استدراك ما لم يلحقه السهو
لو أني ظلِلت أصغي إليه، يعيد رواية الأحداث من وجهة نظره، كيف رآها. يختزن في ذاكرته كل شيء، ما يفاجئني من الوقائع والأحداث والتواريخ والملاحظات والتصرفات والكلمات والأشخاص والأرقام والأمكنة والألوان والتفاصيل الصغيرة، الصور كثيرة، ومختلطة، بعضها واضح، وبعضها أشبه بالنسخ السلبية.
قال في نبرة معتذرة: ظني أني رويت مجمل ما حدث، أرفقته بما قد أجده من آراء، أجاوز الكثير من الوقائع التي لا تضيف إلى المعنى. إذا أخفقت في استدعاء ذكرى قريبة أو بعيدة، تركت للحظات التالية، أو حتى للساعات التالية، ظهورها في الذهن، تومض فجأة، ربما دون أن أنشغل بها. تتباعد الأشياء، تغيب التفاصيل، تتجه إلى الفقد والمحو. الحنين إلى الماضي شعور إنساني، أدركه، لكن الإنسان قد ينسى الماضي، ولا ينسى الحاضر أو المستقبل، الحاضر يشغله، والمستقبل لم يأت باحتمالاته.
تنهد: أستعيد بالتذكر مراحل عمري، اتصالها بشخصيات وأحداث، ظلت في ذاكرتي، تشبثَتْ بها، لم تتركها. حياتي محدودة بين البيت والمسجد، في مصر أو في الحجاز، لكنها اتسعت بالمتابعة ومحاولة الفهم، دليلي الصحف والإذاعات والقنوات الفضائية، تضيف إليها ملاحظات ومناقشات وردود على أسئلة، أقلِّب ما استقر في الذاكرة، يشكل قناعات أتصور أنها صحيحة.
عاصرت الأحداث بنفسي، شاهدت، أو استمعت، أو كان لي فيها تعقيب. أحداث الزمن هي التي تصنع تاريخنا الشخصي، تختلط الجزئيات لتصنع مشهد السيرة. الكثير عشت فيه، والقليل قصر مشاركتي على المتابعة، حرصت ألا أذكر واقعة واحدة لم أعش أحداثها على نحوٍ ما، رأيتها، استمعت إليها، تناولتها المناقشات، حرصت على اتصال الخيط، لا يُفلت من يدي، يتشابك، ولا ينقطع، إذا غابت تفصيلات مهمة، فلضعف الذاكرة.
عدت إلى مصر في نهاية عام ١٩٨٥م، بلغت سن المعاش لخريجي الأزهر، كنت أستطيع البقاء حتى دون أن أكون خطيبًا، قرَّ عزمي أن أرحل إلى مكة، أقيم بالقرب من البيت الحرام مجاورًا، حتى يأتيَ الأجل. الحنين إلى الأوطان أشد في الكِبَر، والإحساس بقرب الرحيل. أعرف قيمة النهاية في ثرى الأراضي المقدسة، لكن ترددي حسمه الحنين إلى الأبناء والأحفاد والمسافرخانة وبحري والإسكندرية.
في امتداد لحادثة سعد حلاوة الذي اعتصم بالسلاح في قريته «أجهور الكبرى»، رفضًا لمعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، قتَل المجند سليمان خاطر عددًا من الجنود الإسرائيليين، وأصاب آخرين. حزنت لنبأ استشهاد سليمان خاطر. أشار البيان الحكومي المصري إلى انتحاره، وأكد شهود أنه قُتِل بواسطة الموساد الإسرائيلي، وبصمت الحكومة المصرية.
أبذل جهدًا لتذكر بعض الأشياء. الذاكرة انتقائية، قد أنسى واقعة مهمة، وأتذكر حادثة تافهة، يصعب للإلحاح أن يستعيد ما حدث، لكن الملاحظة السريعة تعيد ما كان غائبًا، ما توارى في الذاكرة، تتلاشى الغِلالات فتبين الصورة واضحة.
تمرد الأمن المركزي أول ما عشت أحداثه عقب العودة، اقتَصرَتْ على الجيزة والقاهرة، الشرارة في معسكر للأمن المركزي بالهرم، لم تتسع دائرة الأحداث، لكن الأصداء جاوزت الجيزة والقاهرة إلى مصر كلها، أشفقت على وزير الداخلية أحمد رشدي، أدركت أنه يدفع ثمن مواجهته للفساد، قيل إنه ضيَّق على تجار المخدرات، فتحالفوا مع الحزب الوطني.
استمعت — بالمصادفة — إلى حوار لحسني مبارك في التلفزيون، قال إن ما قدمه لمصر لا يقاربه إلا منجزات محمد علي. تناسى ذلك الحوار بعد أن دان كل شيء لسطوة الفساد.
ليس معنى سكون الجسد الميت أنه يخلو من الحركة، لكنها حركة مغايرة، هي التحلل والتعفن وتلاشي الحياة. إذا استثنينا أحداث الأمن المركزي، فإن المشهد في أيام حسني مبارك يبدو ثابتًا لا يتبدل، أيام — على طولها — كأنها يوم واحد، كرَّت فترة حكمه متشابهة، الأحداث الطارئة أشبه بهوامش على المتن، يظل المشهد بتكويناته الأساسية، بألوانه وظلاله وأعماقه، عنوان الفساد يشي بجهارة لا أحبها، وإن كانت هذه هي التسمية الصحيحة.
البداية واعدة: التأكيد على أنه لا عصمة لأحد من سيف القانون، عدم التهاون مع أي انحراف أو تسيب، التصدي لمظاهر المحسوبية، التوعد بمكافحة الرشوة وفساد الجهاز الحكومي، نفى أن يكون للزوجة تدخل في المسئوليات العامة، الكفن بلا جيوب، والهدف تحقيق مجتمع الطهارة والعدالة، لا مجتمع الامتيازات والفوارق الطبقية.
ظلت قرينة الرئيس بهذه الصفة منذ تولي الرئاسة، ثم استعدنا تسمية السيدة المنسوبة إلى زوجها، والسيدة الأولى، فضلًا عن رئيس جمعية الهلال الأحمر، ورئيس المجلس القومي للمرأة، ورئيس مكتبة الإسكندرية، ورئيس مكتبة الأسرة.
تكرر تزوير الاستفتاء أربع مرات في عهد مبارك، مرة كل ست سنوات، على مدى ثلاثين عامًا، لا خصم ينافس المرشح الوحيد في الاستفتاء.
دخل أيمن نور ونعمان جمعة السجن لتصديقهما حرية الحياة السياسية، وترشيح كل منهما نفسه للرئاسة، وحصولهما — رغم التزوير — على أصوات مقاربة للأصوات التي حصل عليها مبارك، قرصة أذن قاسية!
عرَفت مما نشرته الصحف — متأخرًا — أن مبارك وضع صورته مكان سعد الشاذلي في غرفة عمليات حرب أكتوبر.
لماذا أبعد عبد الحليم أبو غزالة من منصبه كوزير الدفاع؟
حل — بدلًا منه — حسين طنطاوي، قيل كلام كثير، وإن فسرته — بيني وبين نفسي — أنه تعبير عن صراع الفساد في قياداته العليا.
أحزنتني الممارسات القاسية ضد المظاهر الإسلامية، وإن لم تقلل الحكومة من انتشار اللحى والحجاب.
أَعجبُ للتناقض الحادِّ بين خطاب مبارك وتدهور الأوضاع بما لا يبدو له نهاية. لم تعد الدولة قادرة على تحسين المعيشة، والقضاء على الفساد، وعلاج الأمراض التي استوطنت أجساد المصريين، ذكرني قول مبارك إن إصلاح الصرف الصحي هو المشروع القومي لحكمه، بمشروع مقاومة الحفاء الذي تواصل منذ نهايات الحرب العالمية الثانية، إلى زمن حكومة الوفد، تعرفت — عقب عودتي — إلى تعبيرات لم أكن استمعت إليها من قبل، عكست طبيعة الفترة: الزمبة، الإسفين، المهموز، وغيرها من مفردات زماننا الحالي. صارت مصر تابعة لا متبوعة، تتلقى المعونات والأوامر، وتهمل دورها في قيادة العرب، إذا اعترفنا بأن الزمن يُسرق، فسأقدم بلاغًا ضد مبارك بسرقة ثلاثين عامًا من زماننا، من حياتنا.
إذا كانت المعارك العسكرية قد توقفت بين مصر وإسرائيل، فإن الحرب الاقتصادية التي قادها في الجانب المصري هواة وفاسدون، عادت على البلد بكوارث هائلة. لو أن التراب يؤكل، فإن مصر كانت ستخلو من كل ذرة تراب، الجوع كافر. عاد الانفتاح بدرجة أعلى مما كان عليه أيام السادات، مئات الأخبار والمقالات تحدثت عن انتقال البلاد من اقتصاد الدولة إلى اقتصاد السوق الحر، كل شيء صار مستوردًا، حتى القطن محصولنا الأول، نستورده، لم يعد أمامنا إلا استيراد البشر! صندوق النقد الدولي أمسك عصا القيادة، بما انعكس على أداء الوزارات والهيئات، زاد حجم الأغنياء والفقراء، اتسعت الفوارق، استعادت ذاكرة الطبقة الوسطى أيام ما قبل الزوال. صار الفساد هو القاعدة، ما عداه استثناء.
هل كانت الوعود الجميلة معبرًا للحكم؟!
لاحت نذر العاصفة القادمة في مشاهد متتالية: مواطن أشعل النار في نفسه، تعدد المظاهرات والإضرابات والاعتصامات، صار من مشاهداتي اليومية: سلم نقابة الصحفيين، دار القضاء العالي، ضريح سعد زغلول، أبواب نقابة المحامين، سور مجلس الشورى.
فاجأتني المظاهرة وأنا أتهيأ لعبور المسافرخانة، لم يكن العدد كبيرًا، ربما أقل من مائة متظاهر، غالبيتهم من الشباب، وشت ملابسهم بالانتماء إلى طبقة ميسورة. الهتاف هو ما جذب انتباهي: لا للتمديد، لا للتوريث. أيقنت أن ما أراه هو الخطوة الأولى، تليها — بالضرورة — خطوات أخرى، يرفض المصريون التمديد لحسني مبارك، والتوريث لابنه جمال. لم يكن ذلك واردًا في إطار التصور. أذان الظهر يُرفع في زاوية خطاب، المظاهرة قادمة من الحجاري إلى المسافرخانة، اتجهت إلى صَفَر باشا، ومنه — في الأغلب — إلى سراي رأس التين، أحد مقارِّ الحكم.
تبدلت الوقفات الاحتجاجية على إعادة ترشيح حسني مبارك، إلى وقفات احتجاجية على ترشيح الابن جمال بدلًا من أبيه.
صار مألوفًا أن يرأس جمال مبارك لجنة السياسات، واجتماعات الوزراء وكبار رجال الدولة، ويرافق الرئيس، أو يمثله، في زياراته إلى دول العالم. وحين أشارت مَجلة سعودية إلى تضخم النفوذ المالي لجمال وعلاء مبارك، مُنعت المَجلة من دخول مصر، وأُغلق مكتبها في القاهرة، وتوسط الأمير عبد الله — ولي عهد السعودية آنذاك — لإنهاء الأزمة، فرُفضت وساطته.
هل حانت الثورة؟!
لم أكن أعرف حركة كفاية، حتى كلمني عنها الأحفاد. بدأت في متابعتها من يومها. تعرفت إلى هذه الوجوه من قبل، رأيت أصحابها في الصحف، وعلى شاشة التلفزيون.
تقدم السن يُلزم المرء — أحيانًا — بأن يبيِّن عن مشاعره، بما لا يعكس تأثيرًا سيئًا، لا ينفعل، ولا يعلو صوته، وينطق بالنصيحة، ويرفض التعبيرات الفجة. كنت أكتم انفعالاتي المشفقة، وأنا أشاهد ما يتاح عرضه على التلفزيون من مظاهرات كفاية، أكثر من العشرة، وأقل من العشرين، يحيط بهم المئات من رجال الشرطة، تعلو الهتافات بما لا أرضي أن الحكومة توافق عليه، أجد في سخط أبنائي وأحفادي ما يدفعني إلى امتصاص انفعالي، والاحتماء بتقدم السن.
توقعت أن تُحدث كفايةُ تأثيرًا ما في حياة المصريين، لم يشرد ذهني في تصورات.
كفاية! …
تأملت المعنى، هل الكلمة تحذير للنظام، أو أنها تعبير عن الإحباط الذي تملك النفوس؟ ما همني أنها تمضي في طريق الثورة، قد لا يعبر بضعة أفراد عن المعنى الكبير، لكن المثل يتحدث عن معظم النار التي تحدث من مستصغر الشرر، أَمْيز ما في الحركة المفاجئة أنها تجمع شخصيات تختلف آراؤها وتوجهاتها الدينية والسياسية.
أضافت إلى كفاية أحاديث هيكل في الجامعة الأمريكية، وحركة استقلال القضاء، والإضرابات الفئوية، وحركة ٩ مارس لاستقلال الجامعات، والتصدي لمشروعات الفساد في عمر أفندي ومدينتي، وتصدير الغاز لإسرائيل.
شابَ صوتَه ما يشبه السخرية: كنت أعرف بوجود الفساد، لكنني لم أتصور أنه بهذا القدر؟
كيف احتلت مصر المركز الخامس عشر بعد المائة من بين مائة وتسع وثلاثين دولة؟!
تحولت أعراض الفساد إلى أمراض متوطنة. أذكر تقرير لجنة تحقيق في مؤسسة حكومية، قال إن حجم الفساد في المؤسسة يفوق قدرة اللجنة على إحصائه.
ثبتت العادة المصرية القديمة: التصرف بردود الأفعال، نُهمِل حتى حدوثِ الأزمة، ثم نتحرك لعلاجها، تناسينا أن الوقاية خير من العلاج، ولعلها تغني عنه.
ساعد على التنبؤ بالحدث القادم ما حفلت به الصحف والقنوات الفضائية من بيانات وأرقام حول الفساد، وتفاقم أعداد الفقراء وساكني المقابر، وزيادة محاولات الانتحار. أفزعني تقرير لمركز البحوث الجنائية والاجتماعية، أكد أن أكثر من ٨٠٪ من المصريين يعانون الإحباط.
لم تنشأ الثورة من فراغ، سبقتها إرهاصات غابت عن النظام الحاكم، أهمل قراءتها، أو — كما قرأت — تملَّكه العناد، أخطرها وضع رجال الأعمال أيديهم على الحزب والحكومة وموارد البلد.
من المقبول في عهد الملكية رجال اقتصاد مثل عبود وفرغلي وأبو رجيلة والوكيل. تلك كانت طبيعة اقتصاد المرحلة، رأسمالية في حقيقتها، والاشتراكية في قصيدة لشوقي، وفي اسم حزب، وشعارات المعارضة. ما يصعب قوله في العهد الذي لم يُلغِ وظيفة المدعي الاشتراكي أن يكون حسين سالم — بفسادٍ معلن — واجهة الاقتصاد، بالإضافة إلى صداقته الوثيقة برئيس الدولة.
بتوالي الأحداث بدأت قمة الجبل الثلجي في الذوبان: عبَّارة السلام، إضرابات المحلة، مظاهرات الخبز والبوتاجاز، اعتصامات موظفي الضرائب العقارية أمام مجلس الوزراء ومجلسي الشعب والشورى، انهيار صخور الدويقة، وحوادث قطارات الصعيد وكفر الدوار والعياط، والعبَّارة العائدة من الحج، تصدير الغاز لإسرائيل، عنف الشرطة في مواجهة مظاهرات العمال واعتصاماتهم. ظلوا على تحركهم حتى نالوا ما يريدون. توالت المظاهرات والإضرابات والاعتصامات والوقفات الاحتجاجية، قوامها موظفو مجلس الوزراء وخبراء وزارة العدل، والشهر العقاري، ونادي القضاة.
تجاربي مع الشرطة تشي أن لفة البانجو لا شأن لها بموت الشاب خالد سعيد، ظني أنه قُتل بالتعذيب، لا أملك وقائع محددة، لكن حدسي — من خلال تجارب سابقة — لا يخيب. هو شاب في الثامنة والعشرين، عرَفت أنه صديق لحفيدي هاني، يتبادلان الرسائل الإلكترونية، قبض عليه شرطيان في مقهى إنترنت بسيدي جابر، اقتاداه إلى قسم الشرطة بتهمة إعادة تدوير مضبوطات مخدرات. نفضت رأسي لتصور التعذيب الذي واجهه خالد سعيد في مدخل بناية بالإسكندرية، ربما ذهبت به أول ضربة إلى الموت، لا أتصور الإهانة، ولا التعذيب، ولا سحق الكرامة، ربما هي الشرارة الفعلية للثورة المرتقبة.
قال هاني إنه التقى خالد سعيد في مقهى إنترنت، هو الشاب الذي نشرت الصحف نبأ ضربه حتى الموت.
قرأ لي حفيدي هاني كتابات في الفيسبوك باسم خالد سعيد وكفاية وستة إبريل، جماعات لا أعرف إن اقتصر نشاطها على وسائل الاتصال، أم أن ذلك النشاط جزء من تحركها السياسي؟ هل تنتمي إلى أحزاب سياسية قائمة، أو إلى تنظيمات سرية كتلك التي تكونت في نهايات الحرب العالمية الثانية؟ أو كتنظيم الضباط الأحرار الذي تبنى حركة يوليو؟ أو حتى التنظيم السري للإخوان المسلمين، وتأثيره السلبي على الجماعة؟
بدا — في لحظات — كأنه يشرد فيما لا أتبينه، تمنيت — بيني وبين نفسي — لو أنه أطلعني عما يشغله، واستغرقه في الشرود. قال في هدوء من يصل ما انقطع: ذاكرتي هي الوثيقة الوحيدة التي أمتلكها عما حدث. الذكريات تخصني، رحل من كانوا يشاركونني استعادة ما جرى، أتذكر بمفردي، تبدو الذكريات شاحبة، أُجهد الذهن لامتصاصها، ربما ومضت ذكريات مفاجئة، أعيد تأملها، أحدق جيدًا لأتبين موضعي في الصورة.
حدثني أبنائي وحفدتي وجلساء زاوية خطاب عن المعركة الانتخابية، غاب ما كنت أعيشه من قبل، وإن شاهدت جولة انتخابية، أحاطت مجموعة من لابسي الجلابيب البيضاء بشاب في حوالي الأربعين، لحيته مدببة، يهز يده للمارة والمطلين من النوافذ. لم أرتح للشعار الذي رفعته لافتاتها: «الإسلام هو الحل». يعطي الفرصة لشعارات أخري: المسيحية هي الحل، اليسار هو الحل، الرأسمالية هي الحل، حلقات في سلسلة لا تنتهي.
حين انضم الرائد محسن عبد الخالق نائب مأمور قسم الجمرك إلى نصف الدائرة حولي، توقعت أن زيارته لأمر يتصل بالانتخابات، صح توقعي في همسه وهو يمد ساعده ليعين خطواتي: نعتمد على فضيلتك في كسب التأييد لمرشح الحزب.
هززت رأسي بما لا يعكس معنًى محددًا، أدركت معنى المرض السياسي لما لزمت البيت — حتى انتهاء الانتخاب — بوعكة ألمَّت بي.
انتخابات أحمد عز — هكذا سُمِّيَت، لأنها زُوِّرت بمعرفته — هي الباب الذي انفتح عن آخره للمطالبة بمنع تزوير الانتخابات، والقضاء على الفساد، عبره متظاهرو ٢٥ يناير نحو الثورة. بدا أن كل شيء سيظل على حاله، إذا حدث تغيُّر فللأسوأ، للتوريث وتفشي الفساد وسيطرة رأس المال الطفيلي على الاقتصاد، والعشوائيات، وشحوب الخدمات الصحية والاجتماعية، وتدني مستوى التعليم، وتحول الشرطة إلى خدمة الحاكم ومطاردة معارضيه، وتوقعات أخرى كثيرة.
استعادت الأحاديث في البيت، وفي زاوية خطاب، حادثة مقتل الشاب التونسي بوعزيزي. أرفض الانتحار تعبيرًا عن المقاومة، المقاومة تعني التحدي والوقوف وقتال الأعداء، يحاول العدو قتلي، لكنني أحرص على المقاومة حتى الموت. تعددت محاولات التقليد لإقدام شاب تونسي على الانتحار، تعددت حالات انتحار المواطنين المصريين، ساءتني تصريحات مسئولي الحكومة: الانتحار ليس حلًّا … الانتحار يرجع لأسباب نفسية ويجب ألا يستخدم للابتزاز السياسي … انتقال عدوى تونس كلام فارغ … مصر متقدمة بستين مليون مستخدم للمحمول … ما يهمنيش ألف بوعزيزي … اللي عاوز يحرق نفسه يتفضل … المصري اللي حرق نفسه ما يستاهلش المناقشة …
شرارة بوعزيزي أشعلت الثورة في تونس، المؤشرات المصرية لا تنتهي في اتجاه الثورة التي نريدها، شرارة خالد سعيد توشك أن تُحدث ما توقعته من النيران، أراني حفيدي هاني صفحة خالد سعيد على الإنترنت، قال إنها تدعو إلى الثورة. بدا من تتبع الناس أحداث تونس أنهم يطمحون لتكرارها، الظروف — في غالبيتها — متشابهة. ثورة الياسمين تسمية جميلة. ظني أن الكثيرين تمنوا أن تبلغهم الرائحة، انعكس السبب المهم للثورة في تعدد محاولات انتحار مصريين حرقًا، محاكاة لإحراق البوعزيزي نفسه. الشاب التونسي بوعزيزي — متأثرًا بإحراق نفسه — شرارة حوادث انتحار أخرى في القاهرة، وفي مدن الأقاليم، مهدت — ربما — لأحداث تالية مهمة. تعددت الأخبار عن مواطنين انتحروا في أقسام الشرطة، رباط الحذاء أداة الانتحار شنقًا.
لم أتصور ما حدث، كان كل شيء في قبضة النظام. تقدم العمر والأحفاد والتفاهة والملل … ذلك كله جعل من التفكير في الثورة عبثًا لا جدوى من ورائه، وضعت ثورة تونس قدمها على أول السلم، تبعها مصر واليمن وليبيا، وربما — في المستقبل — دول عربية أخرى.
اتسعت المظاهرات والإضرابات والاعتصامات وتعطيل العمل وقطع الطرق والعنف وقنابل المولوتوف. زاد ترديد أسماء البلطجية وأطفال الشوارع والفلول والطرف الثالث والباعة الجائلين.
الاختلاف بين عبد الناصر وكل من السادات ومبارك أجده في إعادة عبد الناصر محاكمات الطيران، وإصدار بيان ٣٠ مارس. وصف السادات انتفاضة الخبز بانتفاضة الحرامية، واكتفى مبارك بالقول — تعليقًا على اتهامات المعارضة بتزييف الانتخابات: خليهم يتسلوا.
خليهم يتسلوا، ظني أنه لو كان مبارك في ظروف نفسية طبيعية، ما صدرت عنه هذه العبارة. ذكَّرني بما رواه المؤرخون عن نيرون الذي شاهد إحراق روما، وهو يعزف على القيثارة. الشوارع تشغي بالمظاهرات والإضرابات والهتافات وجنود الأمن المركزي والهراوات والخوذات والمدرعات والكردونات المسلحة. تحول المشهد في فم الرجل إلى نكتة.
عندما يشتد الفعل، فإن علينا أن نتوقع رد فعل مساويًا له، أو أقوى. حدثت المفاجأة في وقت كان اليأس قد بلغ عمامتي.
ما جرى في ذلك اليوم ليس وليد ذاته ولا مصادفة. إنه الموجة العالية التي أزاحت أوساخ البحر، سبقتها موجات حركت سكون الأشياء: وعاظ المساجد الأهلية والزوايا، مقالات الصحف الحزبية والمستقلة، اعتصامات موظفي الشهر العقاري، العيش على رصيف مجلس الشوري، مظاهرات حركة كفاية، انتحار شاب لأنه لم يحصل على الوظيفة التي يستحقها، غرق العبَّارة، حريق مسرح بني سويف، كارثة القطار …
في زمني، اتهمت النيابة رجلًا سرق خمسين ألف جنيه بأنه أضر بالاقتصاد القومي. اليوم تُسرق المليارات بلا مبالاة. إذا انحرف الحكام بابتعادهم عن صحيح الدين، فإن الناس أساءوا إلى الدين بما ألِفوه من فهم خاطئ وتشوهات.
أسند ظهره إلى الكرسي، وسرح بنظراته، ومد ساقيه أمامه، كأن ذاكرته — رغم اعتذاره بشحوبها — وعت كل ما قرأه وسمعه وشاهده، يعيد رواية ما يذكره كأنه حدث بالأمس.
وهو يهز رأسه: ذكريات الشيخوخة كثيرة، تمتد بسني العمر. أما التوقعات فهي قليلة، تكاد تقتصر على المعنى الوحيد الماثل في نهاية الأفق.
شردت في حلقة الذكر على رصيف البوصيري، مكتبة النن بالموازيني، العرضحالجية في مدخل وزارة الأوقاف بشارع فرنسا، الرجل العاري الصدر يدعو المحيطين لتقييده قبل أن يفك أسر نفسه، سباق البنز على طريق الكورنيش، حصار الجيش لسراي رأس التين، الأولاد والبنات يجرون وراء عربة الرش، أرتال العربات تنقل الجنود الإنجليز إلى خارج الإسكندرية، الجلوات في انطلاقها من ميدان الأئمة — عبر شوارع الأباصيري وإسماعيل صبري والميدان — إلى جامع الشيخ، صوت أميزه، أفتقده منذ غبت عن بيت المسافرخانة، اختلاط رنين الأوعية والملاعق والسكاكين في المطبخ الذي لم أر ما بداخله.
قال: أبذل جهدًا لتذكر بعض الأشياء. الذاكرة انتقائية، قد أنسى واقعة مهمة، وأتذكر حادثة تافهة، يصعب للإلحاح أن يستعيد ما حدث، لكن الملاحظة السريعة تعيد ما كان غائبًا، ما توارى في الذاكرة، تتلاشى الغِلالات فتبين الصورة واضحة.
أكذب لو قلت إنه لم يعد لديَّ شيء أتذكره. تومض في الذاكرة — طيلة الوقت — صور وملامح، ربما التقطتها، أعيد تأملها. تداعيات لا حصر لها، وجوه وتصرفات وكلمات ومواقف، لا أستطيع أن أجد لها رابطًا، ولا كيف أربط بينها.
اعتدت — في ليلة العام الميلاد الجديد — مظاهر احتفالات الأجانب بالمناسبة: كسر الأوعية، إطلاق الصواريخ الملونة، المفرقعات، النزول إلى الشوارع. ترك الأجانب المدينة، لكن الاحتفالات ظلت قائمة. غاب أحفادي — ذلك المساء — عن نظري، عرفت أنهم يشاركون في الاحتفال. كنت قد تهيأت للنوم، لما تسابق الأحفاد في دخول الحجرة، أضاف كل واحد إلى ما رواه إخوته وأبناء أعمامه. أتذكر كنيسة القديسين، قلَّت مشاويري إلى ما بعد محطة الرمل، لكنني أتذكر الكنيسة والجامع الذي يواجهها، وشارع خليل حمادة بطوله والبنايات والمحال على جانبيه. كنت أتساءل: المسجد أمام الكنيسة، يعلو برج الكنيسة، يتبعه علو مئذنة المسجد، لماذا؟
توزعت الاتهامات ما بين إلقاء قنبلة، وتفجير حزام ناسف، ودس قنبلة موقوتة. لم أطمئن إلى اتهام محدد، ولا إن كان الفاعل هو من قُتل بتهمة ارتكاب الحادثة. أحزنني احتدام المعارك بين شباب الأقباط وقوات الأمن.
مقتل الشاب السلفي سيد بلال — فيما تلا العثور على جثته، بالقرب من مبنى أمن الدولة بالفلكي — بدا لغزًا مفتاحه في يد الشرطة. ما حدث في الكنيسة وما تلاه كان الباب الأخير إلى الثورة.
لم يتحرك الناس بدافع من الشعارات التي اعتدناها، لم ينادوا بالإسلام، ولا الاشتراكية، ولا سقوط إسرائيل، لكن الشعارات التي تولدت في الأحداث تبلورت في العيش والحرية والعدالة الاجتماعية، المعنى يكتمل — ربما — بشعار الكرامة الإنسانية الذي اختفى فيما بعد. حكامنا مجموعة من اللصوص غير المتمرسين، اللص الشاطر يترك لضحاياه ما يعينهم على العيش.
الثورة مفاجأة خالصة.
لم يكن لفرار زين العابدين في تونس صلة ظاهرة بما يجري في مصر، لكن الأفق السياسي في مصر وشى بنهاية أيام مبارك، لا واقعة محددة أستدل بها، لكن الشواهد كأنها الطرق المفضية إلى نهاية واحدة.
اقتصرتُ على دروس البيت والزاوية، حدث مد وجزر في مواقفي من الحكام بقدر ما عملوا لصالح الناس، والعكس، حتى قامت ثورة ٢٥ يناير، لا أحد يدعي التنبؤ، ما حدث مفاجأة لمن قاموا بالثورة، ولمن قامت ضدهم الثورة. هذه ثورة الإنترنت، قادتها شباب لا يحتاجون إلى مقاهي الحاسوب، المد قائم حتى يحدث الجزر — لا قدر الله — في تصرفات ظالمة، قادة ثورة ١٩١٩م أشفقوا على الطلبة من احتمالاتها، لكن الطلبة طوعوهم للثورة، هل يتكرر الأمر؟
مشكلة العدالة الاجتماعية تطل برأسها.
طالبت الأحفاد — مندهشًا — أن يعيدوا ما ردده المتظاهرون: غلُّوا السكر، غلُّوا الزيت … بكره نبيع عفش البيت. مبارك بيه يا مبارك بيه … كيلو العدس بعشرة جنيه. هم بياكلوا حمام وفراخ، واحنا الفول دوخنا وداخ. يا حاكمنا بالمباحث … كل الشعب بظلمك حاسس. يا سوزان خافي عليه … حنجبهولك من رجليه. يا منتقم يا جبار … فوضناك تاخد بالتار. يا حرية فينك فينك … أمن الدولة بينا وبينك. ارحل يعني امشي … يمكن ما بيفهمشي. يا للعار يا للعار … حسني بيضرب شعبه نار. مش ساكتين مش ساكتين … إحنا خرجنا ومش راجعين.
مقاومة الحفاء كانت شعارًا في أيامنا. أخاف أن الشعارات لن تنتهي إن ظلت ظروفنا الحالية.
تردي الاقتصاد، غلاء الأسعار، التفاوت في الأجور، الفساد الإداري والسياسي، غياب الرعاية الاجتماعية والصحية، عدم تنفيذ أحكام القضاء، استمرار حالة الطوارئ ثلاثين عامًا، سطوة مؤسسة الشرطة، اقتصار التصدي للمشكلات بالحلول الأمنية. تعددت المسميات، وإن استهدفت المطالبة بالتغيير: ستة إبريل، كفاية، خالد سعيد، البرلمان الشعبي الموازي، الجمعية الوطنية للتغيير، بالإضافة إلى النقابات المهنية والتيارات السياسية الأخرى.
ساءني قول مبارك — تعليقًا على تحركات المطالبة بإصلاح الأحوال: خليهم يتسلوا. خشيت أن يكون الرجل ضحية معلومات مغلوطة، وتقارير كاذبة.
تتردد أسماء عمر سليمان، عمرو موسي، البرادعي، أحمد عز، المغربي، أحمد شفيق، جمال مبارك، الشريف، الفقي، نظيف، العادلي، وأسماء أخرى كثيرة، لا أعرف معظمها. آخر متابعات عمري: الإذاعة والتلفزيون، الغضب، الحواجز، المتاريس، الهراوات، خراطيم المياه، العصي المكهربة، الغاز المسيل للدموع، الرصاص المطاطي، الرصاص الحي، السيارات الصادمة، سيارات الشرطة التي تدوس المتظاهرين، الخوذ، الأقنعة الواقية، العربات المصفحة، القنابل المسيلة للدموع، الدخان الأسود، عربات الشرطة المحترقة، واجهات المحال المدمرة، قطع الصاج المنتزعة من الأبواب، أعمدة الإضاءة والتليفونات، خلو شوارع وسط البلد من المارة، غياب رجال الشرطة وأفراد الشرطة العاديين، المدن الكبرى في قبضة العنف. مشهد الحريق الهائل في مبنى الاتحاد الاشتراكي، وما رافقه من سرقة أثاثه، أعادني إلى حريق القاهرة، دعوت الله أن يجنب المصريين شر أنفسهم.
لم أكن أعرف أن ما أشاهده هو ثورة. كما صارحتك فإن الثورة فاجأت الجميع، حتى الذين دعوا إلى الثورة فوجئوا بقيامها.
نُذُر الثورة كانت واضحة، هل هي ثورة ضد الفساد والقهر والعدوانية والعنف والتعصب الطائفي؟ هل هي ثورة جياع؟ هل هي ثورة مضادة يدبرها النظام لتعديل أموره؟
ما حدث خالف أسئلتي وتوقعاتي، إنها ثورة الشعب كله.
تونس، ثم مصر، من التالي؟
أعادتني الهتافات إلى ثورة ١٩١٩م، الدين الله والوطن للجميع. شعار قديم، تمازج في أسماء سعد زغلول والشيخ دراز والقمص سرجيوس ومكرم عبيد، وخطب الرهبان من فوق منابر المساجد، وخطب علماء الأزهر في الكنائس. تابعت تبدل الشعارات منذ «الشعب يريد إسقاط النظام» إلى «الشعب يريد إسقاط الرئيس»، بدت الأرض مهيأة للإثمار، خشيت أن تتحول المظاهرات إلى فوضى. تمنيت أن يظل المتظاهرون في اعتصامهم، لا تصرفهم وعود، ولا استفزازات، ولا محاولات بذر الشقاق. خرجوا للثورة، فلماذا يسيئون إليها بشعارات متناقضة. ساءني رفع الشعارات والشعارات المضادة، وتعدد الأعلام التي تعلن عن اتجاه ديني.
استندت إلى عصاي، أحدِّق في المشاهد المتوالية لمظاهرات عواصم المحافظات، كأنها التوابع للحدث المهم. كأن المظاهرات شملت كل المدن: المنصورة، الفيوم، السويس، بور سعيد، الإسماعيلية، الجيزة، الغردقة، سوهاج، طنطا، الإسكندرية، بنها، العريش، المنيا، شبين الكوم، أسوان، دمنهور، المحلة الكبرى، قويسنا، الزقازيق، بلبيس.
لاحظت أن غالبية المتظاهرين من الشباب، وغالبية الشباب من أبناء الأسر، غاب ما ألِفناه من الوجوه الناطقة بالشر، جذبتني النظرات الملهوفة، والهتاف ناحية المطلين من النوافذ والشرفات: يا أهالينا، انضموا لينا!
تعليقات لا تنتهي، تصاحب مشاهد لميدان التحرير وجامع عمر مكرم والخيام المنصوبة أمامه، وجامع النور وشارع رمسيس. سألت عن مطالب المتظاهرين، ترددت مطالب كثيرة: تعديل الدستور، حل مجلس الشعب، إنقاص معدلات البطالة، تخفيض الأسعار، إتاحة العلاج، العدالة الاجتماعية، رفع الأجور، إجراء إصلاحات سياسية، التصدي لمشكلة الفقر. الإصلاح شيء مطلوب … قبل الشعب ما ياكل طوب، يا وزرا طفُّوا التكييف … مش لاقيين حق الرغيف.
قرأت كلمات عن الناس المحتشدين في ميدان التحرير، وعن أسماء كانت تملأ المشهد. هذه ليست انتفاضة الخبز كما سمَّى المصريون ما حدث في ١٩٧٧م، ولا هي انتفاضة الحرامية كما سماها السادات. إنها ثورة حقيقية، تنطق في الملامح والقبضات المتوعدة والهتافات: اعتصام اعتصام … حتى يسقط النظام. يا جمال قول لابوك … شعب مصر بيكرهوك. يا حرية فينك فينك … الرئيس بينا وبينك.
تابعت المظاهرات في التلفزيون، استوقفني الشعار: سلمية … سلمية. كأنه ينبه المتظاهرين بأن ذلك ما ينبغي أن يحرصوا عليه، ويرد الشرطة عن العنف.
الشباب هم الثورة في يومها الأول، لكنها — في الأيام التالية — ثورة كل المصريين، كل الأعمار والمستويات الاجتماعية، شاهدتها على شاشة التلفزيون. رفع الشيخ والقس مصحفًا وصليبًا، ذكَّرني المشهد الجميل بثورة ١٩١٩م، وُلِدْت بعد قيامها، وإن لم تترك خاطري منذ شاهدت صورها.
لمحت — وسط المتظاهرين — كهلًا من المترددين على جلسة بيتي. أسعدني بناء المعتصمين دورات مياه خشبية داخل الميدان، كتبوا على أبوابها: حمام عمومي، تصرف فرضته الظروف، مثلما فرضت إقامة المنصات من الألواح الخشبية، وخيام الشعر والغناء والإسعافات الأولية. عادت أغنيات عبد الحليم، وصور عبد الناصر، وألحان ٢٣ يوليو.
حافظ سلامة، هذا الشيخ، قاد أبناء السويس ضد الغزو الإسرائيلي ١٩٦٧م، ها هو يقودهم ضد حكم مبارك.
ما أقلقني غياب رجال الشرطة، رأيت النهب والسلب والإحراق والتدمير، أي أحد يفعل أي شيء، والشرطة غائبة تمامًا.
هل تتكرر مأساة إحراق القاهرة؟ هل الإحراق والتدمير، بداية لاحتمالات صعبة؟!
خشيت أن زوال النظام سيؤدي إلى شروخ في بنية المجتمع، وإلى الفوضى، هذا ما نراه في الهجوم على أقسام الشرطة ومؤسسات الدولة والسرقة والنهب.
جمعة الغضب، زادت جموع المعتصمين في ميدان التحرير، أُلغيت صلاة الجمعة في عمر مكرم، وأُغلقت أبواب المسجد. نقلت القنوات الفضائية ميدان التحرير إلى بيتي، كأني أخالط المعتصمين، أشاركهم المظاهرات والهتافات، والمطالبة برحيل النظام. الصورة الثابتة، الساكنة، لميدان التحرير في تليفزيون القاهرة، تختلف عن الصور الصاخبة للميدان في القنوات الفضائية الأخرى.
اقتصار القنوات المصرية على نقل الجمود دفعني إلى العربية والجزيرة والبي بي سي وقناة ٢٤ الفرنسية، وغيرها.
لم أر في حياتي حشودًا أضخم من تلك التي صورتها القنوات الفضائية. إذا راعينا زيادة أعداد المصريين، فإن مظاهرات يناير تفوق ما سبقها من خروج المصريين للشوارع. هذه ثورة حقيقية، لولا الجدران وتفرعات الشوارع، ربما امتدت إلى الأفق.
قُطعت اتصالات المحمول والإنترنت، أُغلق كوبري قصر النيل والشوارع المحيطة بميدان التحرير، أُقيمت المتاريس الثابتة، مُنعت إقامة صلاة الجمعة في عمر مكرم، خرجت المظاهرات الصاخبة من جامع الأزهر.
أُنصت — بلا مبالاة حقيقية — إلى حديث الأبناء والأحفاد عن الإنترنت والتويتر والفيسبوك، أسماء بذلتُ جهدًا كي أحفظها، لا أعرف ما يسميه مَن حولي الشبكة العنكبوتية، لا أذكر أني جلست أمام الحاسوب إلا لمشاهدة ما يكلمني حفيدي هاني عنه، صار لذلك كله قيمة في المناقشات والتعليقات، أدركت — بإيقافها — خطورة الحدث الذي نعيشه. الثورة هي المتن، الهوامش تطالعنا في الفوضى والتخريب والتدمير والإحراق والنهب.
لم أجلس — بحكم تقدم العمر — إلى الحاسوب، ولا أعرف ما اتصل به من وسائل أخرى. أعرف المسميات، نتداولها، الكلمات أمامي، لكنها تظل مثل الطلسم الذي لا أفهمه. أدركت قيمة هذه الوسائل في شعور الصدمة الذي تلقى به الجميع حجب مواقع الاتصالات.
الحزن الذي وسم ملامح عائلتي، بدا قاسيًا حين انقطعت اتصالاتهم بالعالم، لا وسائل اتصالات من أي نوع، استردت الهواتف الأرضية عافيتها، لكن الأنباء مشوشة ومضطربة، يرين الترقب والتوقع والاستنتاجات.
ثورة المواصلات والاتصالات ألغت بعد المسافات. أدركت قيمتها في نكتة رواها حفيدي طاهر: التقى مبارك — في السماء — الرئيسين عبد الناصر والسادات، سألاه: سم والا منصة؟ قال في تألم: فيسبوك!
أقلقني وقوف عشرات من سيارات الأمن المركزي، وعشرات من السيارات المصفحة وتشكيلات الجنود، في ميدان التحرير، والشوارع الجانبية، وسد الطرق بالحواجز والكردونات والمتاريس والأسلاك الشائكة وأسياخ الحديد وقطع الحجارة والأخشاب وبقايا ألواح الصاج. تملكني ذهول لسيارة الشرطة في اندفاعها إلى الوراء، تدهس من تلقاه.
حين نزل الجيش الميدان زاد القلق: هل يصادر العسكر الثورة؟ هل يعود حكم العسكر؟
التلقائية تعلو بالقبضات، يرافقها الهتاف: الشعب يريد إسقاط النظام، داخله اختلاف الشعارات: ألف تحية للمشير من ميدان التحرير … يسقط يسقط حكم العسكر … القرآن هو الدستور … أرهفت سمعي لتبين كلمات الهتاف وسط تداخل الهتافات: الجيش والشعب إيد واحدة. هل هو تأكيد بانضمام الجيش إلى المتظاهرين، أو دعوة لانضمام الجيش إلى الثورة؟
أدركت انحياز الجيش إلى الشعب، حين أدى اللواء الفنجري التحية العسكرية للشهداء، تبدل الهتاف من «الشعب يريد إسقاط النظام»، إلى «الشعب خلاص … أسقط النظام».
أداء عضو المجلس العسكري التحية لأرواح الشهداء، وإعلان المجلس عن انعقاده الدائم، وأنه سيصدر بيانات، يصب في مصلحة الشعب. في ١٩٥٢م تحرك الجيش، فسانده الشعب، وفي ٢٠١١م تحرك الشعب، فسانده الجيش. القرار الصائب يحتاج إلى فهم وبصيرة ونفاذ رؤية، وقدرة على التصرف السريع، مراجعة النفس قبل اتخاذ القرار ربما تسبقها نتائج لا تخطر على البال. دفع مبارك ثمن تردده في معالجة الأمور، بدل المتظاهرون شعاراتهم، طالبوه بالتنحي. لو أن مبارك تنازل عن تصلبه، وعمل بنداء الشعب يريد إسقاط النظام، ربما لم يكن النداء الامتداد يعلو: الشعب يريد إسقاط الرئيس، وتبدلت المناداة من التنحي إلى طلب المحاكمة.
تعالت نغمة الشعارات من القول: من فضلك ارحل، إلى: هو يمشي مش حانمشي، إلى: انتهت اللعبة، الجيش والشعب إيد واحدة، بالإضافة إلى التعليقات الطريفة: امشي بقى إيدي وجعتني. أنا مستعجل مراتي بتولد. امشي، عاوز أحلق.
بلغت الأمور حدًّا فاصلًا. استنفد النظام كل حيله، لم يعد أمام مبارك إلا الاستقالة، بينما لم يعد الشعب يثق في وعود النظام.
اعترف عبد الناصر بخطأ نكسة يونيو في خطاب التنحي، لماذا لم يعترف مبارك بأخطاء حكمه؟
نُسبت الثورة إلى الشباب. سُميت ثورة الفيسبوك، المدونات، الرسائل الإلكترونية، تحدثت عن الأوضاع القائمة، والرغبة في التغيير، وضرورة النزول إلى الشارع. ملَّ الناس حكمة الرئيس، وتوجيهاته، وتزوير الانتخابات. طال جلوس الأبناء والحفدة أمام الحاسوب، يتابعون، ويشاركون، ويختصرون الوقائع.
ظني أن المبالغة هي التي نسبت الثورة إلى الفيسبوك والهواتف المحمولة، وغيرها من اختراعات العصر. أنت تنزع عن الثورة إنسانيتها عندما تنسب فضل قيامها لآلة، دورها يصعب التقليل منه، لكن الثورة صنع المصريين، ضحَّوا بأرواحهم، وبالعيش في الوطن، قُتلوا، أو ضيعوا أرواحهم في المنافي، لأنهم رفضوا السلطان الجائر.
ساءني كذلك من تحدثوا عن ثوريتهم لأنهم نزلوا التحرير، أو مروا بالقرب منه، ليس كل من ارتبطت ظروف عمله بعهد مبارك خائنًا، وليس كل من نزل التحرير وطنيًّا.
ألقى مبارك خطابًا أعلن فيه اعتزامه عدم الترشح لفترة رئاسية جديدة. تأثرت لقول الرجل: عشت في هذا البلد، وحاربت من أجله، ويحكم التاريخ عليَّ، إن مصر هي وطني الذي سوف أموت على أرضه. الموت في أرض الوطن! وضح تأثر المسيرة المليونية بوعد القوات المسلحة ألا تستخدم القوة ضد المتظاهرين، البيان صدر في الليلة السابقة، عرَف المصريون أن القوات المسلحة ستقف إلى جانبهم، وليس إلى جانب النظام.
بدا مباركٌ ضعيفًا، ومهتزًّا، وذليلًا، عانيت الإشفاق في العيش بين الاختيار والتمني، فترة إقامتي في الحجاز، أمضَّني التوزع بين مجيء الموت حيث أقيم، في الأرض المقدسة، وبين أن أقضي بعد رحيلي إلى بحري، فرضت الحياة وتيرتها حتى عدت إلى بيت المسافرخانة. كتمت مشاعري أمام رفض الأولاد في البيت، ثم حاولت تناسيه، لكن عشرات ممن لا أعرفهم اقتحموا الميدان، يركبون الجمال والجياد والبغال، يشهرون السيوف والشوم والسنج والمطاوي. شاهدتهم على شاشة التلفزيون، توقعت أن يخيفوا المتظاهرين، لكنهم ظلوا في أماكنهم، وأسقطوا عددًا من راكبي الجمال. أُلقيت قنابل المولوتوف وكرات النار من البنايات المطلة على الميدان.
من أين أتوا؟
عشت في الرياض سنين طويلة، لم أر الجمل في شوارعها، ذكرني مئات الشهداء بقول عبد الناصر (كرهته — كما قلت لك — في الأول، وأحببته في الآخر) — عقب مظاهرات الطلبة في ١٩٦٨م: لو أن رصاصة واحدة أسقطت شهيدًا سنكون قد فقدنا شرعيتنا. أذرف الدمع — لتقدم السن — بلا مناسبة، لكنني أحسست بسخونة الدموع على وجهي، حين التقطت، من بين التصرفات والصيحات، حتى في داخل البيت، قرار مبارك بالتنحي. هل تنحى مبارك بالفعل؟ هل في الأمر خدعة؟ هل يسكت رجاله في الحكم عن تنحيه؟
خطأ الثورة عندما تقطع الرأس دون أن تفطن إلى الجذور المغروسة في عمق الأرض.
قهرني الغيظ لعناوين صحف الخميس، تتحدث عن تظاهر المصريين تأييدًا لمبارك، وتكشف مؤامرة مدبرة ضد مصر من أطراف أجنبية، وتطمئن المواطنين أن مصر ستتجاوز الفتنة، هل يتحدثون عن مصر أخرى، رئيس آخر؟ مواطنين آخرين؟
جمعة الرحيل.
تخيلت نفسي في وقفة خطيب الجمعة بميدان التحرير، قال ما كنت سأقوله لو أني في موضعه: لقد خلقنا الله أحرارًا، وسنظل أحرارًا، أدعو المصريين — كما دعا الخطيب — إلى الصبر حتى يتحقق النصر.
لو أنه اكتفى بولايتين، ما ترك الحكم بهذه الطريقة المهينة. أزاح المصريون رئيسًا رفضوه، وعرَفوا حقوقهم. حين أعلن عمر سليمان تنحي مبارك عن الحكم، شعرت أنه كل من ظلموا المصريين في توالي العصور، أن الملك فاروق، والحكومات التي دعوت لإسقاطها، تخلَّوا — بضغط الناس — عن السلطة.
علت الزغاريد والهتافات والصيحات والشعارات والأعلام والبالونات الملونة والأغاني، تعالت الهتافات: الشعب خلاص … أسقط النظام. دلعه يا دلعه … مبارك شعبه خلعه. افرح افرح يا شهيد … النهارده يوم العيد. يا دستور يا دستور … خلي بلدنا تشوف النور. تأثرت لدموع المذيعة الشابة، عندما أعلن مبارك أنه يرغب في الموت على تراب مصر، أشفقت عليه شيخوخته وقلة حيلته وعجزه.
هل تكون الفوضى هي البديل لحكم مبارك؟ … هذا هو ما توعد به الرجل في تصريحات صحفية، هل يتوقع، أو أنه أعد للأمر؟ هل إسقاط الرجل هو النهاية، أو أنه بداية ما يصعب توقعه؟ من يركب الموجة: الساسة القدامى، أم الإخوان، أم شباب التنظيمات الجديدة؟
خشيت أن تكون اللجان الشعبية بداية حرب أهلية. أفضت مأساة قميص عثمان إلى الفتنة الكبرى، أخشى من مأساة ٢٥ يناير.
أذهلني ما نشرته الصحف الأجنبية عن ثروة مبارك. هل بدأ الرجل بشعار الكفن الخالي من الجيوب، لينتهي — في ختام حكمه — بثروة تصل إلى سبعين مليار دولار؟
استعدت — وأنا أتابع أخبار أرصدة مبارك وأسرته في البنوك — نكتة مللت سماعها عن ابن مبارك الذي أنشأ عديدًا من المشروعات، وأسهم في مشروعات أخرى غيرها، أبدى مبارك إعجابه بشطارة ابنه الذي صنع ذلك كله من مصروفه الشخصي. إزاحة مبارك ليست هدفًا، الهدف هو التغيير.
لم يكن ما حدث في ٢٥ يناير منظمًا، ولا تابعًا لتنظيم أو حزب أو قائد يصدر لها الأوامر، ذلك هو تفسير الفوضى التي شملت تصرفاتها. تتناثر في الإذاعة والتلفزيون، وعلى أفواه الأبناء والحفدة، والقلة من الزائرين، أخبار حوادث العنف والفوضى والسلب والتدمير وفتح السجون وإحراق أقسام الشرطة ومقار الحزب الوطني. تألمت من الاعتداءات على المستشفيات … لماذا؟! تحدثوا عن أحداث يتضاءل أمامها ما عشته في أحداث سابقة: توقف حركة القطارات، توقف خدمة الهاتف المحمول، هروب الآلاف من السجون، انتشار الفوضى وجرائم البلطجة.
فاجأت الثورة الجميع، حتى صانعيها، محركاتها مواقع التواصل الاجتماعي، هذا هو السبب في أنها بلا قائد. أقلقني غياب القيادة والتصور، لا أحد وضع في اعتباره ما سيعقب قيام الثورة. هل كان مبارك — وهو يوقع قرار التنحي — يعرف أن أحوالنا ستصير إلى ما انتهت إليه؟
إذا كانت الدولة قد أفلحت — زمان — في القضاء على فتوات الأحياء، فلماذا تعجز الآن عن تصفية البلطجية؟ تحتاج الثمار وقتًا للنضج، لكننا نتعجل قطفها، من أعطى هؤلاء تفويضًا للتحدث باسم الشعب؟ إنهم في واد، والناس في واد آخر، الشباب تجاوز الجميع.
قلت: فضيلتك تقول هذا؟
أحنى رأسه بالموافقة، ثم أردف القول: هل أكذب؟!
أطلق تنهيدة عريضة: لعل طبيعة الشعب المصري تغيرت، فلا يعود الشعب المسالم، الطيب، الذي يرضي بأقل القليل، يتحول إلى الرفض والعداء. فوجئ المصريون بالحرية المطلقة، فغاب الهدوء عن تصرفاتهم.
توقعت أن يرفع رأسه، فأرى تعبيرات وجهه، لكنه ظل على إطراقه.
نفض رأسه من الاستغراق، اتجه ناحيتي بابتسامة عصبية، كأنه بذل جهدًا في رسمها: مع ذلك، فإني أجد في الشعار الذي طرحه المتظاهرون بعد تنحي مبارك: مكملين، ما يدل على اتصال ثورة ١٩١٩م بأحداث التحرير، بتوقعات المستقبل، بالتطورات القادمة.
وهو يحدق في الفراغ: هذه ثورة حقيقية، أصلها بالثورة الأولى في ١٩١٩م وليس بحركة ١٩٥٢م، تختلف في طبيعة الجهة التي ثارت عليها: الاحتلال الإنجليزي في ١٩١٩م، وفساد الحكم في ٢٠١١م.
أضاف في نبرة تأثر: ثمانية عشر يومًا تساوي انتظاري سنين طويلة.
نقر على الطاولة بإصبعه.
– كان المصريون يتوقعون الثورة، لكنهم فوجئوا بها.
قلت: من قرءوا التاريخ جيدًا يعرفون أن ما حدث في ٢٥ يناير كان لا بد أن يحدث.
– أخشى محاولات كسب الوقت.
تصاعدت حركة الطريق، عرَفت أن الحرارة خفت عما كانت عليه في النهار. أخرج من جيب القفطان ساعة بكتينة، نظر إليها، ثم أعادها. ظل صامتًا، ساكنًا، لحظات، ثم رفع رأسه، واتجه نحوي بنظرة محدقة: كانت معاركي — قبل حركة الجيش — في مواجهة القصر والأحزاب الحاكمة. لما عدت إلى الإسكندرية، بدت الأحوال متغيرة، كنت أخطب بمفردي، ويستمع المصلون. لم يعد الفعل مقصورًا على الخطابة، وشهد الفعل تغيرات كثيرة.
– الجماعات الدينية؟
– من حاصرتهم الأوضاع القاسية، فوجدوا في الدين ملاذًا.
مقتل الشيخ الذهبي ذروة موجة من التطرف الديني، علت تلك المرة فأغرقت الشيخ المسكين، وأغرقت المتسببين فيها.
مناوشات الأقباط والمسلمين لم تصبني بالقلق، جزء من اللعبة لإسقاط الثورة. جدع يا باشا: هل فقء العين بطولة؟
يغيظني أن تكون السياسة مجرد تطلع إلى السلطة، مؤلم أن تفقد الدولة سيطرتها، الثمن يدفعه البلد، الإحباط يغري بالانتحار، قد يغري بالخروج إلى الشارع والمظاهرات والعنف. أحيانًا، القيام بالثورة سهل، الصعوبة في الحفاظ على استمرارها. يناوشني السؤال: هل مصر الآن أفضل مما كانت عليه قبل الثورة؟
أضاف بنبرة أعادت إلى أذني صوت الواعظ القديم: مطلبي بإسقاط شرعية النظام لم تحققه حركة يوليو … لعله يتحقق في هذه الثورة.
– لماذا الأولى حركة، والثانية ثورة؟
– الناس هم الذين صنعوا يناير وليس الجيش.
ثم وهو ينقر رأسه — متذمرًا — بأطراف أصابعه: ثورة ١٩١٩م لم تتكرر في الأحداث التالية، مظاهرات ١٩٣٥م أول ما أعيه من الأحداث السياسية، تواصلت بمظاهرات أعقاب الحرب إلى ما بعد حركة يوليو.
الفرق بين ما حدث في يوليو ١٩٥٢م، وما حدث هذا العام، أن الجيش هو الذي أعلن قيام ثورة يوليو، بينما بارك الجيش ثورة الشباب في ٢٥ يناير. أيقنت من نجاح الثورة، حين شاهدت الضابط الرفيع المقام يؤدي التحية للشهداء، أدرك قادة الجيش أنه لا شأن للغلابة بأحاديث الدستور والديمقراطية وحقوق الإنسان، لقمة العيش هي التي تعنيهم، احتياجاتهم تقتصر عليها.
مثَّل الجيش حماية للثورة، وإن خشيت استعادة العسكريين ما فعله ضياء الحق في بوتو، حرضه على انقلاب زائف لمناصرته، جعله ضياء الحق انقلابًا حقيقيًّا، وأعدمه. أخشى سطوة العسكر منذ حركة ١٩٥٢م، لكن تدخل العسكر كان هو المتاح الوحيد لإسقاط النظام، ماذا كان يحدث لو أن الجيش أطاع الملك قائده الأعلى؟
قلت: فرق بين أن أكلف قائد الجيش، أو أكلف قيادة الجيش مجتمعة.
وأومأت برأسي: الإجماع مستحيل!
ظل — لثوانٍ — صامتًا، ثم رفع رأسه متسائلًا: هل يقبل الناس حكم الجيش؟
ماذا كان يحدث لو أن الجيش وقف إلى جانب مبارك، بدلًا من أن يقف إلى جانب الشعب؟ ستكون المواجهة بين الجيش والمتظاهرين؟ لو أن الجيش فضل الحكم منفردًا، فإن خطر الحرب الأهلية وارد، الأخطر أن يعيد الجيش أيام القهر.
خذلتني الكلمات، لم أستطع أن أقول شيئًا، أو أنه لم تعد عندي رغبة في الكلام.
رنا بعين متأملة إلى شمس الغروب، تلامس النافذة الزجاجية، تضويها بالألق: نحن نعرف عرابي قائد الثورة ضد الخديو، وسعد زغلول زعيم ثورة ١٩، وعبد الناصر قائد حركة يوليو.
قاطعته قبل أن يكمل جملته: وهذه الثورة؟
– أشفق عليها إنها بلا قائد، ولا هدف تتجه إليه.
مد ساقيه، ثم تحسس ركبتيه، دلكهما: حتى شعاراتها غير محددة.
وراح يعد على يديه: عيش … حرية … عدالة اجتماعية … شعار يصح في كل الأوقات، وليس بعد ثورة.
قلت: هل تخشى على الثورة؟
– أخشى أن يتحول الأمر عقب انهيار النظام إلى فوضى، يلقى الربيع العربي مصير ربيع براغ.
أغمض عينيه كمن يستعيد أيامًا فائتة: تسمية الربيع العربي ذكرتني بربيع أوروبا الشرقية، لما ثارت دول فيها على حكم السوفييت، هل يستمر الربيع، أو تدوس الديكتاتورية على زهوره؟
– ما رأيك في عودة الإخوان المسلمين إلى الحياة السياسية؟
– لم أكن إخوانيًّا.
– ألا ترحب بتوليهم الحكم؟
– حكم مصر تولته الأحزاب والعسكر والشيوعيون … لماذا لا نجرب الإخوان؟
ما أعرفه أن الإخوان المسلمين كانوا جزءًا من حركة الضباط الأحرار عند قيام ثورة يوليو: رشاد مهنا وكمال الدين حسين وعبد المنعم عبد الرءوف وغيرهم ممن لم يظهروا في الصورة. غابت جماعة الإخوان المسلمين أيام الثورة الأولى: هل هو الخوف من النتائج؟ هل لأنهم أول من يستقبلون زوار الفجر؟ حاولت أن أجد عذرًا، لكن شعوري بالأسف غلب ما عداه. صح توقعي لمَّا تواترت أنباء انفصال قيادات الجماعة، ألِفوا السجن، فما يخيفهم من العودة إليه، الإحساس بالخوف هو الذي قد يضمن استمرار الحياة.
تطلع إلى خيوط الضوء والظل التي ترسلها النجفة في أنحاء الحجرة: لما أبلغت الجارية الإمام الشيباني بنفاد الدقيق، ضيعت من رأسه أربعين مسألة من مسائل الفقه.
مال برأسه إلى الخلف وهو يتثاءب.
– هذا هو فهم الإخوان لمشكلات الناس.
وشى ضعف صوته بالتعب: في شبابي كنت — لأسباب أعرفها — أعاني كثرة النوم، الآن أعاني قلته!
والتمعت عيناه ببريق التذكر: آخر الأسئلة التي استمعت إليها في زاوية خطاب، عن غاز الشرطة في المظاهرات: هل يفطر الصائم؟
– أجبت؟
هز يده في تهوين: لا ذنب للمتظاهرين في استنشاق غاز يؤذي صحتهم!
عندما نزل عشرات الشباب ميدان التحرير، بدءوا في تنظيف الميدان، وطلاء الأرصفة، وإزالة ما على الجدران من عبارات، عرفت أن اللحظات التالية تشغل الشباب، فهم يعدون لها.
أتابع — كل صباح — تنظيف الميدان، ورفع المخلفات، ووضع شتلات بدلًا من الزراعات التي داستها الأقدام، ثم يتبدل الحال، يلحقه تغيير آخر قبل أن ينتهي اليوم.
أفكر في سكان البنايات المطلة على الميدان: كيف يحيون؟ هل هجروا بيوتهم؟ هل يُتاح لهم النزول إلى الطريق، والذَّهاب إلى أعمالهم، وشراء ما يحتاجونه من طعام ودواء؟ هل يغلقون أبواب بيوتهم، أو يساعدون معتصمي الميدان؟
تململ في جلسته، قال إنه يعاني حصوة في كليته، لم يفلح الدواء في تذويبها، ويخشى من الجراحة في سنه المتقدمة.
– تقدم بي العمر … لم يعد لديَّ وقت لأروي كل ما يجب روايته. ألاحظ في نفسي ميلًا للكلام بما يختلف عما ألِفته، واعتاده الناس، من حجب الكلام إلا لضرورة، ربما لتقدم السن تأثيره، العمر ينقضي دون أن يعطي المرء كل ما لديه من معارف وخبرات.
التقط العصا من موضعها على الجدار، رفعها، ضرب بها الهواء في تهيؤ للقيام.
قلت: هل تشارك في الأيام القادمة؟
– لم يعد المستقبل في حاجة لي، ما كان يجب أن أفعله، فعلته، تأتي بعد ذلك مهمة الأجيال التالية.
أفرغ ما بقي من كوب الشاي في فمه مرة واحدة: شاركت في المنقضي … هذا يكفي.
خفتت الأصوات، وتضاءلت، ظلت في تباعدها إلى أن تلاشت.
وهو يغلق النافذة: المغرب، يختفي الذباب، تحل لسعات البعوض.
داخل نبرته رنين: كنت معارضًا لحكومات عدة … المرحلة التالية تحتاج إلى من يؤيدها أو يعارضها.
ووضع راحته على فمه، يحاول مداراة تكرار تثاؤبه: هذا ليس زماني.