القمر الطالع
فإذا استعرضتُهُ بين العين وبين الضوء الساطع، رأيت منه ياقوتة حمراء قد افتَرَّ فيها نَبْعٌ كالفم الحلو، يتنفس على قلبي الحزين بابتسامات تأتي إليَّ وفيها ألوانُ شفاهها الوردية!
•••
وكنت إذا رأيتها بِجُملة النظر من بعيد صَوَّر لها قلبي من الحسن والهوى ما يموت فيه مَوْتةً ثم يحيا؛ فإذا جالستُها، وأثبتُّ النظرَ فيها رأيتُها في التفصيل شيئًا بعد شيء بعد شيء، كما أنظر نجمًا بعد نجم بعد نجم: كلها شعاع، وكلها نور، وكلها حُسن!
وما نظَرْتُ مرة إلى النساء حولها إلا وجَدْتُ من الفرق بينها وبينهن ما يتضاعف من جهتها عاليًا عاليًا، ويتضاعف منهن نازِلًا نازلًا؛ كأنه ليس في الأمر إلا أنها أُخِذَتْ من السماء، ووُضعت بينهن!
هي كالفتنة المحتومة تنبعِث إلى آخرها، فليس منها شيءٌ إلا هو يُحسِّن شيئًا، ويُشوِّق إلى شيء، وبعضُها يُزَين بعضها.
•••
لقد تَراخَى الزمنُ بي وبها! فلو عددت لأحْصَيْتُ مائةً وخمسين قمرًا منذ فارقتُها، وما أحسب الأرض إلا انصدعت بيننا عن أقيانوس عظيم من الزمن تملؤه الأيام والليالي، فلا يخاض، ولا يُعبَر، ولا ينظر فيه أهلُ ساحل أهلَ ساحلٍ غيره.
وعلى أنَّ هذا الزمن قد محا في قلبي مِن بَعدها وأثْبتَ، فلا تزال تنشقُّ لها زَفْرَةٌ من صدري كلما عَرَضَت ذِكراها، كأنَّ القلبَ يسألني بِلُغَته: أين هي؟
والقلب الكريم لا ينسى شيئًا أحبه، لا شيئًا أَلِفه؛ إذ الحياة فيه إنما هي الشعور، والشعور يتَّصِلُ بالمعدوم اتصالَه بالموجود على قياس واحد، فكأنما القلب يحمل فيما يحمل من المعجزات بعضَ السر الأزَلي الذي يحيط بالأبعاد كلِّها إحاطة واحدة؛ لأنها كلها كائنة فيه: فليس بينك وبين أبعد ما مرَّ من حياتك إلا خطوة من الفكر، هي للماضي أقصرُ منِ التفاتةِ العين للحاضر.
•••
ليس بجمالٍ إلا ذلك الروحُ الذي يرفعُ النفسَ إلى أفق الحقيقة الجميلة، ثم ينفخ فيها مثل القوَّة التي يطير، ويدعها بعد ذلك تتَرامَى بين أفق إلى أفق؛ فإمَّا انتهى المُحِبُّ إلى حيث يصير هو في نفسه حقيقةً من الحقائق، وإمَّا انكفأَ من أعاليه، وبه ما بالطيارة الهاوية: رَفَعتْ راكبَها إلى حيث تَرمي به ميتًا، أو كالمغشيّ عليه من مسِّ الموت!
والذين ينكرون أن الجمالَ يَقتل أحيانًا، أو يجعلُ الحياة كالقتل، ثم يدَّعون مع ذلك هوًى وحبًّا، إنما هم أولئك الذين يعشقون بنفس العاطفة المادية الخسيسة التي يحبُّونَ بها الذهب، والفضة، وورق البنك …
وليس بحب إلَّا ما عرفته ارتقاء نفسيًّا، تعلو فيه الروح بين سماوَين من البشرية فتلوح منهما كالمصباح بين مرآتين: يكون واحدًا وترى منه العينُ ثلاثة مصابيح؛ فكأن الحب هو تعدُّد الروح في نفسها، وفي محبوبها.
•••
ولا سُمُوَّ للنفس إلا بنوع من الحب مما يشتعل إلى ما يتنسم؛ من حب نفسك في حبيب تهواه، إلى حب دمك في قريب تُعِزُّه، إلى حب الإنسانية في صديق تبرُّه، إلى حب الفضيلة في إنسان رأيته إنسانًا؛ فأجللته وأكبرته.
الحب بعض الإيمان: وكما أن الطريق إلى الجنة من الإيمان بكل قوى النفس؛ فإن الطريق إلى الحب من قوة لا تنقص عن الإيمان إلا قليلًا؛ والخُطوة التي تقطع مسافة قصيرة إلى القلب، تقطع مسافة طويلة إلى السماء!
وكما ينشأ الفكر أحيانًا من عمل العقل الإنساني إذا هو تحكم في الدين، يأتي البغض من هذا العقل بعينه إذا هو تحكم في الحب.
وتُرى ما هذا الشَّبه بين المرأة وبين السماء؟ أكانت المرأة في أصل الخلقة مادةَ سماءٍ بدأتْ تتخلَّق في الغيب، فحبسها الله في ضلع الرجل عقابًا لها، ثم عاقبها الثانيةَ فأخرجها للرجل تنظر إليه، كما ينظر السجين إلى سجنه … ويكون الله سبحانه قد عاقبها مرَّتين؛ لتتعلمَ هي بطبعها كيف تتجنَّى على الرجل، وتعاقبه مِرارًا لا تُعَدُّ؟
أيمكن أن يكون هذا الجَمالُ الفتَّان في المرأة الجميلة خُلاصةَ سماءٍ من السماوات خُلقت عينين وخَدَّين وشَفتين؛ تضحك أحيانً بالنور، وتلتهب أحيانًا بالبرق، وتنفجر أحيانًا بالرعد؟
لقد عرفنا أن في السماء جنَّةً ونارًا، وأُقسِم لو صُغِّرت الجنة، وجُعلت أرْضية تُلائم حياة رجلٍ من الناس، ثم عُجِّلتْ له هذه الحياة الدنيا؛ لما كانت بمتاعها ولذاتها، وفنون الجمال فيها إلا المرأة التي يُحبُّها! … أما الجحيم فلا أراني في حاجة إلى برهان على أنها صُغرت وتجزأت، واندفقت على الأرض شُعَلًا في أسماء من أسماء النساء!
لذلك أراني لا أستطيع أنْ أفهم المرأة الجميلة، بل لا أدري كيف أفهمها؛ فمن حيثما نظرتُ إليها لا أراها تبتدئ إلا من فوق العقل، فأنظر إليها ساكتًا على أنها هي لا تنظر فيَّ إلا متكلمة.
•••
يا ملوِّن السماء، والوجوه الجميلة؛ يا مُصوِّر الرَّوعة والحب، يا مُبدع هذه المعاني الظاهرة إبداعًا، جعلها لدقَّتها كأنها لم تظهر … يا مُوجِد القلب كما هو لِتَملأه السماءُ إيمانًا، والجمالُ حُبًّا، والمعاني فِكرًا منهما معًا …
ويا خالق الإنسانية العالية في الإنسان الكامل من إيمانه، وحبه، وفكره …
… نعرِف هذه السماء بما وسِعَتْ للإيمان، وهذه الطبيعةَ بما رَحُبَتْ للفكر؛ فهل المرأة وحدها هي التي للحب؟
تباركتَ إذ جعلت ما وراء الطبيعة فوق الفكر مهما سما، وجعلتَ الطبيعة حَول الفكر مهما اتَّسع، وأنزلت المرأة بين المنزلتين مهما كانت!
إنَّ من النساء ما يُفْهَم ثم يعلو في معانيه الجميلة إلى أن يمتنع، ومن النساء ما يُفْهَم ثم يَسْفُل في معانيه الخسيسة إلى أنْ يُبتذل!
إن من المرأة ما يُحَبُّ إلى أن يلتحق بالإيمان، ومن المرأة ما يُكْرَه إلى أن يلتحق بالكفر!
•••
من المرأة حُلوٌ لذيذ يُؤكل منه بلا شِبَع، ومن المرأة مُرٌّ كَريه يشبع منه بلا أكل!