أبتعد عن المشهد … لأتأمله

لا أذكر كيف، ولا لماذا شغلتني الفكرة.

الهيبة تسِم هيئة الشيخ وتصرفاته، وإن حرص أن يضمِّن كلماته حكايات طريفة، أو مثيرة للاهتمام، يجيد روايتها بما يجذب الانتباه.

أمامي تاريخ يمتد إلى حوالَي القرن، مرآة صادقة، مجلوَّة، لا تنعكس فيها مشكلة الوقف وحدها، ثمة احتلال وسراي ووزارات وصراعات حزبية وانتخابات ومظاهرات وإضرابات وعنف واغتيال سياسي، ما يعرفه الرجل لا يقتصر على الحياة في بحري، إنما يشمل الحياة في الإسكندرية كلها، في مصر كلها.

سكن في عينيه شرود: إذا وافقت أن أتحدث عن الماضي، فمعنى ذلك أن لي ماضيًا وهذا غير صحيح.

قلت: لكل إنسان ماضٍ، يطمئن إليه، أو يخشى منه.

رفعت صوتي إلى آخره، لكنه ظل صامتًا، حدست أنه لم يعطني سمعه.

قلت: لا يوجد إنسان بلا ماض، كيف إذن بلغت هذا العمر؟

هز رأسه، دلالة أنه سمع.

– ليس في داخلي أسرار يُعوِزني البوح بها، لو أنك اهتممت بلقاء من يُودِعون أنفسهم أو خبراتهم أسرارًا، ربما تفيد في التقاط طرَف الخيط، البداية التي تصلنا بما هو عليه الحال الآن.

تصورت الإحساس الذي ربما خامره بأننا ننتمي إلى عالمين مختلفين.

قال موضحًا: أعني ما نسيته، وما يصعب أن يُروى، عشت الكثير من الأحداث، بعضها نسيته، وبعضها أذكره. أعرف أن الذاكرة تعيننا على استمرار الحياة، تصل ما كان بما يحدث الآن، بتوقعات المستقبل. مقاومة النسيان ضرورة لنسج الآتي.

أصارحك أني أحرص على ملاحظة ذاكرتي: هل تأثرت بتقدم السن؟ هل أدركها التآكل؟ هل تذوب في النسيان؟ هل تسلل إليها الخرف؟ متى يبدأ التداعي؟ السهو والنسيان واختلاط الذاكرة والانفعال والقلق والسمع بصعوبة وبطء الخطوات والميل إلى النوم.

وأشار بإصبعه إلى صدره، في هيئة من يقول اعترافًا: لم أعش كل ما رويته، إنما اقتصر دوري على السماع أو المشاهدة. ثمة صور مثل الومضات تبدو في الذاكرة جيدًا، لكنها تنفصل عما قبلها وبعدها، لا شيء يسبقها أو يلحقها، قد تُبقي الذاكرة ما لا نحتاج إلى تذكره، بينما تغيب وقائع مهمة تصورت — لحظة حدوثها — أنها ستظل قائمة.

النظرة إلى الماضي باعتباره زمنًا جميلًا ليست حقيقية في كل الأحيان. لم يكن الماضي طيبًا كله، ولم يكن سيئًا كذلك كله، هو مثل الزمن الحالي والأزمنة السابقة، له ملامحه الثابتة والمتغيرة.

لأن الوقائع اختلطت، فسأبذل جهدًا كي ألتقط الصحيح، ما يعاني الظلال والعتمة. تاريخ الإسكندرية في ملصقات الشوارع: الاستقلال التام أو الموت الزؤام … نريد الخبز بدل السلاح … الجلاء … خرجت الطهارة من بيت الدعارة … مصطفى النحاس زعيم الأمة … فلسطين تدعوك إلى إنقاذها … يسقط فيفي وحافظ عفيفي … الحجاب زينة المرأة … أين أمك يا فاروق؟

سنة مولدي هي بداية تعرفي إلى كلمة «ثورة»، وُلدتُ بعد عامين من قيام ثورة ١٩١٩م. عرَفت معنى الحدث بعد أربعة أعوام، أو خمسة. وعيت على مظاهرات الطلبة في ١٩٣٥م، لكنني كنت أصغر من أن أشارك فيها، ربما كنت شاركت فيها لو أني جاوزت الصبا، تابعت — من أحاديث أبي وأصدقائه — تطورات الأحداث: ما كادت مظاهرات الطلبة تعبر كوبري عباس، حتى واجهها عساكر الإنجليز بالمدافع الرشاشة. أصيب الطالب محمد عبد المجيد مرسي بأربع رَصاصات، أخرج من جيبه مِنديلًا، بلله بدمه ودفعه إلى أحد زملائه قائلًا: تذكروا هذه الدماء. مات الطالب — بالفعل — فور نقله إلى مستشفى قصر العيني. استُشهد الطالب محمد عبد الحكم الجراحي لغضبه على جريمة الإنجليز. قتله ضابط إنجليزي على بعد خطوات من المكان الذي سُجِّيَ فيه جثمان زميله. في اليوم التالي، سارت مظاهرة في شوارع القاهرة، تضم أكثر من خمسة آلاف مشيع، تقدمهم النحاس ومكرم عبيد وصدقي ومحمد محمود. حتى طالبات المدرسة السَّنِية شاركن بالهتاف والبكاء والنواح. أذكر ما كنت أردده، دون أن أعرف السبب جيدًا: «رفعت العلم يا عبد الحكم … يسقط هو ابن الطور … الاستقلال التام أو الموت الزؤام.»

عشت إذن ثورة ١٩٣٥م، وإن لم تكتسب التسمية، فثورة ١٩٥٢م، وها أنا أعيش في ظل ثورة جديدة.

لم أكن جاوزت السادسة عشرة عندما توفي الملك فؤاد، استقر في وعيي ما كنت أسمعه من أبي وناس قريتي عن دكتاتورية الحكم في فترة فؤاد، ذي الشارب المميز، والجسد الممتلئ، وحكايات ظروف زواجه من نازلي، وإصابة الرصاصة في الحلق، أطلقها عليه — بسبب صراعهما العاطفي — الأمير سيف الدين.

أول ما أذكره حوار بين أبي وجار لا أذكر اسمه، اختلفا حول الصراع بين الملك فؤاد وسعد زغلول. مصطفى النحاس خليفة لسعد زغلول. بدا على أبي ارتياح وهو يطل من النافذة على الحركة البطيئة في الخلاء الممتد قبالة البيت.

أضاف في صوت لين: عرَفت الرجل منذ أيام مصطفى كامل، كان خير عون للزعيم الشاب قبل أن يختطفه الموت، النقاء أصدق صفة للنحاس، كان بعيدًا عن أخلاق الساسة من ميل إلى المراوغة والتآمر.

أذكر أبي وهو يدفع لي بنقود: هذا ما أستطيع أن أقدمه، دبر نفسك.

حدجني بنظرة، قال فيها أشياء كثيرة: حاول أن تكتفي بهذا المبلغ.

وفي لهجة محايدة: في مثل سنك كنت أنفق على نفسي.

لم يكن الفرق بين السنة الهجرية والسنة الميلادية مما درسناه في المعهد الديني. انتبهت إلى المعنى في الفتوى التي أضافت سبعة أشهر إلى عمر الملك فاروق، تولى الحكم — دستوريًّا — في الثامنة عشرة، تُوج ملكًا بفتوى للشيخ المراغي، أهلته للحكم بالتقويم الهجري، بزيادة أيام العام الهلالي عن أيام العام الميلادي.

في يناير التالي، أعطى المعهد طلابه إجازة لمناسبة زواج الملك فاروق وفريدة. أثنى الشيخ حتحوت الكبير على الزواج المبكر، وجد فيه حماية للملك، لدينه ولنفسه، أضاف نصيحة بأن نتزوج متى أمكن أن نؤسس أسرة.

همس الشيخ ياسين الحامولي في أذني: هل أصحب زوجتي إلى مقابر العمود طلبًا للرحمة والنور؟!

كان فاروق يكبرني بعام، وكانت فريدة من مواليد العام الذي ولدت فيه. بدل الملك اسم عروسه إلى فريدة بدلًا من صافيناز، اسمها الحقيقي. أراد أن يبدأ بحرف الفاء مثل اسمه وأسماء أبيه وأخواته وبناته.

حين أطلقت السيدة صرخة مكتومة، وسقطت، كنت خلفها، مدفوعًا بحركة السير في شارع الميدان، ما حدث كأنه الومضة، أعقبها شرر ناري، هبط السلك الناري الضخم على كتفها، أطلقت صرختها المكتومة، ثم لم تعد في الدنيا، هزني الموت المفاجئ لسيدة كان يفصل بيني وبينها متر أو أقل، الخطوات السريعة توقفت، تلاشت الحركة، حل السكون، الهمود يعلن غياب الحياة. كنت في العشرين من عمري أو أقل. بدا لي الموت شيئًا غريبًا، قاسيًا، رغم ما اقتحم حياتنا من أحاديث الغارات الألمانية وصفارات الإنذار والكشافات والمدافع المضادة للطائرات والمخابئ والبيوت المهدمة في البياصة وباب سدرة، والشعارات — بالبوية أو الطباشير — على الجدران.

خبَت التوقعات، تلاشت تمامًا، حين أعلن هتلر — عقب دخوله بولندا — أن الحرب لن تنتهي إن استمرت سبع سنوات. انعكس تأثير الكلمات في تصرفات الناس. استمعت إلى أسماء ومسميات ومصطلحات، لا أعرف غالبيتها، وإن شكلت تكوينات في مشهد الحرب: الكشافات، المدافع المضادة للطائرات، المحور، الحلفاء، سقوط باريس، الطابور الخامس، المخابئ، ستالينجراد، زوكوف، طوكيو، الباسفيك، بيرل هاربور، البونكر، الميريلاند، العلمين، روميل، مونتجمري، هيروشيما، نجازاكي.

خلا الكثير من البيوت المجاورة، نقصت سلع، وارتفعت أسعار سلع أخرى، عانينا القلق من صفارات الإنذار، والكشافات السابحة في السماء، وأصوات المدافع المضادة للطائرات، والفرار إلى المخابئ، لكن إيقاع الحياة لم يتغير كثيرًا.

كنا نشعر بالحرب، بتأثيراتها، وإن غابت صورها المدمرة. عدا إلقاء طائرات الألمان قنابلها على مواقع متناثرة في القاهرة والإسكندرية، فإن الله رحم عباده المصريين.

اختلفت الروايات في الدمار الذي أحدثته الطائرات الألمانية في باب سدرة وكرموز والبياصة والورديان والعطارين، رجحت غالبية الروايات ميل البعض للتهويل، أزمعت ألا أصدق غير ما يذيعه الراديو، وتنشره الصحف.

حتى الآن، تومض في ذاكرتي صور ثابتة، وعابرة، الظلام والغارات وطلقات المدافع وصفارات الإنذار والمخابئ، الستائر المسدلة، الأضواء الشاحبة، نداءات الدفاع المدني، الزرقة التي تغطي نوافذ البيوت ومصابيح السيارات، ووضع قطع لاصقة على حواف الشبابيك. حتى الإضاءة الليلية تلاشت من مآذن المساجد، فلا تميزها الطائرات المغيرة. امتلأت الشوارع بوجوه لا حصر لها، حمراء وصفراء وسوداء وبيضاء، وتناثرت لغات نفهم بعض مفرداتها، أو تبدو غريبة تمامًا. ازدهرت المواخير والحانات في اللبان، والكازينوهات في امتداد الكورنيش، تناثرت زجاجات الخمر على جانبي الأرصفة، الأقوال والمناقشات والشائعات تتهامس — وتعلو — في المساجد والزوايا والقهاوي والأندية والأسواق. أديرت الإسكندرية — بصورة فعلية — من معسكرات الإنجليز في كوم الدكة، تخلت بلنصات المينا الشرقية عن أماكنها للسفن الإنجليزية، علت المدافع أسطح البنايات العالية، صار مسح الكشافات للسماء جزءًا من ليل الإسكندرية، اشترى أهل بحري من سوق راتب وشارع الميدان ما باعه الجنود الإنجليز وجنود الحلفاء للتجار من علب البولوبيف والجبن الشيدر والسجائر والبسكويت المغلق والشيكولاتة واللبان الأمريكي. ارتفعت الأسعار إلى ثلاثة أمثالها، عانى الناس — نتيجة السوق السوداء — نقص المواد الغذائية والضرورية: الخبز والزيت والسكر والجاز والمنسوجات. راجت سوق بيع بطاقات التموين والبضائع المغشوشة، عيسى البرتقالي تاجر الأقمشة في شارع فرنسا قصر بضاعته على بطاقات التموين، ليفيد من تنازل أصحاب البطاقات عن حصصهم، باعها بثمن مضاعف. وجد مختار عبد العال (المريد بالطريقة) — في بيع مخلفات المعسكرات الإنجليزية برأس التين ومصطفى باشا — ما ينسيه مواعيد الحضرة. اعتادت عيناي رؤية لافتات على واجهات الشقق «إيجار قديم قبل الحرب»، تعالت الدعوات في المساجد ليحمي أولياء الله المدينة من الغارات، زادت أعداد المصلين وزائري المقام في أبي العباس، يطلبون الغوث والشفاعة، حسب الناس سقوط طوربيد ألماني في البحر — بدلًا من سقوطه على المدينة — على بركات سيدي أبي الدرداء. عرَف بحري — مثل بقية الأحياء والمدن — ظاهرة أغنياء الحرب، لاتصال الحي بالميناء والجمرك والاستيراد، بدت الظاهرة واضحة، وكانت ظروف الحرب — فيما أقدِّر — سببًا في تحول بنات أسر إلى بغايا، يلتقين على رصيف الكورنيش بمن يصحبهن في سيارته. علقت بذهني أسماء: هتلر، موسوليني، المحور، بيتان، ستالين، الحلفاء، روميل، العلمين، مونتجمري، نورماندي، تشرشل، زوكوف، ديجول، بيرل هاربور، جنود الكومنولث، التنظيمات السرية، ستالينجراد، هيروشيما، نجازاكي، إلى الأمام يا روميل، أربعة فبراير، هيس، الأرصدة الإسترلينية.

فكرت في أن أهاجر — مثل الكثيرين — إلى شرنوب، أصحب زوجتي وزين العابدين، أول من أنجبناه، إلى القرية، حسمت ترددي بالبقاء في الحي الآمن ببركات أولياء الله. كانت وظيفتي في أول أيامها بعلي تمراز، خشيتي من فقدها تغلبت على الخوف من غارات الألمان.

ما روي عن الطوربيد الذي صعِدت يد أبي الدرداء من قبره تلتقطه، قبل أن يسقط على الإسكندرية، وتقذف به في البحر، كان سببًا في ترك مقام ولي الله وسط الميدان، لا يُزال من موضعه، وتحيط به الشوارع والبنايات.

رفع صوته ليتغلب على الصياح المفاجئ للأولاد: قدم إلى الإسكندرية، وإلي مدن مصر، آلاف اللاجئين من مدن أوروبا، ملوك وأمراء وساسة ومفكرون. في ذاكرتي قول السفير البريطاني كيلرن: إن مصر مقلب عامٌّ للاجئين السياسيين.

أذكر رياح الخماسين التي أثارت الأتربة في الشوارع والحواري عندما أُعلِنَ عن دخول القوات الروسية برلين، في ٣٠ إبريل ١٩٤٥م إشارة لهتلر حتى ينهي حياته بيده. قتل نفسه، وقتل زوجته إيفا براون.

لاحقتني الإذاعات في سيري بشارع الميدان، تبث خبرًا واحدًا في لحظة واحدة: توقيع استسلام ألمانيا في الحرب.

ما كنت أستغرب لو أن رواة السير الشعبية في خيام ميدان أبي العباس تكلموا عن الحاج هتلر — أو «هلتر» كما كانوا يسمونه — كواحد من الأبطال الشعبيين. عرَف الناس أن هتلر لم يكن مسلمًا، ولا أدى فريضة الحج، هو واحد من الذين ابتُلي العالم بنيران حروبهم.

كنت أقرب في آرائي إلى الوفد، لكنني حزنت لاغتيال أحمد ماهر. منح محمود العيسوي نفسه مهمة إعدام الرجل، نيابة عن الشعب المصري، وجد الشاب في إعلان أحمد ماهر الحرب على المحور — رغم أن نهاية الحرب بدت وشيكة — خطأ يبلغ درجة الخيانة، قتله في البهو الفرعوني بمبنى البرلمان. كانت المعارضة قوية ضد الإنجليز، ومن يحالفونهم.

لماذا لم يُعطِ العيش لخبازه، فتزيح المعارضة حكومة ماهر دون اغتياله؟

آخر ما بقي في الذاكرة من أحداث الحرب العالمية، إسقاط قنبلتين ذريتين على هيروشيما ونجازاكي، الدافع إلى ما حدث أقسى من الحدث نفسه، قُتل في الغارتين عشرات الألوف من اليابانيين، بينما كانت طوكيو تتأهب للتسليم. كانت قد هُزمت في الحرب بالفعل، لكن الرئيس الأمريكي ترومان أراد أن يجرب السلاح الذي حصلت واشنطن على أسراره من العلماء الألمان.

عندما نجح الاتحاد السوفييتي في تفجير القنبلة الهيدروجينية، عرَفت أن السلاح النووي لم يعد مقتصرًا على الغرب.

ماذا كان سيصير إليه العالم لو أن ألمانيا سبقت إلى تفجير القنبلة الذرية؟

هل كانت سيطرة الألمان هي الأخطر على العالم؟

تململ في جلسته، وتثاءب. أضاف دون أن تتغير نبرة صوته: مضى المشهد في لحظات، لمحته في وقفتي على مدخل علي تمراز، لكنه ظل في الذاكرة، لم يتركها حتى الآن: قفز الشاب ذو الأفرول الرملي والقدمين الحافيتين إلى سيارة نقل تابعة للجيش الإنجليزي، قذف ما بها من صناديق مغلقة إلى زملائه في جريهم خلف السيارة. تنبه السائق إلى ارتطام الصناديق بالأرض، أوقف السيارة وسط الطريق. مال من ناحية إسماعيل صبري إلى ميدان «الخمس فوانيس». اخترق المصلين في قعودهم على الحصير، المسدس يحميه من ردود أفعالهم. أخفق في الوصول إلى الشاب، فر من الباب المغلق إلى رأس التين.

مضى المشهد كومضة، الارتباك أفقد المصلين القدرة على التصرف، حتى الإمام تلعثمت كلماته. عاد السائق إلى سيارته، مضى ناحية طريق الكورنيش. إذا فرض العجز سطوته، فلا قيمة لأي شيء. أطال الإمام — اسمه فيما أذكر عبد السلام الشاذلي — خطبة الجمعة يومها حتى قرب العصر، قوة غريبة أنطقته ضد الاحتلال الإنجليزي.

صميدة فتوة السيالة مريد صوفي، لاذ بالجامع، فرارًا من مطاردة الإنجليز، سرق صندوق طعام من سيارة نقل، لم يجده الجنود في صحن الجامع، أخفيته في حجرتي.

شكَّل الفتوات — لسنوات طويلة — قسمات الحياة في الإسكندرية، تراوحت أفعالهم بين الخير والشر، فتوة الشارع يختلف عن فتوة الصوفية، بحري — كما تعلم — بيئة حاضنة للصوفية، فتوة الصوفية يدافع عن الكرم والنبل والسخاء ومحبة الغير، وإنكار الذات، وإيثار الخلق على النفس. أداته الكلمات الطيبة، والإفادة من القرآن والأحاديث وأقوال العلماء. أما فتوة الشارع فأدواته الشومة والسيف والبلطة والسكين والمطواة، يهاجم للابتزاز، والاعتداء على المال والنفس، وسرقة ما ليس من حقه، والدفاع عن الباطل.

الذروة بداية الانحدار، صارت سلطة الفتوات في سني الحرب موازية لسلطة البوليس، وربما أقوى، لما انتهت الحرب صار زوال الفتوات أمرًا مقضيًّا. حتى حي البغايا في اللبان أُلغي بلا مقدمات، عقب نهاية الحرب. كانت الفتونة — رغم إعجابي بالقلة من الفتوات الحقيقيين — مرادفة للبغاء، أغلق كوم بكير أبوابه، فكسدت الفتونة حتى التلاشي.

بدأ انحسار جنود الحلفاء والكومنولث من شوارع الإسكندرية. أسر كثيرة، أعرف أربابها، يترددون على درس المغرب في علي تمراز، عاد أفراد منها كانوا يعملون في معسكرات الجيش الإنجليزي، عرَفت بتوجه أعداد منهم إلى معسكرات القناة، سعيًا للعمل فيها.

رغم الهدوء الظاهري للأحداث، فإن نذر الفوضى كانت واضحة من خلال تعدد التنظيمات السياسية، المعلنة والسرية، وعمليات الاغتيال الفردي، والغلاء المتصاعد، وتفشي ظاهرة أثرياء الحرب، مقابلًا لتفاقم مشكلات الطبقات الفقيرة، وزيادة أوضاع الموظفين سوءًا. تردد على حجرتي بعلي تمراز شبان، همسوا بتحيرهم بين التيارات السياسية القائمة، أيها الأصلح: الوفد، أم السعديون، أم الأحرار الدستوريون، أم الاشتراكيون، أم الشيوعيون، أم الإخوان المسلمون؟

تيارات متعارضة، وإن توحدت في إدانتها للفساد.

إذا كانت كل التيارات تُدين الفساد، فمن الذي يصنعه؟!

صار الثراء هدفًا للكثيرين، بصرف النظر عن الوسائل. كان اتحاد الصناعات تجسيدًا لتحالف الاحتكارات الرأسمالية المصرية والأجنبية. في ١٩٥٢م بلغ عدد أعضائه ٤٧ عضوًا من كبار الرأسماليين المصريين والأجانب.

مال بعنقه، عالج مقبضي النافذة وراءه، دخل الضوء الحجرة، تعلق به ذرات غبار.

وهو يعتدل في جلسته: ظني أن فصل مكرم عبيد من الوفد كان واحدة من نتائج الوقيعة التي نسج خيوطها الملك فاروق، انتقامًا لحادثة ٤ فبراير، جعل النحاس خصمًا، حاربه بإفساد العَلاقة بينه وبين مكرم.

ابن سعد في رحاب الملك؟!

من كان يصدق أن توأم النحاس ينفصل عنه في تلك الصورة القاسية الغريبة، يتحول إلى أعدى أعدائه، بدت لي تصرفاته — عقب خروجه من الوفد — أقرب إلى ردود الأفعال الانفعالية: الكتلة، الخطب المستعرة، الكتاب الأسود.

أُعجِبتُ بمواقف مكرم عبيد السياسية، نضاله إلى جانب سعد زغلول مع أفندية ثورة ١٩١٩م: النحاس والنقراشي وأحمد ماهر وإبراهيم عبد الهادي. ابن سعد تسمية يستحقها، لكنه بدَّل نظرة الكثيرين إليه حين أصدر الكتاب الأسود يهاجم حزب الوفد الذي كان من أهم قياداته.

لم أعلن تعاطفي مع اتحاد الطلبة والعمال الذي كان عنوانًا للمقاومة، وإن تابعت أنباءه، وتمنيت أن يسير في الطريق إلى نهايتها.

وهو يمسد جبهته بأطراف أصابعه: أذكر ما داخلني من حزن لجلسة الإمام البنا إلى جوار إسماعيل صدقي، قبل مأساة ٢١ فبراير ١٩٤٦م، استُشهد وأصيب أكثر من مائتي طالب تظاهروا للمطالبة بالجلاء.

تناهى أذان الظهر من موضع قريب، ربما جامع أبي العباس، أو جامع الموازيني، أو زاوية خطاب.

قال في لهجة متأثرة: عدا الجمعة، لم تعد صحتي تساعدني على أداء الصلاة جماعة في الزاوية.

وأومأ برأسه ناحيتي: هل أنت على وضوء؟

تساند على ذراعي حتى اطمأن — عقب الصلاة — إلى جلسته.

الأزهر! …

يعاودني الشعور بأني تخرجت في معهد للمعرفة الدينية والوطنية.

خرجت القاهرة في مظاهرة حاشدة، تهتف بالجلاء، ووحدة وادي النيل. حمل المتظاهرون جثمان أول شهيد في علم مصر، طافوا شوارع القاهرة، ثم انتهوا إلى ساحة الأزهر، هو دور الأزهر منذ الثورة على حملة نابليون. إذا كانت الحكومات قد أفلحت في إضعاف الحركات السياسية المعارضة، فإنها لم تستطع أن تواجه الإسلام، مسلمو مصر يؤمنون بدينهم.

في التاسع من فبراير ١٩٤٦م أمر النقراشي بفتح كوبري عباس على الطلبة المتظاهرين ضد الاحتلال، سقط العديد من الطلبة في النيل، تواصلت المظاهرات في اليوم التالي.

اعتاد الطلبة وقوف أحدهم — في الطرقة المستطيلة بمدخل بيت المسافرخانة — يهتف بأعلى صوته: مظاهرة! يتقاطر الطلبة على الساحة، وعلى السلالم إلى الباب الخارجي يرددون الهتافات ضد الملك وأحزاب الأقلية. يضع الطالب إصبعين في فمه، ويطلق صفيرًا، يندفع الطلبة نحو الباب الحديدي، ومنه إلى الطريق. تمضي المظاهرة من المسافرخانة إلى شوارع بحري، ثم إلى طريق الكورنيش، حتى ميدان المنشية، أو محطة الرمل، ترفع اللافتات والشعارات، تردد الهتافات المعارضة، ثم تعود.

أقسى ما أذكره من تلك المظاهرات، مقتل الطالب بشير عبد الصمد — أذكر اسمه جيدًا — برَصاص العساكر. كنت أقف على السلمة الأولى أمام زاوية خطاب. أمامي حشد الطلاب يهتفون: الاستقلال التام أو الموت الزؤام. غالبت التردد أمام حشود المتظاهرين، والاندساس في الأجساد المتلاصقة، والقبضات الملوحة والهتافات. فاجأنا العساكر في مقدمة الصفوف بكعوب البنادق، يوجهونها إلى أجساد المتظاهرين، يختارون الموضع الذي تنهال عليه الضربات. تلقوا الأمر بالضرب، فهم ينفذونه, انبجست الدماء، تطاير نثارها، علت الصرخات والتأوهات. محمود عابد الذي كان يقف في السلمة العليا، تأوه، وسقط، رصاصة وحيدة — لا أعرف مصدرها — قتلته، لا أعرف حتى كيف انطلقت، ولا من صوبها. كانت أيدي العساكر تحمل الهراوات والمصدات الحديدية، ربما انطلقت الرصاصة من مسدس أراد صاحبه أن يجبر الطلاب على فض المظاهرة.

أغلقت عيني، شردت، استدعيت أحداثًا كنت أتصور أني نسيتها، واضحة وشاحبة، اختلطت فيها الملامح والقسمات. حدث الكثير من الأمور التي يصعب فهمها.

قلت للشيخ: أعرف أنك قبلت الخِلع والهدايا التي حاول بها الملك استمالتك.

– قبلتها حتى لا أمنع عن الخدم رزقًا أرسله الله لهم!

لاحظت ما يشبه الاستياء في نظراته، فسكتُّ.

اغتصب ابتسامة: هل أبيع آخرتي لأجل خِلعة الملك؟

دون أن تذوى ابتسامته: أجمل ما أذكره أنه حين مال الموكب من شارع إسماعيل صبري إلى ميدان «الخمس فوانيس»، علت الهتافات ضد الملك.

شردت، اختلطت في ذهني صور غير مترابطة من رفع الأذان وخطب الجمعة وصلاة العيد وليالي رمضان والتواشيح وسوق العيد.

اتجه ناحيتي بنظرة مشفقة: لا تفتش عن الاحترام في تصرفات الآخرين.

حدجني بنظرة طويلة، كأنه يريد التعرف إلى رد الفعل: يحترم المرء نفسه أولًا!

– هل فصلك الإخوان لقبولك استقبال الملك؟

– لم أكن عضوًا في الإخوان فيحق لهم فصلي.

– ظننتك كنت عضوًا في الجماعة؟

وضع يده على أذنه، يستوضح الكلام: حين وبَّخني صديق لرفضي الانضمام إلى الإخوان المسلمين، قلت: أنا مسلم على مبادئ الكتاب والسنة، وليس على مبادئ الإخوان.

ولاح في صوته أسًى: أخذ الإخوان من الصوفية السمع والطاعة، ثم اختاروا السير في طرق مغايرة.

قطع كلماته، والتفت ناحية الباب. اندفع الأولاد من الصالة إلى خارج البيت، على تناهي صوت زمارة. افترَّ فمه عن ابتسامة مشفقة: جرَوا لغزل البنات وبراغيث الست.

أضاف بلهجة مستطردة: الصوفي يحاول الفناء في الله، أما الإخواني فلا بد أن يفنى في الجماعة.

حدجني بنظرة متفحصة، كأنه يريد التأكد من استيعابي ما قال: حرصت أن أظل خارج الأحزاب السياسية.

قلت منبهًا: الجماعة ليست حزبًا.

– ما دامت قد شاركت في العمل السياسي فهي حزب.

رفع النظارة الطبية من عينيه، مسح زجاجها في كم الجلابية الواسع: كنت مطمئنًّا إلى قول حسن البنا، إن الحزبية قد تجوز في بعض البلدان، لكنها لا تجوز في مصر، وإلى دعوته لتوجيه القوى نحو الصف السياسي الواحد.

ثم في نبرة تأكيد: حرصت أن أظل واعظًا.

شيء ما في نبرة صوته أقلقني، أحسست أن في أعماقه شيئًا يريد قوله، أومأت برأسي.

– لو أني رأيت من أهل الحكم ما هو في صالح الناس، كنت سأشكرهم عليه … لكنهم أسرفوا في الظلم، فكان واجبي أن أردهم في خطبي. حفظت الأسماء التي كنت أرددها: أبو بكر، عمر، عثمان، علي، عمر بن عبد العزيز، وأسماء أخرى رأيت فيها مُثُلًا للعدل.

سري التهدج في صوته: أنا أعترف بحق الحاكم إن اعترف بحقي كمواطن.

داخلني قلقٌ لِمَا أُذيعَ من أنباء في مطالع ١٩٤٨م: اغتال الإخوان القاضي أحمد الخازندار رئيس محكمة الاستئناف بالقاهرة، قيل إنه لم يمتثل لتهديدهم بالتخلي عن نظر قضية محاكمة أعضاء في الإخوان، ضُبطوا أثناء محاولة تفجير نادي الجيش الإنجليزي في الإسكندرية، كما أقدم الإخوان على سلسلة تفجيرات لشركة الإعلانات الشرقية ومحال اليهود الكبرى، وحدث انفجار ضخم في حارة اليهود.

حرب فلسطين.

رفض العرب قرار التقسيم، لرفضهم مبدأ الدولة اليهودية على أرض فلسطين، أو لثقتهم في أن القضاء على الحلم الصهيوني لا يحتاج إلا إلى تجريدة عربية تفرض سيطرة الشعب الفلسطيني على كامل أرضه، وظلت تسمية أرض إسرائيل بالدولة المزعومة، حتى صار الزعم حقيقة بمساندة الولايات المتحدة ودول أوربا، بما فيها الاتحاد السوفييتي، فضلًا عن الضعف والعمالة والخيانة في مواقف الزعامات العربية.

مشكلة القضية الفلسطينية، أن معظم المشتغلين بالعمل السياسي لم يفهموها فهمًا صحيحًا. ساءني تهوين الأمور بصفات مثل العصابات الصهيونية، ودولة إسرائيل المزعومة. تناسينا الاحتلال الإنجليزي لمنطقة القناة، والدور المشبوه لسفارة قصر الدوبارة، وتطلع الأمير عبد الله لضم الضفة الغربية بفلسطين إلى إمارة شرق الأردن، وقيادة جنرال إنجليزي للقوات الأردنية، والخيانة المعلنة لنوري السعيد رئيس وزراء العراق. فصل أقطار المشرق العربي عن أقطار المغرب لا يقل في خطورته عن احتلال فلسطين. إنهاض الوطن العربي صار أمنية مستحيلة، خنَقه حتى الموت احتلالُ اليهود فلسطين، واتساع الخطر الصهيوني إلى آفاق كانت غائبة.

أعد اليهود لكل شيء جيدًا، بينما اكتفى العرب بالشعارات الزاعقة، لا قيادة حقيقية، ولا استعداد، ولا تنسيق. الخطأ الأكبر تولي الأمير عبد الله حاكم شرقي الأردن قيادة الجيوش العربية. أفرز الخطأ — بتوالي الأحداث — نتائجه السلبية الخطيرة، أذكر منها ضياع اللُّد والرَّمْلة في أعقاب مغادرة القوات المصرية لها، بطلب من الأمير الأردني. لكن الحرب شكلت حدًّا فاصلًا بين ما سبق وما لحق، الهوية المصرية والهوية العربية، معاداة الاستعمار الأجنبي، معاداة الاستعمار الذي يصر على التوطن، جيش المحمل والجيش الذي حارب في فلسطين، وعانى المؤامرات والأسلحة الفاسدة.

توالت قرارات مجلس الأمن بإيقاف المعارك لهدنة أولى، وثانية، وثالثة، انتهت جميعها إلى ابتلاع الإسرائيليين مساحات هائلة من الأراضي، كانت في حوزة الجيوش العربية.

هل كانت موافقة الحكام العرب على تلك القرارات اختيارًا للسلام، أو عجزًا؟

لعل المعنى الثاني هو الصحيح. دول الغرب لا تتدخل بقرارات مجلس الأمن إلا إن كانت في صالح إسرائيل، المراجعة المتأملة لكل ما أصدره المجلس من قرارات يسهِّل تعرفها إلى القوى المدبِّرة.

لا أنسى كذلك ما فعله فاروق، من حق الملك أن يطلق زوجته، فهو بشر، لكن التوقيت خطأ، الجيش المصري يحارب في فلسطين، وقائده الأعلى مشغول بتطليق زوجته. لو أن المولود الذكر الذي أنجبه الملك فؤاد من زوجته الأولى شويكار ظل حيًّا، ربما كان قد تغير تاريخ مصر الحديث.

افتقدتُ وجوهًا ألِفتها في صلاة الجمعة بعلي تمراز، أو في جيران المسافرخانة، ثلاثة — أعرفهم شخصيًّا — طلبوا إجازة من عملهم كضباط في الجيش، للقتال في فلسطين.

لم أكن من الإخوان المسلمين، لكنني طلبت أن أنضم إلى كتائبهم في فلسطين، رفضت حكومة النقراشي سفري. كانت لي آرائي المؤيدة والرافضة والمتحفظة، أضمنها خطبي، أنتقد سياسة الدولة، آخذ عليها ما تصدره الحكومة من التشريعات والقوانين، لا صلة لي بأحزاب ولا تنظيمات، قلت: هذه حكومة فاسدة، إذا سكتنا عنها فنحن نوافق على فسادها، وقلت: الساكت عن الحق شيطان أخرس.

أعدتُ — في خطبة الجمعة — جوانب مما قرأته عن الشهيد أحمد عبد العزيز، تأثرتُ — ولم أستبعد الخيانة — لمصرعه، بدعوى عدم نطق كلمة السر، طلبت من المصلين أداء صلاة المغرب على روح الشهيد، كما طلبت — في يوم جمعة آخر — أداء صلاة الغائب على روح الشهيد الفلسطيني عبد القادر الحسيني.

التقطت نظرة الإشفاق في عينَي إبراهيم الهواري صاحب فرن التمرازية، وهو يمد يده بالمصافحة عقب الصلاة: أعطيت أحداث فلسطين في خطبتك أكبر من حجمها. نقلت الصحف تصريح رئيس الأركان بأن الأمر لن يزيد عن نزهة!

توحدت ردود الأفعال في مناصرة الشعب الفلسطيني، وإن تباينت ما بين النظر إليها كمأساة شعب شقيق، واعتبارها — من وجهة نظر أكثر اتساعًا — متصلة بالأمن المصري.

أجد في قول فؤاد سراج الدين بأن دفاعنا عن فلسطين إنما هو دفاع عن مصر نفسها، نظرة صادقة للمشكلة، لكن استعداداتنا للحرب لم تكن في مستوي تلك النظرة.

قال بيجن: لولا دير ياسين ما قامت إسرائيل. جرت عمليات تعذيب وتشويه وسحل، وبقر لبطون الأرحام وقتل للأجنة، أُعدم خمسة وعشرون من الرجال بالرصاص، وشُوِّهت جثثهم، أُلقيت الجثث في بئر، استُشهد مائتان وستون من أبناء القرية.

لا أعرف كيف يسمي اليهود أنفسهم شعب الله المختار، هل لسجلهم الحافل بالجرائم؟!

اغتيل رئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي، قتله عضو الجماعة عبد الحميد أحمد حسن الطالب بكلية الطب البيطري. أصدر النقراشي أمرًا عسكريًّا بحل جماعة الإخوان المسلمين، انتقامًا لقتل أفراد في الجماعة حكمدار العاصمة، شمل القرار كل تنظيمات الجماعة وشعبها وفروعها، والمؤسسات التابعة لها، ومصادرة ممتلكاتها، وما بحوزتها من أموال، واعتقال أعضائها، وفصل موظفي الدولة والطلبة المنتمين لها.

تمنيت لو أن الإمام البنا قصر لومه على القاتل، وحتى على التنظيم السري لعبد الرحمن السندي، لكن لومه شمل من لم تؤكد التحقيقات مشاركتهم في عملية الاغتيال «ليسوا إخوانًا، وليسوا مسلمين». ربما هو إشفاقه من الضغط الحكومي على مصير الجماعة.

غابت سِحن اعتدتُ رؤيتها في صلاة الجمعة، حدَستُ انتماء أصحابها إلى جماعة الإخوان، فطنوا إلى خطورة تأثير ما حدث على حياتهم، فاختفوا.

أكره الاغتيال الفردي، بداية الدماء لا نهاية لها، واغتيال فرد لا يعني إسقاط الجماعة التي ينتمي إليها.

لم أدخل في مناقشات حول قرار حل الجماعة، أتفق مع الإخوان في السعي إلى التغيير، كتمت ملاحظاتي على رضوخ الجماعة للرأي الواحد، ذلك ما لا أطيقه. لو أني وافقت حسن البنا على قوله: «إن للمرشد أن يأخذ برأي مكتب الإرشاد، ويجوز له أن يخالفه» فسأنكر ما دعوت إليه في خطبي. قرأت كتاب خالد محمد خالد «من هنا نبدأ»، أدركت أن كلماته هي الأقرب إلى نفسي. أرفض العنف، ربما لجوء التنظيم السري إلى السلاح هو ما أغرى حكومة السعديين بحل الجماعة.

الرصاصات التي اغتالت الإمام حسن البنا، كأنها اخترقت صدري! كان مثلًا للداعية الذي يحسن تقديم الإسلام في صورته الصحيحة.

هل قُتل بذنب النقراشي؟

ما أعرفه أن صلة الرجل بالطعن والقتال حين ارتدى زيًّا عسكريًّا لتحريض أعوانه على التوجه إلى فلسطين. أساء تنظيم عبد الرحمن السندي إلى جماعته، الإمام البنا في مقدمة من لحقتهم الإساءة.

يصعب القول إن جماعة الإخوان المسلمين تكونت لغرض سياسي، نُسبت إلى الجماعة عمليات اغتيال، وتحالفات مشبوهة، هي تشكلت في سنة ١٩٢٨م، السنة التي شهدت نشاطًا مريبًا في الحياة المصرية، قام به مبشرو المذهب البروتستانتي، وشمل الكثير من المناطق المصرية، توزعوا في القرى والميادين والدواوين الحكومية والمقاهي، أثروا بكلماتهم المنمقة على أعداد كبيرة من البسطاء، هجروا دينهم الإسلام، أو مذهبه الأرثوذكسي أو الكاثوليكي، اعتنقوا المذهب البروتستانتي. تلك كانت بداية الإخوان، بصرف النظر عن الطرق التي سلكتها فيما بعد، أخطرها — للأسف — لجوءها إلى العمل السياسي.

ظني أن عدم تقدير كل طرف لقوة الطرف الآخر هو الباعث للصدام بين الطرفين. دفع النقراشي حياته ثمنًا لقرار حل الجماعة، ودفع البنا حياته ثأرًا للنقراشي.

حين أدليت بصوتي تأييدًا للوفد، كانت تلك هي مشاركتي الأولى — ولعلها الأخيرة — في انتخابات مجلس النواب، لم أعد أشارك في الانتخابات، تذكرت قول الإمام مالك: «ليس لمستكرَه طلاق»، أي إنه ليس على المستكرَه أن ينتخب من يرفضه. حملتْ خطبي انتقادات — بلغت حد الرفض — للحياة الحزبية، بدت عودة الوفد إلى الحكم مسئوليتي، مثلما هي مسئولية كل المصريين، ضعف ائتلاف أحزاب الأقلية وشى بالدمار في الأفق القريب، انتخابي للوفد لأنه أحسن الوحشين، لا أنسى تولي مناصبه العليا من تليق بهم قيادة أحزاب الأقلية. فسَّرت ارتياحي لفوز الوفد بأنه ليس حبًّا للحزب، وإنما كراهية في الملك وأحزاب الأقلية والسفارة البريطانية.

النسبة الاستثنائية لأعداد الناخبين عكست رغبة المصريين في عودة الوفد، صمتت القوى المعارضة: قصر الدوبارة، السراي، أحزاب الأقلية. انتظرتْ — ربما — حتى تعيد ترتيب أوراقها لتربح جولة تالية. جاءت تلك الجولة — كما تعلم — بعد عامين في حريق القاهرة الذي لم يُعرف — حتى الآن — فاعله.

العادة أن يداري المسئول الكبير أخطاء القريبين، خوفًا عليهم وعلى نفسه. ألغى الملك فاروق ما هو مألوف، عندما واجه زواج رياض غالي سكرتير أمه نازلي من ابنتها، شقيقته فتحية، أخفق فاروق في إقناع نازلي برفض الزيجة، فأصدر قرارًا بالحجر على نازلي، وتجريدها من لقبها، والتفريق بين فتحية ورياض غالي. تحفظي على أفعال فاروق، رفضي لها في مواقف كثيرة، لا يلغي إحساسي بأنه واجه ما حدث بوجدان المسلم.

«من أجل مصر وقعتُ معاهدة ١٩٣٦م، ومن أجل مصر أطالبكم اليوم بإلغائها.» أدركت أني لم أكن مخطئًا في تأييدي للوفد، دعوت لنصرته وهو خارج الحكم، وحين آلت إليه الأمور أثبت أنه أهل للثقة، للوفد أخطاؤه، تناولتها في خطبي، لكنها تتضاءل أمام جرائم القصر وأحزاب الأقلية. هذا هو النحاس الحقيقي، خليفة سعد، وصاحب المواقف الوطنية.

دخلت البلاد مرحلة جديدة، انسحب الآلاف من عمال المعسكرات، امتنع عمال الشحن والتفريغ عن تفريغ السفن الإنجليزية الراسية في مواني القناة، نشطت حركة مقاطعة البضائع الإنجليزية، الغريب أن الشعور بخروج آلاف العمال من معسكرات القناة، فاق — عقب إلغاء المعاهدة — ما حدث في نهاية الحرب الثانية، ربما لأن عملية ترك المعسكرات كانت مفاجئة، واستغرقت أسابيع قليلة. فُتحت مكاتب التطوع، تكونت الكتائب المسلحة، قُطعت خطوط التموين، نُسفت مستودعات البترول، والقطارات المتجهة إلى معسكرات الإنجليز، نجحت محاولات الاستيلاء على الأسلحة والذخائر، نُشرت قوائم المتبرعين للمقاومة المسلحة، استُشهد الضابط طيار أحمد عصمت في عملية فدائية، بالقرب من أبي حماد بالشرقية.

مصر تشغي بالمظاهرات والإضرابات والاعتصامات والمؤتمرات والخطب وملصقات الشوارع والمنشورات السرية، المدن والقرى والمصانع والجامعات والمدارس الثانوية والابتدائية مجالها الفسيح، وتعددت مصادرة صحف المعارضة، وأُلغيت جريدة مصر الفتاة. حتى حادثة هدم كَفر أحمد عبده مثلت مؤشرًا للثورة القريبة، حجة قادة الاحتلال الإنجليزي أن الكَفر يقع بين محطة المياه المملوكة للقوات البريطانية، وبين بقية المعسكرات. أصدر مجلس الوزراء قرارًا للشهرة، بعدم الاستجابة لإنذار إخلاء الكَفر، وجد أهالي السويس في القرار مزايدة سياسية، نتيجتها هدم الكَفر على رءوس الأهالي، أخْلَوا بيوت الكَفر، فهدمتها قوات الاحتلال، لكن المقاومة الشعبية ردت على هدم الكَفر بعديد من الأعمال الفدائية ضد معسكرات الإنجليز، قُتل فيها عشرات الجنود، ودُمرت دبابات وعربات مصفحة، ومعسكر للطيران بأكمله.

أبذل جهدًا لتذكر بعض الأشياء. الذاكرة انتقائية، قد أنسى واقعة مهمة، وأتذكر حادثة تافهة، يصعب للإلحاح أن يستعيد ما حدث، لكن الملاحظة السريعة تعيد ما كان غائبًا، ما توارى في الذاكرة، تتلاشى الغِلالات فتبين الصورة واضحة.

الصدمة! …

ذلك هو الشعور الذي أحسست به عندما طالب الحزب الاشتراكي بإسقاط حكومة الوفد، كانت مساحة الخضرة الوحيدة — رغم الأعشاب الطفيلية — في أرض حزبية تعاني التصحر والجدب. لم تستهوني شعارات الحزب: القومية المصرية، مصر فوق الجميع، الإمبراطورية العظيمة، الله … الوطن … الملك … غوغائية تؤثر في مشاعر الناس، لا صلة لها بمشكلات حياتهم.

ماذا كان يريد أحمد حسين؟

صدمني هبوط متوسط الدخل القومي من عشرة جنيهات في ١٩٣٩م إلى أقل من ذلك الرقم في ١٩٥٢م. أحزنني تهاوي الآمال التي دفعتني، وملايين المصريين، لانتخاب الوفد. ظل كل شيء على حاله: الفساد السياسي، سيطرة رأس المال والإقطاع، التحالف مع السراي وقصر الدوبارة. يؤلمني أن أهم مشروعاتنا القومية — بالإضافة إلى مغالبة الفقر والجهل والمرض — مشروع مكافحة الحفاء، مجرد أن يضع المصريون أقدامهم في أحذية، صار القضاء على الحفاء مطلبًا ملحًّا للقضاء على الجهل والفقر والمرض، مسميات لم أعد أضمِّنها عظاتي في علي تمراز، هي أقرب إلى كتابٍ ملَّ الناس قراءته، قول معاد فقد معناه. أذكر القول: إن الاقتصاد المصري بقرة ترعى في أرض مصر، لكن ضروعها كانت تُحلب خارج مصر. كانت معظم رءوس الأموال أجنبية، تقتصر أنشطتها على الاقتصاد المصري في التصدير والاستيراد. وكانت شركة قناة السويس مثلًا للسيطرة الأجنبية على الاقتصاد المصري، تسيطر على حركة الملاحة في القناة، وتحصل على معظم عائدات عبور السفن، وتتيح التعامل الأمني لأجهزة المخابرات في إسرائيل ودول الغرب. كان للشركة عَلَمها الخاص، وشَفرتها الخاصة، وجهازها للمخابرات، فضلًا عن الحي الذي تقتصر الإقامة فيه على موظفيها.

حرصت أن أضمِّن خطبي شرحًا لواقع حال الغلابة، بعكس ما قاله أحد الوزراء إنهم جعلوا الشمس في الشتاء دثارهم، ونور القمر في الظلمة سراجهم، وحشائش البرية فاكهتهم، وهم ماضون في رحلة الحياة ثابتي الجأش، صارمي القلب. تعبيرات إنشائية، كان من الصعب تقبلها!

ذكَّرت المصلين — والحكام — بمشروع النائب محمد خطاب في ١٩٤٥م لتحديد الملكية، رفضه البرلمان، لكنه أشار إلى طريق الثورة. أقيس قيمة الخطب التي ألقيها، وجدواها، من زيادة أعداد المصلين، ليس استجلابًا لإعجاب مريدين، وإنما لما ينطوي عليه امتلاء صحن الجامع، والميدان الواسع أمامه، والشوارع المحيطة، من مصلين يأتون من مدن قريبة وبعيدة، لأنهم يجدون في كلماتي تعبيرًا عن مشكلاتهم، وما يعانون. الشعائر في كتب الفقه يستطيع من يشاء أن يعود إليها، لكن حياة الناس هي ما يشغلهم في عظاتي وخطبي.

اقتصرت أواخر خطبي — أو كادت — على رفض قانون الصحافة، بدا القانون غولًا، ربما الْتَهم حياتنا.

وأنا أغالب الفضول: ألم تدفعك قسوة الإجراءات إلى مراجعة مواقفك؟

قال: أصارحك بأني فكرت في نصيحة الشيخ نصار مبروك خطيب مسجد الموازيني، طالبني أن أعي فصل شيخ الأزهر لقوله — تعليقًا على بذخ رحلات الملك: «تقتير هنا، وإسراف هناك.»

طفَت على شفتيه ابتسامة متوترة: لو أني عدَلت عن مواقفي كنت سأظل في علي تمراز.

عدا «المصري» فإني لم أعد أقرأ صحف الوفد، تعكس سياسات لا شأن لها بالوفد الذي نعرفه. هل كان أحد يتصور هتاف المجتمعين ضد قيادة وفدية عند صعوده إلى المنصة؟

قال: هذا غاية ما استطعت أن أستحث به الذاكرة حتى تعود.

حل في الذاكرة ما كنت نسيته: المظاهرات والهتافات وعساكر البوليس وخطب الشيخ حسن وردي ومناقشات طلبة المعهد الديني في بيت المسافرخانة.

أردف كمن يريد أن يبدل مجرى الحديث: أتحت لذاكرتي انتعاشًا لم أتصور أنها تحياه، ما تصورت أني نسيته عاد طازجًا، كأنه جرى بالأمس، وإن كان الكثير من أسماء الشخصيات والأماكن استعصى على الذاكرة، لم يفلح التقليب والنبش في استعادته.

شرد، عرَفت أنه رحل بذاكرته، أخذتْه عوالم حاول اجتذابها فاجتذبته، نسي اللحظة، نسي حتى وجوده نفسه، أتنحنح، أتحرك بما يعيده إلى جلستنا.

أعرف أن ما أذكره، وأرويه، يختلف عن الواقعة كما جرت، الواقعة عند وقوعها، توالي الأعوام غيَّب الملامح، أو جعلها باهتة. ربما أهملتُ بعض الأحداث، أعرف أنك تابعت كل شيء، ما رويته هو وجهة نظري، رأيي الشخصي فيما حدث، قد أكون مصيبًا فلي أجران، أو أكون مخطئًا فلي أجر واحد.

أيقنت — وأنا أُعِد نفسي للرحيل — أن كل شيء على حاله، الحكام هم هم، يتزايدون بالأنصار والأتباع، ويبدو الأفق ملبدًا بالظلمة.

أضاف إلى أحزاني — في تلاحق الأحداث السياسية — إعلان محمد الببلاوي نقيب الأشراف ثبوت نسب الملك فاروق إلى آل البيت، قال الإعلان إن نازلي أم فاروق ينتهي نسبها إلى سيدنا عبد الله الحسين السبط، ابن السيدة فاطمة الزهراء، بنت الرسول عليه الصلاة والسلام. سألت نفسي: لو أني بقيت في إمامة علي تمراز، هل كنت أنفذ أمر الأوقاف، فأدخل كلمة «السيد» على الدعاء لفاروق في المسجد؟!

عرفت وظيفتي في وزارة الأوقاف من قبل أن أنزل مطار الرياض. أكلم المصريين في الشأن المصري لأنه شأني، لا أعرف طبيعة الحياة في السعودية بما يحفزني لإبداء رأي، أجلس إلى الأعداد القليلة من المصريين، ألتقيهم في زياراتي إلى الحرم المكي، والروضة الشريفة، أقرأ ما يتاح لي من الصحف، وأتابع الإذاعات، أصل الخبر بهواجس وتخمينات وتوقعات … لا أذكر القائل من بعيد، تبدو الصورة أوضح، لكن الصور — في أثناء إقامتي بالرياض — كانت تبدو حافلة بالمشاهد والتفاصيل والأسئلة والتوقعات والتخمينات، ما أستمع إليه أو أقرؤه، أو أتيح لي مشاهدته بعد أن دخل التلفزيون حياة الناس، لا يقتصر على الصور، لكنه يشي بنتائج ربما تغيب لو أن المرء وسط الحدث، تأخذه الدوامة بعيدًا عن الأسباب، واحتمالات المستقبل.

زادت — فيما بعد — أعداد المصريين، وظهرت القنوات الفضائية. ألتقط الأنباء مجزأة ومتناثرة، ويشوبها الغموض في أحيان كثيرة، أدير موجات الراديو وقنوات التلفزيون، أحاول تجميع ما بلغني، أحرص حتى لا يتشابك الخيط، فأعجز عن وصل البدايات بالنهايات.

سافرت في العام الذي بدا مهيَّأً لقيام ثورة، عمليات الفدائيين في القناة، وحرية الصحف، كتب خالد محمد خالد وفتحي رضوان ومصطفى مرعي وإحسان عبد القدوس وعزيز فهمي وأحمد أبو الفتح وحلمي سلام وغيرهم، كانت هي البداية الحقيقية للثورة، لكن حريق القاهرة أجَّل قيامها حتى حدثت حركة الجيش. قطف الضباط الثمار من قادةٍ عانَوا في إنضاجها. تمنيت ألا يكون الحريق نهاية ما حدث في ١٩٥١م، وأن تكون ثورة الشعب بديلًا لحركة العسكر.

استبشرت بانقلاب الضباط خيرًا … ثم وبخت نفسي لأن خطبي مهدت لما حدث، كنت بعيدًا عن السياسة، لكنها كانت قريبة مني، تصلني أحداثها بالسماع والمشاهدة، يصعب أن أطردها من ذهني. أتلقى الأنباء، تضخمها روايات، تتضاءل في روايات أخرى، لا أعرف ماذا أصدق؟!

قلت: الكل تمنى قدوم الثورة.

قال: ليس هذا ما تمنيناه.

وداخل صوته حدة: إلا حكم العسكر!

بتر الكلمات كأنه تبين صعوبة ما قاله: كانت خطبي تدعو إلى تغيير الحكم، لم أفكر كيف، وإن أفزعتني حركة الجيش.

أهمل التساؤل في وجهي، وأضاف: تذكرت مأساة عرابي!

ظني أن مصر كانت تستطيع تبديل أحوالها دون حركة الجيش. وُلِد ولي العهد أحمد فؤاد وسط فوران شعبي شمل كل البلاد: المظاهرات والإضرابات والاعتصامات والهتافات المنددة بالسراي والإنجليز وأحزاب الأقلية. حتى زواج فاروق الثاني أثار استياء الكثيرين، رأوا في الزواج من فتاة مخطوبة لشخص آخر — الدكتور زكي هاشم — سطوًا على ما يمتلكه الغير.

عقب مذبحة الإسماعيلية، همني السؤال: كان فؤاد سراج الدين يعلم نتيجة أمره للقوات المصرية بالمقاومة حتى آخر رجل. هل كان يملك خيارًا آخر، بدلًا من أن يترك القوات فريسة لأسلحة الإنجليز. هل كان القرار سياسيًّا فلم يضع في اعتباره المئات من العساكر المصريين؟

كنت مشغولًا فيما لا أذكره، فلم أُدِرْ مؤشر الراديو — كما اعتدت — بين الإذاعات، لا أقصره على إذاعة القاهرة. لو أني أدرت المؤشر، كنت سأعرف الحدث الذي هز الدنيا.

تناثرت أسماء: كازينو أوبرا، شبرد، أو «شبت» كما كان الناس يسمون الفندق الشهير، سينما ريفولي ومترو وميامي وديانا وراديو، جروبي، الأمريكين، بنك باركليز، عشرات المحالِّ التجارية والمطاعم والملاهي. كان تحرُّك الناس عفويًّا، وإن كان من الصعب إغفال التدبيرات التي دست مؤامراتها في قلب المتظاهرين.

بدا الحريق، وما تلاه من أحداث، كأن المصريين يمضون نحو النهاية، نحو الموت، كأنهم مدفوعون — بمؤامرات قصر الدوبارة والسراي، وتخاذل أحزاب الأغلبية والأقلية، وتحركات التنظيمات المشبوهة — إلى الانتحار.

ظني أن ما جرى اختصر المدَّ الذي شمل الحياة السياسية منذ عودة الوفد إلى الحكم. كان إلغاءً صريحًا للفعل الثوري من قبل أن تَبِين ملامحه. لو أن كل شيء حدث بصورة طبيعية، ربما تحقق التغيير بالثورة الشعبية، وليس بانقلاب الجيش. احتلال اليهود لفلسطين، بداية تطورات سلبية خطيرة في الوطن العربي، وثمة الاحتلال الإنجليزي في القناة، وإملاءات السفير البريطاني في قصر الدوبارة، وتسلل الانتهازية إلى حزب الوفد، وغلبة الصراعات إلى حد التفتيت بين القوى الوطنية، واتسام المشهد السياسي بمعاناة مخاض الثورة، الأحزاب السياسية القديمة، بالإضافة إلى التنظيمات الطالعة، أو التي أثبتت فاعليتها، صنعتْ نوافذ أطل منها المصريون على الثورة المرتقبة. قوام الساحة أحزاب الوفد والأحرار الدستوريين والسعديين والحزب الوطني ومصر الفتاة والإخوان المسلمين والشيوعيين، والعديد من الحركات المتطرفة التي كانت جماعة حسين توفيق وإقدامها على اغتيال أمين عثمان مثلًا لها. ظل التوقع قائمًا حتى حدث التغيير، سبق ضباطٌ في الجيش ما توقع الجميع أنه سيكون فعل الشعب.

بالإضافة إلى إلغاء معاهدة ١٩٣٦م، فقد بقي من وزارة الوفد تبدُّل النظرة إلى التعليم، صار — كما أراد طه حسين — كالماء والهواء، حقًّا لكل مواطن، انفتحت أبواب العلم لأبناء الطبقات الفقيرة.

ما حدث في ٢٦ يوليو ١٩٥٢م ثاني تنازل لفاروق عن العرش. كان قد تهيأ في ٤ فبراير ١٩٤٢م لتوقيع قرار — تحت ضغط بريطاني — بالتنازل عن العرش، لولا أنه استجدى السفير البريطاني اللورد لامبسون بمنحه فرصة جيدة، وأعطاه لامبسون الفرصة، فأمر بتشكيل وزارة النحاس.

غاظني اتهام أحزاب الأقلية لحكومة مصطفى النحاس بأنها جاءت إلى الحكم على حِراب القوات الإنجليزية، ما يعرفه الجميع أن تلك الأحزاب لم تقفز على السلطة — مرة واحدة — إلا على حِراب الإنجليز. لعل البلاد مَدينةٌ لرئيس الوفد بإنقاذها من خطر عودة الاحتلال.

لم يكن لي بالقسم السياسي بالداخلية صلة، لم أُدْعَ لشهادة، ولا استجواب، وإن قرأت الكثير عن أفعاله في صحف المعارضة. صَحَت زوجتي على الزغاريد في بيت الجوسقي المجاور. عرَفت أن ابنه الطالب بكلية الحقوق اتصل به من القاهرة، يبلغه بالإفراج عنه مع المعتقلين والمتهمين في أحداث حريق القاهرة. قلت لنفسي وأنا أعيد سماعة الهاتف إلى موضعها: هذه ثورة حقيقية، عمَّق مغزاها قوانين العفو الشامل عن جرائم العيب في الذات الملكية، وتطهير الإدارة الحكومية، والكسب غير المشروع.

عدا زوال سرادق رمضان في حديقة رأس التين، فإن أهل الإسكندرية لم يخسروا شيئًا برحيل الملك. هو بداية موائد الرحمن التي عرفناها فيما بعد: تلاوة القرآن من الشيخ مصطفى إسماعيل، تناول الإفطار متمثلًا في الوجبة الساخنة والحلوى والشاي والقهوة والسجاير.

قال الرجل ذو الملامح المصرية في سوق البطحاء: عزلوا الملك، وحل مكانه اثنا عشر ملكًا.

أدركت أنه يقصد الضباط الذين شكلوا مجلس قيادة الثورة.

أفاض في الكلام عما رآه سلبيات كثيرة: ضرب السنهوري، اعتقال إحسان عبد القدوس، إعدام العاملَين خميس والبقري، إغلاق جريدة المصري، حظر الأحزاب السياسية.

التضخيم، وربما التهويل، رد الفعل لتلقِّي الأحداث في الغربة، تضيف إليها، تجسدها في الصورة التي تتخيلها، وليست الصورة التي هي عليها. كنت أتلقَّى الأحداث في مصر بمشاعر متباينة، يداخلها الحنين والقلق، وتأخر الرسائل، وإلحاح الإذاعات والصحف، وتعليقات المكاتب والأسواق. حينما صدر قانون إلغاء الرتب والألقاب، همست لنفسي متسائلًا: هل يُلغَى لقب الشيخ؟ فطنت إلى أن حركة الجيش ذبحت القِطة مرتين، عندما حكمت على العاملَين خميس والبقري بالإعدام، وعلى الإقطاعي عدلي لملوم بالسجن المؤبد. ربما لجأ مجلس قيادة الثورة إلى هذا الإجراء ليسد الطريق على أية محاولة تالية للخروج عليه، وهو ما كان يهب الأمل بالإفراج — بعد سنة أو سنوات — عن عدلي لملوم، لكن إعدام العاملَين أغلق باب الأمل تمامًا. أصارحك بأني أرفض الإعدام ما لم يكن بدافع القِصاص، فيما أعرف، فإن العاملَين لم يرتكبا ما يستدعي القِصاص. توقعت أن يمثل فصلُ الإخوان المسلمين للباقوري من عضوية الجماعة بداية طريق اللاعودة بين حركة يوليو وقيادة الإخوان. محاولة اغتيال عبد الناصر باب الدخول إلى اعتقال كوادر الإخوان. أذكر خطبة لعبد الناصر عن ١٨ ألفًا من أعضاء الإخوان، اعتُقلوا في يوم وليلة! أمهلت سوء النية عندما صدر قانون الإصلاح الزراعي في سبتمبر من عام الحركة، أليس هذا ما دعوت إليه في خطبي؟

لم أصدق عيني، حين طالعني خيري الشحات في سوق البطحاء: الجسد العملاق، والأنف ذو الخنف الواضح، والطاقية البيضاء تهبط إلى حواجبه. روى لي — عقب العشاء — في هدأة صحن البيت، عن السنين التي اعتُقل فيها بتهمة العيب في الذات الملكية، ماذا كنت أفعل؟ هل حمتني الإمامة؟ هل خشُوا ناس بحري؟ حتى أحمد حسين لم يُفلت من السجن بصور «رعاياك يا مولاي»! داخلني قلق عندما تولى محمد نجيب رئاسة الوزارة بدلًا من علي ماهر، احتفظ بوزارة الحربية والبحرية وسلطات القائد العام للقوات المسلحة. طال تأملي لتولي علي ماهر رئاسة أول وزراء بعد الثورة، صلاته معروفة بالإنجليز والسراي، بعيدة عن حزب الأغلبية، ضم قوى الرجعية في جبهة مصر، محاولة لإضعاف اللجنة الوطنية للعمال والطلبة. بدا طبيعيًّا إبعاده من منصبه بعد شهرين من قيام الثورة، وإن داخلني قلق من احتفاظ محمد نجيب بعديد من المناصب. قيل إن إبعاد ماهر لاعتراضه على قانون الإصلاح الزراعي، وتحديد الملكية الزراعية، صدر عقب يومين من تنحيه. صعب أن يتخلى الرجل عن طبقته. حل الأحزاب السياسية لم تتأثر خطورته بإعلان فترة انتقال لمدة ثلاث سنوات، تمهيدًا — كما نص القانون — لإقامة حكم ديمقراطي سليم. ناوشتني — مجددًا — مخاوف الديكتاتورية.

هيئة التحرير؟

هل هي البديل للأحزاب السياسية؟ هل تجاوز فترة الانتقال مدة السنوات الثلاث إلى ما لا نهاية؟ ماذا يريد العسكر؟

بدت المخاوف كأصداء بعيدة، حينما أصدر مجلس قيادة الثورة قرارًا بألا يؤلف المجلس أحزابًا، مقابل السماح للجماعات بتكوين الأحزاب السياسية. ولأن الثورة انتهت — كما قدر المجلس — فقد قرر تسليم البلاد لممثلي الأمة.

بعد أقل من سنة على قيام الحركة، حدث ما لم أكن أفهمه. نزلت المظاهرات إلى شوارع القاهرة، تهتف ببقاء مجلس قيادة الثورة، ورفض قرار الحل، وأضرب عمال النقل عن الطعام، حتى تُلغَى عودة الأحزاب، واستمر مجلس قيادة الثورة في مباشرة سلطاته، كما اعتصم ضباط من الجيش في ثُكناتهم، إلى أن تُلغَى قرارات مجلس قيادة الثورة، شاهدت في الجريدة صورة دالاس وهو يقدم مسدسًا فضيًّا إلى اللواء محمد نجيب. ماذا تعني الهدية؟ هل هي استكمال لدور السفير الأمريكي جيفرسون كافري في السياسة المصرية؟ هل لها صلة بحصول مصر على السلاح؟ وما انعكاس ذلك على القوات البريطانية في القناة؟

لا أذكر أين ولا متى استمعت إلى بيان قيادة الثورة بإلغاء النظام الملكي، وإعلان الجمهورية. ما بدأه فاروق — بالتنازل عن العرش — استكمله قانون إلغاء المَلَكية، وإلغاء ألقاب الإمارة، وإعلان الجمهورية. تمنيت لو أني كنت في مصر عند زوال رمز النظام الذي كنت أعارضه، وإن خشيت — بإنهاء الملكية — أن تقوم الدولة القادمة على العسكر. ربما كان تولي عبد الناصر وزارة الداخلية بداية مشواره في الاحتراف السياسي.

صار معظم استماعي إلى الإذاعة الجديدة منذ انطلاقها في ٤ يوليو ١٩٥٣م، يجذبني الصوت المتحمس: «صوت العرب من القاهرة.» ظلت متابعتي لها حين بدأت بنصف ساعة، حتى شملت اليوم كله. في ذاكرتي الكثير من المواقف التي ناصر بها أحمد سعيد قضايا العرب في فلسطين وعمان والجزائر وتونس، سماها الناس إذاعة أحمد سعيد. بدلت نكسة ١٩٦٧م من قناعاتي. كذب أحمد سعيد كثيرًا، فلم أعد أصدقه، ولم أعد أنصت إلى صوت العرب.

أذكر ما أُعلن قبل أن ينتهي العام التالي للثورة. لم تعد ثورة عرابي «هوجة». ردت إلى الرجل الطيب أمواله، لن تفيده في موته، لكن القرار يرد إليه اعتباره.

أخذه سعال، سكت بالإشفاق حتى استرد صوته. تشحب الكلمات بين نوبات الكحة، ثم استرد صوت الشيخ عافيته:

لما قامت حركة الجيش كنت في جِدَّة، عدت لأجد عبد الناصر رئيسًا للجمهورية بدلًا من الملك.

– ومحمد نجيب؟

– كان عبد الناصر قد عزله.

وضرب جبهته — متذكرًا — بأطراف أصابعه: ذكَّرني محمد نجيب بسعد زغلول والنحاس، جمال عبد الناصر شخصية مختلفة.

نُحِّيَ محمد نجيب من مناصبه، وتولى عبد الناصر رئاسة الوزارة، طالعتني صحف القاهرة بحشود من العمائم والجبب والقفاطين، تتردد في ارتفاع أصواتهم أسماء محمد نجيب وخالد محيي الدين وجمال عبد الناصر. هتف المتظاهرون: أين؟ وحطموا واجهات المحال وأعمدة النور. وردت أنباء المظاهرات والإضرابات والمعارك. عبَّرت الأزمة عن صراع حاد بين أنصار مواصلة الثورة، والمنادين بعودة الجيش إلى الثُّكنات. كان لجماعة الإخوان تأثيرها في المظاهرات المطالبة بعودة محمد نجيب، أظهر الرجل — في حواراته الصحفية — ترحيبه بإنهاء الحكم العسكري، وإقامة الحياة الديمقراطية البرلمانية، وعودة الأحزاب، وإلغاء الرقابة على الصحف. لم تغادرني المخاوف حتى عادت الأوضاع — بعد مظاهرات صاخبة — إلى ما كانت عليه، عاد محمد نجيب رئيسًا للجمهورية، ورئيسًا لمجلس قيادة الثورة، ورئيسًا للوزراء.

في مارس ١٩٥٤م، تصورت أن الخلاف انتهى، وتناسى الجميع أسبابه من أجل مصر، بدت كلمات عبد الناصر — في إذاعة القاهرة — إغلاقًا لمشكلة يصعب التنبؤ بنتائجها. لم يطمئن بالي إلا بعودة محمد نجيب، كان خوفي على البلد وليس على فلان أو علان. لكن الأسئلة عاودت طرح نفسها: هل هي حقيقة، أو مناورة؟ أو خديعة؟ هل يحل مجلس قيادة الثورة نفسه بالفعل في يوليو القادم؟

ما توقعته حدث. تعددت المظاهرات والإضرابات والاعتصامات تطالب بعودة مجلس قيادة الثورة، وسقوط النظام الحزبي والديمقراطية. لا أعرف من كان وراء ذلك كله، لكن الفوضى امتدت، وتوقفت القطارات ووسائل النقل، وأخذت الإضرابات شكل الظاهرة. ربما فهمتُ أشياء لمَّا أعلن مجلس قيادة الثورة إرجاء تنفيذ قرار حله إلى نهاية فترة الانتقال. ثم عدنا إلى نقطة البداية: قبول تخلِّي اللواء محمد نجيب عن رئاسة مجلس الوزراء، وزارة جديدة. استعدتُ حكاية التحكيم الشهيرة بين علي ومعاوية.

الإحساس بأحداث الوطن في الغربة يختلف — كما قلت لك — عن الإحساس بها وقت العيش داخله، أُلغِي — بالتخيل، بالتصور — آلاف الكيلومترات التي تفصل بين بحري والمدينة التي تستضيفني.

أخذتني الهواجس لما سمي — فيما بعد — بعملية لافون. الأوضاع هادئة على الحدود، هل الهدف مجرد التخويف، أم أنه بداية تطورات لاحقة؟ لماذا وُضعت العبوات المتفجرة في دور سينما بالإسكندرية والقاهرة؟ لماذا الدور مملوكة لشركات أمريكية؟

عرَفت — فترة ابتعادي — بمحاولة اغتيال جمال عبد الناصر وهو يخطب في ميدان المنشية، روتها إذاعة القاهرة، لم أجد في الروايات الأخرى ما يعينني على تكوين رأي. لا أعرف طبيعة تنظيم الإخوان المسلمين، ولا التكوينات المتولدة عنه، ومنها التنظيم السري. هل كانت محاولة اغتيال عبد الناصر حقيقية، أو تمثيلية شارك فيها المتهم بالمحاولة؟ لكنني أشفقت — حيث أقيم بالرياض — على النكبة التي حلت بالإخوان المسلمين، ذكرتني بنكبة البرامكة. كانت إجازتي قصيرة، والمعلومات متضاربة، فاكتفيت بإبداء التأثر.

ثماني رصاصات ترامت من الراديو، شحبت فيها أصوات المحتشدين داخل السرادق الضخم بالمنشية.

أذكر خطاب عبد الناصر بنص كلماته: «أيها الرجال، فليبق كلٌّ في مكانه، إذا أرادوا قتل جمال عبد الناصر فكلكم جمال عبد الناصر. لقد خلقت فيكم العزة، وخلقت فيكم الكرامة.»

كرر عبد الناصر ما فعله النقراشي قبل ستة أعوام. صدر القرار بحل الجماعة، واعتقال المرشد الهضيبي، ومئات الأعضاء. أحيل إلى الاستيداع عشرون ضابطًا من المنتمين إلى جماعة الإخوان.

ومشت عَلاقات قيادات الثورة والإخوان بالطريق الواحدة التي اختاروا التجاور فيها، ساعد على توثيق العَلاقة بين قيادات الإخوان والضباط الأحرار وجود محمد نجيب، بطبيعته الطيبة، على رأس الدولة، وخروج العديد من الضباط — بمن فيهم عبد الناصر — من عباءة الإخوان.

لماذا وكيف انتهى شهر العسل بين الإخوان وقيادة الحركة؟ ظني أن باعث الخلاف بين الإخوان والضباط الأحرار هو الباعث نفسه لخلافات كثيرة بين الزعامات السياسية في مصر. الشواهد تتوالى منذ انقسام قيادة الوفد في عهد سعد زغلول، ثم التصدعات التي أسفرت عن نشوء أحزاب معارضة، واتساع مساحة الخلافات باتساع الساحة السياسية المصرية، وما اقتحمها من عوامل التآمر، والفرقة، ومحاولات السيطرة.

مصطفى النحاس زار — إثر العودة من رحلته الأوروبية — مجلس قيادة الثورة، أعلن مباركته وتأييده، ثم لزم البيت. سعى الإخوان — في المقابل — لتظل الخيوط في أيديهم، قياداتهم تصدر التعليمات، ويلتزم الضباط — كما القيادات الثانية للإخوان — بتنفيذها.

صار الصدام محتَّمًا بين إرادة تحرص على الإملاء، وإرادة ترفض الانصياع، ظلت العَلاقة على توترها حتى حدثت اشتباكات بين طلبة الإخوان وزملائهم من طلبة الجامعات. أصدر مجلس قيادة الثورة قرارًا بحل الجماعة، واعتقال الهضيبي، وأربعة وخمسين من أعضائها.

لو أن الإخوان المسلمين حاولوا المشاركة في حركة يوليو بدلًا من ركوبها، ربما انتهت العَلاقة بين الإخوان والحركة إلى غير ما انتهت إليه.

لا أنسى وقفة محمد نجيب وجمال عبد الناصر وضباط الحركة أمام قبر الإمام البنا، يكررون العزاء لأبيه، بعد أن أُعلن التوصل إلى المتهمين في قضية اغتياله.

قلت: هل كانت المحاولة حقيقية؟

قال: أُخطئ بالنفي أو التأكيد … الغربلة قادمة! أُدين الخطأ بصرف النظر عن فاعله؛ أدنت قتل الإخوان للمستشار الخازندار في ١٩٤٨م، وأدنت الإخوان لاغتيال النقراشي في العام التالي، وأدنت الحكومة القائمة لأنها قتلت مرشد الإخوان.

النصرة للحكم العسكري، ذلك هو فهمي لقرار مجلس قيادة الثورة بإعفاء محمد نجيب من مناصبه. تلقَّى اللواء قرار إعفائه من رئاسة الجمهورية، وعضوية مجلس قيادة الثورة أثناء دخوله قصر عابدين. رُحِّلَ منه إلى قصر زينب الوكيل بالمرج، ظل فيه إلى نهايات أيامه.

المخاوف القديمة جاوزت الاحتمالات، ما كان هاجسًا رأيته رؤية العين: فترة الانتقال لن تنتهي — كما أُعلنَ من قبل — في ١٩٥٦م، قال عبد الناصر: إن الفترة الانتقالية لا تعني أن الثورة ستصفي أعمالها، أو أنها ستتخلى عن أهدافها ومبادئها.

كانت الغارة على غزة إرهاصة حروب ما بعد بين مصر وإسرائيل. جعل عبد الناصر للسلاح أولوية، أجرى خفضًا للإنفاق في مشروعات التنمية، حتى يغطي قيمة ما تحتاجه مصر من السلاح. لم يعد التعاون والوحدات المجمعة والمستشفيات والمدارس والمصانع، لم يعد ذلك فقط هو موضع اهتمام القيادة المصرية، توازى معها الاهتمام بالجسم العدو على الحدود.

بدا لي كالمفاجأة هجوم القوات الإسرائيلية على الجنود المصريين في الصبحة، خبر مفزع، أعاد إلى ذاكرتي ما عشناه في أيام حرب فلسطين، ما عرضت له في خطبة الجمعة بعلي تمراز. أول اشتباك بين الجيشين المصري والإسرائيلي منذ حرب ١٩٤٨م. لا أحد ممن عرفوا الخبر — فيما أذكر — صدق تبريرات العدوان الإسرائيلي، افتضح الزعم بأنه رد على أعمال الفدائيين المصريين.

لم تكن الحرب ضد إسرائيل واردة في مخططات القيادة المصرية. التعمير هو الهدف، يذكِّرني بالشعار الذي كنت أقرؤه على جدران شارع فرنسا، ولا أعرف كاتبه: «نريد الخبز بدل السلاح.» تذكرت ما نشرته الصحف عن قول عبد الناصر لجيفرسون كافري: إسرائيل ليست شاغلي الآن، إنني أنظر إليها على أنها ليست خطرًا يهدد مصر، الخطر ليس إسرائيل، إنما هو ضعف مصر اقتصاديًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا.

بدت تجربة عبد الناصر مرفوضة من الغرب، ليس برفض الإسهام في تمويل السد العالي، بل بمحاولة منع بنائه، وحين جاوز عبد الناصر مؤامراتهم، وبدأ بناء السد العالي، فإن فرنسا وإنجلترا، إضافة إلى إسرائيل، شنت غزوها لمنع نضج الثمرة.

عمليات الفدائيين لحقت الغارة الإسرائيلية، ولم تكن سابقة عليها. ظني أنها أعادت قضية تسليح مصر. انشغل عبد الناصر بتطوير المجتمع، ذكَّرته الغارة الإسرائيلية بالعدو الواقف على الحدود، تلك الغارة هي إشارة التحول إلى أحداث تالية.

ترتب على ما حدث كل التطورات اللاحقة في عَلاقة الأقطار العربية وإسرائيل، أولها سعي مصر لاستيراد السلاح. صارت الاشتباكات مشهدًا متقاربًا، ألحت ضرورة التسليح على القيادة المصرية، ربما لأن ذلك ما كانت تريده إسرائيل حتى تحوِّل مصر اهتمامها من التعمير، وتنفق مواردها على شراء الأسلحة. كان حظر السلاح عن اليابان وألمانيا — عقب الحرب العالمية الثانية — عاملًا مهمًّا في تخطي الهزيمة، وتقديم معجزتين صناعيتين.

كشف عبد الناصر — بعد ذلك — عن اعتزامه شراء أسلحة بنحو ٧٠ مليون جنيه إسترليني، كانت مخصصة لبناء مستشفيات ومدارس وطرق. قال: لا يمكن أن ندافع عن أنفسنا بالمدارس والمستشفيات.

وضعت واشنطن — للموافقة على بيع السلاح — شروطًا لم تستطع مصر قبولها، أخطر تلك الشروط أن تنضم مصر إلى أحد الأحلاف الدفاعية التابعة للغرب.

شممت رائحة صدام وشيك بين مصر والغرب، قال عبد الناصر إننا لم نصل إلى نتيجة لشراء أسلحة من الغرب، لأننا رفضنا أن تُملَى علينا شروط.

باندونج، بداية السير في الطريق الصحيحة. شارك عبد الناصر زعماء العالم الثالث اجتماعات عدم الانحياز. دعا بيان المؤتمر إلى الاعتراف بحق تقرير المصير، وتأييد قضية حرية الشعوب النامية، واستقلالها. ارتفعت أسهم الزعماء الثلاثة عبد الناصر وتيتو ونهرو.

شدني الخطاب، حرصت على سماع تكراره في الإذاعات. أعلن عبد الناصر — رسميًّا — إتمام صفقة الأسلحة مع الاتحاد السوفييتي، سُميت «الأسلحة التشيكية». كسرت الصفقة احتكار السلاح الغربي للوطن العربي. أقدمت مصر على تلك الخطوة بتأثير ضغوط الغرب عليها، وعدم استجابته لتسليح القوات المسلحة المصرية إلا بشروط تُنافي إرادتها المستقلة. ميزة الصفقة الجديدة أنها بلا قيد أو شرط، وبنظام المقايضة، القطن المصري ثمنًا للسلاح.

أحزنني — لمَّا أعلن الاتحاد السوفييتي استعداده لتمويل مشروع السد العالي — أن تنقل واشنطن وموسكو حربهما الباردة إلى مصر.

أذكر في تلك السنة إلغاء القضاء الشرعي والمِلِّي. تصورت القرار هجمة ضد الدين، ما بلغني من حادثة الشيخين سيف والفيل بدل نظرتي إلى ما حدث، أخذني الشرود إلى ما كنت أعانيه في المسافرخانة.

اختار السودان — في استفتاء — أن يستقل عن مصر، استوقفني أن الاختيار بزعامة إسماعيل الأزهري رئيس الحزب الوطني الاتحادي، هو الذي تبنى الدعوة إلى وحدة وادي النيل.

حفلت خطبي في علي تمراز بثناءٍ مستفيض لموقف إسماعيل الأزهري من وحدة وادي النيل، لماذا اختار الانفصال؟ هل هو فرط حساسية من الشعار الساذج المتحمس الذي هتفت به مظاهرات المصريين: السودان لنا، وإنجلترا إن أمكن؟ هل هو رفض لتسمية ملك مصر والسودان وبلاد النوبة وكردفان؟ هل لأن السودانيين أحبوا محمد نجيب، وتمنَّوه رئيسًا للدولة الموحدة، لكن عبد الناصر عزله، وحدد إقامته؟

لو أن جمال عبد الناصر وافق على أن يظل محمد نجيب رئيسًا للجمهورية، هل كان استفتاء السودان يطالب بانفصاله عن مصر؟ كان الاستفتاء بداية سلبيات أخرى في حوض النيل، آخرها قيام دولة جنوب السودان.

صدر — في أول العام — الدستور الجديد، سُمي دستور الشعب. صدرت قرارات تأميم جميع الشركات الأجنبية في مصر. اعترفت مصر بجمهورية الصين، ضربة قاسية ضد سياسة واشنطن إزاء مصر. خرج آخر جندي بريطاني من مصر، عدا قاعدة قناة السويس.

في إجازة، شاركتُ في استفتاء رئيس الجمهورية، اخترقتُ شوارع وحارات كنت قد ابتعدت عنها بالسفر، سألت رئيس اللجنة: كيف؟ أخذ البطاقة، وقال: تُملأ هكذا، وتضعها هنا. اقتصر فِعلي على المشاهدة.

فيما يشبه الإجماع، نال عبد الناصر أصوات المصريين في الاستفتاء الذي شهدته مصر. لم أتفاءل، ولم أتشاءم، هو تعبير عن واقع الحال. حاولت أن أربط ظهور أسلحة روسية في العرض العسكري بما يجري من أحداث.

أبانت توجهات مصر الجديدة عن نفسها في حضور عبد الناصر مؤتمر بريوني مع نهرو وتيتو. بدأت خطوات مصر في طريق عدم الانحياز، تأملت قول عبد الناصر — بعد أربعة أيام من عودته إلى القاهرة: موتوا بغيظكم.

إلى أين تمضي الأحداث؟

إجازة الصيف، كنت واحدًا من الآلاف المحتشدين في ميدان محمد علي بالمنشية، يحيون عبد الناصر على قرار تأميم شركة قناة السويس. أنا — بعد عامين — في الميدان نفسه الذي شهد محاولة الاغتيال، رافقني ياسين الحامولي وثلاثة من المقيمين في بيت المسافرخانة، أمم عبد الناصر شركة القناة من مبنى البورصة الذي شهد محاولة اغتياله، أزالت كلماته توزع مشاعري، لم يعد إلا الإعجاب بقرار تأميم الشركة العالمية لقناة السويس البحرية، أذكر نص الكلمات، فرض عبد الناصر نفسه زعيمًا في قلوب الناس، أحبه من كان يكرهه، أو لم يستقر على رأي تجاهه.

لم يكن التأميم خاليًا من رغبة في الثأر، عدل الأمريكان عن تمويل بناء السد العالي، رد الفعل فاق الفعل نفسه. لو أن واشنطن وافقت على تمويل السد العالي، هل كانت مصر تلجأ إلى الاتحاد السوفييتي؟ وهل كانت — لولا رفض أمريكا تزويدها بالسلاح — تشتري السلاح من السوفييت؟

لي ملاحظات على أداء عبد الناصر، وإن كان من غير المقبول أن أرفض العدالة الاجتماعية والمعاشات والإصلاح الزراعي وتأميم القناة والسد العالي والمدن الجديدة وتأكيد هُوية مصر العربية. حقق عبد الناصر بنسبة الخمسين في المائة للعمال والفلاحين ما لم يقترحه مناصروه في تاريخ مصر، لكن الرجل واجه عداء قوى كثيرة: الأحزاب القديمة، والتيارات السياسية باختلاف توجهاتها، وغالبية الحكام العرب، وإسرائيل، ودول الغرب.

لا أوجِّه إدانة لعبد الناصر، جاوزت حتى ما علق بنفسي من شبهة إدانة لتصرفاته السابقة، هذه مرحلة جديدة، لا شأن لها بما سبق، وإن حيرني الرجل بتناقض مواقفه، يبث إذاعة للقرآن الكريم، ويطارد الإخوان المسلمين، ويناصر الفقراء، ويمارس الديكتاتورية، ويؤمم القناة بعد أن ضيَّع السودان.

أمم عبد الناصر شركة القناة بعد أسبوع واحد من سحب الغرب عروضه لتمويل السد العالي. زالت حيرتي — فيما بعد — حين كرر عبد الناصر مرات كثيرة، اسم ديليسبس، عرفت أنه كلمة السر، ليبدأ محمود يونس عملية الاستيلاء على مباني شركة قناة السويس. أدرت المؤشر بين الإذاعات الناطقة بالعربية، ناقشت زوارًا لمكتبي بوزارة الأوقاف، مترددين على أسواق الرياض، جيران في البناية المطلة على طريق المطار، مَن تفهَّم شخصية عبد الناصر جيدًا يدرك أن قراره بتأميم القناة يعبر — إلى حد كبير عن رفضه الإهانة التي مثلها سحب الغرب عروضه لتمويل مشروع السد العالي. ثمة من أثنَوا على القرار المصري، ومن أبدَوا تخوفهم. صار عبد الناصر — في يوم وليلة — أسطورة. ميراث الاستعمار — عبر عشرات السنين — خالط بين الفرحة وعدم التصديق، الإذاعات والصحف ومناقشات الأسواق تحدثت عن القرار الذي هيأ صاحبه للزعامة. استعدت قول الشيخ الباقوري في الراديو، يبدي دهشته من رفض المصريين — في بدايات الثورة — لجمال عبد الناصر.

لماذا؟

لأن مناخيره طويلة!

هل هذا سبب لكراهية قائد ثورة؟!

توالت نذر الحرب الوشيكة، أعلنت مصر التعبئة العامة، وأعلنت بريطانيا وفرنسا تجميد الأرصدة والأموال المصرية، وتجميد ممتلكات شركة قناة السويس في الدولتين، وتحرك الأسطول البريطاني إلى قرب القناة، وأصدرت لندن وباريس أوامرهما إلى رعايا إنجلترا وفرنسا بمغادرة الأراضي المصرية، وسحبت الدولتان — ودول الغرب، عدا اليونان — مرشديها، لتعطيل العمل في القناة، وحشدتا قوات لهما في قبرص، بينما فتحت مصر باب التطوع لتكوين الكتائب الشعبية، وأنشئ جيش التحرير الوطني.

كان عبد الناصر جادًّا في كل تهديداته، هل هو جاد هذه المرة أيضًا؟!

أعلن أن مصر ستحارب إذا سعى الغرب إلى تنفيذ ما يطلبه من تدويل إدارة القناة بالقوة. أضاف إعلانًا ثانيًا بتكوين كتائب حرس وطني للمقاومة الشعبية.

قال إيدن — في افتتاح مؤتمر لندن — إنه لن يسمح لعبد الناصر بالإفلات هذه المرة، ولا بد من القضاء عليه، عمق ذلك القول من مساندة المصريين لعبد الناصر. رفضت الحكومة المصرية حضور المؤتمر، لأنه سيناقش مسألة تتعلق بسيادتها، شهدت المدن العربية إضرابًا عامًّا، تؤكد فيه مساندة مصر في موقفها.

انتهت جلسات مؤتمر لندن بقرار إرسال بعثة برئاسة منزيس رئيس وزراء أستراليا إلى مصر، لعرض قرار المؤتمر بإدارة القناة، بواسطة هيئة دولية.

علت التهديدات — عقب المؤتمر — في لندن وباريس، حذرت موسكو من احتمال نشوء صراع عنيف، قال أيزنهاور إن الولايات المتحدة ملتزمة بحل سلمي للنزاع، اكتفت القاهرة بالصمت، لم يخل من دلالة تصريح عبد الناصر بأنه سيطلب العون من أية جهة إذا هوجمت مصر من أي جانب.

إثر فشل بعثة منزيس، طُرحت فكرة تشكيل هيئة للمنتفعين بقناة السويس.

ثم عُقد مؤتمر لندن الثاني لمناقشة فكرة تشكيل هيئة المنتفعين بقناة السويس.

الحرب!

هاجم الجيش الإسرائيلي منطقة الكونتيلا، على الحدود مع فلسطين. واصل تقدمه إلى داخل سيناء، وتكشفت المؤامرة بالإنذار الذي وجهته الدولتان، تطلبان انسحاب القوات المصرية إلى مسافة عشرة أميال من القناة، وموافقة مصر على احتلال أراضيها بواسطة القوات البريطانية والفرنسية. أدركتُ أن الأمر مرتبط بدخول القوات الإسرائيلية سيناء في اليوم السابق.

انعكس تأثير الإنذار الأنجلو فرنسي على الناس في أسواق الحجاز، كأن ما يحدث يخص الجميع، ماذا تُضمر الدولتان؟ ماذا تخفي الأيام؟

رفضت مصر الإنذار الفرنسي البريطاني، أدرك عبد الناصر أن الهدف من الإنذار هو حصار الجيش المصري في سيناء، أُعجبتُ بقراره سحب القوات المصرية إلى الضفة الغربية من القناة، فلا تواجه مصر هزيمة قاسية.

بدأ الهجوم البريطاني الفرنسي على مصر، قطعت مصر عَلاقتها بالدولتين. لم يعد ما حرص الفرنسيون والإنجليز على إخفائه كذلك، يحدث تدخل لفض الاشتباك، ثم يتبعه احتلال القناة، والقضاء على عبد الناصر. لا أزال أذكر موقع مبنى البريد المتهدم، خلف ميدان المنشية. حادثة أخطر من كل ما أصاب الإسكندرية في الحرب العالمية الثانية.

لم أصدق روايةً زعمت أن صلاح سالم اقترح على عبد الناصر أن يسلم نفسه للسفارة الإنجليزية، كان العدوان — في تصور صلاح سالم — يستهدف عبد الناصر شخصيًّا. صلاح سالم، الخطب الرنانة، والرقصات العارية في السودان، والشخصية التي تكاد تحتل الموقع الثاني في ترتيب الضباط الأحرار، يدفعه التخاذل إلى حد المطالبة بإعادة مأساة عرابي، فيسلم عبد الناصر وسلاحه إلى الإنجليز؟!

أفضى التدخل العسكري إلى نتيجة لم يتدبرها الساسة الإنجليز، إلغاء الاتفاقية المصرية-البريطانية، واستيلاء مصر على القاعدة البريطانية في القناة.

تعطلت الملاحة في القناة بعد إغراق سفينة محملة بالأسمنت، انسحبت القوات المصرية من سيناء حتى لا تواجه خطر الحصار. أجاد عبد الناصر اختيار المكان الذي يلتقي فيه المواطنين، ضربة معلم بدد بها غيوم التشكيك في يقينه الديني، أعلن — من فوق منبر الأزهر — أن مصر ستقاتل، ولن تستسلم، سيحارب الشعب المصري ضد العدوان الثلاثي من بلد إلى بلد، ومن بيت إلى بيت. كرر الشعار: سنقاتل … سنقاتل … ولن نستسلم.

تلا خطاب عبد الناصر صدور قرارات باسترداد منابع البترول المصري من الشركات الأجنبية، وفرض الحراسة على المصالح البريطانية والفرنسية في مصر، والتحفظ على ممتلكات ما يقرب من ستة آلاف مقيم أجنبي، معظمهم من اليهود الذين يحملون جوازات سفر أجنبية. يدخل في القرارات استيلاء مصر على العتاد الحربي في قاعدة قناة السويس.

أخلى الكثير من تجار العطارة والخضار والفاكهة والأدوات المنزلية دكاكينهم، أحالوها مخازن يودعون فيها الأثاث الذي باعه سكان الإسكندرية من الأجانب قبل أن يرحلوا إلى بلادهم، أسر بأكملها من العطارين والأزاريطة والرمل، ظهر ما لم يكن موجودًا من محالِّ بيع الأثاث القديم، حققت الثراء لمن اعتادوا رزق يوم بيوم.

ما حدث تتمة لتأميم القناة، واستشراف آفاق قريبة يصبح فيها اقتصادنا مصريًّا بحق وحقيق.

فكرة الجامعة العربية طرحها في ١٩٣٦م وزير الخارجية البريطاني أنتوني إيدن، لا أعرف الهدف الحقيقي من الفكرة، لكنها حققت تقاربًا كانت أقطار الوطن العربي في حاجة إليه. ثم جاوزت — بتوالي التطورات — مجرد التقارب، رقت إلى ما يشبه الوحدة. في أواخر سبتمبر ١٩٥٦م وجدتني بالقرب من الأحداث، نقلت وسائل الإعلام السعودية لقاء الرياض، حضره الملك سعود والرئيسان عبد الناصر والقوتلي، الاهتمام ينعكس في اللافتات والتجمعات والمناقشات، بدا التأييد مذهلًا في إعلان الرياض: فتح المواني السعودية لقطع الأسطول الحربي والتجاري، قطع البترول السعودي، منع تزويد ناقلات البترول الإنجليزية والفرنسية في مواني السعودية. هزني تبادل الإذاعات العربية نداء «هنا القاهرة». إذاعة القاهرة من عَمَّان … إذاعة القاهرة من دمشق … تناثرت تعليقات هامسة عن عمليات نسف لأنابيب البترول في الأراضي السعودية. أحسست بالعزوة والمؤانسة والطمأنينة.

الصواريخ الروسية هي المانشيت الذي طالعتنا به الصحف، إنذار موسكو بعمل عسكري ما لم تنسحب القوات المعتدية خلال ثلاثة أيام. خامر الشيخَ خيري الشحات قلقٌ للنبأ الإضافة بأن الاتحاد السوفييتي ربما يأذن لمتطوعين بالسفر إلى مصر للمشاركة في الدفاع عنها.

قلت: وأنت … ألم تقلق؟

عبد الناصر أعلن من فوق منبر الأزهر — للمرة الثانية — أن الاستعماريين فرضوا علينا القتال، لكنهم لن يفرضوا علينا الاستسلام.

داخلني خوف لتوزيع السلاح على المواطنين، من يضمن عدم انفلات الأعصاب في خلافاتنا الشخصية؟

قال لي الشيخ خيري الشحات ونحن نستمع إلى راديو علا صوته في سوق البطحاء: السلاح في أيدي الناس هنا، وفي بلاد أخرى … لماذا نتصور انعدام الوعي في المصريين؟!

بدت معركة البرلس مَعلمًا مهمًّا. أحدثت الزوارق المصرية إصابات مباشرة في الطراد الفرنسي جان بارت، خاضت الطائرات الفرنسية معركة لإنقاذه قبل أن تبتلعه الأمواج، استُشهد غالبية طاقم الزوارق المصريين.

تملكني القلق لتصريح بن جوريون في الكنيست: إن سيناء لم تعد تابعة لمصر، وإن ما بين إسرائيل ومصر قد انتهى أمره، وما يتعلق بالحدود بين البلدين غير شرعي ولا قانوني.

طبيعي أن ننهزم في مواجهة جيوش ثلاث دول، غير الطبيعي — والذي يُحسب للمصريين — أنهم احتفظوا بإرادتهم، فلم تنكسر.

هل كان انسحاب الدول الثلاث نتيجة الإنذار الروسي، أو التحذير الأمريكي؟

المهم أن الانسحاب تم، وهزيمة عبد الناصر تحولت إلى عيد للنصر. أعجبني التعبير: إن التحالف الأنجلو فرنسي للغزو انتهى قبل أن يبدأ. سعى إيدن لإسقاط عبد الناصر، هو الذي سقط. تعززت مكانة عبد الناصر بدلًا من إسقاطه، انتزع النصر من هزيمة الجيش المصري، تضاءلت — في المقابل — مكانة إيدن، اضطُر للابتعاد عن الحياة السياسية، حتى غاب عنها تمامًا، سبقه أو لحقه جي موليه رئيس الوزراء الفرنسي. كشفت إعادة انتخاب أيزنهاور رئيسًا للولايات المتحدة — بأغلبية لافتة — أكذوبة اللوبي الصهيوني الذي يعين الرؤساء ويستبدلهم، تصورت أن تلك النتيجة ستمثل دافعًا للعرب كي يعمقوا وجهات نظرهم في الحياة السياسية الأمريكية.

في ذلك العام، لم تعد صورة الروس الحلفاء للشعوب الضعيفة، هي الباقية في ذهني، داخلتها صور أخرى بشعة لأحداث المجر، قضى الروس على ثورة الشعب المجري بالعنف ومذابح الدم.

كيف يدافع عن حق شعوب في الحرية، ويسحق شعوبًا أخرى، لأنها طالبت بالحق نفسه؟!

تابعت — في إقامتي بالحجاز — عودة الأروام والإيطاليين إلى بلادهم. لم يَدُر في بالي أن الإسكندرية ستخلو منهم، فهم في المتاجر والمكاتب والبيوت والمقاهي والمدارس والشوارع. حتى الأندية الرياضية مثلت عضويتهم فيها وجودًا أتذكره. كان النادي اليوناني يشارك أندية الإسكندرية مباريات الكرة.

الأرقام تتحدث — وأنا قارئ لا بأس به — عن نسبة الإنجازات التي تحققت في مصر بين ١٩٥٧–١٩٦٧م، حددها البنك الدولي بحوالي سبعة في المائة كل عام، رقم هو الأعلى في اقتصاد دول العالم آنذاك، سواء كانت دولًا متقدمة أم نامية، وهو رقم يبلغ أربعة أضعاف ما تحقق في فترة ما قبل حركة يوليو.

انخفضت نسبة الأمية من ٨٠٪ إلى ٥٠٪. حدث تقارب في الرواتب بين الطبقات العليا والأدنى، كان الجنيه المصري يساوي ثلاثة دولارات ونصفًا، ويساوي أربعة عشر ريالًا سعوديًّا، والجنيهات الأربعة تساوي جنيهًا من الذهب. شهدت الأسواق عروضًا لمنتجات مصرية لم تكن موجودة. وأشير — بالمناسبة — إلى أن اقتصاد مصر كان أقوى من اقتصاد كوريا الجنوبية، أين نحن منهم الآن؟ وأين هم منا؟!

بدا لافتًا وضع واشنطن القوميين العرب والشيوعيين العرب في سلة واحدة، بينما كانت السياسة الناصرية تبين عن ملامحها القاسية في استضافة آلاف الشيوعيين في المعتقلات، ما لم ينتبه إليه الأمريكان أن الشيوعية ترفض القومية. قبل أن يرحل ستالين في ١٩٥٣م كان قد أجرى عمليات تذويب بشعة للقوميات في جمهوريات الاتحاد السوفييتي.

ألغى عبد الناصر تصور الكثيرين أنه صديق لواشنطن، غاب توقع رفضه مشروع أيزنهاور لملء الفراغ.

قوات عسكرية مصرية، أُرسلت إلى سوريا، لتأكيد وقفة مصر ضد الحشود التركية على حدود سوريا. ما حدث كان مدخلًا لتعليقات وتعقيبات وملاحظات، جعلت من الوحدة بين مصر وسوريا محورًا لها. كتمتُ رأيي فيما أثير أمامي من مناقشات. كانت الرياض غاضبة على الكثير من التصرفات السورية، ورفضها معلن لما سُمي زعامة عبد الناصر للقومية العربية.

أذكر تفصيلات المناسبة جيدًا: كنت أفاصل تاجرًا في سوق الديرة (يرى السعوديون أن الفصال بعض ما أخذوه من المصريين) حين أعلن زكريا محيي الدين نتائج الاستفتاء على الوحدة بين مصر وسوريا، وعلى رئاسة الجمهورية العربية المتحدة (سألت نفسي: هل انتهت تسمية مصر؟!) الفرق مذهل بين الموافقين والمعارضين، لكنني صدقت. كان الشعور العامُّ مهيَّأً للقومية العربية، الدعوة التي تلقفها عبد الناصر آنذاك، صدى الحدث في الرياض لم يكن في مستوى الصور التي نقلتها الإذاعات خارج المملكة، لم تُصدر الرياض بيانًا بالتأييد أو العكس، ظل كل شيء على وتيرته في حياة الناس. هل تعود دولة الخلافة؟ هل يعيد العسكري عبد الناصر إلى الحياة ما أماته العسكري أتاتورك؟ تمنيت لو أن الوحدة تحققت من تحت، لا من فوق، لو أن الشعب في مصر وسوريا هو الذي طالب بها، وليس مجموعة من الضباط المتحمسين. اعتبرت قيام الوحدة خطوة أولى تستكمل اتزانها بقادم الخطوات. أحاط إقليما دولة الوحدة — من الشمال والجنوب — بإسرائيل، صارت إطلالتها الآمنة على البحر المتوسط. قرأت حوارًا مع الزعيم التركي عصمت إينونو، يحذر من أن تطالب سوريا — في ظل دولة الوحدة — باستعادة لواء الإسكندرونة.

نقلت إذاعتا القاهرة ودمشق — أيام يناير — هتاف المتظاهرين في المدن السورية: «عاوزين وحدة باكر باكر … ويَّا الأسمر عبد الناصر.»

الاستفتاء على الوحدة أُجريَ في اليوم السابق، أسفر عن أغلبية هائلة لمؤيدي قيام الدولة الجديدة.

تابعت زيارة عبد الناصر لدمشق. حرص — لدواعٍ أمنية — على تكتم الزيارة، وكما أذيع، فقد فاجأ شكري القوتلي في بيته بأبي رمانة. لم يكد النبأ يذاع حتى أحاط عشرات الألوف بمنزل بيت القوتلي، تطلب رؤية عبد الناصر. لما حاول موكبه الانتقال إلى قصر الضيافة القريب، أصرت الحشود على حمل سيارته حتى القصر، وبدأ عبد الناصر في إلقاء خطبه التي أحدثت تغيرات عميقة في المنطقة.

لم أحاول السؤال والتعقيب، ولا الأخذ والرد، لم أحاول — لظروف أثق أنك تدركها — حتى سماع الراديو خارج البيت، بعد أن كشف عبد الناصر رشوة الملك سعود لعبد الحميد السراج حتى يدبر انقلابًا على الدولة الوليدة.

ظهر الترانزستور في الأسواق، وجدت فيه تعويضًا عن غياب الراديو خارج البيت، أدير مؤشره بين المحطات، ألتقط البرامج، أَعْبر ما لا يهمني، أُرهف السمع لنشرات الأخبار. عرَفت — بتوالي الإجازات — أن الحنين يزيد بالعودة إلى بحري، والرحيل عنه. ربما كانت المشاعر تهدأ لو أن الإقامة في الرياض تواصلت، لو أن المرء ظل في الهجرة، يخبو الحنين، يبدو كذكرى بعيدة.

أحببت خالد محمد خالد، وجدت فيه منذ كتابه «من هنا نبدأ» مثلًا للداعية الذي تمنيت أن أكونه، دافع عن صحيح الإسلام والحرية والاستنارة. أضافت كلمات المواجهة بينه وبين عبد الناصر — في مؤتمر سياسي بثه التلفزيون — تقديرًا مضاعفًا للرجل.

حضر عبد الناصر — للمرة الأولى — اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، التقى كاسترو وخورشوف وأيزنهاور وغيرهم من زعماء العالم آنذاك، صورة جديدة للعمل السياسي المصري لم نرها من قبل، عدا هتاف النقراشي ضد الإنجليز في مجلس الأمن: «اخرجوا من بلادنا أيها القراصنة!»

لا أذكر أين كنت لما ترامت موسيقى عسكرية، أرهفت السمع لبيان من الراديو، بصوت عبد الناصر.

الانفصال!

ضاعت أحلام الخلافة، والقومية العربية، والوحدة العربية. لم يبق إلا حلم التخلص من الهزيمة. لفت نظري أن قادة الانقلاب من ضباط مكتب عبد الحكيم عامر في دمشق عبد الكريم النحلاوي وعبد الغني دهمان وموفق عصاصة. لا أعرف سر تبدل لغة عبد الناصر من الإصرار على إنهاء الانقلاب، ثم أمره بإلغاء تحرك القطع البحرية المصرية إلى اللاذقية، وقوله — إنهاءً لدولة الوحدة: ليس المهم أن تبقى سوريا جزءًا من الجمهورية العربية المتحدة، المهم أن تبقى سوريا.

خشيت أن يجر الانفصال عبد الناصر إلى تصرف غير محسوب، يخوض حربًا ضد إقليم يبعد — بمسافة طويلة — عن عاصمة الدولة، لسنا إنجلترا وجزر الفوكلاند. أدركت صواب قراره حين اعترف الكثير من الأقطار العربية بدولة الانفصال، ربما بدأ غزل نسج خيوط التآمر من خارج سوريا.

أهم أحلام العرب، ضيعه الحكام، والمحسوبون على النظام في الداخل، لو أن دولة الوحدة استمرت، وقويت، واتسعت، ما ظلت عربستان في يد الفرس، ولا الإسكندرونة في يد الأتراك، ولا فلسطين في قبضة اليهود.

هل انتهى الحلم الجميل؟!

بدا الميثاق القومي مفاجأة، يلتزم بالاشتراكية والقومية العربية. العديد من القوانين — منذ أوائل الستينيات — كنت أدعو لها في خطبي: تخفيض الحد الأقصى للملكية الزراعية، تحديد الإيجارات الزراعية والعقارية، تأميم المؤسسات الكبيرة وشركات المقاولات، تمصير البنوك، تخصيص نصف مقاعد المجالس المنتخبة للعمال والفلاحين، وإدخالهم أعضاء في مجالس إدارات الشركات، مشاركة العمال في الأرباح، منع الفصل التعسفي.

حدث في إجراءات التأميم ما يصعب تصديقه. روى لي عم سيد النن أول الموازيني — في إجازة صيف — إن تسميته لدكان الصحف والكتب القديمة «الشركة الوطنية للمطبوعات» أغرت مسئولي إجراءات التأميم، لم يتبينوا الخطأ إلا بعد أن داخ الرجل في البحث عما ينصفه.

قانون تنظيم الصحافة، مؤشر لتوقعات قد تجعل من مبادئ الثورة نكتًا سخيفة، أدركت أن المعنى الحقيقي لتنظيم الصحافة هو تأميمها، تصبح ملكًا للدولة، تدعو لها، تختفي المعارضة لأن صحفييها صاروا موظفين في الدولة، لن يسمح النظام لموظفيه أن ينتقدوا.

لو أن ثورة يوليو تأخرت قليلًا، ربما صنعت قيادة بلا ضباط.

لما أُعلنت الثورة في اليمن، كتمتُ محاولاتي للسؤال عن حقيقة ما حدث. تكلمت الإذاعات عن السلال والبيضاني وعلي عبد المغني وأسماء أخرى لا أذكرها. بدا رد الفعل في الرياض — عقب إعلان الثورة — متحفظًا، أو رافضًا. من يضمر تأييده قد يخشى البوح، لم أحاول الأخذ والرد حتى مع اليمنيين الذين أصادفهم في أسواق الرياض. المَلَكية تساند الإمامة، الجمهورية نُذُر أوضاع خطيرة في الجزيرة العربية. إذا كانت الجمهورية العربية المتحدة تحمي الجمهورية اليمنية الوليدة، فالبديهي أن تحمي المَلَكية في السعودية حكم الأئمة في اليمن.

اعتدتُ التوتر الذي تحدثه الخلافات بين المسئولين في القاهرة والرياض، جاوزت — في عملي — احتمالات المعاملة السيئة والإبعاد عن السعودية، أضاف إلى هدوء مشاعري ثبات نفسيات زملائي في ديوان الأوقاف، والمواطنين في الأماكن التي أتردد عليها، لا أحد يتكلم، أو يبدي ملاحظات، تتسلل بالقلق إلى نفسي. بدا التأييد المصري لثورة اليمن — وربما تحريضه على قيامها — ردَّ فعلٍ لانفصال سوريا. خاض الجيش المصري حربًا ضد قوات الإمام الذي كانت تؤيده العربية السعودية. عرَفت من إذاعة القاهرة (كانت الصحف ممنوعة من دخول السعودية) ما يعانيه الجيش المصري في جبال اليمن، ما صنعه التآمر وإنفاق الأموال وشراء القبائل، تواصَلَ النزف سنوات متتالية، وهو ما أثر — فيما بعد — في هزيمة يونيو. أمضيت في الرياض سنوات من الحرج، عانيت — شخصيًّا — حين ساءت العَلاقات بين مصر والسعودية، الود يغيب حتى في النظرة إلى العمامة والجبة والقفطان، كان للزي الأزهري هيبته، وإن صدمت أذني تعليقات متناثرة، ملمِّزة عن كفر المصريين، وديكتاتورية عبد الناصر.

الملك فاروق مات.

نقلتني قراءة الخبر إلى الإسكندرية؛ إلى سيدي علي تمراز، الملك يتقدم حاشيته لأداء صلاة الجمعة. ألِف سكان البيوت المطلة على الجامع رؤية الملك يقود — بمفرده — سيارته الحمراء في طريق الكورنيش، خيالة سراي رأس التين في جولتها الصباحية، المواكب الرسمية من باب الجمرك إلى داخل المدينة، تلك الزيارة أول توقف لموكب الملك في ميدان «الخمس فوانيس». أُخْلِيَ الميدان من الحصير، ومن المصلين، فُرِشَ السجاد داخل المسجد، وجدت نفسي — للمرة الأولى — أؤدي واجبًا رسميًّا، أقف لاستقبال جلالة ملك مصر والسودان وبلاد النوبة وكردفان، هذا هو لقب الملك آنذاك. تقدم الموكبَ راكبو الموتوسيكلات، تلتهم سيارة الملك، وسيارات الياوران، والحرس الملكي. أحسست بغربة وسط العشرات من ذوي البدل الأنيقة والطرابيش، عدا قلة من علماء الأزهر والأوقاف. لو أن السلام الملكي عزف قبل الزيارة، ربما تبدل معنى صلاة الجمعة.

قلت: أراد استمالتك بالخِلعة؟

قال: لم أرفض الخِلعة، فهي هدية من الحاكم، لكنني لم أتوقف عن انتقاده!

وأطلق ضحكة رائقة: تأملت ما رُوي عن ظروف وفاة فاروق: هل كانت طبيعية نتيجة بدانته المفرطة، أو أنه مات مسمومًا بأيدي مخابرات عبد الناصر.

– إذا كان ابن ناظر الوقف يتولى النظارة من بعده، فإن وراثة الابن لمشيخة الطريقة صحيحة تمامًا.

خرج المصريون للتظاهر بعد أن رفع رئيس الوزراء زكريا محيي الدين سعر أُقَّة الأرز مِليمين. اعتاد الناس خفض الأسعار لا رفعها، عرَفوا قيمة السد العالي بتنزيل أسعار الكهرباء، وتكونت لجان درست إيجارات المساكن، وخفَّضت الإيجارات وفق قواعد قانونية واجتماعية، زكريا محيي الدين من أقرب معاوني عبد الناصر، عزَله ليرضي الناس. مثلما استجاب عبد الناصر لمظاهرات رفع الأسعار، فقد استجاب — فيما بعد — لمظاهرات الطلبة في ١٩٦٨م. أعاد عبد الناصر محاكمة قادة الطيران، وأصدر بيان ٣٠ مارس، احتوى غضبة المصريين، كان ذلك آخر عهد عبد الناصر بالمظاهرات، وإن تكررت بصورة لم تحدث من قبل في الحشود التي خرجت لوداعه.

الذكريات هي ذكريات، تحزن لاستعادتها، أو ترفُّ على شفتيك ابتسامة. الهزيمة أمام إسرائيل في ١٩٦٧م أسوأ ما أتذكره، أقرب إلى الزلزال، أو الطوفان، أو الإعصار، ربما يختلف الإحساس بفداحة المأساة لو أن البدايات أفضت إليها. لم أتصور أن التباهي بالقوة سينتهي إلى دمار.

لم تكن كل التطورات السياسية والعسكرية التي سبقت الحرب سببًا في قيامها، ربما كانت مدخلًا للحرب. الطريق إليها بدايته في أعقاب ١٩٥٦م. أذكر تصريحًا لأبا إيبان وزير الخارجية الإسرائيلي — آنذاك — يطالب العرب بقبول السلام المتاح عقب زوال العدوان، أضاف إن ما يرفضه العرب بعد ١٩٥٦م ربما تمنوا قبوله بعد ١٩٦٧م، حدد السنة التي شنت فيها إسرائيل حربها.

كان إغلاق مضيق تيران، وإغلاق باب المندب وخليج العقبة، وسحب قوات الأمم المتحدة من سيناء، وغيرها، مدخلًا إلى الحرب، المقدمة الحقيقية أعقبت انسحاب الجيش الإسرائيلي من شبه الجزيرة. سعدت — مثل كثيرين — بإغلاق عبد الناصر خليج العقبة في وجه الملاحة الإسرائيلية. لم أكن أعرف — مثل كثيرين كذلك — أن السفن الإسرائيلية تعبر الخليج منذ عدوان يونيو.

لماذا أخفى عبد الناصر هذه الفقرة في اتفاق الانسحاب الإسرائيلي من سيناء؟ وهل ثمة أسرار أخرى لا نعرفها؟

لا أذكر أني عاديت اليهود، كان لي في الإسكندرية منهم معارف وجيران، لم أنظر إليهم بتشكك حتى عندما نشبت المعارك بين الفلسطينيين واليهود، لفَّني اطمئنان أنها شدة وتزول، وأن فلسطين ستعود للعرب ولليهود بعيدًا عن الصراعات اليهودية، لكن الاطمئنان زايلني منذ تحولت العصابات اليهودية إلى دولة تدعمها الدول الكبرى بالمتطوعين والأسلحة، ثم اقتحم الخطر حياتنا بعدوان ١٩٥٦م، ثم في الأعوام التي أعقبته، حتى الآن.

ربما اتخذت إسرائيل لحظة بدء العدوان عند الإعلان عن موعد أول تصدير للبترول المصري في يونيو ١٩٦٧م. بدا أفق التقدم واضحًا. قرأت — فيما بعد — أن العسكريين الإسرائيليين أرادوا الحرب، كانوا يتطلعون إلى خطوة تالية، جديدة، للدولة العبرية ما بين النيل والفرات.

هل كان عبد الناصر جادًّا في دفع القوات المصرية إلى سيناء؟ هل كان مستعدًّا لخوض الحرب؟

أكبر الأخطاء أن قبائل اليمن كانت تستنزف نصف قوات الجيش المصري، وهو ما رتب عليه الإسرائيليون خططهم. كنت قرأت عن خطتين، تقتصر أولاهما على الأهداف العسكرية، ومدتها سبعة أيام، وثانيتهما في يومين، لا تفرق بين الأهداف العسكرية والمدنية. نقلت الإذاعات هتاف المتظاهرين في الشوارع: «يا ناصر يا حبيب … بكرة تدخل تل أبيب.» تأكد ما كان مرجَّحًا بتشكيل الوزارة الائتلافية أول يونيو برئاسة ليفي أشكول، وعضوية مناحم بيجن وموشي ديان وقادة آخرين. بدت الحرب حتمية بإعلان إسرائيل التعبئة العامة، مجتمع عسكري يسهل تجميع قواته، الصعوبة في استمرار التعبئة، إذا لم يحقق الجيش المصري نصرًا خاطفًا، فإن إطالة أمد الحرب ضرورة لهزيمة إسرائيل.

في الخامس من يونيو اجتاحت قوات إسرائيل سيناء. المساعدة الأمريكية أغنتها عن الاستعانة — كما حدث في ١٩٥٦م — بالقوات الفرنسية والإنجليزية. توقفتُ — مثل عشرات — لأنصت إلى أحمد سعيد، يهدر بالانتصارات المتلاحقة التي جعلت الانتصار النهائي في قبضة اليد، تكلم عن مشاركة السعودية وأبوظبي والعراق وغيرها من أقطار العرب، الطائرات المتساقطة كشهب متلاشية، دُمِّرَ أكثر من خمسة وسبعين في المائة من طيران إسرائيل، ذلك كله يعني اقتراب استعادة فلسطين. لم أصدق إذاعة صوت العرب في أحيان كثيرة، لا أنسى زعيق أحمد سعيد: أبوظبي دخلت المعركة! … لكنني أُعجبت بتأثير الإذاعة في تحريك ملايين العرب. أحرص أن يعلو الترانزستور بصوت أم كلثوم، أتظاهر بإغلاقه، وإن تركته مفتوحًا حد الهمس.

أفزعتني صرخة مصري تعاقد على العمل في السعودية بعد إحالته إلى الاستيداع في الجيش. أعلنت إذاعة القاهرة أن قواتنا تراجعت إلى خط الدفاع الثاني، صرخ: انهزمنا! وضع رأسه بين كفيه، لا يأبه بكلمات التوبيخ والتأنيب وتهمة الخيانة. لم يكن إسقاط العدد الهائل من الطائرات إلى خط الدفاع الثاني سوى محاولة لطمأنة الجبهة الداخلية، كل شيء استقر لصالح إسرائيل في إغارات الطيران الإسرائيلي على المطارات العسكرية، وتحطيم الطائرات في قواعدها.

صدر قرار مجلس الأمن بوقف إطلاق النار، تشككتُ في كل ما استمعت إليه من أحمد سعيد وغيره، استبدلت الإذاعة أغنية محمد فوزي «وطني وصباي وأحلامي» بأغنيات أم كلثوم وعبد الحليم حافظ وفايدة كامل عن تجاهل الأمريكان، والطيور الجارحة التي تنهش لحم الأعداء، والرجوع بقوة السلاح لتحرير الحمى … استبدلت الإذاعة أغنية فوزي بتلك الأغنيات، عرَفت أن الهزيمة حلت بنا. عبارات قليلة أشرنا بها — في ديوان الوزارة — إلى الأحداث القاسية، الصمت فرض نفسه على دردشات الأسواق، وإن لاحظت الجهامة على الوجوه، والتثاقل في الحركة، والأسى يطل من الأعين. لم يعد الترانزستور يفارقني، أضعه أمامي، أدنيه من أذني، أحرك مؤشره بين المحطات، أرفع صوته، وأخفضه، نتبادل الأخبار، يسرقنا الوقت في مناقشات لا تنتهي، يتغلب التمني حتى على ما يذاع من أخبار الهزائم. تأثير الأخبار في الغربة، تصورها، يختلف عما لو أنك لم تغادر بلدك. لمحت الأسى في أعين العرب الوافدين إلى السعودية، حتى من عادَى حكامَهم عبدُ الناصر، اعتبروا الهزيمة مصيبة عربية.

ما أثار دهشتي أن القيادة المصرية كررت قرار عدوان ١٩٥٦م بالانسحاب من سيناء. تغافلت اختلاف الظروف، بداية من ضرب الطائرات في قواعدها، وحصار القوات المصرية داخل سيناء. معلوماتي في العسكرية لا تزيد عن الصفر، لكن القرار قبول بالانتحار. أذهلني غياب خطة اليوم الواحد لاستعادة أرض فلسطين، وخطة الأيام الثلاثة التي تبتعد عن المناطق السكنية. حلت — بدلًا من الخطتين — خطة إسرائيلية، استولت على كل شيء في ساعات قليلة.

مأساة!

كنت في الرياض أثناء الحربين؛ عدوان ١٩٥٦م، وما سُمي النكسة. اختلفت الصور بين ما كان وما حدث، قيل إن الديوان الملكي السعودي أعطى إشارة البدء لحرب النكسة إلى الرئيس الأمريكي جونسون. في العدوان كانت وقفة السعودية إلى جانب مصر، قطعت إمدادات البترول تسعة وعشرين يومًا متصلة، منعت تزويد ناقلات البترول الإنجليزية والفرنسية في مواني السعودية، وضعت مطاراتها تحت تصرف الطيران المصري، فتحت المواني البحرية أمام قطع البحرية المصرية، بالإضافة إلى إقبال عدد كبير من المواطنين السعوديين على التطوع في الجيش المصري، منهم — فيما أذكر — الأميران (الملكان) فهد وعبد الله.

لم تعد القيادتان المصرية والسعودية على وفاق، جعلتهما حرب اليمن في موضع العداء الصريح، الطبع العربي الذي لا يعرف سوي خصومة المنافرة والتآمر، نتحدث عن التكاتف الدولي، ونعجز عن لم شتاتنا المبعثر.

سألني خيري الشحات: هل تتوقع أن يواصل الإسرائيليون تقدمهم إلى داخل المدن المصرية؟

قلت من فمٍ ملأَتْه المرارة: إنهم أذكى من أن يلقوا بأنفسهم في بحر الملايين، سيفقدون ما حصلوا عليه في صحراء خالية.

ربما اختلف توقعي لو أن موشي ديان سمَّى شخصًا آخر غير عبد الناصر في جلوسه إلى الهاتف ينتظر مكالمة الاستسلام. لي في عبد الناصر رأيٌ منذ وقف على منبر الأزهر في ١٩٥٦م، ليرفض العرض الفرنسي الإنجليزي، وجنود الدولتين في القناة، وقوات إسرائيل في أرض سيناء.

صدقت عبد الناصر حين أعلن — في التلفزيون — اعتزاله الحكم، أدرك جسامة الحدث، وأن الكلمات الوردية لن تحيل الهزيمة نصرًا. لم يعد عبد الناصر الذي اعتدت رؤيته: الوقفة العملاقة، الواثقة، العينان البراقتان تُصدران وميضًا كالسحر، الخطب التي تحسن اختيار النبرة، والكلمات تُدين، تنتقد، تعاير، تتحدى، تحرض، تدعو إلى الثورة، تخلق جسرًا من العَلاقة الحميمة بين الرجل ومستمعيه. حلَّ تخاذُلٌ ونبرات حزينة وعجز عن الفعل.

كنت أسبق التهيؤ لسماع خطبته الجديدة بالقول: سيكذب، ويفلح في إقناعي!

شغلني السؤال: كيف تعترف بإغراق المركب، وتكتفي بالاعتذار عن مسئوليتك فيما حدث؟

كنت في الحجاز. لو أن ما جرى أثناء إقامتي في مصر، ربما كنت سأخرج مع المتظاهرين، أردد هتافاتهم برفض الاستقالة. لم تكن المظاهرات مدبَّرة، أبلغتني رسالة من زين العابدين أنه شارك فيها، نزل الشارع من نفسه، بلا تحريض من أية جهة، ولا أي شخص. هذه المظاهرات الهائلة، هل عرَف المشاركون فيها حجم الهزيمة؟ هل طالبوا عبد الناصر بالعودة انسياقًا وراء وهم القوة، وأنه يستطيع أن يعيد كل شيء إلى ما كان عليه؟

العاطفة دفعت كثيرين إلى الخروج في المظاهرات المطالبة بعودة عبد الناصر، لكن الكثيرين كذلك خرجوا لمطالبته بالبقاء، حتى يعالج المصيبة التي أسهم في صنعها.

كنت أحرص على قراءة أهرام هيكل، هذه هي التسمية التي كان باعة الصحف يدعونها بها. عدا الأخبار الصغيرة، المهمة، التي كان يُخرج بها يده من جيب عبد الناصر، ومقاله الأسبوعي، فإن الأهرام كانت أقل إرضاءً للقراء من الصحف الأخرى. خلت من هموم الناس اليومية، ومشكلاتهم. حرصت على أهرام الجمعة، وعلى جريدة أخرى بقية أيام الأسبوع، أتعرف — في الصحف — إلى تطورات حياتنا اليومية، وفي الأهرام إلى اتجاهات ريح السياسة في الداخل والخارج. لم أكن أطرح الاتفاق والاختلاف، إنما كان يشغلني السؤال: إلى أين تمضي مصر؟!

كان التليفون أداة المكالمات الشخصية الوحيدة، لم نكن عرَفنا المحمول والسكايب وغيرها من الوسائل التي يسَّر لي الأحفاد استعمالها، وإن لم أحاول التعرف إلى دقائقها. تبدلت وسائل الاتصال، قلَّت رسائل البريد والمكالمات الهاتفية في صورتها القديمة. حلَّت — بدلًا منها — وسائل البرق والفاكس والتلكس والإنترنت، حاولتُ أن أفيد منها بما أقدر على فهمه، والتعامل معه، أو ألجأ إلى من يُحسن استخدامها.

أُحبُّ الرسائل المكتوبة بخط اليد، أتبين فيها تمتُّع الكاتب بالعافية. أما رسائل تقنية الاتصالات فإن من نقلت كلماته قد لا يكون هو الذي كتبها بخطه.

ما كان في أفق التشوش صار واضحًا، أدركت معنى قبول مصر وقف إطلاق النار بغير شروط، أحاول متابعة ما يجري، بدا لي الجيش — على البعد — أملًا يُرتجى، لكن الأمل تقوض في ذلك اليوم. بعُد عن التصور أن السوس نخر في داخل الجيش، عرَفت أن المرض تفشى في الجسد كله، لم أكن أملك تفسيرًا لما حدث، التيقن من أن النصر تحول — بلا سبب — إلى هزيمة قاسية. أضفت إلى قول ديجول بأن المعركة أمريكية والأداء إسرائيلي، ما أثبتته التطورات من أن التحريض كان — للأسف — عربيًّا. زال — في ساعات — شعار تحرير فلسطين من البحر إلى النهر. حل — بدلًا منه — واقع الاستيلاء على أراضي ثلاث دول عربية. تمكنت القوات الإسرائيلية من احتلال الضفة الغربية والقدس، عاد شرقي الأردن — في يوم واحد — إلى حجمه الأول. زاد الوضع تفاقمًا — بعد ثلاثة أيام — بالاستيلاء على هضبة الجولان السورية.

من صنع المؤامرة: هل هو المخطط الصهيوني الذي أجاد الاستعانة بقوى الغرب؟ أو أن الولايات المتحدة أجادت التخطيط، وتركت التنفيذ للقوات الإسرائيلية، أو أن المعلومات المضلِّلة بوجود حشود إسرائيلية على حدود سوريا دفعت مصر لخوض حرب لم تكن مستعدة لدخولها؟ أو أنه قرار عبد الناصر بإغلاق مضيق تيران؟

أذكر قول عبد الناصر إن إغلاق المضيق لم يكن هدفه فرض الحصار على ميناء إيلات، أو إغلاقه، إنما العمل على إفناء إسرائيل.

تساقطت شعارات كنا نكتفي بترديدها، مثل كلمات الأغنية: من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر، لبيك عبد الناصر، ثبت أن تلبيتنا اقتصرت على مقولة عبد الحكيم عامر: رقبتي يا ريس!

لم تقنعني كذلك تعبيرات: لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، خسرنا معركة ولم نخسر الحرب، إزالة آثار العدوان، بقاء النظام الثوري … اختفت تلك التعبيرات في ظلمة الهزيمة، غاب الفعل والتهيؤ للفعل، لم تعد إلا ردود الأفعال.

إن مارست الدولة القهر في الداخل، صعب عليها رد الغزو الخارجي.

تغاضيت عن قول الشيخ خيري الشحات في تلهفنا لمتابعة الأنباء. كانت حواراتنا عقيمة، لا أذكر منها الكثير.

اختلفتُ في أفعالٍ لعبد الناصر، لكنني وجدت في نكسة يونيو هزيمةً لكل الطموحات، حتى المشروع القومي الذي أعلن عن نفسه في كثير من المواقف، ران عليه ذبول.

تأثيرات ما حدث لم تقتصر على الهزيمة العسكرية، تهاوى المشروع الناصري كبيت رمل، لم تعد إسرائيل هي الجزيرة المحاطة بالأعداء، لكنها تمتلك الجيش الذي لا يُقهر، بدا الأفق ملبدًا بغيوم اليأس. كان يجب ألا تخيفنا الخسارة … عافية الشجرة تأتي بتقليمها. تبينت في نفسي كائنًا سياسيًّا، وإن اقتصر عملي في الرياض على التبصير بمسائل الفقه.

عرَفت — فيما بعد — أن فضيلة الشيخ الشعراوي سجد لله شكرًا على هزيمة الجيش المصري. أكد عديد من الأصدقاء ما قاله الشعراوي، أغناني عدم المشاهدة عن إبداء الرأي، وإن كان من الصعب تقبُّل أن يتشفى المرء في هزيمة بلده، حتى لو كان الباعث خلافًا مع الحاكم.

لأن الوجدان الشعبي له منطق يصعب تفسيره، فلم يكن استقبال أبناء السودان لزعيم مهزوم، بل لزعيم رفض الهزيمة. تأثير كلمات التنحي خرج بالمظاهرات في المدن العربية، رفض الناس الهزيمة، هتفوا بحياة عبد الناصر، طالبوا بالثأر من إسرائيل، وتحرير الأرض. خرج القادة العرب من مؤتمر الخُرطوم بِلاءات ترفض الهزيمة: لا سلام مع إسرائيل، لا مفاوضات معها، لا اعتراف بها. أصر عبد الناصر أن يظل — أيام عدوان ١٩٥٦م — في القاهرة. لم أتصور أنه يرضخ لطلب موشي ديان بالجلوس إليه على مائدة المفاوضات، تأكد حدسي في لاءات مؤتمر الخُرطوم. لم يعد استمرار الخلاف بين القاهرة والرياض واردًا، تهيأتُ — دون قلق — للأسئلة والأجوبة والأخذ والرد، وإن أحزنني أن يلجأ الناس إلى الخرافة، يتوهمون رؤية السيدة العذراء على واجهة كنيسة الزيتون، يَلجئُون إلى السلال ليتعرفوا — من الأرواح — إلى صورة المستقبل، يطالبهم منجم في التلفزيون أن ينتظروا النصر القادم بلا عناء، ذلك ما وشت به حركات النجوم.

بدا الأمل في قيادة عبد الناصر للبلاد، بعيدًا عن الصراعات الشخصية، لما قدم عبد الحكيم عامر استقالة تالية لاستقالة عبد الناصر، ازدواجية سخيفة كان يجب أن تنتهي، لكن عبد الحكيم اعتبر مطالبة المصريين له بالبقاء في منصبه، مطابقة لمطالبة عبد الناصر بالمطلب نفسه. تابعت مراجعة عبد الناصر — تأخرَتْ كثيرًا! — لأحوال البلد. اعتبر ما حدث هزيمة في معركة، لا حرب، أجرى إصلاحات وتغييرات في القيادة العسكرية، قدَّم قيادات إلى المحاكمة العسكرية، اختفى الشتم والردح من وسائل الإعلام. صداقة عبد الناصر وعبد الحكيم عامر، أبعدت تصوري أنه يزيح قائد الجيش من منصبه، الصراعات التي فاجأت الجميع انتهت بانتحار عبد الحكيم، أو مقتله.

لا صداقة في العمل السياسي، تلك هي العبرة التي خرجتُ بها من انتحار عامر، سواء باختياره، أم قُتِلَ بإجباره على تناول السم. أذكر أن الرجل قدم استقالته في اليوم التالي لإعلان عبد الناصر تنحيه عن الحكم. أعادت المظاهرات عبد الناصر حتى يعيد ترتيب البيت، تمنيت أن يعي الظروف القاسية، ويبتعد، فتغيب تهم الفساد التي كانت عنوانًا لكثير من تصرفاته. يقيم في بيته بالجيزة، أو في قرية أسطال، يترك للزمن تبديل الأحوال، لكنه اختار طريقًا خاطئة أوصلته إلى نهاية المأساة.

بداية المأساة — في تصوري — تعود إلى يوم تعيين الصاغ — الرائد في تسميات ما بعد قيام الوحدة بين مصر وسوريا — عبد الحكيم عامر قائدًا للقوات المسلحة برتبة لواء. أُحيلت إلى الاستيداع — نتيجة ذلك التجاوز — غالبية الرتب الأعلى من الضباط. انعكس غياب الخبرات والقيادات في عدوان ١٩٥٦م. لم يكن قرار انسحاب القوات المصرية من سيناء حلًّا، لولا أن تلته مواقف الدولتين الأعظم، وقرارات مجلس الأمن. صدَّق عامر نفسه بعد أن صار مشيرًا. بدلًا من إعادة ترتيب القوات المسلحة، أوكل لها مسئولية الإشراف على عديد من مؤسسات الدولة: النقل العام، المجمعات الاستهلاكية، الصحف القومية. حتى قرارات التأميم ومحاربة الإقطاع، تصدت الشرطة العسكرية لتنفيذها. لم تكن مساندة القوتين العظميين قائمة في ١٩٦٧م، وتواطأت الولايات المتحدة في تدبير إسرائيل للحرب. كان على عبد الحكيم أن يتحول إلى مسئول مدني كما فعل عبد الناصر نفسه. رفض عبد الناصر آراء معارضة للبغدادي وكمال الدين حسين وحسن إبراهيم وغيرهم من قيادات الثورة، ورضي بثنائية القيادة مع عامر، خشي أن تؤدي محاولة عزله إلى تهديد الرئاسة، كان لا بد من الكارثة حتى ينحيه.

اختلطت الأوضاع في القوات المسلحة إلى حد الوعد بالرقبة لرد الخطر القريب. الضباط الذين حظُوا بثقة عبد الحكيم، رشحهم الولاء الشخصي وليست الخبرة العسكرية. قرأنا عن مدير مكتبه الذي يملي أوامره على الرتب الأعلى، رشحه عامر — بعد النكسة — لرئاسة الجمهورية.

جاوز عبد الحكيم صفة زميل السلاح والصديق الشخصي إلى القائد العسكري الذي نجح في بلوغ مكانة تساوي مكانة القيادة السياسية.

أذكر أول مظاهرات حقيقية في عهد عبد الناصر، ضمت مئات الألوف من الطلاب والعمال، تندد بأحكام الطيران التي برأت، أو أصدرت أحكامًا مخففة مع المسئولين عن الهزيمة. ارتحت لتصرف عبد الناصر، كرئيس دولة مدنية. أعاد المحاكمة، وأصدر بيان ٣٠ مارس مؤشرًا لمرحلة جديدة، طالب بها المتظاهرون.

صار لي خبرة بأفكار عبد الناصر ومواقفه، لم أتوقع نتائج ذات بال بمظاهرات الطلاب في فبراير ١٩٦٨م، عرَف عبد الناصر كيف يتصرف في أحداث كفر الدوار وعدلي لملوم والمنشية، وحتى مصيبة النكسة، ما توقعته حدث، صدر بيان ٣٠ مارس ليعيد الاستقرار كما أراده عبد الناصر.

الهدف من الحرب، وهو تقويض الاقتصاد المصري، لم يتحقق. اكتمل مشروع السد العالي، وشُيِّد مجمَّع مصانع الألومنيوم بنَجْع حمادي، وزادت نسبة النمو الاقتصادي، وزادت مساحة الأرض الزراعية، وزاد عدد طلاب المدارس والجامعات ثلاثة أضعاف.

امتلأتُ بالسعادة لنبأ إغراق المدمرة الإسرائيلية إيلات بصاروخ أطلقه زورق بحري مصري. بدا إشعال النيران في الزيتية ردَّ فعل متوقعًا ينبغي احتماله. تكررت الأحداث المهمة: منع القوات الإسرائيلية من التقدم في رأس العش، منع دخول إسرائيل إلى بور فؤاد، تفجير مخازن الذخيرة المصرية في سيناء. هبت من انفراجة الباب نسائم منعشة.

عرَفت — فيما بعد — أن ذلك كله مهَّد لما سُمي حرب الاستنزاف، شملت تزويد الجيش بأسلحة روسية، وصواريخ جديدة، وبناء حائط للصواريخ على الضفة الشرقية للقناة.

ظني أن حرب الاستنزاف — ست سنوات — لم تكن تستهدف دحر الجنود الإسرائيليين، بقدر ما استهدفت التأثير في معنويات هؤلاء الجنود، فضلًا عن المستوطنين الإسرائيليين. لا يقتصر ما حدث على استيلاء إسرائيل على أراضٍ عربية في حرب خاطفة، وانتهى الأمر. هي أراضٍ محتلة، إن ساندت القوة مغتصبها على البقاء فيها، فمن المهم أن تتحول هذه الأراضي إلى حقول ألغام، تغيب أسطورة اليد الطولي، والجيش الذي لا يُقهر، والجزيرة المحاطة بالأعداء.

في التاسع من مارس ١٩٦٩م استُشهد عبد المنعم رياض! مات وهو يتفقد الخط الأمامي بالجبهة، لم أكن أعرف عنه الكثير، لكن ما قرأته، واستمعت إليه، في الأيام التالية، والجنازة الهائلة التي تقدَّم عبد الناصر صفوفها، دون التفات للمخاطر الأمنية، ذلك كله جعل الرجل أمامي في صورة رائعة. أدركت معنى حرب الاستنزاف في استشهاد قائد عسكري كبير تقتله قذيفة أثناء وجوده في الخطوط الأمامية لجبهة القتال، ذلك هو المعنى الذي نظر من خلاله مئات الألوف — يتوسطهم عبد الناصر — إلى استشهاد عبد المنعم رياض في وداعهم للقائد، يودعونه في رحلته الأخيرة.

ثلاث سنوات، من يونيو ١٩٦٧م حتى أغسطس ١٩٧٠م، استطاع خلالها جمال عبد الناصر أن يعيد بناء الجيش المصري على أنقاض هزيمة، في بالي ما تناقلته الإذاعات عن هزيمة الأبد، لكن العنقاء رفضت المستحيل، نفضَت الرماد تأهُّبًا لما حدث في حرب أكتوبر. روى لي ابني عبد الحميد أنه شاهد تدريبات للقوات المصرية في الخطاطبة، صنعوا سدًّا ترابيًّا شبيهًا بخط بارليف، تهاوى بتأثير مياه الخراطيم الهائلة. سألته: هل رأيت التدريبات؟ قال: كل من يمر في الطريق يراها. ابتسمت، ذكَّرتَني بالمطار السري.

ظلت الجبهة الداخلية صامدة، رغم غارات الطائرات الإسرائيلية على مدن الإسماعيلية وبور سعيد وبور فؤاد ومصنع أبوزعبل ومدرسة بحر البقر.

لا أعرف تفصيلات مبادرة روجرز، وإن عرَفت أنها حاولتْ إقرار السلم الذي طال غيابه بين مصر وإسرائيل. حين طلبت إسرائيل من روجرز تقديم مبادرة لوقف إطلاق النار، أدركت أنها تعاني مأزقًا، تسعى — بالهدنة — للتخلص منه، ذلك ما فعلته في حرب ١٩٤٨م، تشعر بالمحاصرة فتطلب الهدنة، تعيد ترتيب أوضاعها، وتحاول كسب أرض جديدة، حصلت من اتفاقيات الهدنة على أضعاف ما كانت تحتله.

لأن دعم واشنطن لتل أبيب معلن، فقد تخوفتُ من موافقة مصر على المبادرة. هل الموافقة المصرية دليل ضعف، أو بتأثير ضغوط لم يقو عبد الناصر على مواجهتها؟

اطمأننت إلى إجماع التعليقات بأن قبول عبد الناصر مبادرة روجرز حتى يتمكن من إنهاء حائط الصواريخ. أذكر قوله: إسرائيل لن تنسحب دون شروط، ونحن لن نقبل شروطها، القتال هو خيارنا الوحيد.

فاجأني رحيل عبد الناصر.

رفضتُ الهاجس في داخلي بأن عبد الناصر لا يموت، الجسد العملاق، العينان النفاذتان، الجرأة، التحدي … ذلك كله انتهى قبل أن يجاوز الرجل عامه الثاني والخمسين، نفضتُ عن رأسي تهويمات وأسئلة لا أجوبة لها. شيَّع الجنازة في القاهرة نحوُ خمسة ملايين، خرجت جنازات مماثلة خلف نعوش رمزية في مدن العرب، كأنها جنازة الوطن العربي.

أتذكر قصيدة نزار قباني «قتلناك يا آخر الأنبياء». يهمني المعنى وليس نص الكلمات، قام عبد الناصر من نقاهة المرض في مرسى مطروح، ليمنع استمرار مذبحة الجيش الأردني ضد الفصائل الفلسطينية، سبقت المذبحة عمليات اختطاف طائرات، هبط بها مقاتلو الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في مطار المفرق بالأردن. أُطلق سراح الركاب، عدا أربعين احتفظت بهم المقاومة للتفاوض بهم، مقابل إطلاق سراح فدائيين فلسطينيين في السجون الإسرائيلية. حوصر الفلسطينيون شمالي الأردن، وحصدت قذائف الدبابات آلافًا من الفدائيين، من استطاع النجاة لاذ بالفرار إلى لبنان، أو — كما أجمعت وسائل الإعلام — إلى إسرائيل، الفرار من النار إلى النار. توافد الزعماء العرب على القاهرة، وُقعت اتفاقية إيقاف المذبحة، ناب عن القمة إلى الأردن وفد برئاسة جعفر نميري، أخفق في معالجة الموقف، وإن اصطحب في عودته ياسر عرفات، أخفاه سعد العبدالله ولي عهد الكويت في عباءته. دار الحوار الساخن في قاعة فندق هيلتون ما يقرب من الساعات الخمس، قبل أن يُوقَّع اتفاق إطلاق النار فورًا، وانسحاب الجيش الأردني وفصائل المقاومة من كل المدن قبل غروب اليوم نفسه.

في اليوم التالي، أنهى عبد الناصر اتفاق الزعماء العرب، ثم اتجه إلى بيته في منشية البكري، ومات.

ودع عبد الناصر حياتنا، لكنه قدِم من إجازته المرضية ليمنع اغتيال الفلسطينيين، ثم مضى. مات عبد الناصر، وانهزمت المقاومة الفلسطينية في أسبوع واحد، وكان تولي السادات رئاسة الجمهورية بُعدًا مكملًا لأبعاد المثلث المأساة.

قيمة عبد الناصر الأهم ليست في معاركه، انتصر أحيانًا، وواجه الهزيمة أحيانًا أخرى. عبد الناصر هو فارس الملايين من البسطاء، وجدوا فيه أملًا ومناصرة لأحلامهم. أختلف مع عبد الناصر، لكنني لا أستطيع أن أغفل خمسة إنجازات، كانت حياتنا ستظل ساكنة في مشروع مقاومة الحفاء لو لم يقدم عليها: تحديد الملكية الزراعية، تأميم القناة، بناء السد العالي، مجانية التعليم، التأمينات الاجتماعية … كل إنجاز فيها يحتاج إلى ثورة. زار عبد الناصر بلادًا كثيرة، دون أن يرى إلا البنايات الرسمية.

اعتدت الإنصات وقت إلقاء العظات، أو الدروس، تنعكس المتابعة في إحناء الرأس، أو التحديق، أو الإصغاء، يتبدل الأمر حين أبدى ملاحظة في قرار لعبد الناصر. تتشابك الأصوات في الدفاع عن قرارات الرجل. عرفت — بتوالي المواقف — أن الإشادة بسياسة عبد الناصر تجتذب التعاطف والموافقة، المظاهرات المعارضة التي خرجت في عهد السادات وعهد مبارك كانت ترفع صور عبد الناصر، تصرف له دلالة، أهمها أن الرجل ما زال حيًّا في نفوس الناس، لم تفلح كل الحملات في تشويه صورته. أتردد في إعلان الرأي المغاير.

حسين الشافعي وأنور السادات، أولهما اكتفى بالطاعة فلم يبتعد عن السلطة، والثاني مزج طاعته بحيل ذكية، فارتقى رئيسًا للجمهورية.

رحل عبد الناصر والقومية العربية في وعينا كاليقين. لم تكد تنقضي سنوات على حكم السادات حتى تحولت القومية العربية والتطبيق الاشتراكي والتقريب بين الطبقات، وغيرها من معالم العهد الناصري، إلى أخطاء يجب إنكارها.

لا أدري، كيف تحول عام الحسم في ١٩٧١م إلى عام للضباب. ثم ألقى السادات خطابًا، برر فيه إرجاء عام الحسم بالحرب الهندية الباكستانية، وما أسفرت عنه من بناء دولة جديدة هي بنجلاديش، اعتبر المثقفون ذلك التبرير نكتة سخيفة، تعددت المظاهرات التي تطالب بالسلم أو الحرب.

سألت نفسي: ما معنى مبادرة السادات بفتح قناة السويس، والجيش الإسرائيلي على ضفافها؟

تغدى السادات في حركة ١٥ مايو بمعارضيه قبل أن يتعشَّوا به. ظلت نظرتهم إليه على ما كانت عليه أيام عبد الناصر، لم يدركوا أن الأوضاع تغيرت، وأن السادات الذي يلبي أوامر الرئيس، عاد إلى ما كان عليه في العمل السياسي، والسري، الذي كاد يحيط عنقه بحبل المِشنقة. أغمض عينيه عن التصرفات المستفزة لرجال الاتحاد الاشتراكي، حتى رسم في خياله الخطة جيدًا، قابل تحديهم له بتقديم استقالات جماعية، بعزلهم، ووافق على الاستقالة. رجال عبد الناصر اختاروا السادات لتصورهم سهولة السيطرة عليه، أخذ من خبراته الشخصية ما جعله يزيحهم ويستقر — بمفرده — على كرسي الحكم، نصبوه رئيسًا فأودعهم السجن، تبع قبول الاستقالات تقديمهم إلى المحاكمة، بتهمة التآمر على نظام الحكم. عبَر السادات السنين إلى ما قبل ثورة يوليو، عاد إلى أجواء العمل السري والتآمر والتنظيمات المتطرفة ومحاولات الاغتيال والمحاكمات والمعتقلات، الخناقة كلها حول ميراث عبد الناصر، قميص عثمان. كانوا يعتبرون السادات مجرد عابر سبيل، استخفُّوا به فدفعوا الثمن. شاهدت السادات وهو يحني رأسه لتمثال عبد الناصر في مجلس الشعب، حدست — بما أتيح لي معرفته من شخصية السادات — أنه سيهوي على التمثال بمعول، ويقوضه. تكرر استغرابي وأسفي، ماذا أبقى للأعلى؟!

تكررت تصريحاته عن الميراث الثقيل الذي ورثه. كما أرى، فإن الرجل لم يبدل ما ورثه عن سلفه، لكنه أضاف إلى كرة الثلج ما ضخم حجمها، رحل بعد أن جعل التركة أكثر ثقلًا.

ما صنعه السادات في ١٥ مايو لم يكن ثورة حسب تسمية الرجل، كان انقلابًا فاقت تأثيراته السلبية كل ما أفرزته نكسة يونيو.

كان عبد الناصر — كما قال الشاعر الجواهري — عظيم المجد والأخطاء، لكن ذمته المالية ظلت خارج الاتهامات. لعلي تشممت رائحة المؤامرة والتحريض في اتهام الصحفي جلال الحمامصي لعبد الناصر باختلاس عشرة ملايين دولار، حصل عليها كقرض من الملك سعود. فرضتْ ظروف الغربة أن أُجري الحوار في القضية بيني وبين نفسي، لا أناقش أحدًا من المحيطين بي، سواء زملاء العمل، أو من ألتقيهم في الأسواق. وحين أعلن السادات — فيما بعد — تبرئة عبد الناصر من التهمة الغريبة، القاسية، لم تتبدل مشاعري إزاء ما جرى، كنت مطمئنًّا إلى ما قاله علي الجريتلي رئيس لجنة التحقيق إن عبد الناصر أشد كبرياء من أن يقبل أي فساد.

اختلطت مشاعري عندما أعلن السادات تغيير اسم الجمهورية العربية إلى جمهورية مصر العربية. ذكر الله مصر في القرآن الكريم، ووحدة مصر وسوريا كانت بداية الطوق الجغرافي حول إسرائيل، لملمة الكيانات المتفرقة في كيان موحد.

ساءني قرار السادات طرد الخبراء السوفييت من مصر. مصر. أرفض الشيوعية، ومن يروج لها، لكني لم أتصور أن يلقى الاتحاد السوفييتي جزاء سِنِمَّار. كان المصدر الوحيد — أو كاد — لتسليح الجيش المصري، شارك في حرب الاستنزاف، بلغ عدد خبرائه نحو عشرين ألف خبير. حين وصلوا إلى مصر، كانت تلك سابقة لم تحدث منذ الحرب العالمية الثانية، وعلى حد تعبير بريجنيف فقد كانت المرة الأولى التي يخرج فيها — منذ الحرب الثانية — جندي سوفييتي إلى دولة صديقة. حتى معارك الطيران — في تلك الفترة — شهدت مشاركات للطيارين الروس.

أضاف إلى تأثري موافقة موسكو على مغادرة خبرائها في مدى أسبوع، تصور السادات — ربما — أن القرار سيرضي واشنطن، أراد أن يستبدل بصداقته للروس صداقة الأمريكان. أثبتت حرب أكتوبر خطأ تصوره.

منذ أعلن بن جوريون قيام دولة إسرائيل، ظلت واشنطن على دعمها للدولة العبرية. واجهنا ثلاث حروب، استهدفت إضعاف قدراتنا العسكرية والاقتصادية، لتظل إسرائيل أقوى من كل الأقطار العربية.

ماذا يعني تنويع مصادر السلاح؟ هل توافق واشنطن على تقديم السلاح لمصر بالكميات نفسها، وبالنوعيات نفسها التي تقدمها لإسرائيل؟

استعدت قول عبد الناصر إنه لا يمكن أن يحدث تناقض بين الثورة وشبابها. لكن الشرخ — في رأيي — كان قد حدث. بدأ في الاتساع منذ انشغل عبد الناصر باستعادة مصر قوتها العسكرية، وبما سُمي حرب الاستنزاف. ترك البلاد في أيدي جماعة من العسكريين، أحالوا مصر معسكرًا يخضع للضبط والربط، ثم كان رحيل عبد الناصر المفاجئ انعطافة سلبية، سكنت ملامحها قبل نشوب حرب أكتوبر، وتأكدت ما بين الانفتاح وسلام السادات وبيجن.

أكره الشيوعية، لكن السبب وراء طرد الخبراء الروس لم يكن تنويع مصادر السلاح، الأسباب الحقيقية هوًى شخصي للسادات. أشفقت على الرجل اندفاعه المحموم نحو أمريكا. اللافت أن ترحيل الخبراء (تلك هي التسمية التي استقرت في الأخبار) لم يؤثر في واردات السلاح إلى مصر، بل إن المعدلات زادت.

قلت للشيخ حسن وردي: تصورت — في بدايات وعيي — أن المرء إما أن يكون شيوعيًّا أو رأسماليًّا، حلَّ الاختيار بدلًا من المحور والحلفاء.

قال: المثقف في مصر الآن واحد من اثنين: انتهازي، أو يعجز عن أن يكون كذلك. إذا كانت مصر تعاني أمراضًا متوطنة، فإن الانتهازية أخطر هذه الأمراض.

سؤال ألحَّ على ذهني قبل أسابيع من حرب أكتوبر: هل كان تحطم طائرة المشير أحمد بدوي جريمة مدبرة، أملاها اعتراض المشير على المبالغة في عمولات صفقات السلاح؟

أنور السادات رجل دولة، ذلك ما أثبته في قراره بإلغاء كل الإجراءات الاستثنائية. عرفنا أن الإلغاء تمهيد لحرب العبور، عدل عن اعتقاله لقيادات تمثل كل التيارات السياسية.

الدراسة الجادة لقضية ما، تتيح أقصى حد من النجاح. ذلك — في تصوري — ما حدث قبل أن يبدأ الجيش المصري عبوره إلى الضفة الشرقية في القناة، وضع خطط إزالة السد الترابي، الضربات الجوية الأولى حققت المفاجأة في قيادات إسرائيل، اختيار يوم إجازة اليهود في عيد الغفران «كيبور» لبدء عمليات العبور، تدريب مئات المقاتلين على استخدام صواريخ سام ستة، يواجه المقاتل دبابة بمفرده، يدمرها بطلقة صاروخ، يقضي على طاقمها، تضاعف أعداد التشكيلات الجوية والبحرية، وفرق المشاة، التظاهر باللهو على شاطئ القناة، والاستحمام قبل ساعات قليلة من صدور أمر الحرب، الإعلان عن زيارات لعدد من كبار المسئولين المصريين إلى عواصم العالم، وعن استعداد مجموعة من الضباط للسفر إلى مكة — في الثامن من أكتوبر — لأداء فريضة الحج.

الحرب!

لم تكن المفاجأة مقصورة على المواطنين العرب، فاجأ هجوم الطيران المصري على القواعد الإسرائيلية في سيناء، في الثانية إلا خمس دقائق يوم السادس من أكتوبر، مواطني إسرائيل، وفاجأ الكثير من قياداتهم السياسية والعسكرية.

في مساء ذلك اليوم، جاوز عدد القوات المصرية على أرض سيناء ٣٠ ألفًا من الضباط والجنود والمهندسين والألوية المعاونة.

اخترع المصريون وسيلة إزالة السد الترابي. في ذهني ما استمعت إليه في الإذاعة، منسوبًا إلى موشي ديان: يَلزم المصريين — لعبور القناة — سلاحُ المهندسين في كلٍّ من الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. فاق الخط، في ضخامته وقدرته على الصمود، خط ماجينو أثناء الحرب العالمية الثانية، غير قابل للدمار، فهو يقاوم هجوم ١٥٠٠ دبابة، ومائة طائرة.

تابعت — باعتزاز — اندفاعات القوات المصرية في موجات متلاحقة إلى عمق سيناء، ربما أملى التحمس قول البعض إن الملائكة شاركوا الجنود معاركهم، لكن الدافع الإيماني يصعب إغفاله.

حين سألني الناس: لماذا لم يتجاوز العبور خط بارليف، اكتفيت بالرد: تلك قضايا عسكرية لا أعرفها!

لماذا ستة أكتوبر؟

عرَفت أنه يصادف عيد الغفران لليهود، وأنه يوم سبت، يوم الإجازة الأسبوعية — دينيًّا — لكل الإسرائيليين.

تملكني اعتزازٌ لما نشرته الصحف عن شارون، بأن المفاجأة الحقيقية — بالنسبة له — هي الجندي المصري الذي اختلف كثيرًا عن الذي خاض الحروب السابقة.

لم تكن وقفة واشنطن المساندة لإسرائيل لمنع انتصار السلاح الروسي على السلاح الأمريكي، التأييد الأمريكي يمتد إلى سنوات بعيدة، ربما منذ احتل الأوروبيون أرض الهنود الحمر، استعادة الفعل في احتلال اليهود أرض فلسطين.

أظهرت تحركات كيسنجر أنه مهموم بإزالة الهزيمة عن إسرائيل. ادعى الحرص على تفوق السلاح الأمريكي على السلاح الروسي، وأعدَّ بنفسه نقل الدبابات والمعدات من العريش إلى القوات الإسرائيلية شرق القناة، ونقل طائرات الفانتوم من الولايات المتحدة إلى إسرائيل، وأومأ إلى سلاح إسرائيل الذري، تحرك بعنصرية دينية، وإن وجد في منصبه قناعًا مناسبًا.

لا أذكر القائل إن انتصار مصر في ١٩٧٣م يفوق انتصار إسرائيل في ١٩٦٧م.

هو قول صحيح.

تملكني قلق لتحذير موسكو واشنطن بضرورة انسحاب الإسرائيليين إلى خط وقف إطلاق النار يوم ٢٢ أكتوبر.

وقف إطلاق النار؟

هل عدنا إلى أيام ١٩٥٦ و١٩٦٧م؟

ما معنى الانتصار إذن؟!

زاد قلقي عند إعلان قرار إيقاف جميع الأعمال العسكرية، هل هي حرب عبور لسيناء، أو استرداد للأرض السليبة كلها؟

قبِل السادات إيقاف المعارك. قال إنه على غير استعداد لمحاربة أمريكا، ألم يضع في تقديره أن واشنطن ستناصر إسرائيل؟

لجأ السادات إلى تعبيرات كثيرة، غريبة، قدمت معاني مغايرة للحرب التي كنا نخوضها. أكد — دون أن يطالبه أحدٌ بما قال — أن الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة التي تملك ٩٩٪ من أوراق عملية السلام، ووصف وزير الخارجية الأمريكي كيسنجر بالعزيز والأخ والصديق.

أذهلني ما قرأته ليوسف إدريس عن حرب أكتوبر في جريدة خليجية، وأنها ليست إلا صفقة بين السادات وقادة إسرائيل. أيًّا ما يكن الاختلاف في انتصار أكتوبر، فقد كان ذروة طبيعية لحرب الاستنزاف. أراد إدريس أن ينال من السادات، فنال من الجيش المصري. ربما لإحساسه بالخطأ الخطيئة لم يُصدر طبعة ثانية من مقالاته بعد أن نشرها في كتاب.

حتى الآن، لا أعرف من المصيب ومن المخطئ في مصيبة الثغرة، بدا أن إسرائيل تريد نصرًا مقابلًا لنصر العبور، يسلب المصريين إحساسهم بالنصر، ويضع العالم الخارجي أمام احتمالات متباينة، أرادوا أن يبلغوا العالم بانتقال القتال من الضفة الشرقية للقناة إلى الضفة الغربية، وأن صورة المعارك تبدلت. لو أنهم وجدوا في بقائهم في الضفة الغربية ورقة يتفاوضون عليها، ما قبلوا الانسحاب من الغرب، فضلًا عن الانسحاب من مواقع القوات المصرية في الشرق.

قرأت للفريق الشاذلي أنه لم يوافق على الابتعاد عن ضفة القناة، ثمة من أكد انحياز الشاذلي لفكرة دفع فرقتين من غرب القناة إلى شرقها، بينما ذهب وزير الدفاع أحمد إسماعيل إلى ضرورة التريث، والامتناع عن توسيع نطاق الجبهة شرق القناة. كانت الثغرة انتقاصًا من قيمة عبور القناة، بلا مبرر لإحداثها، يلحظ شارون فاصلًا بين الجيشين الثاني والثالث، ينفذ منه إلى الضفة الغربية للقناة. اختلاف الآراء في كيفية تصفية الثغرة، يسر اتساعها إلى ما صارت عليه. رأى أحمد إسماعيل أن تصفى الثغرة من ناحية الشرق، رأى سعد الشاذلي أن تقطع الثغرة من الغرب، شابت الحسابات الشخصية حسابات القائدين، وإن تمنيت أن يُبقي السادات رئيس الأركان، وينتهي اختلاف الآراء إلى رأي يقضي تنفيذه على الثغرة.

أحزنني أن السادات لم يكن يعلم — وهو يلقي خطابه في مجلس الشعب — أن الإسرائيليين في الضفة الغربية للقناة.

لا أعرف ظروف استيلاء إسرائيل على هضبة الجولان، قرأت — في جريدة لبنانية — أن حافظ الأسد أكل سمكًا من بحيرة طبرية. المعنى شطر إسرائيل، لكن الأوضاع تبدلت في ظروف لا أعرفها، تحول الانتصار الصعب إلى هزيمة سهلة في العاشر من أكتوبر، بعد بدء القتال بأربعة أيام.

لو أن الجيشين المصري والسوري شكلا قيادة موحدة، ربما صعب على الجيش الإسرائيلي أن يقاتل في جبهة، وينتقل إلى الجبهة الأخرى.

ما أحزنني أن الإعلام الإسرائيلي اعتبر إبطاء عملية السلام — بفضل مكوك كيسنجر — نصرًا استراتيجيًّا لإسرائيل، نقلت وكالات الأنباء تهنئة كيسنجر لنتنياهو على ذلك النصر.

نسي السادات — فيما بعد — ولعله تناسى، ما فعله الأمريكان لمنع هزيمة إسرائيل في حرب رمضان، ألا تمثل دليل إدانة دافعًا للموقف الأمريكي؟!

عكَس تغيُّرُ مظهر الرجل، ما حدث في نفسه من تغيُّر: الأزياء الأنيقة الكثيرة، العصا، الغليون، التكلف في الحركات والسكنات.

لم يعد هو السادات الذي اعتدت رؤيته قبل أن يتولى الحكم.

في العام التالي، بدأ أهل مدن القناة في العودة إليها، كما بدأ العمل في تطهير القناة من السفن الغارقة، وآلاف القنابل والصواريخ التي استقرت في القاع.

حين أُعيدَ فتح القناة، قتلني الإشفاق على ما يقرب من أربعة ملايين مواطن أجبرتهم ظروف الحرب على الهجرة إلى الداخل. روى أبناء تلك الأسر في الرياض ما عانوه خلال سنوات التهجير.

راجعتُ — بعد إعلان سياسة الانفتاح — تعبيرات مثل القطط السمان، زوال الطبقة الوسطي، السداح مداح، في مقابل التعبيرات التي اختارها السادات وصفًا للمثقفين مثل الأراذل والأفنديات.

كنت ألتقي أعدادًا قليلة من المصريين في شوارع الرياض وأسواقها، أكاد أميزهم بتوالي المشاهدة. زادت الأعداد، تضخمت، تعددت الوظائف التي أُعيروا لها. تكاثرت السحن، واختلطت، لا أتأمل الملامح، ولا أفتش عن شخص أعرفه. كانت هجرتي فرارًا من ضغوط قاسية. لماذا ترك هؤلاء الآلاف قراهم ومدنهم؟ هل دفعتهم الظروف الاقتصادية وحدها إلى ترك البلد؟

أذكر قول السادات في أول السبعينيات: من لا يحقق الثراء في عهدي، لن يستطيع تحقيقه أبدًا، الفقر هو الذي تحقق للكثرة من المواطنين، في حين أفادت القلة من ارتفاع أسعار الطعام والأراضي وإيجارات الشقق، وجرى الاستيلاء على أملاك الدولة، وتخصيص القطاع العامِّ لجماعة المحتكرين.

عادت الصورة — كما حدثتك — إلى انتهازي، أو عاجز أن يكون انتهازيًّا، وعمقت المدن الجديدة، والأحياء الجديدة، من الفوارق بين المواطنين.

دس النشوق في فتحتي أنفه، تكرمش وجهه، والتمعت عيناه بالدمع، ثم انخرط في عطس متواصل.

لماذا حُظرت الأحزاب؟ ولماذا عادت؟

أعلن السادات — من قبل — تكوين المنابر الثلاثة، تمهيدًا لعودة الأحزاب إلى الساحة السياسية المصرية.

غلب التمني على تجربة المنابر، أداؤها مثل مشية الغراب في تقليد مشية الطاووس، عابها الافتعال وشحوب الهدف، انطبق عليها مَثَل التي تتوق للعناق لكنها تخشى الحمل. التشبيه تنقصه الدقة، ولعله يعاني الفجاجة، لكن الأحزاب لم تعد إلى صورتها القديمة، أُنشئت بقرار من السادات، وجعل أَلفتها حزب مصر، فاجتذب الانتهازيين ومحترفي السياسة، تحولوا — بربطة المعلم — إلى الحزب الوطني، بعد أن استبدله السادات بحزب مصر.

أعلن السادات إلغاء معاهدة التحالف والصداقة مع الاتحاد السوفييتي، قال السادات: إن السوفييت يعارضون اتجاه مصر نحو السلام.

ما ساورني من قلق في إعلان إيقاف الأعمال العسكرية وقت الحرب، تحول إلى شك عقب إعلان السادات أنه على استعداد للقاء الإسرائيليين في آخر الدنيا، أذكر نص كلماته: «إنني مستعد للذهاب إلى آخر العالم، وإن إسرائيل ستندهش عندما أقول إنني مستعد أن أذهب إلى بيتهم، إلى الكنيست ذاته، ومناقشتهم.»

لم أصدق أن يصفق له أعضاء مجلس الشعب، والعشرات من الضيوف العرب. تصورت أنه بعض أساليب الصدمة التي ألِفها المصريون، هي مبالغة حماسية أملتها طبيعةٌ تميل إلى الاستعراض والكلمات الجهيرة ومخاطبة التاريخ.

حلَّ في داخلي ارتباك، اختلط القلق والخوف والحزن والمسافات والأزمنة والاتجاهات، بدت الأمور متشابكة، وقاسية، لا أستطيع أن أتفهمها بسهولة.

قال السادات إنه أحدث — بمبادرته — زلزالًا في إسرائيل. بدا الزلزال في مصر أشد عنفًا، أحدثه الرافضون، وهم القلة، والمؤيدون، الكثرة الغالبة، توهموا في قيام العَلاقات بين مصر وإسرائيل جريانًا لأنهار اللبن والعسل. أسهم الإعلام المصري في صنع الغيبوبة، لفَّني الحزن لإطلاقِ مُزارعٍ من الدلتا اسم بيجن على وليده، وكلمة «شالوم» بالعربية والعبرية على سيارات التاكسي والسيارات الخاصة، قرأت كتابات عن أبناء العم الذين نجد في عَلاقتنا بهم ما يعوضنا عن العَلاقات مع بدو الصحراء.

عرَفت بواعث مشاعري، لما أعلن بيجن موافقته على مبادرة السادات، لكنه ضمَّن كلماته شرطًا بأن تعود جوديا والسامرة — يقصد الضفة الغربية — إلى إسرائيل.

كشفت ردود الأفعال الرافضة طبيعة الثمار التي زرعها السادات. قدم إسماعيل فهمي وزير الخارجية استقالته، أخفق السادات في أن يوضح له وجهة نظره. استقال السفير محمد رياض بعد ست دقائق من استبداله بفهمي، جعل الإعلام العربي من السادات هدفًا لحملات متوالية، قاسية، وصَّفها بأنها هجوم على مصر، وأعلن حافظ الأسد معاداته لرئيس مصر فور مغادرته دمَشق.

استحال الشك يقينًا بزيارة السادات لإسرائيل، وإلقائه كلمة في الكنيست، وبدء مفاوضات الكيلو ١٠١ في الناحية الغربية من القناة، لإقرار السلام العادل بين مصر وإسرائيل.

حين هبطت طائرة السادات في مطار بن جوريون، أيقنت أن أفعال السادات — منذ الاستغناء عن الخبراء السوفييت — لم تكن مجرد أخطاء، امتدت نتائجها إلى ما بعد حرب أكتوبر، إلى معاهدة السلام مع إسرائيل، والدمار الاقتصادي الذي سُمي انفتاحًا. غاظني إصرار الولايات المتحدة على أن تمتلك إسرائيل من السلاح ما يفوق السلاح الذي يملكه كل العرب. ثورة ٢٥ يناير رد فعل للأعوام التي تلت أفعال السادات.

تابعت مفاوضات البحث عن التسوية منذ الكيلو ١٠١ إلى اتفاقية مارس ١٩٧٩م.

أحزنني أن من حقق الانتصار جلس في خيمة داخل حدوده، ليتفاوض على إخلاء أرضه. هل دخل الجيش المصري سيناء لاستعادة الأرض، أو لإجبار إسرائيل على الدخول في مفاوضات؟

أفهم أن يتنازل المهزوم، لكنني لا أفهم لماذا يتنازل المنتصر. نحتفل بانتصار العبور، فنحن انتصرنا إذن، أو أن البلاغات تشابهت مع توالي إسقاط طائرات العدو في ١٩٦٧م. بدت الأوقات هي الأنسب لانتزاع الحقوق الضائعة. العرب يدعموننا، دول أفريقيا والكثير من دول وآسيا وأمريكا اللاتينية أعلنت مساندتها، الجبهة الداخلية متماسكة، دفعة النصر السريع في عملية العبور أكسبتنا الثقة.

كيف نعطي آذاننا للصهيوني كيسنجر يضع فيها التخاذل والخوف من السلاح الأمريكي الذي هزمه ما بحوزتنا من السلاح الروسي؟!

تابعت الحروب من ١٩٤٨م إلى ١٩٧٣م، مؤشر بياني يهبط بشدة، ويتجه إلى الصعود، لم أكن أملك سوى الدعاء أن تتحسن الأحوال. قلت: هذه حكومة فاسدة، إذا سكتنا عنها فنحن نوافق على فسادها، وقلت: الساكت عن الحق شيطان أخرس. لما أُعدم خميس والبقري في محاكمة ظالمة، شعرت أنه لا بد من ثورة تالية. إذا كنا نُصرُّ على تحميل عبد الناصر ما عانته مصر بعد رحيله، فأولى بنا أن نحمِّل آدم وحواء معاناة البشرية بعد طردهما من الجنة! لم أدرك قيمة عبد الناصر إلا بعد أن تابعت سياسة السادات.

قلت: قصقص عبد الناصر ريش الأغنياء.

قال الشيخ: عوضهم السادات بريش من الذهب والفضة.

حاول مداراة حزنه بضحكة مبتورة: جاء أبو ذر بعد الخليفة عثمان … لكن السادات جاء بعد عبد الناصر.

ضحك. بدت أسنانه كاملة بما لا يناسب تقدُّم سنه، عرفت من التسوس في ثنايا الأسنان أنها طبيعية، وليست طقمًا صناعيًّا.

قلت: هل تصلح الاشتراكية الإسلامية؟ هل تصلح اشتراكية «أبي ذر»؟

قال: أفضل من مجتمع الناس اللي فوق والناس اللي تحت!

استطرد موضحًا: الاشتراكية في مصر لم تسقط من نفسها، لكنها سقطت بتأثير المؤامرات من الخارج.

وأنا أحاول السيطرة على مشاعري: الاشتراكية لم تمت، لكنها قُتلت.

همس بالسؤال المنفعل: كيف صار السادات بطلًا للحرب والسلام؟

أمتدح بطولته في حرب رمضان، لكن سلام الانفتاح يصعب أن يصنع بطولة. لو أني عدت للخطابة في علي تمراز، كنت سأجد مجالات كثيرة للإدانة. السداح مداح كلمتان عبرتا عن الفساد الذي لم يُفلت من تأثيراته العباد والبلاد. الانفتاح — كما أتصوره — يعني عدالة توزيع الثروة، وليس سوء التوزيع. تلاشت وعود الخير الذي يعم الجميع. عرَفنا أحمد عبود ومحمد فرغلي والبدراوي عاشور وعبد اللطيف أبو رجيلة، أصولهم معروفة، أخذت مواضعَهم — بعد أن غابوا — نباتاتٌ غريبة، متسلقة، لا نعرف شيئًا عن نشأتها، ولا ظروف حياتها. كانت للأثرياء القدامى تصرفاتهم التي أدَنْتها في خطبي، في أيام السادات طلعَتْ أسماء مقترنة بغياب الأصل والمبتدأ، من أين جاءوا؟ أرفض ثبات النظرة إلى البشر، أطمئن إلى فلان أو لا أستلطفه، أحكم عليه بشعوري الأول، يظل هو الشعور الذي أنظر من خلاله إلى هذا الفلان، لا تبدله كلمات أو تصرفات تكفل له تبديل مسار أكبر الأنهار. الأمر يختلف في قضايا الوطن، قد يسقط «الوطني» فنعتبره شهيدًا، لكن تحول الخائن إلى وطني يقتصر على مشهد في فيلم عربي.

أذكر أني كنت سائرًا في سوق البطحاء عندما ترامت — من راديو قريب — أنباء العنف في مصر، مظاهرات ضد رفع الأسعار، والانفتاح الخطأ. رفعت الحكومة دعمها عن السلع الضرورية، امتثالا لتوصيات صندوق النقد الدولي، لم تكن الانتفاضة مفاجأة. كانت الصدور محتدمة، تنتظر اللحظة المناسبة، أتاحها قرار ارتفاع الأسعار. الأخبار — في التلفزيون — شحيحة، انتظرت حتى ثالث يوم من بدء الأحداث، استوقفني أن المظاهرات التي تلت رفع الأسعار، اعتدت على ملاهي شارع الهرم، وحطمت زجاجات الخمر، واقتحمت محال الملابس المستوردة، واستولى الفقراء على ما بها من بضائع. جذبني — مما قرأت — تناغم الهتاف في الإسكندرية والقاهرة وبقية المدن: «سيد بيه يا سيد بيه … كيلو اللحمة بقى بجنيه.» سيد مرعي هو صهر السادات الذي يرأس مجلس الشعب، ويتمطى في الثراء، وجهوا إليه الهتاف كأنهم يوجهونه إلى السادات.

سُمي ما جرى ثورة الخبز، لكن السادات سماها — بعد زوال الخطر — انتفاضة الحرامية. شاهدت الصور، فانقبض قلبي، خشيت مما يصعب التنبؤ بنتائجه. رد فعل السادات غلب عليه الانفعال والافتعال. لم أحب أن تتحول انتفاضة الخبز في رأي الناس، إلى انتفاضة الحرامية في رأي السادات. ما حدث ليس وليد ذاته، ولا مصادفة. ارتفعت الأسعار بما لا يقوى عليه الناس، فثاروا، انتفاضات الغلابة، وليس الحرامية، ذروة الرفض لسياسة أخذت من الاشتراكية والرأسمالية أسوأ ما فيهما. قال عبد الناصر — عقب هزيمة ١٩٦٧م — إن ما أُخذ بالقوة لا يُسترد بغير القوة، استبدلوا بالكلمات كلمات أخرى، تعبر عن واقع الحال: إن ما أُخذ بالسرقة لا يُسترد بغير القوة! الفقر إلى الله مطلب يتساوى فيه الجميع، أما الفقر الذي يعني المسغبة والجوع، فهو يقتصر على فاقدي الحيلة من عباد الله. حكمنا من تولوا أمور البلاد في أعقاب نصر! شهدنا أيام عثمان بن عفان … التطبيق السيئ يجعلها غير صالحة لنا … لا شيء اسمه الرأسمالية الإسلامية.

كان بديهيًّا ومتعقِّلًا قرار السادات بسحب قرار رفع الأسعار، وصف ما حدث بأنه انتفاضة شعبية صحيح، بينما اختار السادات وصف انتفاضة الحرامية!

أشك في أنه صدقه.

حزنت لإسقاط الشيخ عاشور من عضوية مجلس الشعب، دافع الرجل عن الحق، وإن أخطأ في الهتاف بسقوط السادات، دفعه إلى ما فعل قول الشيخ الشعراوي عن الرئيس السادات: والذي نفسي بيده لو كان لي من الأمر شيء، لرفعت الرجل الذي رفعنا تلك الرفعة، وانتشلنا مما كنا فيه إلى قمة ألَّا يُسأل عما يفعل.

اللهم لا اعتراض، لكن الحيرة تملكتني وأنا أتابع استقدام الرئيس السادات علماءَ ووعاظًا من أقطار الخليج، في حين أعاني الغربة بعيدًا عن علي تمراز والقائد إبراهيم. عمَّق حزني إحلال وعاظ السلطة، بدلًا من الأئمة الكبار في قامة محمد عبده والمراغي والبشري وسليم والفحام وشلتوت وخالد والغزالي وأبي زهرة.

رفع العرب — بعد هزيمة يونيو — لاءاتهم الثلاث: لا تفاوض، لا اعتراف، لا صلح مع إسرائيل، لكن السادات أسقط — بعد انتصار ١٩٧٣م — لاءات العرب، ودعا نفسه لزيارة إسرائيل، بداية للاعتراف بها، والصلح معها.

عاد السادات من زيارته إلى إسرائيل. اصطفت الجماهير على طول الطريق، لاستقباله وتحيته، استغرقتهم أحلام اللبن والعسل. ربما أراد الإسرائيليون توشية مبادرة السادات، لما أعلنوا — عقب الزيارة — أنهم توقعوا قيادة السادات مجموعة فدائيين، يتبعونه على سلم الطائرة، بأيديهم أسلحة تقضي على كل القيادات الواقفة في المطار.

قهرني الحزن وأنا أشاهد — في التلفزيون — ترحيب أعداد من المصريين بالوفد الإسرائيلي عند زيارته للمعبد اليهودي بشارع عدلي.

فقدت مبادرة السادات للسلام معناها الحقيقي لما رفضها السلفيون والعلمانيون، ظلوا على رفضهم حتى أدخل معظمهم المعتقل، من بقَوا دبروا لاغتياله.

شغلني السؤال: لماذا استقال إسماعيل فهمي ومحمد رياض ومحمد إبراهيم كامل، بينما لم يبد حسني مبارك ملاحظةً ما على مبادرة السادات؟

تابعت — منذ الخامس من سبتمبر ١٩٧٨م — اجتماعات كامب ديفيد، برعاية الولايات المتحدة. سلسلة من المناقشات بين السادات وبيجن وكارتر، انتهت في مارس ١٩٧٩م إلى معاهدة تحقق السلام بإخلاء منطقة الحدود مع إسرائيل، إخلاء سيناء من الدبابات والطائرات، تحديد قوات المشاة؛ رقم مضحك. من قُتل أبناؤه، واستُلبت أرضه، وتشرد، كيف يصالح من فعل ذلك، ولم يُخفِ تأهبه لفعل المزيد؟

معاهدة السلام؟

ما معنى أن تكون أرض سيناء منطقة منزوعة السلاح؟ أي صلح يتحقق بعد الانتصار، يجعل الأرض التي ضحت لاستعادتها بآلاف الشهداء منطقة منزوعة السلاح. ما مساحة الأرض المنزوعة السلاح في الناحية الأخرى، في فلسطين المحتلة؟

أوافق الأقطار العربية على رفض المعاهدة. أخرجَتْ مصر من قضايا العرب، وجعلت من المقاومة عمليات للتفاوض في إطار التطبيع. لم يكن الرفض العربي — كما قال إعلام السادات — معبرًا عن قصور في الرؤية السياسية، أبانت تطورات الأوضاع — فيما بعد — عن المأزق الذي وضع فيه السادات نفسه.

لم أفهم معنى الحاجز النفسي الذي سمَّى به السادات ما بيننا وبين إسرائيل من عداء. اختصر الرجل تاريخًا من المؤامرات والحروب في عبارة متفلسفة. بدت أيام ما سُمي بالتطبيع أقسى من الكابوس، حُذف ما يمس اليهود من آيات القرآن، وُضع اسم إسرائيل بدلًا من فلسطين في الخرائط العربية، حُذفت حقائق الصراع من كتب التاريخ.

هل تصبح حرب أكتوبر — بالفعل — آخر الحروب؟

أعرف السادات مناضلًا، وسياسيًّا، لا أعرفه منجمًا، ولا قارئًا للبخت!

لولا أني شاهدت ما جرى على شاشة التلفزيون، ما تصورت أن عرفات يخطب في بيروت بالقول: إن السادات خان الشعب المصري. لم أُخْفِ رفضي لخطوات السادات منذ الاستغناء عن السلاح الروسي، وما تلاه من تصرفات عشوائية، أخطرها معاهدة الصلح. العادة أن المنتصر هو الذي يملي شروطه، لكن السادات وافق على التفاوض في داخل الأرض المصرية، وقبول تنازلات دفع شهداؤنا ثمنًا لعدم حدوثها. مزج السادات بين قضايا مصر ونوازعه الشخصية، لما هاجمه خصومه، فادعى أنهم هاجموا مصر. حتى الجماعات السلفية التي غادرت مكامنها بتحريض من السادات، صارت عدوًّا له، بعد أن فقدت ثقتها في تصرفاته.

نقلت وسائل الإعلام ضرب القوات المصرية حشودًا داخل ليبيا، غلب الخوف على ما عداه من مشاعر المصريين. البعد عن المكان يجعل الصورة شاحبة، وغير صحيحة أحيانًا: هل هي بداية حرب؟ هل تنطلق القوات المصرية داخل ليبيا؟ هل يستعين القذافي بقوات أجنبية؟

طال إحساسي بالغربة في الرياض، غربة مماثلة — ربما — لغربة مصر — عقب معاهدة السلام — بين دول العرب والإسلام. أهملتُ الشائعات عن البنود السرية، مواد المعاهدة المعلنة مصيبة، عرَفتُ بواعث استقالة عديد من مساعدي السادات، خافوا نظرة أبنائهم لقبول الاتفاقية.

لو أن الاتفاقية جاءت أيام إمامتي في علي تمراز، كنت سأرفضها.

رفضت قول السادات إن ٩٩٪ من أوراق اللعب في يد أمريكا، إذا ألقى الحاكم تبعة تنازله عن قوة يمتلكها، فالأولى به أن يبتعد.

ما بدا مثيرًا للسخط أو الغضب تمخض هزيمة ١٩٦٧م عن رفض الصلح، والمفاوضات، وعدم الاعتراف بإسرائيل، وأن ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة. أما انتصار ١٩٧٣م فقد انتهى إلى انفتاح اقتصادي أضر بالفقراء، بالإضافة إلى القبول بكل ما رفضته الهزيمة من المفاوضات، وتوقيع معاهدة السلام.

أعدت قراءة الخبر، وبحثت عن تفصيلات في الإذاعات والقنوات الفضائية: أصدر السادات قرارًا بإلغاء تراخيص عديد من الصحف، والتحفظ على أموالها ومقارها، وبالتحفظ على أعداد من الزعامات السياسية. أودعهم المعتقل، وسحب اعتراف الدولة بانتخاب البابا شنودة، وأمره أن يلزم الدير، مع عشرات من القيادات الكنسية القبطية. لم يكن السادات في حاجة إلى من يشخص حجم الانفعال الذي أملاه غضبه، عندما وصف الشيخ المحلاوي، وهو عالم فاضل من الجيل الذي أنتمي إليه، عُين واعظًا في جامع القائد إبراهيم، بعد أن أرغمتني الظروف على رفض الوظيفة، وترك البلاد. وصف المحلاوي بأنه «قاعد زي الكلب.»

زي الكلب؟!

ماذا لو انتقل أحدهما إلى موضع الآخر؟ هل كان السادات يرضى أن يصفه المحلاوي بما قاله فيه؟!

عندما يخضع الحاكم لانفعال الغضب، فإن يده تضغط — بتلقائية — على مفاتيح الشَّفرة، يحدث ما لم يتوقعه هو نفسه، يغيب التعقل والحكمة.

لم تعد حركتي باليسر الذي كانت عليه، تحددَتْ بين البيت وزاوية خطاب، تَواصلَ النقاش، لا يبلغ السياسة إلا نادرًا، وإن أدركت — فيما بعد — أن تلك الأحداث هي السبب المباشر في اغتيال السادات، مثَّل من خضعوا للقرارات — على نحو دقيق، وغريب — أطياف المجتمع المصري، انتماءات إلى الإسلام والمسيحية والماركسية والليبرالية والذين بلا يقين ديني ولا اتجاه سياسي. تأملت التعبير: «ما حدث هو سجن مصر.»

لا أذكر كيف ولا أين عرَفت باغتيال السادات، ربما كنت في الحرم المكي، أو الروضة النبوية. التقطتُ — وسط الزحام — عبارة: قُتِلَ وَسْط جنوده.

قال الرجل ذو الدشداشة والعقال: قُتِلَ أنور السادات في عرض عسكري.

لم أشاهد الواقعة لحظة وقوعها، وإن شاهدت إعادة ما جرى مرات متتالية في اليوم نفسه، جلست أمام التلفزيون، أتابع الأنباء، أدير مؤشر الراديو كي ألتقط ما يهدئ خوفي، اختلطت رؤًى كثيرة، وتشابكت: بيت المسافرخانة، ومحاولة اغتيال عبد الناصر في ميدان المنشية، والشيخ مكايد حتحوت، ومقتل النقراشي، ومقتل الخازندار، والصدامات القاسية بين إبراهيم عبد الهادي وجماعة الإخوان المسلمين، وعلي تمراز، وميدان الأئمة، وأبو العباس، والمينا الشرقية، وحلقة السمك، ورقصات العنف للمردة والغيلان والعفاريت، والأنفاس المكتومة، علا زفيرها عقب فوز الوفد في الانتخابات، وعودته إلى الحكم.

أتاح السادات للإخوان المسلمين والجماعات الدينية أن تصفيه جسديًّا، عندما أطلق لها حرية الحركة في الساحة السياسية.

هل جثم الكابوس على الصدر ثانية؟

زخات الرصاص تتجه من رشاشات الجنود في اتجاه المِنصة. لم أستطع — في الفوضى — تبين من مات، ومن أصيب، ومن نجا بحياته. الأخبار لاحقتني بما جرى، قُتل السادات بأيدي ضباط لا أعرف أسماءهم، هل تمضي مصر في منحدر الخطر؟ أعرف أنه جرت من قبل محاولات لاغتيال الرجل، صدم أذني تعبير متكرر عن القط ذي الأرواح السبع.

عكست جِنازة السادات تأثيرات الخوف والارتباك والرفض، جنازة بليدة، مشيعوها من رؤساء الدول. حتى الولايات المتحدة مثَّلها ثلاثة رؤساء سابقون، قوام الجنازة رجال الشرطة السريون، في أيديهم صحف يطوحون بها، ونظراتهم لا مبالية، غاب الملايين الذين ودعوا عبد الناصر. لم تكن جنازة زعيم.

ظللت متيقظًا ليلتين متعاقبتين. أذني على الراديو، عيني على التلفزيون. تناوشني التوقعات. السادات مضى، الكثيرون يعدون أنفسهم للدخول، لعل القادم خارج الصورة، هو — كما قدرت — ليس حسني مبارك، ولا صوفي أبو طالب، ولا حتى عبد الحليم أبو غزالة.

في اليوم الثالث، هاجم السلفيون ثلاثة أقسام للشرطة في أسيوط. هل هي توابع الزلازل؟ هل كان الاغتيال بداية لأحداث تالية؟

ثم داخلني اطمئنان على مصر. أفرج الرئيس الجديد عن معتقلي السادات من المفكرين والساسة، تحدث عن اختلافه مع عبد الناصر والسادات، وعن الشفافية، ووصف الكفن الذي يترك به المرء دنياه بأنه بلا جيوب.

ناوشني السؤال: لماذا لم يجد الزعماء السياسيون في لقائهم بالرئيس الجديد ما يدفعهم إلى تذكيره بالإصلاحات التي اعتُقلوا لأنهم طالبوا بها.

أعاد كوب الماء إلى الطاولة أمامه، وضع راحته على فمه، يداري تجشؤه: مفردات ذاكرتي — كما ترى — هي الصوفية والعظات وأكاذيب الساسة والمظاهرات والإضرابات والتردد — لشراء الصحف — على مكتبات الرياض، والغربة والقلق والتمني والتوقع. ثمة فجوات كثيرة — أدركها — فيما أذكره. الذهن لا يُبقي كل شيء، أخشى نُذُر تحلل الذاكرة، فأنا كثير النسيان، تداعى على الذاكرة شخصيات وأحداث مضى عليها سنوات، فظننت أني نسيتها. ربما ذكرى صغيرة، تفتح لي باب دنيا فسيحة، ظلت في ذاكرتي ثابتة لا تزول، الكثير من المواقف غاب عن ذاكرتي الشخصية، لولا إشارتك إليها ربما تصورت أنها لم تحدث.

عندما ألتفت إلى الوراء، أعرف أن العمر الذي أنفقته لم يكن بلا جدوى.

فعلت الكثير، وحاولت أن أفعل الكثير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤