هواتف الحق
هبطتُ من ترام خمسة في مفترق شارعَي رأس التين وصَفَر باشا. تشاغلت بالنظر إلى عناوين الصحف، على الاستاند المجاور لفرن حبيب. هو الموضع نفسه، وإن اتسعت المساحة، وزادت الصحف، بالإضافة إلى الكتب المستعملة وأفلام الفيديو.
اخترت طريقًا مغايرًا لما كنت أسير فيه إلى بيت المسافرخانة … عبرت — بخطوات مهرولة — إلى الناحية المقابلة … سرت على مستطيلات البازلت، ربما لم تتبدل، منذ تركت الإسكندرية … مِلت في انحناءة شارع صَفَر باشا، مزدحم، يخالف ما أهملَته الذاكرة.
جاوزت — إلى اليمين — زاوية خطَّاب … ظللت في سيري البطيء المتلفِّت، حتى الشارع الضيق، على جانبيه بيوت قديمة، متلاصقة. في الواجهة، البيت ذو الطوابق الثلاثة، الشبابيك العالية، الكالحة اللون، مغلقة، أو مواربة، البوابة الحديدية السوداء الهائلة، بتشابكاتها الزخرفية، تركت انفراجة، أتاحت لي الدخول.
شملتني ارتجافة وأنا أخطو داخل البيت. كانت تلك هي المرة الأولى منذ حوالَي ثلاثين عامًا. بدا المكان في صورةٍ غير التي تركتها فيه: الأبواب والسلالم والحجرات الجانبية والأسقف العالية، كل شيء على حاله، وإن حدث تغيُّر لم أدركه، ربما أحدث الغياب تأثيره في الذاكرة، يضيف، ويحذف، ويبسط، ويقلِّص، ويبدل الملامح والقَسَمات.
لم يعد البيت إلى ما كان عليه، امتص الهدوء ما كنت قد اعتدته من حركة: حلقات قراءة، ونداءات وأغنيات، وخطب، ومناقشات صاخبة، وترامي الروائح من المطابخ، وارتطام الأوعية، وتلاوة القرآن من راديو قريب. غاب ما ألِفت رؤيته من العمائم والجلابيب والجبب والقفاطين والقباقيب والأقدام الحافية.
تكررت عودتي إلى الإسكندرية، مقصدي وراثة الوقف. تطول زياراتي للشيخ مكايد حتحوت، يبسط أمامي خرائط، يقلِّب أوراقًا ووثائق ومستندات، يعيد ما قاله من قبل ويَزيد، يأخذ في الشرود واللهفة. أتعجَّل المعنى النهائي لكل ما رأيته، واستمعت إليه، ألحظ — في طريق عودتي بالقطار — أن ذهني محمَّل بكلمات توضيحية، وخطوط متقاطعة ومتشابكة، وأرقام كثيرة، دون أن تضم قبضة اليد ما أتصور أني حصلت عليه.
أخترق ميدان المحطة، إلى شارع السنترال، حتى تقاطعه مع شارع عبد المنعم، ومنه إلى شارع مرسي بدر، حتى تقاطعه مع طريق جمال عبد الناصر. أمضي في شارع صلاح سالم إلى ميدان التحرير، ثم شارع فرنسا.
اعتدت الميل من البوابة العالية ذات الحديد المنقوش، تُفضي إلى الساحة الساكنة، حولها بيوت الأوقاف، تعود إلى القرن التاسع عشر، تصل البيوت والنافورة وسطها طرقات مبلطة، وفي المواجهة بوابة أخرى، تُفضي إلى أسواق المغاربة والخيط والترك وزنقة الستات. أذكر قول أبي لما أزمع عدم السؤال عن نصيبه في الوقف: إن ما يتقاضاه من رَيْع تضاءل، غاب ما يحفزه للتردد على المكان.
أخلِّف شارع فرنسا إلى تقاطعه مع إسماعيل صبري، أنظر إلى البيت على مفترق ثلاثة شوارع: إسماعيل صبري ورأس التين وفرنسا، زال بيت الأوقاف القديم، التشققات والصدوع، الحوائط الجيرية المتآكلة، نشع الرطوبة المتداخل برائحة القدم، الطلاء المتساقط يكشف عن الطوب الأحمر، المستند إلى تكوينات من الخشب، الأسقف العالية، الشبابيك ذات الضلف الأربع، تتدلى على حوافها عقود البامية الناشفة، وحُزَم البصل والثُّوم. تبدلت البناية الجديدة، تضاءل السقف المرتفع، والنوافذ الواسعة، العالية. حلَّ بدلًا من الطوابق الثلاثة أربعة طوابق في ارتفاع أقصر مما أتذكر به البيت القديم.
كان أبي يعتز بوراثتنا للبيت، نسكن في واحدة من شققه، ويدخل في قائمة البنايات التي يعود — كل عام — بنصيبه من رَيْعها.
سافرت — منقولًا — من إذاعة الإسكندرية للعمل بوزارة الإعلام، تصورت في البيت المطل على شارع بولاق، مكانًا مناسبًا، لكن زوجتي لم تتحمل الابتعاد عن الإسكندرية، فاستأذنت في العودة. أمضت في صحبة الأبناء أقل من عامين، ثم أخذها الموت في سنة حصول مرتضى — أكبر أبنائي — على ليسانس الحقوق.
بدا لي التقاعد قاسيًا، أعيش في شقة واسعة، بلا زوجة تؤنسني، والأبناء في بيوتهم، لا عمل، لا مواعيد، لا أصدقاء أجالسهم، أتابع رحيلهم في صفحة الوفَيَات بالأهرام، لا هواية أمارسها، حتى المقاهي لا أتردد عليها.
في لحظة، بدت الطرق متقاطعة، ومتشابكة، ترددت أيها أسلك. خشِيتُ السير في طريق لا أحبها، اختلاط الأوقات يصعب انتزاع ما أطمئن إليه، أخشى أن يتحول تقاطع الطرق إلى متاهات، ربما نظرت خلفي، أتبين كيف مضت الأحوال.
المصادفة دلتني على الطريق التي أزمعت السير فيها، وجدت أوراق الوقف في ملفات قديمة، كنت أعيد ترتيبها.
حلَّت الأوقاف الأهلية، من حق الورثة أن يبيعوا التركات لحسابهم: العقارات والأراضي الزراعية وكل ما صار حقًّا لعائلة المطعني.
تقاربَتْ — عقب إحالتي إلى المعاش — زياراتي إلى بحري، تباعدَتْ بغياب فرصة توزيع أنصبة الميراث. لم يعد وقف المطعني قابلًا للحل، جعل منه الشيخ مكايد حتحوت خزانة مغلقة، لا سبيل إلى حلها. واجه الصمت تكاثُر الالتماسات والاستغاثات إلى وزير الأوقاف، بتغير الوزراء.
غالبت التأثر لقول زوجتي: اسمي سمية المطعني، لكنني قنعت بما كنت تأخذه باسمك من الوقف، منذ حل الوقف لم نعد نحصل على شيء!
عدت إلى القضية بأخبار في الصحف عن وضع ميراث العائلة. أعدت قراءة اسم الشيخ مكايد حتحوت المسئول السابق لبيت المسافرخانة، لم أجد له موضعًا في شجرة عائلة المطعني، بينما اسم الشيخ حسن وردي الواعظ القديم لسيدي علي تمراز غصن كبير، تتفرع منه أغصان وأوراق. حفظت أسماء أجدادي حتى الخامس عشر، زين الدين المطعني الذي تسمَّى الوقف باسمه.
أنصت الولدان مرتضى وياقوت إلى ما رويته عن الوقف. اكتفيا بما قلت، لم يسألا عن قيمة الميراث، ولا إن كان لنا فيه حق.
قالت ابنتي سكينة في استغراب: إذا كان الميراث قد حل وصار من حقنا الحصول عليه … فلماذا نصنع خصومات ونرفع قضايا؟!
ظلت حياتهم على حالها، وزياراتهم إلى بيت بولاق على تباعدها، يقضون الساعات القليلة، أو النهار كله، ثم يُسْلِمونني إلى الوحدة في الشقة الواسعة.
تتمهل خطواتي، حتى تجاوز سيدي علي تمراز، أسير في رأس التين بخطواتي البطيئة، المتمهلة، إلى الحجاري، الشعارات المتبقية من الثورة الفائتة على الجدران بالبوية والفحم وأقلام الحبر الملونة، تزيد الخطوات — بتأمل ما حولي — بطئًا، حتى انحناءة شارع المسافرخانة.
أذكر — آخر مرة — مستطيلات البازلت، التمعَتْ في بلل المطر، بما يشبه تموجات السراب، مشيتي عليها أقرب إلى التقافز، أُزيلت من الجانبين مواضع، حلَّت — بدلًا منها — مواضع أخرى، أحدِّق في حولي بنظرات متلفتة، معظم ما أراه يذكرني بناس ومواقف، ظلت ثابتة، أو علاها الشحوب، فهي بلا تفاصيل، تغيرت ملامح وقسمات، غابت وجوه اعتدت رؤيتها، وطالعتني وجوه لم أرها من قبل، كثير من الوجوه تغيرت، أعاني النظرات المتسائلة والفضولية والمستغربة، ما ألِفته لم يعد كذلك، أفكر في تقديم الذات، وسؤال الآخرين عن ذواتهم، يؤلمني أني أشعر بالغربة عما حولي، وإن ظل الكثير على حاله، البيوت القصيرة، الشبابيك العالية، السلالم الرخامية، المتآكلة، الدكاكين، عربات اليد. حتى عربة البطاطا لا تزال في موضعها، أول الشارع، يتصاعد منها البخار.
تنبهتُ على صيحة من وراء شباك، أبعدتني عن عربة كارو، يجرها حمار، تقرقع عجلاتها الخشبية على مكعبات البازلت.
مِلت من المسافرخانة إلى شارع راسم باشا.
أرض المجاورين.
أغمضت عيني بعفوية، ربما لأستعيد صورة الخلاء أمام البيت ذي الطوابق الثلاثة.
علت البيوت في أطراف المكان، الشارع — من اليمين — يمضي إلى الحجاري وشوارع السيالة الضيقة، والشارع — من اليسار — يتجه ناحية البحر، تخلف مطحن شيمي بك بجدرانه الصامتة، وهدير الماكينات في الداخل، ربما تجتذبك أفيشات قديمة لسينما الأنفوشي المغلقة، قبل أن تواجه أفق البحر.
تلاشت أرض المجاورين، قامت في مواضعها بنايات سكنية، لعب الكرة — أوقات العصاري — في الأرض الخالية، لعب البلي والدوم والنحلة والأوِّلة وأولها اسكندراني والاستغماية والسيجة، الطائرات الورقية في تحليقها، واشتباكها بالطائرات الأخرى.
ضاقت الساحة بالبنايات التي شُيِّدت حولها، تحولت إلى ما يشبه ميدانًا صغيرًا، أو تقاطع طرق يشغي بالباعة والأولاد.
انحنيت إلى شارع مصطفى العربي … لم تتغير واجهات البيوت عما حفظَتْه ذاكرتي، في المواجهة الباب الحديدي لبيت المعهد الديني.