إذا أردت الثمرة ناضجة، فاصبر
بهتت الأصوات المتصاعدة من الطريق. التفتُّ ناحية النافذة، امتدت الرؤية في الطريق بما يشبه الضباب، مال إلى زر النور خلفه، وأضاءه.
استعدت في نبرات صوته ما ذكَّرني بالصوت نفسه في خطب جامع علي تمراز: ألم يَهِن بالشيخوخة؟!
قال: أحرص ألا أكرر المنيكلي باشا في رواية المويلحي.
ونظر ناحيتي ليتأكد ما إذا كنت قد فهمت المعنى.
قلت: رواية حديث عيسي بن هشام.
– لم أكن ميتًا فصحوت، بل أنا دائم اليقظة حتى تحل إرادة الله!
وهز كتفيه بلا مبالاة: لم يعد من العمر أكثر مما مضى.
اجتذبني — في مظاهرات الإسكندرية — مشهد الممرضات يرتدين اللباس الطبي الأبيض. عرَفت أن المظاهرات شملت كل الناس، اختلطت الأعمار والمهن والوظائف، الكل مصريون.
كان أحفادي يظهرون أمامي، ويختفون، دون أن يُظهروا أنهم يشاركون فيما يجري، أو يتابعونه، أحاول تبين ما يخفون، إن كان قد حدث ما كتموا روايته.
روَوا لي عن المعالم التي بدأت في التساقط من دنياي القديمة، الدنيا التي أعرفها جيدًا: حرائق في قسم باب شرقي، ومبنى أمن الدولة. حتى مبنى المحافظة بشارع فؤاد، عرَفت أن المظاهرات دمرته تمامًا، بناية تراثية جميلة وهائلة، حزنت لفقدها، كأن كل شيء قد دُبِّر بما يُحدث حريقًا مشابهًا لحريق القاهرة في منتصف القرن الماضي.
داخلني خوف حقيقي لتوالي الأخبار عن إحراق أقسام الشرطة والهيئات الحكومية ومقار الحزب الوطني، أولى أن يستولي عليها الثوار، بدلًا من تدميرها. انعكست حرائق المدينة في الدخان الذي غطي السماء من فوقي، لا أعرف مصدره، لكن أنباء الحرائق توالت: حي العجمي، نقطة شرطة فوزي معاذ، محكمة الدخيلة، أمن الدولة بالعجمي، قسم الدخيلة، قسم العطارين، مديرية أمن الإسكندرية القديمة، نهب مقر الحزب الوطني. أقلقني اقتحام السجون وأقسام الشرطة، وتهريب السجناء والأسلحة.
حتى مبنى محافظة الإسكندرية دمره الحريق تمامًا، سِرتُ أمامه قبل أن أترك المدينة، وبعد عودتي إليها، كأنه الأثر الجميل، تذكرت نكتة الزوج الذي أراد أن يعاقب زوجته، فخصى نفسه. لجأ المتظاهرون إلى البصل والخل لمواجهة الغازات. يقرأ الأحفاد على الإنترنت — هل هذه هي التسمية الصحيحة؟ — أسماء: كلنا خالد سعيد، ستة إبريل، الجبهة الديمقراطية، إسلاميون، السلفيون، وتسميات أخرى أسقطتها الذاكرة.
قال لي فرغلي بائع الخضر في شارع صَفَر باشا إنه أعطى كل ما في دكانه من البصل للمتظاهرين حتى يسعفوا حالات الإغماء!
وقال مريد في زاوية خطاب: هذه هوجة، الفرق بينها وبين الثورة أن الثورة فعل.
لم أتأمل المعنى، ولا حاولت مناقشته، وإن اقتحمني الخوف بالسؤال: ماذا يفعل النظام لو أنه انتصر؟
قلت: هل شاهدت مظاهرات القائد إبراهيم؟
وهو يَزيد من ضغطه على العصا، ويهز رأسه: في لحظةٍ ما، أيقنت أن الثورة لن تنتهي إلا بنجاحها، يرحل حكم مبارك، يحل حكم الثوار. رأيت ما أسعدني من الغرفة ٤١٨ في الطابق الرابع بفندق متروبول. صحبني إلى هناك أحد أحفادي.
أضاف مستدركًا: أستاذ في كلية الهندسة. أتاح لي مشاهدة ما حدث دون معاناة للزحام.
وملأت الابتسامة وجهه: جمعة المظاهرات في القائد إبراهيم اختلفت عن المظاهرات أيام إمامتي في علي تمراز، شملت مسافة المساحة ما بين المسجد والميدان والشوارع المتفرعة، آلاف الرءوس المتلاصقة، والقبضات الملوحة، والهتافات، شغل المتظاهرون حتى النوافذ المطلة من البيوت على الجانبين، والسقف الحجري لمحطة الترام، اختفت أرض الطريق في صفية زغلول وسعد زغلول والغرفة التجارية، والمسافة إلى الكورنيش، وشارع شامبليون وشوارع الأزاريطة.
فتح أحفادي الباب الخارجي لتوالي الطرقات. عرَّفني مأمور قسم الجمرك بنفسه، أعاد روايات للناس عن وقفاتي في وجه الملك، ونصحي له، ولحكومات الأقلية. طلب أن أقنع المتظاهرين في بحري بالانصراف، ظن أن لي تأثيرًا عليهم.
قلت: ساعدهم على نيل مطالبهم.
ثم وأنا أمضي إلى داخل البيت: «لن يعود المتظاهرون إلى بيوتهم إلا بعد رحيل مبارك.»
تعددت المظاهرات — عقب صلاة الجمعة — من القائد إبراهيم وابن خلدون وميدان الساعة وشارع الإسكندراني ومحطة مصر وشارع أحمد مرسي بدر، وأمام أقسام العطارين والمنشية وباب شرق. عشرات الألوف قدِموا من العطارين والمنشية ومحرم بك وجليم والمندرة والعصافرة، ظلِلت في أبي العباس عقب الصلاة، لم أغادره. كانت المظاهرات قد امتدت إلى طريق الكورنيش، وإلى الشوارع الجانبية. عندما شاهدت المظاهرات تصل قصر رأس التين، أدركت أن الثورة بلغت بحري، يختلط الناس والأغنيات والهتافات والأعلام وعربات الإسعاف واللافتات والباعة السريحة، لو أنها تلاحمت في ميدان واحد، يسعها، ربما فاقت حشودها ما ضمه ميدان التحرير.
قال: تلاصق المتظاهرين أفضل طريقة لمقاومة برودة الجو.
وحرك في يده ما لم أتبينه جيدًا: اشترى حفيدي طاهر ثمرة بطاطا، قدَّم لي هذه القطعة، قال إنها من روائح المظاهرات!
وعلا صوته: أدركت أن هذه الثورة بداية تطورات لاحقة.
– ذلك كان تأثير خطبكم في علي تمراز.
– أنا مجرد حلقة في سلسلة.
تألقت عيناه ببريق باسم: أخيرًا، تؤدي المساجد دورها القديم.
أضاف للدهشة المتسائلة في نظرتي: كنا نتابع الأخبار في الإذاعة والصحف … يكلمني أحفادي الآن عن وسائل أخرى كثيرة تجعل البعيد قريبًا. فكَّرت أن أجند شبانًا من رواد قهوة فاروق لتغيير الأحوال، مثلما جند حسن البنا عمالًا من القناة للبدء في تنظيم الإخوان.
– لماذا تراجعت؟
– كنت أعاني ملاحقة البصاصين، فخفت على الشبان!
تناثرت اللجان الشعبية في الميادين، وعلى النواصي، والمفارق، يحملون ما يدافعون به عن الناس في غيبة الشرطة: العصي، الهراوات، البلط، المطارق، أسياخ الحديد.
ربما مثلت ظاهرة اللجان الشعبية إغراءً للفارين من السجون حتى ينشروا الفوضى، صادفت كمينًا لها على مفترق صفر باشا والمسافرخانة، مجموعة من الشبان يرتدون ثيابهم العادية، ويحملون العصي. لو أن الفارين من السجون اندسوا فيهم، كيف تتطور الأمور؟! يحدثنا المثل عن القط الذي يغيب فيلعب الفأر، ماذا يحدث إن اختفي رجال الشرطة؟ رُويتْ بالفعل حكايات كثيرة عن السلب والنهب والسطو المسلح.
داخلني اطمئنان حين عاد حفيدي إيهاب إلى عمله داخل الميناء. كنت قلقًا لتوقف حركة الميناء، منذ أحداث جمعة الغضب. تنبهت إلى أن مَرَضي بالسكر، لم يدفعني — طيلة النهار — إلى دخول دورة المياه.
إذا كنت قد تخوفت من غياب القائد الذي يخطط ويوجه، فإني أحسست بالطمأنينة لتوزع المتظاهرين، لا ينتمون إلى تنظيم محدد، ولا إلى حزب سياسي بذاته، إنهم ينتمون إلى الشعب المصري.
قال لي حفيدي هاني بلهجة مبطنة بالفرحة: انسحبت الشرطة من شارع الإقبال.
– ما يعني هذا؟
– نجاح الثورة.
ووسط الفراغ بجانب يده: لا احتمالات أخرى … النجاح هو الاحتمال الوحيد.
تصورت من سطوة الشيخ شلبي أبو علي على طلبة المعهد الديني، أن الظاهرة تسللت إلى الشباب في المجالات الأخرى، مفاجأة الأحداث ألغت اتهامات اللامبالاة والسطحية وعدم الاكتراث، أيقنت من نجاح الثورة، دعوت — في خطبة الجمعة — أن ينقذ الله مصر. ملأتني المرارة لما علمت أن خطباء المساجد تحدثوا عن ولي الأمر، واحترام الكبير، وعدم الخروج عن الشرعية.
ما حدث في يناير تحرك أملته الإرادة الشعبية. خرج الشباب، ثم بقية المواطنين، لم تتدخل الأحزاب والتنظيمات السياسية، ولم تتدخل القوات المسلحة إلا بعد أن اكتسبت الثورة ملامحها. تختلف عن حركة عرابي التي تحولت — بتأييد المصريين — إلى ثورة، وعن حركة يوليو التي عرَف بها الناس من بيان الراديو. هي أشبه بثورة ١٩١٩م التي سبق فيها الشعب قادته. تزعم سعد زغلول ثورة ١٩، لكن هذه الثورة — كما أرى — بلا زعيم، بلا قائد. عندما تبدأ الثورة بتحرك شعبي، فهي ثورة، لأن صانعها هو الشعب، إذا بدأت بتحرك نخبة تطلب تأييد الشعب، فهي حركة تصادف القبول أو الرفض.
يعيش المصريون كابوسًا، لكنه يختلف عما عاشوه في فترات سابقة. أخشى — بعد أن أسقطنا مبارك — أننا نسقط أنفسنا، أنا عالم دين، لكنني لا أميل إلى الدولة الدينية. ضايقني حمل عصام شرف على الأعناق، لمجرد أنه تردد على ميدان التحرير، كيف نختار زعماءنا؟
من قام بالثورة هو الأجدر بقيادتها، في كل الدنيا، من يقومون بالثورة هم الذين يتولون قيادتها.
لماذا لا يحدث ذلك هنا؟
أرفض من يختطف الثمرة بعد إتمام نضجها، لا دور الإنبات والري والتسميد والرعاية والحصاد. أرفض الوضع الذي نعيشه، أرفض المقارنة بين ما كان وما صرنا إليه، ما كان انتهى، وبوسعنا أن نضيف إلى الحاضر ليصبح مستقبلًا جيدًا.
لم يكن زحام ميدان التحرير — طيلة ثمانية عشر يومًا — هو المحرك للثورة، محركات الثورة كثيرة، مساحتها الزمنية تبدأ بما يسبق السنوات العشرين من حكم مبارك، ذروتها في تنحي الرجل عن الحكم.
وهو يجذب شحمة أذنه متأملًا: نظلم الأجيال السابقة لو قلنا إنها حصلت على الثمار دون عناء.
وشرد فيما لم أتبينه: كنا في سباق للتتابع. تسلم الشباب الشعلة في مرحلة ما قبل النهاية. على الشباب أن يُتموا ما بدءوه، وعلى الآخرين أن يتبعوهم.
السؤال الذي يحيرني: لماذا اختفى الثوار بعد أن ظهرت ملامح النجاح، ولم يحاولوا استكمالها؟
ربما الشباب اطمأنوا لاستعادة النظام، غادروا الميدان، فاحتله ساسة كل العهود، أخشى على الثورة من السرقة والتزييف وركوب الموجة وتبديل الطريق. تُغيظني المناداة بالعادل المستبد، كيف يكون المستبد عادلًا؟
ترامى هواء الليل مفعمًا بامتزاج رائحة الياسمين والرياح المحملة بروائح الرطوبة والطحالب والأعشاب القادمة من ناحية البحر.
تنبهنا إلى صوت نافذة أُغلقت بعنف.
قال الشيخ: الريح.