الشيخ أحمد١
كانت صحبته إياي من أطراف الطفولة إلى آخر الشباب إلى تخوم الكهولة، وهي أيام شبع العمر، لا يطعَم فيها من شيء إلا طعم من لذة، وما بعدها من تقاصُر الحياة، واختلالها إلا كأيام سوء الهضم؟
يا أيام الشباب! أنتِ وحدك نور الحياة؛ لأنك منذ الفجر، وأنت وحدك نهار العمر؛ لأنك إلى أن تصفرّ الشمس، وليس وراءك إلا كآبة الليل تتقدم ليلها باسمة في شفق المغرب!
يا أيام الصبا! أنت وحدك الحب؛ لأن فيك ما في العيون الحبيبات، أشخاصًا روحية ظاهرةً بمعانيها الفتانة، فهي تلقي أشعة الجمال على كل ما تنظر إليه.
يا أيام الرجولة الأولى! إن في زمنك وحده تحلُّ السعادة في العقل، إذ يكون العقل في عهدك ما يكون الطفل في عهده: لغته تجري من معاني الدموع والابتسام والضحك، ولا يستدير به إلا الأفواه الحبيبة التي تُقبِّله أكثر مما تزجره، وحتى لو ضُرب لكان الضرب سببًا من أسباب تقبيله فيما بعد …
يا أيام الشباب! أنت وحدك العمر، ومن بعد الشباب كل شيء يكون ففيه من الماضي فِعلٌ مستتر تقديره: كان!
•••
يرحمك الله يا صديقي الكريم، تركتنا مُصعِدًا إلى الله في سُلم كانت الأولى من درجاتها عتبة هذا البيت في مصر، وكانت الأخرى تلك العتبة الطاهرة من بيت الله في مكة.
وذهبت عنا، وما علمنا أنك طائر يُغطي تحت ريشه سرَّ الجاذبية العليا.
واستودعتنا الله واستودعناك؛ فاشتبكت دموعٌ في دموع، وما حسبنا أن أرواحنا تقيم من ذلك مناحتها قبل الفراق الأبدي.
وخاطبناك عند البيْن وخاطبتنا، وما عرفنا أن السماء كانت وقتئذ تكلم الأرض من شفتيك بألفاظ لها ما بعدها.
ونظرتَ إلينا طويلًا تلك النظرة التي لا تكون إلا ممن يعرف حتى لا ينكر شيئًا، أو ممن ينكر حتى لا يعرف شيئًا، فإذا أنت تنكر من أعماق الأزل في تراب هذا العالم، ونحن لا ندري.
وسألنا الله أن يردك علينا أيها العزيز، فأثبتّ لنا أنك من أعز ما في الحياة حتى سقط دونك الأمل، فلا يتمثَّلك إلا الفكر وحده.
•••
وذهبتَ إلى بيت الله متجردًا من الدنيا ليس لك منها إلا جسمك؛ لتخف إلى محبته ورضاه، فلما شاهدت التجلي الأعلى تجردت من جسمك أيضًا، واتصلت بنوره — سبحانه وتعالى — فلقد خلعت الدنيا مرتين، ومات بعضك في مصر، وباقيك في الحجاز، وخلصَتْ روحك إلى ربها كما تخلص الجوهرة صافية مُتلألئة بعد استخراجها من معدنها مرة، وصقْلها للرونق مرة أخرى.
•••
واختار الله لك بعد إذ انغمستَ في نوره أن تصعد إليه فلا ترجع من ذلك النور الأزلي إلى ظلام الدنيا، ولا تعود من النبع السماوي إلى حمأة الأرض، ولا تحل في بيت من بيوت الخلق بعد بيته هو، عز وجل!
واختار لك ما عنده على ما عندنا؛ فما في أيام هذه الحياة إلا غبارٌ يثور على غبار، ولا في الناس إلا أحجار تتحطم على أحجار، ولا في أخلاقهم إلا أقذار تنصبُّ على أقذار، ولا بين الحوادث والناس إلا كما بين الرياح والقفار، ولا بين الإخوان والإخوان إلا كما تجمع الأصفارُ من الأصفار …
واختارك الله إذ اختار لك فما تركت (يرحمك الله) إلا علانية مشهودة، وسريرة محمودة، وآثارًا في الصالحات معدودة، وأفراخًا في شجرة الحياة كصغار الطير إذا رأت أباها فارق عُوده.
يرحمك الله، إن أول ما يشهد لك عند الله كعبته؛ إذ كانت آخر ما عرفت من الدنيا، وإن الذي يدخل السماء من باب الكعبة لحقيق أن تضع له الملائكة أجنحتها: سلامًا وتحية؛ فهنيئًا لك إذ فتحت باب السماء بتلك القُبلة الزكية التي وضعتها على أستار الكعبة، وهنيئًا لك إذ ذهبتَ لتقول: «لبيك اللهم لبيك»؛ فانطلقتْ روحُك الطاهرة فيها، وكانت أول كلماتك في السماء! وهنيئًا لك، ثم هنيئًا إذ قطعت البحر والبر إلى خير بقاع الدنيا لتقول لله من هناك: ها أنا يا إلهي.
•••
القدرةُ على جو السماء في جناح الطائر، وفي ريش هذا الجناح، وفي قوة هذا الريش، والقدرة على السماء نفسها في عمل الإنسان، وقيمة هذا العمل، وصحة هذه القيمة.
•••
من وطن الأشهر المعدودة ينحدر الإنسان إلى وطن السنين المعدودة؛ أما الأزل والخلود، والوطن الإنساني الكبير، فهناك هناك حيث لا تساوي كرة الأرض بما فيها أكثر مما تساويه ذرّةٌ من التراب تَصعد أو تهبط.
وهذا الذي نكرهه عقلًا من أمر الدنيا الذي نرانا مُضطرين إلى أن نعقله كرهًا شئنا أو أبينا.
•••
لهفي لذكراه صديقًا كانت لنفسه العالية كالنجمة وهبت قوة النزول إلى الأرض، وحبيبًا لو انقسمت روحي في جسمين لكان جسمها الثاني.
كان دائمًا كالذي يشعر أنه لا بد ميت، وتارك ميراث مودته، فلا أعرف أني رأيت منه إلا أحسن ما فيه، وكأنما كان يضاعف حياتي بحياته، ويجعلني معه إنسانين.
وكان له دينٌ غض كعهد الدين بأيام الوحي؛ لا تزال تحثه رقةُ قلب المؤمن، وفوقه رقة جناح الملك يُخالط نوره القلوب.
•••
آه لو عرف الحقَّ أحدٌ لما عرف كيف ينطق بكلمة تُسيء، ولو عرف الحب أحد لما عرف كيف يسكت عن كلمة تسر، ولن يكون الصديق صديقًا إلا إذا عرف لك الحقّ، وعرف لك الحب!
لا أريد بالصديق ذلك القرين الذي يصحبك كما يصحبك الشيطان: لا خير لك إلا في معاداته ومخالفته … ولا ذلك الرفيق الذي يتصنع لك، ويماسحك متى كان فيك طعم العسل؛ لأن فيه روح ذبابة … ولا ذلك الحبيب الذي يكون لك في هم الحب كأنه وطن جديد، وقد نفيت إليه نفي المبعدين … ولا ذلك الصاحب الذي يكون كجلدة الوجه: تحمرّ وتصفرّ؛ لأن الصحة والمرض يتعاقبان عليها؛ فكل أولئك الأصدقاء لا تراهم أبدًا إلا على أطراف مصائبك، كأنهم هناك حدود تعرف بها من أين تبتدئ المصيبة، لا من أين تبتدئ الصداقة، ولكن الصديق هو الذي إذا حضر رأيت كيف تظهر لك نفسك لتتأمل فيها، وإذا غاب أحسست أن جزءًا منك ليس فيك، فسائرك يحنّ إليه؛ فإذا أصبح من ماضيك بعد أن كان من حاضرك، وإذا تحول عنك ليصلك بغير المحدود كما وصلك بالمحدود، وإذا مات … يومئذ لا تقول: إنه مات لك ميت، بل مات فيك ميتٌ، ذلك هو الصديق.
وكنا ذات يوم على شاطئ النيل، وبَزغ الهلال كأنه إصبع ملَك من الملائكة، خرقت ستار السماء لتحدث فيه ثقبًا تنظر منه إلى نجمة ستهوي؛ فقلت له: هذا الهلال ما انفك يتلقى نور الشمس منذ خُلق، وهو في نفسه مظلم أبًدا، ولكنه من صحبته للنّيِّر قد أنار، وصار مع الشمس شمسًا بيضاء، فما أكرم الصداقة من نعمة لو أصابها المرء على حقها فيمن خُلق لها! كان أهل الكيمياء القديمة يسمونها «علم زراعة الذهب»، وأنا أسمي كيمياء الشمس في هذا القمر «زراعة الفضة»، فماذا تسمي أنت كيمياء الصداقة في معادن القلوب؟
قال: أسميها «زراعة الخير».
قلت: فإن لم يُنبت، وأكله لؤم أرضه …؟
قلت: آه! فإذا كانت الحفرة من شرها في عمق البئر ذاهبة إلى الأغوار البعيدة، أفأقضي شطر العمر أردم فيها بعد أن قضيت شطره أحْتَفِرُ منها؟
قال: فمن ذا جعلها بئرًا سواك؟
واعلم أن أرفع منازل الصداقة منزلتان: الصبر على الصديق حين يغلبه طبعه فيسيء إليك، ثم صبرك على هذا الصبر حين تغالب طبعك لكيلا تسيء إليه!
وأنت لا تصادق من الملائكة؛ فاعرف للطبيعة الإنسانية مكانها، فإنها مبنية على ما تكره، كما هي مبنية على ما تحب، فإن تجاوزت لها عن بعض ما لا ترضاه ضاعفت لك ما ترضاه؛ فوفت زيادتُها بنقصها، وسلم رأسُ مالك الذي تعامل الصديق عليه!
•••
قلت: فإني لا أعني ذلك الذي أضع «رأس» المال بيني وبينه، ولكن شخصًا آخر وضعت «قلب» المال بيني وبينه …
قال: فههنا إذن! وما هنا صارت الحفرة بئرًا … ولكن أفتني فإني لا أعرف هذا الذي تسميه الحب: فهل بين النفسين شيء غير الصداقة؟
قلت: هو هي إلا فرقًا واحدًا.
قال: إن كان واحدًا فلقد هان، فما هو؟
قلت: الفرق بينهما أنك ترضى أن يكون الصديق لنفسه أكثرَ مما هو لك، ولكنك لا ترضى إلا أن يكون الحبيب لك أكثر مما هو لنفسه.
قال: فذاك رِقٌّ لا حب.
قلت: وهذا هو الذي يجعل الحفرة بئرًا، فالصداقة في المودَّةِ تجذب الطبع من الطبع ليتفقا، ولكنها في الحب تجذب الطبعين ليكونا دائمًا عند النقطة التي يتناقضان منها، وأعظم ما يسوءك من الصديق لا يزيد على أن يردك إلى نفسك وحسْبُ، ولكن أيسر ما يغضبك من الحبيب يسلط نفسك عليك بسوء التحكم، والإعنات، والآراء الفاسدة، حتى يترك دمك، وكأنه تيار من الغيظ، فإذا حبيب نفسك أعدى أعدائها، وإذا هو قد أصبح العدوَّ؛ لأنه لا يزال الحبيب!
قال: أما إن هذا تعقيد على النفس، وهو العلة في أن المحب المَغيظ لا يسكن غيظه، ولا يهدأ فوْره؛ لأنه يحل العقدة الواحدة بطريقة تجعلها عقدتين، ولكن … أوَليس خيرًا لك إذا أنت دُفعت إلى العداوة في الحب أن تستشعر بكرم المَلك الذي في نفسك لؤم الحيوان الذي في صاحبك، فترجع بنفسك أنت إلى مَلكيتها، وترده هو إلى حيوانيته؟
ولعل الناس لم يعتادوا فيما بينهم أن يتنابزوا ويتسابوا في عبارات السقوط، والتحقير بأسماء من أسماء البهائم: كالكلب، والخنزير، والحمار — إلا على هذا الأصل الذي بينته لك، توحي به غريزة الكراهة، والسقوط من حيث يدرون أو لا يدرون.
الحب ليس شيئًا غير الجمع بين أعلى الصداقة وأسفلها؛ ألا ترى أنه ما دام الحبيبان على أسباب الرضا فكلاهما أو أحدهما يتمثل الآخر كما يتمثل ملكًا من الملائكة، بل ويسميه الملَك الحارس، أو الملك الموحي، أو الملك المقدس.
فإذا صار إلى الخلاف، واستحكم بينهما، لم يُغْن طلب المعاذير تتعزى بها الصداقة! ولا طلب العثرات تشتدُّ بها العداوة، وليس للمغيظ منهما شيء دون أن يعمد إلى تلك الصداقة؛ فيجعل عاليها سافلها، فلم يبق حينئذ إلا أن يكون صواب الحب في هذه الحالة قائمًا على عكس الحالة الأولى؛ فما كان في صورة ملكية ليثبت عليه الحب وجب أن ينقلب في صورة حيوانية ليزول عنه الحب.
•••
يا من أسكره الغرام، إن عربد حبُّك فاحطم كأسه، وأرِق خمرها، ولا ترها إلا سمًّا، فإن أكبر البلاء على السكير أن يُلبس الحقائق المهلكة أثواب زينتها، فيزعم بينه وبين نفسه أنه لا يشرب الخمر، ولكنه ينقع غُلة أحزانه بكأس من ماء السرور! ولا يتوحّل في السكر، ولكنه يستمطر على خموله سحابة النشاط، ولا يتجرع الجنون، ولكنه يذيب همومه في جرعة من النسيان …
ألا ما أصدق الخمر في السكِّير وهي صامتة، وأكذب السكير على الخمر وهو يتكلم!