السجين
ألا إنما الإنسان من الأقدار كالنبات بين الفأس التي تَحْرُث له، والمِنْجَل الذي يحصد فيه؛ وما هذه الدنيا إلا هذانِ، فلا يحسبَنَّ العودُ الطالع أنه شيءٌ غيرُ العود المقطوع!
خُلق في هيئة مُستَصْعبة شديدة المِراس كالجمرة المتقدة، ولكن الحياة ما زالت به من نكدٍ إلى أنكدَ منهُ حتى طمرَتْه في رَمادها؛ لأن له عثرةً هو عاثِرُها يومًا.
وخُلق في مِزاجه وعصبه من المادة المشتعلةِ، حتى إذا التهب رأت منه الحياةُ شكلَها القويَّ الجميل في الرجل المشبوب يُرسل فروعَهُ النارية على ما حوله: فإذا خمد رأى منهُ الموتُ شكلهُ العنيف الجميل في الجمرة العليلة الذابلة حين تمر أنفاس الهواء عليها.
وهو في توثيق جسمهِ، وتفرع بعضه من بعض كأنه شجرة رجال: كلُّ فرع منها بَطَلٌ مُنْكَر؛ وهو في إحْكامِ تركيبه، واندماج بعضهِ في بعض كأنه تمثال أُفرغ من حديد؛ فتوزَّعت فيه الكُتلُ هنا وهنَا، وكل ما فيه من الإجمال والتفصيل أنه جسمٌ آدمي يمثل للأعين ناموس «بقاء الأنسب».
وجاءوا به والناس مُتقصِّفون عليه من ازدحامهم ينثني بعضهم على بعض لينظروا إلى الرجل الكامل، بل الذي نقص حين كمُل، وهو مطل عليهم … كأنه عبارة مُبهمةٌ في صحيفة! وكأنهم من حوله شروح وتفاسيرُ رُقمت على حاشيتها بخط دقيق، وقف كالشيء الغامض يروعهم بغموضه أضعافَ ما يعجبهم بروعته! وكانوا كالشعاع: خيطًا يظهر من خيط؛ وكان كالظلمة: نسيجًا من قطعة واحدة؛ وأحسبه لو صاح بهم صيحةَ البأس لسقطت قلوبهم من علائقها سقوط أورق الشجر في قاصِف من الريح، وكأن ما بينهم وبينه في الروعة والقوَة كالذي تقيسه بين ألف متر انخسفت تحت الأرض، وألف متر انبثقت فوقها؛ فالبعد بين طرفيهما مضاعف كل منهما؛ وما زالت سنةُ الله أنْ تتضاعف الفروق دائمًا بين الأشياء التي لا يمكن أن تتفق، حتى لا يمكن أبدًا أنْ تتفق!
•••
وكان الرجلُ يظهر كأنما هو لا يُمسكه الحديدُ الذي يَعَضُّ على يديه؛ بل ذنْبُهُ الذي يعض على قلبه: ولعله قُتل ضعيفًا مظلومًا، فتحوَّل ضعفُ القتيل، وذِلتهُ، ومسكنتهُ إلى أرواحٍ منتقمة من كبريائه، تدسُّ في ضميره عنصرَ الجبن البغيض إليه، وتربط الروحَ الميتة إلى روحِه؛ فلا ينزع ظلمتَها عن قلبه كل ما في النهار من الضوء؛ ولا يجد النورَ إلا في الإقرار والندم؛ فيسكن إليهما.
وتبيَّنتُه فرأيته ساكنًا سكونَ الاستهزاء؛ كأنه على ثقة مما خفي عنه، تشبه ثقته بما وَضَح له؛ أو لتعاستِه أخْفَقَ أكثرَ مما فاز. والإنسان متى كثر إخفاقه صارت الخيبةُ في الأعمال هي الخطة التي يبني عليها؛ أو لا هذه ولا تلك، ولكنها الشجاعةُ تجعل المطمئنَّ إلى غاية الحياة لا يبالي بكل وسائل هذه الغاية المحتومة!
وقيل: إنه بَعْدَ أنْ غمس يده في الدم طار على وجهه تَلْفِظهُ الأرضُ من جهة إلى جهة، حتى أسلمته يد النّقمة إلى يد العدل!
•••
ترى لو سألنا الوحشَ حين يفترس إنسانًا: ماذا وقع في نفسك منه حتى ثُرتَ به، وعدوتَ عليه؟ أكان يقول — لو أنطقهُ الله — إلا أنه أبصر في هذا المخلوق وحشًا ماكِرًا خبيثًا إنْ لا يكن في دِقَّةَ ناب الثعبان، فهو في خطَرِ سمّه؛ وإنه لو رأى عليه سَمْتَ إنسان، وأبصر له نظرة إنسان، وأحسَّ منه قلبَ إنسان للجأ من وحشيته إلى الإنسانية التي فيه؛ إذ الإنسانية هي حَرَمُ الأمن الإلهي الذي تُوضَع عنده كلُّ الأسلحة، حتى أسلحة الوحوش، وإذ الإنسان هو مِحرابها الذي تُصرَع عنده كل القوى، حتى قوى الطبيعة.
كأنما كبُرَت الإنسانية حتى عن أنْ تكون شيئًا إنسانيًّا؛ فما هي فيمن تَرَى ممن حَشُو جلودهم ناسٌ، وحشو نفوسهم بهائم؟ إنما الإنسانية هناك، بعد أنْ تخرج بنفسك من حدود الشهوات الأرضية، وترفَعها فوق هذه الطبيعة، وبعد أن تُعاني في شق طبقات النفس الحريصة طَبَقًا عن طَبَق، مثل الذي يعانيه من يحفر في أصلب أحجار الأرض إلى غَوْرٍ بعيد!
•••
رأيت أمَّه المفجُوعة جالسة لا تحملها رِجلاها، وعلى صدرها ذلك الرضيع تضُمُّه كأنه قطعةً من قلبها رجعت إليه، وتشدُّ عليه بيديها شَدَّة الجَزع والحنان كما لو كانت تحسبه صِلة بينها وبين ابنها، تنقل هذه الشِّدَّة بعينها إليه كما تنقل الكهرباء حركة المتحرك، وقد انطلقت دُموعها، وفي كل نظرة إلى نكبة وحيدها مادَّةٌ جديدة للبكاء!
وأحاط بها أخواته الأربع، صفر الوجوه، ساهمات الخدود، ذابلات الأعين! كأنما تَدلَّين إلى الأرض من مشنقة! والبنت قِطعة من أمها، ولكنها في الحُزن على أبيها أو أخيها بِعدَّة أمهات؛ فهل تُراه لا يستوفي في بطن أمها إلا نصف حياتها كهيئتها في الدنيا … ويبقى النصف الآخر في أخيها، فإن مرض خَامَرَها نصفُ الداء، وإن مات وقع عليها نصف الموت، ولا يكون حُزنها عليه إلا هدّة في حياتها لا يمكن أنْ تبنى؟
أمّا أخو السجين فوقف ناحية عن النساء، وجعل يبكي، ويَعْصِر عينيه؛ ولا أدري إنْ كانت الفِطرةُ هي التي أبعدته عنهنّ حتى لا يشبههن بوجه من الشبه، ولو كان دقيقًا كهذه الخيوط من الدمع؟ أم هو انْتحى جانبًا كَيْلا تتصل به عدوى الضعف، وليستطيع أنْ يبكي على أعين الرجال بكاءَ رجل في دمعه شيء من القوّة؟ أمْ هو انْتَبَذَ مكانَه ليتكلم مع آلامه؛ فإن الآلام تتكلم، ولكن بإحساسنا؟ وكان لهُ من أوجاع قلبه حديث طويل.
وأما الولدان فربض أحدهما في الأرض، ووقف الآخر؛ لأنه أكبر منه قليلًا، وكلاهما ضامِرُ الوجه، مُتَقبضٌ، منكسرٌ من هَوْل ما يرى، وكانت عيونهما الحائرةُ تدل على أنهما بإزاء حالة غير مفهومة، فأبوهما حي لم يمت، وعيونُهما مكتحلة بعينيه، وليس بينهما وبينه إلا ارتفاعُ شجرة … فلم لا يصلان إليه، أو يصل إليهما؟ وعلام هذه المناحة ولا ميت؟ وفيم هذا الجمع ولا معركة؟
أخذا يدرسان الدنيا كلها في مُعضلتهما الأولى من حيث لا يفهمان شيئًا، وبدأ العدل الإنساني الرحيم يُخَشِّن صدرهما ليعلما ذات يوم معنى الظلمِ الذي يكون مرة باعثًا على العدل، ويكون مرة هو إياه!
ألا ويحك أيتها الإنسانية ظالمة أو مظلومة! إنَّ أمامك من هذين الطفلين الموتورين آلتيْ تصوير قد نقلتا هذه الصورة، وستحفظانها إلى يوم ما!
صورة بشِعة على تلوينها؛ إذ لا سواد فيها إلا من الخطوط، ولا بياض إلا من الدموع، ولا صُفرة إلا من الوجوه، ولا حُمرة إلا من لهب القلب، وسيمضي كل شيء لسبيله؛ فيُنسى ولا تُنسى؛ لأنها مادة عِلمية مصوَّرة، كرسم تعليميٍّ في جغرافيا الجريمة!
هي اليوم صورة طفل فهي للحفظ، وغدًا صورة شاب فهي للعلم، وبعد غد صورة رجل فهي … للعمل.
•••
إنما يُمسِك الإنسان قوّتان: قدرةٌ يمضي بها؛ فيدركَ فيطمئن، أو صبرٌ يقعد به فيعجز فيطمئن؛ ولكنه متى امتُحِنَ بشيء لا يقدر عليه، وهو مع ذلك لا يصبر عنه، فقد وضعه الله من ثَمَّةَ في حالة لا إنسانية، ولا وحشية، ولا دونهما، ولا فوقَهما؛ إذ يسلِّط عليه كل القُوى التي في داخله تدفعه بأشد العنف إلى القوى المحيطة به، ويُغِري المحيطة به ترميه إلى التي في داخله؛ فما إن يزال مرتطمًا بين هذه وتلك، وكأنه لشدَّة وقعهما يُحَطَّم تحطيمًا بين مِطْرقتين!
وهذه البلِيةُ من العذاب لا تتفق إلا في أشدّ ما يكره الإنسان حين لا يجد الإنسان منه مفرًّا، ولا يُطيق عليه مَقرًّا، وفي أشد ما يحب حين لا يقدر إلى حد اليأس، ولا يصبر إلى حد الجنون، وأحسب ما في الأرض منتحر قط أزهق روحَه — إنْ لم يكن مجنونًا — إلا وهو في إحدى هاتين الحالتين؛ فإن وجدتَ مَن يُثبِّتهُ الله على حالة منهما وجدته كالبقية من الحريق: إن لم تكن احترقت وذهبت، فقد احترقت وبقيت!
•••
أجرم السجينُ فأُخِذ بذنبه، فما ذنوب هؤلاء جميعًا؟ أهي إحدى الحقائق العُليا الغامضة التي من أجل غموضها، واستبهام حكمتها يقول الحائرون: «كلُّ شيء هو كل شيء!» ويقول المنكرون: «لا شيءَ في كل شيء!» ويقول المؤمنون: «كل شيء فيه شيء»؟
أم هي الحقيقة السهلة الواضحة من كل جهاتها، وإنْ أصبح الناس لا يفهمونها؛ إذ لا تحتاج إلى فهم، وإنما هم موكلون بما خفي ودقّ، كدأبِ هؤلاء العلماء والفلاسفة الذين يقطعون العمر في دقيق المباحثِ، وعويص التراكيب، ثم لا ينتهون من نتائجها إلا إلى النواميس المكشوفة انكشافَ النور لكل ذي عين تبصر!
ونحن من ظلام الدنيا، ومن بحثنا عن الحكمة الإلهية الصريحة بوسائلنا الإنسانية العاجزة، كالذي يبغي أنْ تَطْلع عليه الشمس في ليلهِ، ويبقى له مع ذلك ظلام الليل! يريد مُستحيلين لا مستحيلًا واحدًا، وهذا هو عقلنا الذي لا يُعقل!
لو أراد الله بك خيرًا أيها القلب المسكين لما جعل شقاءَك يُربَّى فيك تربية كما تُربَّى أنت في الإنسان، وكما يُربّى الإنسان في الحياة؛ فالحب، والرحمة، والشفقة، والصداقة، وكل المعاني التي هي روابط الإنسانية في اشتباكها، هذه كلها هي وسائل مَسَرَّتك في حالة، وهي بأعيانها أسبابُ عذابك في حالة أخرى!
تأتي النعمة فتُدني الأقدارُ من يدك فرعَ الثمر الحلو، وأنت لا ترى جِذره، ولا تملكه، ثم تتحول فإذا يَدُك على فرع الثمر المرّ، وأنت كذلك لا ترى ولا تملك؛ ألا فاعلم أنّ الإيمان هو الثقة بأن الفرعين كليهما يَصلانِك بالله، فالحلو فرع عبادته بالحمد والشكر، وهو الأحلى عندك حين تذوقه بالحِس. والمرُّ فرعُ عبادته بالصبر والرضا، وهو الأحلى حين تذوقه بالروح!
القلب الإنساني ميدانٌ تقتتل فيه القوى الأرضية والسماوية، فلا بدّ في النصر والخذلان جميعًا من الدم يذهب كلُّه أو بعضه، والجراح تبرأ أو لا تبرأ، والآلام تُنسْى أو لا تُنْسى …
لا بُدّ؛ لا بدّ؛ لا بدّ!
•••
وجاءت حافلةُ السجن فركبها السجين، ومضت تجرّها البِغال طائعة منقادة، كما تنقاد إذا هي جرّت مركبةَ ملك، وذهبت وما تحفِل بشيء من الدنيا، وسياستها، وآدابها، وأحكامها ما تَحفل بهذا السوْط الدقيق المُسلَّط على ظهورها … أما أهلُ الرجلِ فتهالكوا وراء العربة؛ فالشاب يَخطِفُ في عَدْوِه مُنكرًا؛ كأن قربَه منها يُوصِّل بعضَ أنفاس الحرية إلى أخيه، والنسوة يَهْتَلِكنَ في جريهن، وكلما أبعدت الحافلةُ علا صُراخُهن ليبلغ السجينَ منهن شيءٌ ما، أما الطفلان وجَدَّتُهما فوقفوا من الضعف كأنما وقفت قلوبهم، ولكن نظرات الجِدّة ارتمت إلى العربة، فلما غابت عنها ارتمت إلى السماء!
وأما الرضيعُ، هذا اليتيمُ في حياة أبيه، هذا المسكين الذي ابتدأ تاريخه بجريمة لا يد له فيها، هذا الضعيف الذي لا يزال جلدُه أرقَّ ديباجة من ورق الزَّهر، ومع ذلك تدق فيه منذ الآن مسامير الفقر واليُتْم والضياع؛ أما الرضيع اليتيم المسكين الضعيف، فكان وحدَهُ بين هذه المصائب الماحقة دليلًا على الأمل الإنساني في رحمة الله، إذ فتح عينيه للنور وابتسم!
•••
كانت المرأة غريقة في يأسها، وكان شاطئ الأمل يفرُّ أمامَ عينيها فِرارًا؛ لأن بينها وبينه موجةَ دمعها.
وقد صدَع الحبُّ في قلبها صَدْعًا لِيَغْرِزَ فيه الشوكة المُسْتَجِدَّةَ من ألم الفراق لِمَن تُحبه؛ تلك الشوكة التي ما نفذتْ قلبًا؛ فاستقرَّت فيه إلا جعلت الحياة كلها معانيَ شائكة حتى تُحْطم أو تُنْتَزَع.
•••
ما الفراق إلا أن تَشعر الأرواحُ المفارقةُ أحِبَّتها بمس الفناء؛ لأن أرواحًا أخرى فارقتها؛ ففي الموت يُمسُّ وجودنا ليتحطم، وفي الفراق يمس ليلتوي، وكأنه الذي يقبض الروحَ في كفه حين موتها هو الذي يلمسها عند الفراق بأطراف أصابعه!
وإنما الحبيب وجود حبيبه؛ لأن فيه عواطفه، فعند الفراق تُنْتَزَعُ قطعةٌ من وجودنا؛ فنرجع باكين، ونجلس في كل مكان محزونين، كأن في القلوب معنى من المناحة على معنى من الموت!
وكل ما فيه الحب فهو وحده الحياة، ولو كان صغيرًا لا خَطَر له، ولو كان خسيسًا لا قيمةَ له، كأن الحبيب يتّخذ في وجودنا صورة معنوية من القلب! والقلب على صِغره يخرج منه كل الدم، ويعود إليه كل الدم.
في الحب يتعلم القلب كيف يتألم بالمعاني التي يُجَرِّدها من أشخاصها المحبوبة، وكانت كامنةً فيهم، وبالفراق يتعلم القلب كيف يتوجع بالمعاني التي يجردها هو من نفسه، وكانت كامنة فيه.
فترى العمرَ يتسلّلُ يومًا فيومًا، ولا نَشعر به، ولكن متى فارقنا من نحبّهم نبّه القلب فينا بغتةً معنى الزمن الراحل، فكان من الفراق على نفوسنا انفجارٌ كتطاير عدة سنينَ من الحياة.
وترى العمرَ يمتلئ شيئًا فشيئًا، ولا نُحس الزيادة كيف تزيد: فإذا فارقَنا من نحبهم نبّه القلب فينا معني الفراغ؛ فكان من الفراق على أكبادنا ظمأ كظمأ السقاءِ الذي فرغ ماؤه فجفَّ، وكان الفراق جفافه.
ألا يا طائر الحب، إن لك إذا طرت جناحين؛ فما أقرب من هو على جَناح الفراق ممن هو على جناح الهجر.