والديناميكا الحرارية وميكانيك الكَم
Newton Mechanics, Theromodynamics and
Quantum Mechanics
يطرح McFadden & Al-Khalili
(2014) مبدأ تراتُب الحقيقة الفيزيائية على
ثلاثة مستويات؛ المستوى الأول والأعلى هو العالم الكبير؛ حيث
تكون الأجسام المختلفة التي نتعامل معها يوميًّا، حية أو غير
حية، كالنمل أو الصخرة أو الشجرة أو القمر، وتتضمَّن
المستويَين الأدنى وهذه تخضع لقوانين نيوتن في الحركة؛
فالحركات الانتقالية والموضعية للكائنات الحية وجريان السوائل
في أوعية الحيوانات والنباتات والقوى التي تنشأ عن ضغط
الامتلاء في الخلايا، التي تُمكِّن بادراتِ النباتِ من اختراق
التربة السطحية هي بعض الأمثلة لفعل الميكانيك
التقليدي.
المستوى الثاني الذي ينشأ عن الحركة العشوائية للجُزيئات،
كما في الغازات والسوائل، وتتميَّز بنشوء النظام من الفوضى،
وتخضَع لقوانين الديناميكا الحرارية؛ فالتفاعُلات الكيميائية
والحركة البراونية والانتشار والأزموزية وفقدان الحرارة هي بعض
وجوه فعل الديناميكا الحرارية في الأحياء.
المستوى الثالث والأساس الذي يتألَّف من الجُزيئات والذَّرات
والجُسيمات تحت الذرية وتخضع لقوانين ميكانيك الكَم (شكل
٣-٢). هذا المستوى يتصف بتجلِّي الإمكانات غير
المعتادة في العالم الكبير؛ كازدواجية المادة الجُسيم،
التماسُك والتراكُب والاختراق والتشابُك.
كما موضَّح في الشكل
٣-٢ فإن معظم
مكوِّنات العالم الكبير يقتصر إطارها على الطبقة السطحية
للحقيقة الفيزيائية؛ فهذه الأجسام تحتوي في داخلها على أعدادٍ
هائلةٍ من الجُزيئات التي تشوِّش دوالَّ الموجة للجُزيئات
والذَّرات، وتؤدِّي إلى انهيارها وتحقق حالة فك التماسُك
الكمومي وظهور الحقيقة التقليدية.
بعض نُظُم العالم الكبير تمتد إلى الطبقة الثانية؛ حيث تعمل
قوانين الديناميكا الحرارية، ويمكن أن تنتج ظواهر تعتمد على
نشوء النظام من خلال الحركة الفوضوية للجُزيئات الهائلة العدد.
كمثال عمل المحرِّكات البخارية والغازية، والتفاعُلات
الكيميائية المعتمدة على الحرارة، والتبخُّر وظاهرة الانتشار.
أما الكائنات الحية فتمتد عبر الطبقات الثلاث؛ فهي تخضع في
عددٍ من خواصِّها للميكانيكا التقليدية، ولاحتوائها أو
تعامُلها مع السوائل والغازات تُظهِر تأثيرات الديناميكا
الحرارية، كما توظِّف الظواهر الكمومية في عددٍ من الفعاليات
البيولوجية الأساسية، التي سترد تفاصيلها في الفصول
القادمة.
ترجع قدرة الأحياء على استثمار الخواص الكمومية إلى التركيب
الجُزيئي المنظَّم تنظيمًا خاصًّا، وإلى كونه يشكِّل منظوماتٍ
معقدةً مفتوحة بعيدة عن حالة التوازن مع البيئة، وإلى طبيعته
التي تقع على حافة الشواش بين النظام والفوضى، وإلا يفترض أن
يكون كما الأشياء غير الحية حيث تقتصر فعالياته على ظواهر
الميكانيكا التقليدية والديناميكا الحرارية؛ فمعظم الكائنات
الحية لها أجسامٌ كبيرةٌ بما فيها البكتيريا. هذه الخواص
البيولوجية الفريدة وفَّرَتها بالأساس الجُزيئات العضوية
الكبيرة خاصة البروتينات والأحماض النووية والصبغات؛ فكما هو
معروف أن محيط الكائن الحي يعجُّ بالجُزيئات والجُسيمات التي
تصطدم بالكائن الحي وتُصدِر ضوضاء واهتزازات، يمكن أن تشوِّش
أية حالة تماسُكٍ كموميٍّ قد تحصل بسرعة، من خلال فك التماسُك.
لكن التركيب الخاص للبروتينات جعلَها تُحافِظ على الموجات
والاهتزازات الكمومية الداخلية، لا بل تستثمر ضوضاء البيئة في
إيجاد وتعزيز الحالات الكمومية. يمكن تشبيه المسألة بإبحار
سفينة في أمواجٍ متلاطمة. يُمكِن لهذه الأمواج والرياح التي
تضرب السفينة من كل جانب، أن تَحرِف السفينة عن مسارها أو
تقلبها، لكن الربَّان ومن معه بتوجيه الأشرعة يمكن أن يُحافِظ
على خط سيرها، بل يزيد من سرعتها باستغلال قوة الرياح (ضوضاء
البيئة). لكن لو تخطَّت الضوضاء حدًّا حرجًا معينًا، لن يتمكن
القبطان من السيطرة على توازُن السفينة، فتَتيه أو تنقلب (فك
التماسُك الكمومي)؛ وعليه لا بد من المواءمة بين حركة السفينة
وضوضاء المحيط من أجل الإبحار الناجح. كما تُشبِه الحالةُ
العزفَ الموسيقي الأركسترالي؛ فغالبًا ما يتم عزفٌ جماعي
لآلاتٍ إيقاعيةٍ ووتَريةٍ تُوفِّر خلفية (ضوضاء بيضاء/خفيفة)
لعزف آلة الكمان أو الفلوت المنفردة (ضوضاء ملونة/قوية). لقد
طوَّرَت الأحياء على مدى ملايين السنين قُدرتَها على استغلالِ
تقلُّبات البيئة والفوضى التي تُحدِثها من أجل المحافظة على
التماسُك الكمومي، في حالاتٍ أساسيةٍ كالتركيب الضوئي؛ فقد
ابتُكرَت طرقٌ لتقليل الطاقة الزائدة للفوتونات من خلال
تبديدها بشكل اهتزازاتٍ تنتقل من خلال الجُزيئات المتجاورة في
منظومة التركيب الضوئي. في الوقت نفسه طُوِّرَت التراكيب
المسئولة عن التركيب الضوئي، لتحافظ على الحالة الكمومية
للفوتونات، وتستغل طاقتها بنسبة تصل إلى ١٠٠٪. هناك أبحاث
تؤكِّد أن العمليات الكمومية أساسيةٌ للحياة
(Miller Jr., 2016; Aerts et al., 2013; Wang et al.,
2007).
وهكذا فالمنظومة البيولوجية وهي منظومةٌ معقَّدةٌ مفتوحة،
ليست بحالة توازن مع البيئة وإنما تكون على حافة فوضى
الديناميكا الحرارية، ونظام العالم الكمومي؛ فبعضُ مظاهر
الحياة محكومةٌ بقوانين نيوتن والديناميكا الحرارية، وبعضُها
معتمد على الظواهر الكمومية. وبذلك فالحياة ظاهرة لمنظومةٍ
حسَّاسة ومعرَّضة للتغيُّر أو التدهوُر أو الموت بين التحلُّل
الذي يفرضُه الإنتروبي والجمود الذي ينتهي إليه النظام
التام.
وحسب Bordonado & Ogryzko
(2013) فإن معظم البيولوجيين يعُدُّون
التأثيرات المنافية للبديهة لميكانيك الكَم غير مناسبة
للدراسات البيولوجية. وهذا حسَب الباحثين راجعٌ إلى سيادة
المفاهيم التقليدية وعدم بحث الموضوع في الخلايا الحية
المُفرَدة. أما في الوقت الحاضر فإن مثل هذه الدراسات صارت
ممكنة بتوافُر تقنيات البحث المتطوِّرة، وصار من المطلوب تشخيص
الحاجة لدراسة البيولوجيا الكمومية على المستوى الخلَوي وتقييم
آثارها المبهرة، التي تُوفِّرها لعلوم الحياة. كما أن الأمر
يتعدى البيولوجيا إلى العلوم الأخرى؛ حيث إن المنظومات الحية
تُوفِّر تنظيماتٍ متعددةَ المستويات التعقيدية، وكذلك تعقيد
علاقاتها مع البيئة؛ وبالتالي فإن دراسة ظاهرة الحياة يمكن أن
تُوفِّر إطارًا تجريبيًّا ونظريًّا لظاهرة فك التماسك، ومسألة
الانتقال من الحالة الكمومية إلى الحالة التقليدية. وبذلك فمن
المتوقَّع أن يكون للتقدُّم في مجال البيولوجيا الكمومية على
المستوى الخلَوي، آثارٌ إيجابيةٌ في الفيزياء أيضًا.