الصّغيران
تقوم الطفولة في روحها، وعهدها، وحوادثها على عقيدة واحدة، هي أنّ كل ما كان فسيكون غيره، وهي تعرف ذلك يقينًا جزْمًا لا شك فيه، وحكمًا لا مَعْدَل عنه؛ فالصغار على أيِّ أحوالهم هم كبار الناس في هذا المعنى.
إنك لتعرف الرجلَ لا بأس بعقله، ثم تراه فيما ينزل به من الحوادث فإذا هو من النفرة والهم، والقلق صورةٌ كاملة من اضطراب فكره في حكمة ما ابتُلي به، فإذا نظرت إلى الطفل في مثل ذلك رأيته صورةً أخرى من نفس حزينة راضية مستسلمة، قد أقرّت فيها رحمة الله بحكمة الله؛ فالحزنُ فيها سببُ الهمِّ، ولكنه كذلك سببُ الأمل!
•••
وكان في تلك الساعة قد حطَّ عليه الساقي حتى انتهى في سماواته الوهمية إلى الأفق الزجاجي، فعاد كلامُه رنينًا، وطنْطنة لا يفهمه إلا صاحب الحانة وحده … فلما دَهتْه الداهية من كرب الخمر تخطى حدّ إنسانيته إلى البهيمية السائمة، وما كاد يرتفع الستار الإنساني عن مسرح أخلاقه، حتى رأيتني في رواية عجيبة يمثلها أربعة اجتمعت أرواحها في شخص واحد: سفيهٌ، ومعتوهٌ، وأحمقُ، وأديب …
وجعلْتُ أتأمل على يقين الخبرة، أشهد على حق النظر عجيبة هذا العقل الإنساني الذي يسبح في الأفلاك، ويتطوّح من شاطئ المجهول إلى شاطئ المعلوم بوثبةٍ أسرع من ضربة الجناح، ثم هو مع ذلك يغرق في زجاجة خمر، وصرت أرى كيف يتحوّل النبوغ العقلي في بعض ساعاته إلى صناعةٍ خسيسة، هي صناعة الأديبِ نفسَه الشريفة بهيمةً من البهائم، وعلمت عِلمَ هؤلاء الأدباء الذين يحسبون الخمر توحي إليهم، وما في مِلْءِ الدَّنِّ منها ما يعدل فائدة واحدة من قوة الإرادة.
ولو رجع الأمر إليّ ما جعلتُ عقوبةَ الخمر إلا تحطيم الزجاجات على رءوس شاربيها؛ وهبْ أنّ رأس الأديب السكير هو رأس أَرِسْطو عِلمًا وذكاءً؛ فذلك أدْعى لتحطيمه؛ لأنه لن يكون في عربدته، وسكْره، وانحطاطه، وسقوط همته إلا رذيلةً يدافع العلمُ والذكاءُ عن وجودها، فينصِبها الشيطانُ مثلًا للتقليد، ويتخذها الأغرارُ والضعفاء قاعدةً للباطل المتبع، يَعملون على احتذائها، ويتحولون عن فضيلتهم بحجتها؛ فيصبح هذا الرأس الواحد كالمطبعة: متى حَبرها الطابع نقلت ما فيها «بحروفه» إلى كل الصحف البيضاء التي تُلامسها!
•••
… وفي تلك الساعة كانت الأرض قد عَرِيَتْ إلا من أواخر الناس، وطوارق الليل، وبقية من يقظة النهار، تحبو في الطرق ذاهبة إلى مضاجعها: فبَيْنا أمدُّ عيني وأديرهما في مُفتتح الطريق ومُنقطعه، إذ انتفضْت انتفاضةَ الذُّعر، ووثبتْ رجَّةُ القلب بجسمي كله كما تثب اللسعة بملسوعها؛ ذلك حين أبصرت الطفلين …
تتبيّن الخوفَ في عيونهما الصغيرة، وتراه يفيض منهما على ما حولهما، حتى ليحسب كلاهما أنّ المنازل عن يمينه وشماله أطفال مذعورة!
ويتلفتان كما تتلفت الشاةُ الضالة من قطيعها: لا يتحرّك في دمها بالغريزة إلا خوف الذئب!
ويتسحبان معًا وراء الأشعة المنبثة في الطرق، كأن أضواء المصابيح هي طريق قلبيهما الصغيرين.
منقطعان في ظلام الليل، وليس على الأرض أهنأ من ليل الطفل النائم، فهل يكون فيها أشقى من ليل طفل ضائع؟! نامت أحلامهما، واستيقظت أعينهما للحقائق المظلمة الفظيعة، وضاعا من البيت، ويحسبان أنّ البيت هو الضائع منهما … طفلان في وزن مثقالين من الإنسانية، ولكنهما يحملان وزنَ قناطير من الرعب.
يا مَن لا إله إلا هو، من سِواك لهاتين النملتين في جنح هذا الليل الذي يشبه نقطة من غضبك؟ لقد أخرجْتَهما في هذا الضيّاع مَخرج أصغر موعظة للعين تنبه أكبر حقيقة في القلب، وعرضت منها للإنسانية صورة لو وُفّق مخلوقٌ عبقريٌّ فرسمها لجَذَبَ إليها كلَّ أحزان النفس!
صورة الحب يمشي مُتسانِدًا إلى صدر الرحمة في طريق المُصادفة المجهولة من أوله إلى آخره، وعليهما ذُلّ اليتم من الأهل، ومسكنةُ الضياع بين الناس، وظلام الطبيعة وكآبتها!
وقد أسندت مَنْكبَه على صدرها وهي تمشي، فلا أدري إن كان ذلك لتحملَ عنه بعضَ تعبه فلا يتساقط، أو ليكون بها أكبر من جسمه الضئيل فلا يخاف، أو لأنها حين لم تستطعْ أن تُفهمه ما في قلبها بِلُغة اللسان أفاضته على جسمه بلغة اللمس، أو لا هذا ولا ذاك، إنما هي تستمدّ من رجولته الصغيرة حماية لأُنوثتها بوحي الطبيعة التي رسخت فيها!
أما الطفل فمستذِلّ خاشع، لو تُرجمت نظراته لكانت هذه عبارتها: اللهم إنّ هذا العمر يومٌ بعد يوم، فأنقِذْنا من بلاء يومنا!
ولما وقفا بإزائنا كان هذا الصغير يقلّب في وجوه الناس نظراتٍ يتيمة، ترتد على قلبه آلامًا لا رحمة فيها؛ إذ يشهد وجوهًا كثيرة ليس لها ذلك الشكل الإنساني المحبوب الذي لا يعرفه الطفل من كل خلق الله إلا في اثنين: أمّه، وأبيه!
وكان الطفل المسكين في جملة النظر إليه، خلقًا من الحب المؤلم الذي يلهب الدم، يرسل من عينيه الدعجاوين سحر المذلة الفاتنة، تلك المذلة التي أعرفها أقوى ما في الحب إذا تذللت الحبيبة في نظرة ضارعة ترسلها لمحبها المفتون، فلا تبقي في رأسه رأيًا، ولا في قلبه نية، وتذلُّ له ليذل هو لا غير، كأن أحبَّ العزِّ في أحبِّ الذل!
ونظر إليّ أنا أول رمقة، فذكرت أطفالي فتزلزل قلبي، وأحسست أن دمي استحال إلى بارود وقع فيه الشرر!
وهؤلاء الأطفال الصغار هم إنسانية على حدة، فكل أب هو أبو هذه الإنسانية كلها، ولن يُطيق من كان له طفل أن يرى صغيرًا ضائعًا في الطريق يستهدي الناس إلى أهله، ويبكي عليهم، أو طفلًا جائعًا يعرض على الناس وجهه المنكسر، ويستعطفهم بصوته المريض أن يطعموه، أو طفلًا يتيمًا قد ثكل أهله، وضاق بقسوة أوليائه، فانطرح في ناحية يبكي، ويتفجع، ويسأل من يعرفون الموت: أين أبي؟ أين أمي؟
هؤلاء جميعًا ليس بينهم وبين قلوب الآباء والأمهات حجاب؛ إذ ليس فيهم من الناس إلا اضطرارُهم إلى الناس؛ فهم الإنسانية الرضيعة التي خُلق من أجلها القلب الإنساني في شكل ثَدي.
•••
واطمأن ذلك الطفل إلى صدر أخته، ومال برأسه عليها، ثم أطلق عينيه فينا جميعًا، فما حسبته أراد إلا أن يخبأ في قلبها أفكاره الصغيرة، ثم ينظر إلى هؤلاء الناس نظرات مجردةً بلهاء كما ينظرون هم إليه؛ إذ لم ير فيهم من فتح له ذراعيه، ولا من حمله، ولا من تحنَّى عليه، ولا من ضحك له، ولا من أعطاه شيئًا يأكله!
ألا إنما الناس صُوَرُ الفكر، وصور القلب، فمن لم نر فيه صورة من أفكارنا التي نلتمسها، أو من أهوائنا التي نحبها، فذلك ليس منا، ولسنا منه، وإن سمي أخًا في لغة النفاق، وإن دُعِي حبيبًا في لغة المجاملة، بل هو مخلوق ليكون النموذج الذي نتعلم عليه البغض إن كان متصلًا بنا، أو التسامحُ إن كان بعيدًا عنا، ولم تتصل بنا، ولا أخباره …
وكم بين الناس من اسمٍ تعرفه على صاحبه كهذا النور الأحمر الذي يضعونه في الطرق؛ فيضيئونه من الليل فوق الحُفر … لينذر الناس ما وراءه، ويقول لهم بصوت النور: ههنا ما ينبغي أن تحذروه، ههنا حفرة …
إنما الناس صور الفكر، أو صور القلب، فهم منقسمون حين يُولدون أسباطًا أسباطًا باختلاف الدم في كل أسرة، وهم متفرقون حين ينشئون أفواجًا أفواجًا باختلاف الصحبة في كل فئة، وهم متباينون حين يتدفعون أحزابًا أحزابًا باختلاف الهوى في كل طائفة، وهم متناكرون حين يتنازعون أُممًا أُممًا باختلاف المنفعة في كل أمة، فتلك أربعة وجوه تلبسها الإنسانية فيهم، ومن ثَمَّ قضي على هذه الإنسانية المسكينة في الأرض أن تكون ثلاثة أرباعها عداوة، كالأرض نفسها: ثلاثة أرباعها ماءٌ مِلح لا يُساغ ولا يشرب، وإنما منفعته للكون كله في الجملة! ولعل شيخًا من الشيوخ لو تدبَّر حياته، وأحصى أقدارَها، وميز أنواع حوادثها، وما أتي عليه فيها من أولها إلى آخرها، لرأى ثلاثة أرباعها مِلحًا أيضًا …
إنما الناس صور الفكر، أو صور القلب، فليس يأتي للوالدين أن يربُّوا من أولادهم ناسًا، بل أهواء ومطامع يناقض بعضها بعضًا: مطامع تتبع أسبابها، وأهواءٌ ترجع إلى غرائزها؛ فلو أن أهل هذه الأرض بلغوا بما لا نعلم من الوسائل أن ينظموا ظاهرَ دنياهم حتى يكون سواء لا يخالف شيء منه على شيء؛ لبقي الانتقاض والاختلال في باطن الإنسان، حتى لكأن بعض الدم يخلق غالبًا على بعض الدم. وإنه لا شيء في هذه الحياة إلا وقد خُلق معه ضده، فإذا استقامت الأمور فلمن تكون الأضداد لعَمْري؟
إنما الناس صور الفكر، أو صور القلب، فدنيا كل إنسان في شيئين: ما يَنزع إليه بفكره، وما يميل إليه بقلبه، والإنسان من كل إنسان أحد اثنين: من ترجَى به المنفعة، ومن تكون فيه المحبة، والإنسانية من كل إنسان في منزلتين: أدنى الحب، وتلك منزلة الصداقة، وأعلى الصداقة، وهي منزلة الحب؛ فأما وراء ذلك فصحراء الإنسانية الكبرى المقفرة من قلب الشخص وفكره. ولولا الأديان لخربت الدنيا، فإن هذه الأديان قد عمرت هذه الصحراء بعنصرين جليلين أنبتا فيها القلب والفكر، وهما: خوف الله في خلقه، ومحبة الله فيهم؛ فحيث وُجد هذا الخوف، وهذه المحبة وُجدت الإنسانية، وعلى ذلك فالإنسانية العامة الحقيقية هي الإيمان، والإنسان العامُّ الصحيح هو المؤمن، والسلام العامُّ الكامل هو الله جل جلاله.
ولكن يا لِشقاءِ الإنسان التعس! إن أعجب ما في الشر أن اختلاف الناس في فهم هذه الثلاثة هو أصل الشر!
وسألوا الطفلين أسئلة سياسية … ما وطنُهما؟ وما جنسُهما؟ أي من أي شارع، ومن أي والد؟
ألا ضل ضلالُكم أيها الناس! فلو أنهما يعرفان من أي شارع، ومن أي والد لما كان منهما ما ترون، على أن الطفلة لجْلجت في بعض كلمات تشبه اضطراب قلبها، وكان الصواب كله ماثلًا لعينيها مجتمعًا في ذهنها، فالبيت، والشارع، والأب، والأم كل ذلك واضح في خيالها، ولكن الذي استبهم عليها هو تحديد نسبته إلى هذا الوجود الذي تراه كله بيوتًا، وشوارع، ورجالًا، ونساء، وإنما تحديد الشيء هو تعبير الطبيعة عنه، وإنما تعيين نسبته من غيره هو تعبير الشيء نفسه عن خصائصه؛ فإذا أنت عرفت نسبتك من سواك، وحصرت هذه النسبة في حدودها وأسوارها، فقد أمنت الخطأ في سعادة نفسك، وأصبحت بتلك المعرفة أسعد إنسان.
ولكن من لك بهذه المعرفة، وبهذا التحديد، وقلوبُ الناس كافةً كأمواج البحر في البحر: تظهر كلُّ واحدة قائمة بنفسها في رأي العين، وهي راجعة في جميعها إلى أصل واحد، هو هذا السيَّال المتحرك الذي يتضرب بعضُه في بعض ليوجِد الأمواج ويُفْنيها.
ما أراني أعرف بعد طول الفكر سببًا للشقاء الإنساني، يجمع كل ضروبه إلا سببًا واحدًا؛ هو أننا معدُّون لكل الحالات المختلفة التي تطرأ على الحياة بقلب من نوع واحد، فإذا استطعنا أن نجعل ظواهرنا موضع الترتيب، فإنَّ بواطننا أبدًا موضع الاختلاط، والألم والنكد!
•••
ولما رأيتُ حيرة الطفلين ضممتهما إليَّ، وألهيتهما عن كآبة القلب بسرور البطن، فدفنت كلَّ آلامهما في بعض قطع من الحلواء؛ فطعما واستضحكا، وتطعَّما الحياة جديدة آمنة.
والطفل لا يعرف مستقبلًا ولا ماضيًا، وما هو إلا حاضرُه؛ فإن عييتَ بأمره فأوْجِده ما يلهو به، فهذه هي سعادة الطفولة، ولقد سرَّهما من الأديب السكِّير الذي كان إلى جانبي أضعافُ ما سرهما من الحلواء، بل كان زيادةً في حلاوتها؛ فحسباه يتعمَّد بسطهما، وإيناسهما بحركاته وبكلامه الذي يطن في السماوات الزجاجية؛ فكانا يضحكان منه، وكلما تكلم أو أشار أو تحرَّك أو أنكر عليهما، استخرج بذلك منهما مثل تغريد العصافير؛ فكانت كل الفائدة من سقوطه، وضياع عقله أنه أضحك طفلين!
إن من لم ير أُمًّا أشفى طفلها على الموت في حادثة أخذته بغتة، ثم نهض سليمًا مُعافى، أو ضلَّ عنها مدة حتى يئِست منه، ثم اهتدت إليه؛ لا يكون قد رأى شيئًا من سعادة الإنسانية العالية النادرة التي لا تكون إلا في الأمهات خاصة، ولا يشهدها الناس إلا في ساعة حَرِجةٍ، تلمس فيها يدُ الله قلب الأم!
•••
وإذا كانت القلوب بين إصْبَعين من أصابع الرحمن يُقَلِّبها، فلقد كانت هذه القلوب الثلاثة في تلك اللحظة تنطق وجوهُها بأنها في يد الله يهزّها هزًّا! ولَكم وددتُ لو أستطيع أن أخلط بها قلبي المسكين في لمْسة واحدة ليشعر ولو لحظة في هذه الحياة أنه سما بروحه فوق العالم كله!
لو أصابك الهَمّ لحبيبك إذ تراه مهمومًا مُتألّمًا لَذقتَ أحلى أنواع الآلام السعيدة؛ فكيف بك لو تبدَّل همُّه بغتةً، فأقبلَتْ عليك قُبلاتُه وضحِكاته تُزحزح عن قلبك ناموس الكآبة؟
وما كان هذا الغرام ليُسمى حبًّا لولا ذلك، ولولا أن في اللغات لصوصًا من الألفاظ تسرق معاني غيرها …
حب الأم في التسمية كالشجرة: تُغرس من عود ضعيف، ثم لا تزال بها الفصول وآثارها، ولا تزال تتمكن بجذورها، وتمتد بفروعها، حتى تكتمل شجرةً بعد أن تُفني عِداد أوراقها لياليَ وأيامًا.
وحب العاشقين كالثمرة: ما أسرع ما تنبت، وما أسرع ما تنضج، وما أسرع ما تُقطف! ولكنها تُنسي الشفاهَ التي تذوقها ذلك التاريخ الطويل من عمل الأرض، والشمس، والماء في الشجرة القائمة.
لا لذة في الشجرة، ولكنها مع ذلك هي الباقية، وهي المنتجة، ولا بقاء للثمرة، ولكنها على ذلك هي الحلوة، وهي اللذيذة، وهي المنفردة باسمها.
وهكذا الرجل: أغواه الشيطان في السماء بثمرةٍ فنسي الله حينًا، ويُغويه الحب في الأرض بثمرة أخرى فينسى معها الأم أحيانًا!
•••
وذهَبتْ المرأة بالصغيرين بعد أن شهدتُ منها ومنهما مواقع رحمة الله في القوى المسكينة التي لم تجئها المسكنة إلا من كونها أطهرَ القوى وألطفها، وانفجر قلبي آلامًا وسرورًا ورحمة في ساعة واحدة، ثم كاد ينفجر آخر الأمر من الضحك … حين أراد الطفلان أخْذ الأديب السكير معهما؛ لأنه مضحك!