الربيطة١
•••
كان صاحبنا فتى تَلْمَعُ عليه غُرَّةُ الشباب، وقد رقّ حتى كاد يُخالط حدَّ الأنوثة، ولان حتى قَارَب أن يفوت معنى الرجولة، وظَرُفَ حتى أوشك أن يكون إنسانًا تتفتح في روحه معاني الزهر، ولكنك إذا كنت رجلًا صحيحًا أمْرَرْتَهُ على عينيك كما تُمِرُّ كتابًا لا تريد أن تقرأه!
وكان من هؤلاء الفتيان الذين إذا تعلموا في أوروبا نَفَوْا جهلهم بالعلم، ثم نفوا عِلمهم بجهل آخر … ثم جاءوا كحرفي النفي: ما، ولا … فليس منهم إلا التكذيب، والإنكار، والشك. وتراهُم أظرفَ وأجمل وأزهى من فراشة الربيع، لا يريدون الحياة إلا أزهارًا، ولا يطيقونها إلا ربيعًا، وعلى أزهارهم وربيعهم، فليس لنا منهم إلا نقطٌ من الألوان، وأصواتٌ من الطِّين … وأجسامٌ ليس فيها رجالها!
•••
سألت هذا الفتى مرة: أنت مصري؟
قال: ووطني صميم!
قلت: أفترى أنك تصلح في علمك وتهذيبك أنْ تكون مِثالًا يتأسَّى بك نَشْء بلادك؟
قال: إني لأرجو ذلك.
قلت: وأنت من القائلين بتحرير المرأة الشرقية، ومساواتها بالرجل في الحرية المُطْلقة، وبَعْثِها من هذه القبور التي تسمى المنازل؟
قال: ذلك مذهبي!
قلت: فكيف ترى إذا اقتدى بك المصريون فأصْهروا إلى الأوروبيين، وخلطوا الشَّمل بالشمل؟
قال: لعلّ ذلك خير الطبّ لبلادنا، فلا مَعْدِل عنه في رأيي؛ إذ يأتيها بالدم الجديد، ويُدْمج في طباعها النظامَ والدقةَ، ويبني البيوت من داخلها.
قلت: أحسنتَ بارك الله عليك؛ فكيف ترى إذا سألناك التسوية، وقلنا لك: دع أختك تَصْبُ إلى رجُل أوروبي، وتتزوجْ منه إجَارَة … وتأت به إلى مصر كما أتيت أنت بصاحبة بيتك! ثم لتفعلْ كل امرأة مصرية فعلها، فيكون لكم أوروبيات، ويقوم عليهن أوروبيون …؟
قال: أعوذ بالله!
قلت: فعل الله بك وفعل! أفيبلغ من غفلتك أنْ لا تعرف لعنة الله إلا إذا رأيتها ملء مملكة، ولا تعرف حق وطنك فيك إلا حين تراه غريبًا منقطعًا، لا حق له في واحد من أهله، ولا تدرك واجب التضحية بلذّاتك وشهوات نفسك إلا بعد أن ترى الوطن من اضطراب الموت في مثل حال الذّبيحة تَدْحَضُ برجلها تحت سكين الذابح؟
قال: فما أنا وأمثالي إلا شذوذٌ من القاعدة التي يجب أن تبقى أبدًا قاعدة …
قال: فكم من امرأة وطنية هي حمل على ظهر زوجها!؟
قال: فماذا نصنع ونساؤنا جاهلات لا صبر عليهن؟
قلت: أفتُزهِق روحك إذا مرضت أم تَطِبُّ لمرضك في أناة وصبر؟ وهل تفرّ من وطنك إذا ابتلاك بتضحية، أم تثبت وتتجلد؟ ثم ماذا أفدنا من علومكم إذا لم يحمل كلُّ عالِم منكم جاهلة منهن؛ فيعلمها، ويثقفها، ويُخلِصها إخلاصَ الذهب الصافي، ويربح ثواب الوطن فيها؟ وإذا كنتم تهملون نساء بلادكم؛ لأنهن جاهلات، فحدّثني أفلا يزيدهن ذلك جَهلًا وضياعًا، ويضاعف مصيبة البلاد فيهن وفيكم، ويكون تركهن الذي قد يُستَصْلح سببًا لِما وراءه من الفساد الذي لا صلاح له؟
وهل ترون المرأة الوطنية منكم إلا كالزهرة: نضرتُها في غصونها وأوراقها، فإذا طرحتْها غصونها عمل مَنْبَتُها الاجتماعي فيها — وهو التراب — حين تتصل به عكسَ ما كان يعمل حين لم يكن يصل إليها من فروعها، وأوراقها غذاء يحمل روح الماء، وروح الشمس؟
أما والله إنكم فئةٌ لا تُعدّ إلا في مصائب وطنها، وإنكم لكالأجنبي، ما دام أحدكم لا يَصِلُ أُمومة أولادِه بتاريخ أمه، وإنكم لكالغاصب، ما دمتم تغصبون حتى نساء الوطن في رجال الوطن، وإنكم لكالعدوّ، ما دام كل واحد منكم حربًا على بيت … ألا فدعونا من الجاهلين، فقد يكون من بعض عُذرهم الجهل، ومن المتَلصِّصين، فمن عذرهم الحاجة، ومن المُفسدين، فمن عذرهم سُوءُ التربية، ومن الساقطين، فعذرهم ضعفُ النفس، ومن الخاملين، فعذرهم التَّرك والإهمال، ثم اعطفوا على هؤلاء مائة واو أخرى، فكلها مُسوّغةٌ أعذارَها المحمولة على مَحاملها، وكلها أقرب إلى الدَّهْماءِ منها إلى المتعلمين، وإلى أخلاط الناس منها إلى الخاصة، وإلى السفْلة منها إلى العِلْية … ولكن ما عذركم أنتم عن شهوات أنفسكم، وإيثاركم هذه الشهوات، واستهتاركم في هذه الأثرة؛ يعجز أحدكم أن يَكْسر جِماحَ نفسه؛ فيجني على نفس من نساء وطنه، هي التي زهد فيها، واستبدل منها، وعلى نفوس من أبناء وطنه! هم الذين سيُعقبهم من ذريته، ويأتي بهم للبلاد أجسامًا غابت قلوبها، ونفوسًا بردت دماؤها؛ ينزِعُهم العِرْق الأجنبي من أمهاتهم اللائي ولَدْنَهم إذا حمِي دمُ البلاد لبعض أغراضها، ويكونون في أمراضها من أسباب موتها، وفي صحَّتها من أسباب أمراضها!
ما لكم تَنزلون أنفسَكم منزلةَ الطفل البِكر من أهله: ليس له إلا حُظوظه وشهواته؛ مسوَّغًا كل ما يقترحه عليهم؛ لأنه هو كان اقتراحَهم على الله؛ محمولًا على قلوبهم؛ لأنه بعض قلوبهم؛ يُفسد المتاع، ويُحطِّم الآنية، وتنزو به النعمة نَزْوتها؛ فتجعل نصف عقله جُنونًا، ونصف أدبه حُمقًا، ونصف المنفعة به ضَررًا، ونصف ظَرفه عَنَتًا، ونصف لينه مشقة؛ ويكون خيرُه نصف الخير، أما شرُّه فشر اثنين؛ فهلا كنتم من أهل بلادكم كالأب من أولاده: يرى حقَّ ضَعفهم أكبر من الحق الذي لقوَّته، وواجبَ مرضهم فوق الواجب لصحته؟ فهو يبذل سعة نفسه في ضيق أنفسهم، ويحملهم صغارًا ليجعلهم كبارًا، ويصبر عليهم حمقى ليجعلهم عُقلاء، ويرى عمره كأنه من بعض أرزاقهم، وهو لا يستخلف من العمر شيئًا، وحواسَّه كأنها من بعض خدمهم، وما له غيرُ حواسه، ويراهم كأنما جاءوا إليه من السماء بعد أن اشتروه من الله، وباعه الله منهم بتلك النقطة الشابِكة فيهم من دمه!
•••
ذلك هو الرجل، أما صاحبته فامرأةٌ فرنسية، جميلة الوجه في طلعة الصبح، شابة الجسم شباب الضُّحى، ملتهبة الأنوثة كشعاع الظهيرة، رقيقة الطبع رنة الأصيل، زاهية المنظر في مثل شفق المغرب من تأنقها، ثم هي تنتهي من كل ذلك إلى مخير أشدَّ ظلمةً من سواد الليل … ومن أين اعتبرتها ألفيتها رذيلة مهذبة، يترقرق فيها ماءُ العلم، ويجول في حُسنها شعاع الفلسفة، كأنها عين فاتنة تدور فيها دمعة دلال!
ولم أكَد أراها حتى أخذني جمالُها؛ فإنّ لها عينين رُكِّبتا تركيبًا يجرُّ المصائب على القلب، تُلهبان أشعةً ضاحكة أو عابسة، يُخلق منها للقلوب حوادثُ وتواريخ، وتُرمى بنظرات تُبرئ الصدور أو تُمرضُها، وتبسم بوجهها كلِّه نوعًا من الابتسام يكاد يسيل من كل ناحية في وجهها قُبُلات؛ أما افترارُ شفتيها فهو جمال على حِدة يشبه نقل معاني الخمر من فم إلى فم …
امرأة ساحرة لا أدري إن كانت بُنِيَتْ على السحر، أو على الحُب، ولا إنْ كان هذا الحب قد خُلق لعنة عليها أم هي خُلقت لعنة عليه، والحب دائمًا بركةُ امرأةٍ، ولعنة امرأة! والتي تزرعه في كل مكان هي التي لا تحصد منه شيئًا، فإن نالها شيء منه كان تعبًا عليها، رَوحًا لسواها.
بيد أني مع كل ذلك استعصمت بفلسفتي وحكمتي؛ فلم أرها إلا في مثل حريرة التفاحة إذا أفرط عليها النُّضج فابيضت، واحمرَّت، وفاحت، ولمعت، وإنَّ العفن لبادٍ من تحتها، يُحذِّر منها وينذر، وفي مثل فروة الدّبِّ: استرسلت ولانت في نعومتها، ولكن لا منفعة منها إلا بقتل لابسها، وإزهاق الحيوان كله في سبيل الجمال الظاهر من جلده.
وأبصرت في هذه الحسناء اللعوب التي تستوقِدُها الضحكةُ بعد الضحكة، تلك الهامدةَ المريضة التي تُطفئها الحسرةُ بعد الحسرة، وسقطت الشجرة الخضراء النامية، فإذا في مكانها جذع خشبي ملقى، زَهدَ فيه نورُ السماء وطين الأرض معًا!
وتمثلت لي هذه المتكِئة على طِرازها وأرائكها تتبرجُ في سُندُسِها وحريرها، فرأيتها ممدودةً في حُفرتها، مُسجَّاةً بأكفانها، قد هِيلَ عليها تُرابها، ولم يرحمها راحمٌ، ولا النسيان يستر رذائلها عند من عرفوها، وقد اجتمع عليها بعد عشاقها من دود الناس … عشاقٌ آخرون من دود الأرض، ويفنى جسمها حين يفنى، ويبقى ضميرها الروحيُّ إلى الأبد ضميرَ مومس!
ورَثَيْت لها أشد رثاءٍ وأبلغه في الرحمة والرقة، حتى عادت نظراتُها تقطر على نفسي دموعًا سخينة كدموع الذل! ويا حَرَّة قلبي من الإشفاق عليها، وأنا أرى في احمرار جمرتها سواد فحمها، وفي أسباب سرورها أسبابَ همها! ويا لهفي عليها إذ أرى هذه الجميلة التي لم تنظر أكثر ما نظرت إلا إلى الخطيئة، ترفع نظرها أحيانًا إلى السماء بقوّة في داخلها، كأنها تقول لمن يفهم عنها: إن هنا القدَر، وهناك المُقدِّر! ويا بؤسها حين لم تَعُد تظهر في روحي إلا كما يَتخايَل ظلُّ القمر في الماء؛ أنظر فيه الصورةَ من غير معنى، والضوءَ من غير قَبس، وأرى فيه الخيال، وليس فيه القمر!
•••
•••
ونَظَرَت إليّ تلك المرأة نظرةً حزَّت في قلبي؛ لأنها لا تسألني المدحَ، وكذلك لا تُريد مني الذم؛ وبعد أن رضِيَتْ أن تسمع لي كأنها تقرأ كلامي في كتاب، وواثَقتني على أنْ تعتبرني مُخاطبًا فكرها دون شخصها، ومُحاورًا فلسفتها دون تاريخها، قالت: أحسبك لست كغيرك من الناس.
قلت: ولا أنا كالملائكة.
قالت: فتعرف الخطيئة الإنسانية، وتقدر قدرها؟
قلت: وأعوذ بالله منها وأتحاماها!
قالت: وتعرف ضعف الطبيعة؟
قلت: ومُعانَدَتها وصلابتها أيضًا.
قالت: فكيف تراني: ألستُ نصف المسألة السماوية على الأرض؟ وهل أنا إلا معنى متجسِّم من معاني القدَر؟ وهل خرجتُ من سُلالتي إلا كما خرجت الخمرة من عناقيدها؟ وهل خُلِقْتُ جميلةً غالية كالدينار إلا لتُشْتَرى بي بعض أوقات السعادة؟
قلت: أمّا المسألة السماوية فإنْ كنتِ نِصْفَها، فقد كان الشيطانُ نصفها كذلك، وأمّا القدر المتجسِّم، فلعلّ الحريق في بيت مَن نكبَ به أجملُ وأخف احتمالًا، وهو مع ألوانه الفنية … حريق، ولا يسمى أبدًا إلا حريقًا، وأما الخمر فهل هي إلا عُفونةٌ أسكرتْ؛ لأنها عفونة، وأمّا الدينار الذي تشتَري به أوقات السعادة فهو نفسه الذي يُغرِي اللصوص ويُوجِدهم، وإذا كانت السعادة — كما تصفينها — في نشوة الخمر، فهل تُشترى الخمرُ إلا وفيها سُكرها، ومَرَضُها، وجُنونها؟
قالت: فحدثني لم كان الحب إذن؟ وهل خُلق إلَّا للاستمتاع به من حيث يتفق، وعلى أحسن ما يتفق؟
فقلت: إنما خلق الحب قوةً ليقيَّد بقيوده كسائر القوى الطبيعية: فأنتِ تصدعين عنه كلَّ قيوده، وتتخذينه تجارة في النفوس، فلا تَرُدِّين يدَ لامس، ولا تمتنعين على دعوى فيها ثمنها … وبذلك تجرين مجرى القوّة المدمِّرة؛ ومن هنا كان لك في الاجتماع الإنساني شأن ليس كشأن المرأة، بل كشأن المادة، وكان بعض الآداب والقوانين ينزل منكِ منزلة المطافئ المعدّة للحرائق، وبعضها بمنزلة السجون المرصدة للجرائم، وبعضها بمنزلة الاحتقار المهيَّأ للتاريخ السيِّئ، وما ظلمك الاجتماع في شيء؛ لأنك أنت في نفسك ظُلمٌ له، وإن الدواء الذي يبرئ من المرض لا يُعد مرضًا للمرض، وأهْون بذلك إذا عُدَّ ما دام يُبرئ من العِلة، فإنَّ دَرْءَ المفاسد قبل جَلب المنافع، ودرءُ المفسدة هو في نفسه منفعة!
قالت: فكأنك تذهبُ إلى القول بأن مَثلي مَثلُ العقرب والحية، وغيرهما مما لدغ أو نهش أو سمَّ، وأنَّ دأبي في الاجتماع كدأبهما، فليس لها إلا القتلُ حيث وُجدت، ومثلُ الأوبئة والحميات، وما قتل، وما أعدى، فليس إلا مُدافعتُها، أو الفرارُ منها فرارًا بالحياة لا بشيء دونها، وكأني في رأيك لست مخلوقة كالمرأة، بل كحيوان للأذى والمقت والخوف؟
قلت: بل مخلوقة مثل كل امرأة كانت، وكل امرأة تكون أو هي كائنة، ولكن فيكِ من الزيادة عليها زيادة ماء السَّيل على ماء النهر، وزيادة الحِدَّة على الطبع الرزين، وزيادة الطيش على العقل، أفإذا طغى النهر فأفسد وخرَّب، وفارت النفس فحمُقَت واعتدت، وطاش العقل فزلَّ وأخطأ؛ نهض ذلك عندكِ عذرًا في وجوب التخريب والاعتداء والخطأ، وتسويغها، ووجب من ثَمَّ أنْ تعتدل هذه الصفاتُ الجائرة على قلوب الناس، وأن يطمئنوا إليها، ويرضوها مُذْعِنين، فلا يقيموا على النهر العاتي جبالًا من السدود، ولا يجعلوا للنفس الطائشة سجنًا من الحدود، ولا يقولوا لمن يجنيها عليهم: إنْ كان عندك الفرار فعندنا القيود؟
قالت: كلا، ما تبلغ بي الغفلة هذا المبلغ، ولقد درست وبحثت، وفي هذا الرأس ما في رأس رجل عالم فلا تظن غيره، ولكني إن أجْنِ لا أجْنِ إلا على نفسي، وهي لي وحدي، وأنا حُرة كيف أتولاها، أفأنت رادِّي إلى العبودية؟
قلت: أنت حرّة ما شئت، وما وسعتك الأرض إذا كنتِ لنفسك، وإذا كنت لا تتصلين بأحد من الناس اتصالَ العلة المهلكة، أو المعجزة، أو المذهِلة، أو اتصال الرذيلة السَّامة بالدم النقي!
قالت: فإني لا أتصل بأحد، ولكنهم يُغْرَمون بي، ويتنافسون عليَّ؛ فأجد في تنافسهم لذة من أمتع لذاتي.
قلت: وكذلك نَرْدِمُ الحفرة إذا اعترضت طريق السابلة وقاية لمن عساه يغفل فيعثر بها، فإن بلغت أن تكون هاويةً طبيعية لا حيلة فيها، ومَرَدَتْ بها طبيعتها المنخسفة، ميَّزناها بالعلامات، وضبطناها بالحدود، وسمَّيناها بالأسماء، وجعلناها آية التحذير من الهلاك؛ حتى لا يزلَّ أحد فيتردى فيها، وإذا كان من لذتكِ أن تشهدي اقتتالهم عليك، فهذا حسبكِ في أنّ تعاستهم أن يقتتلوا، وكنتِ ولا جرَم في لغة الاجتماع من بعض معاني الشقاء والتعاسة!
… ثم إنّ في تلك اللذة منك دليلًا حيوانيًّا على أنّ في طبعك منك إناث البهائم الشاردة، التي تقف ليتناحَرَ عليها ذكورُها وقوفَ المملكة المُباحة تنتظر المنتصر؛ فتقتل بإباحتها كلَّ النفوس التي زَهَقَت حولها، ولو هي لم تكن كذلك لم يكن شيء من ذلك؛ فكنتِ ولا جرم في لغة الاجتماع من بعض معاني البهيمة!
… ثم إن هذا وذلك فيك نذيرٌ بانقلاب الإنسانية، ونزولها دون حدها، وتراجُعها في سبيل الجاهلية الأولى، واتصالها من كل ذلك بوحشيتها الغابرة كأنْ لم يكن علم ولا دينٌ، ولا تهذيب، فكنت ولا جرم في لغة الاجتماع من بعض معاني الرذيلة والسقوط!
قالت: هم لا يتناحرون عليّ بأنيابهم، ولا مخالبهم، ولا قرونهم، وإنما يفعلون ذلك بأموالهم.
قلت: فلا جرم كنتِ بهذا في لغة الاجتماع معنى من معاني السَّفه، والفقر، والخراب!
قالت: ولكن كم من رجل أحبني، فرأى فيَّ آية الإبداع الإلهي، فكان لا ينالني إلا كما ينال المؤمن لذة قلبه.
قلت: فمن ذا أبدع الأصنام، وسلَّطها على الهوى، ثم سلطها بالهوى على كهنتِها وعابِديها، فما يرون الحجر المعبود حجرًا إلا لأن عليه بناء ملكوت السماوات … ولا البقرة المؤَلهة بقرةً إلا لأنها تجرّ محراث الوجود … ولا الحشرة المقدسة حشرةً تدب دبيبَها البطيء إلا لأنها تحمل الخليقة … لا جرم كنتِ بذلك في لغة الاجتماع معنى من معاني الضلالة!
قالت: أتحسب أنك أعيبتَني في مأخذ الحجج، واستنباط البراهين؟
قلت: فماذا؟
قالت: إني أعدُّ الزواج أسْرًا واستعبادًا، وقد بلغت من العلم مبلغًا لا أرى فيه أن تكون حريتي محدودة بسُلطة رجلٍ بين كلمتين: لا، ونعم، فآثرت أن أتخلص من الحب بالوقوع فيه لأعرفه، وعرفته لأتقيه على نفسي، وأتقيه لأبتليَ به، ولأصرِّفه في منافعي؛ فليس لي في الاجتماع زوج، ولكن ليَ الحب، وليس لي فيه أهل، ولكن ليَ الجمال.
قالت: فأنا في الاجتماع تعاسة، وبَهيمةٌ، ورذيلة، وفقر، وضلالة، وسخرية؟ ولكن ألستَ ترى هذه الصفات بعينها في كل الناس على بعض التفاوت في مقاديرها، والتنوع في أشكالها، والاختلاف في أسبابها؟ وهل الرجُل الفاجر إلا كالمرأة الفاجرة؟
قلت: لقد فجر من الرجال من لا تحصيهم الملايين، فهل علمت أنّ فاجرًا منهم حَمَل تسعة أشهر ووضع! ألا ترين أنّ الطبيعة جعلت لكلٍّ حكمًا، وهيّأت لكل موضعًا! وهل سواء في الطبيعة الألم وخطره، وعاقبته على الحياة أنْ يكون الدُّمَّل على ظاهر الجلد؛ حيث يتلذّع على نفسه، ويُرى ويُحدُّ، وأن يكون في باطن الجوف؛ حيث يُخشى منه على غيره أكثر مما يخاف على موضعه؟
قالت: فكأن الرجل عندك أطهر فجُورًا … من المرأة؟
هيهات هيهات، فلن تشعر المرأة الساقطة إلا شعورَ مَن فقدت نفسَها التي كانت نفسها، وبُدّلت أخرى لا تلائمها؛ فهي أبدًا هائمة وراء نفسها الأولى تبحث عنها، ولا تنساها؛ لأن ذلك الأصل الطبيعي لا يزال يُناجيها في قلبها بلُغة الأمومة، والزوجية، والحياء، والفضيلة، وما نفسُها الشريفة إلا جوابُ هذه اللغة، وهي ليست فيها، فكأنها تحمل على حياتها أربعَ جرائمَ في جريمة؛ هي أشقى النساء، ترى في ذات عقلها الرهان العقلي على أنها امرأة ساقطة!
•••
فتَغررتْ عيناها بندى رقيق من الدمع، وقالت: لما كنت فتاة …
فقطعت عليها الكلام وقلت: في تلك الفتاة كل البراهين فسَليها، إنها هي نفسك الهاربة منك!
فوَجمت هُنَيهةً لهذه الكلمة، ثم انهملت عيناها انهمالًا، وجاءها الدمع الطاهر يجري من أقصى الطفولة؛ فخالطني بثها وحزنُها كأن دموعها تسقط على مواقعَ من نفسي!
فقلت: أتأذنين في كلمة؟
قالت: بل أسألك أن تتكلم، فإن مدامعي هذه عرضت لي كالمطرة السانحة في حميم القَيظ من صميم الصيف على أرض مُغبرة مقشعرَّة، تثور سُخطًا على كل قدم تَطؤها؛ وإنّ فكري ليُكلمني الساعة بلسانك كما يدوي الناقوس بصوته العالي الرنان بعد أن كان هذا الناقوس مختنقًا فيّ بما يُطيف به من الضغط؛ فكان لا يدقُّ إلا دقاتٍ مُصمَتةً لا رنين فيها، كأنه ناقوس من الخشب!
أيحسبون أن قلب المرأة حين يُشترى بالمال يكون أطهرَ من خرْقة قذرة تتناولها يدٌ أقذر منها؛ أو أثمن من فُتاتِ مائدة يُترك لحيوان أعجم؟ … ألا إنّ قلب المرأة لا يُباع أبدًا، وإنما هي حين تبيعهم: تبيعهم مَعِدَتَها باسم القلب … إنك إنْ لم تأخذ القلب هبةً ممن تُحب، فما أنت من حبها في (خُذ)، ولكن في (هات) وأخواتها …
•••
ثم قلت: كانت المرأة نصف الإنسانية؛ فصارت ربعها.
قالت: وكيف؟
قلت: ألا ترينها انقسمت في هذه المدينة إلى قسمين متناقضين: الزوجةُ، واﻟ …
قالت: حسبُك، خذ في غير هذا فقد أبْثَثتك ذات نفسي، وما ينفعك ولا ينفعني أنْ تَنقض السُّور الذي أقمتُه حول حقيقتي؛ فإن كل قُوى الكون عاجزة عن إرجاع ورقةٍ واحدة انتثرت من زهرتها!
ثم ابتسمَتْ وسلّمتْ، فانصرفت وكأني ما تكلمتُ ولا تكلمتْ، وبقيتِ الأقدارُ مكانها فما تأخرَتْ، ولا تقدّمت.
•••
ليس على الهاوية أرض تغطيها، فهل تغطيها الفلسفة؟
ولو كانت الحصباءُ فيها بين لؤلؤة، وزمردية، وياقوته، فهل من يدق عُنقَه في الهاوية ليموت على أرض من الجوهر؟
الهاوية في الطبيعة، والساقطة في الإنسانية: كلتاهما أرض كالمرأة، وامرأةٌ كالأرض!
وكذلك يُخلق الطيبُ والخبيث لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٍ!