انقطع الخيط فسقطت حبات المسبحة

حين تقاطر الورثة — بإلحاح المحامي مصطفى مروان المطعني — على زاوية خطاب، فقد كان ذلك ما طلبه الشيخ حسن وردي، اعتذر بأن سنه ترفض الأخذ والرد، والاعتراضات، والمناقشات التي لا تنتهي، أنتم تطلبون رأيي، خذوا به أو ارفضوه.

لم تزايله الشخصية القوية، والهيبة، والجلال، وإن أثقلت الشيخوخة حركته.

وضع في يده ورقة مطوية، بها كل ما ينبغي أن يقوله، أو يفعله، في وراثة الوقف، لا ينسى، أو يغفل، شيئًا.

تلفُّت الشيخ مكايد حتحوت يشي بالتوجس من الجميع. عرَفته من كلمات حسن وردي: الحرص على الجبة والقفطان، العينين الجاحظتين، اللغد الممتلئ، آثار الجدري القديم، الصوت ذي الخنف الواضح.

تحدث الشيخ مكايد عن وقف المطعني قبل أن يتولى الشيخ الكبير نظارته. كان بلا لوائح محددة، وبلا موظفين يساعدون الناظر في عمله. اتسع بما لم يكن في بال الورثة، وإن تمنوا امتداد آفاقه، كثرة المهام التي عهد بها الناظر إلى نفسه، أو عهدت بها الظروف إليه، تطلب العون من الورثة حتى ينتظم الأداء. خشي ألا يجد وقتًا ولا جهدًا للمتابعة المنفردة، اختار يسري مدكور لمراجعة حسابات الأوقاف، الدخول والمصروفات، يضبط أصول الوقف، وعمارته، ومصارفه، يحصل على عائداته.

طال النقاش، تباينت الآراء حول من يقود السفينة في غياب الشيخ حتحوت الكبير، هل هو الشيخ مكايد، أو يزكي الورثة من يتحقق في خلافته الإجماع؟

التمعت عينا أنيس رشوان المطعني بتشكك إن كان الشيخ مكايد كاذبًا فيما قال، فطنت — حين وضع راحته على شفتيه — إلى أنه يريد أن يخفي سنة مكسورة في مقدمة فمه: إذا كان الناظر مسئولًا عن إدارة الوقف فإن من حق الورثة أن يراجعوا العائد الذي يحصل عليه الناظر من إدارته للوقف.

عرفت أن عمل زين العابدين حسن وردي له صلة بالأرقام لمَّا أظهر استغرابه من المغالاة في الإنفاق، ذكر أرقامًا يعجز الوقف ووارثوه عن تحمُّلها.

في مثل عمري، وإن كشَف قميصَه ذا الكمين القصيرين عن ذراعين ممتلئتين، وظهر — بفك أزرار قميصه العلوية — دَغَلٌ من الشعر الكث.

نبه الشيخ مكايد إلى ضرورة الالتفات لفوارق المصروفات في أزمة الوقف، ما كان، وتوالت الزيادة حتى صارت إلى ما هي عليه.

تلفت حوله ربما ليتأكد أن الورثة يتابعونه: الفوضى التي تعيشها البلاد في العقود الأخيرة، أضرت بالوقف، حتى المستأجرون توقفوا عن السداد.

وهو يلتقط أنفاسه من فمه المفتوح: سِرتُ في الطريق نفسها التي سبقني إليها أبي، لا أحصل من مال الوقف لنفسي ولا لعيالي والقريبين مني، هذا مال ورثه المطاعنة، وهم الأحق به.

أضاف في لهجة متحدية، وذراعاه متقاطعتان فوق صدره: دوري يقتصر على التوزيع بالعدل.

الوقف صدقة جارية، أصله لا يباع، ويجوز التصدق برَيْع العين الموقوفة، بيتًا، أو دكانًا، أو بستانًا، أو أطيانًا زراعية، أو وكالات، كل ما يصح وقفه. لتعاظم الوقف، حرص الشيخ حتحوت الكبير على إنشاء جهاز إداري من موظفين ذوي كفاءة للإشراف على حسابات الوقف، مصروفاته وإيراداته. قوانين الأوقاف تنص على إخضاع الحجج للمراجعة والفحص، إن ثبت صحتها ظلت على وقفيتها، وإن حدث تلاعب، من حق الدولة أن تضمها إلى الوقف الخيري. جعل موظفين للنظر في عقود الإيجار أو الشراء أو النزاعات أو الاستبدال، وغيرها من المعاملات المتصلة بالوقف، حذر — في نبرة متواطئة — من أنه ربما يصعب الوصول إلى موضع الحجة.

من يرتدي صديرية زرقاء، حواشيها مطرزة بنقوش ذهبية، قدم نفسه بأنه أحمد جعفر المطعني، عمل في خدمة الشيخ حتحوت الكبير ما جعل الشيخ يخصه بسر الحجة الحقيقية للوقف، وضع حتحوت الكبير الوثيقة في خزانة حديدية، دفنها في سرداب عميق، لم يبح بسرها حتى لزوجه وأبنائه. لما رحل أخفق الجميع في الوصول إلى موضعها، أتى حتحوت الكبير أكبر أبنائه في منامه، وأخبره بما استعصى من سره.

هل ضاعت الحجة بتأثير الزمن، أو أن الفاعل تعمد إضاعتها، سرقها، نسبها إلى نفسه، وادعى ملكيتها؟

تعددت الاجتهادات حول إمكانية الوصول إلى موضع الحجة.

نفى المحامي مصطفى مروان المطعني أن يكون تصرف الشيخ حتحوت الكبير، ولا الشيخ مكايد من بعده، بلغ تهريب أموال الوقف إلى بنوك في الخارج: لن يقتصر تصرف الأجهزة الرقابية على ما أفلح في تهريبه، لكنه سيفضح أفاعيله في الوقف منذ البدايات.

علا صوت المحامي — في نبرة خطابية — بالحالات التي ضاعت فيها الحجج بالسرقة، أو الإخفاء، أو التشويه، أو إزالة ما يثبت وقفيتها، يدَّعون ملكية ما ليس لهم، يغتصبونه.

وعلا صوته في تأكيد: حتى لو فُقدت حجة الوقف الأصلية، فإن الحسابات تغني عن وجودها.

استطرد أنيس رشوان، وهو يكثر من توسيع فتحتي أنفه، ويستنشق الهواء بعصبية: أبطل الناظر الكثير من الحجج، ومحا حججًا أخرى من سجلات الأوقاف، ساعده موظفون مرتشون، تركوا له تبديل الصحيح بالمكذوب.

طلب الشيخ حسن وردي إيقاف العمل بالدفاتر القديمة، الدفاتر التي يطمئن إليها الورثة، هي التي يرضون بها، يثقون بصحة ما فيها من بيانات وأرقام، أبدى تخوفه من ادعاء الشيخ مكايد ملكية عقارات وأراضٍ أخذها من أصحابها الحقيقيين.

لم يعد ذلك الرجل الهادئ الساكن الملامح، الخفيض الصوت، بدا أنه يبذل جهدًا قاسيًا ليعبر عما في نفسه، غلبه الانفعال، فاختلج شريان في رقبته، علا صوته، وحرك يديه بإشارات كثيرة.

ذكر ما يشترطه قانون الوقف من ضرورة المواءمة بين القواعد الثابتة في حجة الوقف، وبين التغيرات التي تتطلب المواءمة، ما كان في الماضي، وما يحدث الآن، ورؤى المستقبل.

علا صوت زين العابدين حسن وردي يدعو إلى ضرورة العثور على الحجة الأصلية، يثق أن الأيدي العابثة، أو المتفحصة، لم تصل إلى موضع الأوراق، هي مخفية في مكانها، تحمل الأسماء الحقيقية لورثة وقف المطعني، الحجة الأصلية بلا إضافات مقحمة أو تزوير.

أومأ الشيخ مكايد برأسه إلى مِلفات، قال إنها تحوي وثيقة، وضعها الجد المطعني في مكان أمين، لا يعرفه أنس ولا جانٌّ، ولا قراءة النجوم والتعازيم السحرية. وثيقة الوقف ظلت مدفونة تحت عمود في الناحية القبلية من جامع أبي العباس، ثم أخذها الشيخ حتحوت الكبير من موضعها، منذ إعادة تجديد الجامع في نهاية الحرب العالمية الثانية. الأرضية الحجرية في ساحة قلعة قايتباي أنسب مكان لإخفاء الوثيقة، وضعها بين طبقتين من الخرسانة المسلحة، لا تصل إليها الأيدي، ولا مياه البحر. تحدث عن علامات أشارت إلى موضع الوثيقة، أهمل شائعة أن مخبأ الوثيقة فارغ، وأن قطع الخرسانة المسلحة على الفراغ، لا شيء بينهما، واصل البحث بمعاونة خواص حتى وجد الوثيقة.

هل الوثيقة حقيقية؟ وهل يقتصر الوقف على ما تحمله من أسماء وبيانات؟

دفاتر القيد توارثتها الأجيال، أنساب الأسر والعائلات والقبائل، الزواج والطلاق والنفقة والنسب والميراث. حاول حسن وردي تبين التزوير من التحديق في الخطوط، إن كان الخط مستقيما أم مائلًا، خطوط واضحة، وشاحبة، ومتكسرة، ومطموسة، وصاعدة، وهابطة، ومتشابكة، رسم الحروف والأسماء والأختام والتوقيعات، اقتراب المسافات وابتعادها، الفرق بين الفاء والقاف والعين والغين، تشابك المفردات وابتعادها.

نظام الوقف يقضي بوجود الناظر، واجبه مراقبة الأحوال والإنفاق على ما تقتضيه أعمال الصيانة الفنية للوقف، استخلاص الرَّيْع، صرف حقوق المستحقين.

قال الشيخ مكايد: حجة الوقف تُلزم الناظر بالإنفاق على عمارة الأعيان الموقوفة، وترميمها، حتى لو خصم التكاليف من رَيْع الوقف، أو قطع رواتب المستحقين.

الناظر هو متولي الوقف، هو الواقف، أو من ذريته أو أقاربه أو عتقائه، لا مجال للعتقاء لأن السنين ابتعدت منذ قانون إلغاء الرقيق. الذرية أو الأقارب تعني من هم كذلك، ترفض الطارئين على العائلة، من تمتد جذورهم إلى مسمًّى غير مسمى عائلة الوقف، مكايد حتحوت ورقة من فرع في بدن عائلة حتحوت، بدن مغاير لعائلة المطعني.

بسط الشيخ مكايد حتحوت خريطة، أدركنا أنها الوثيقة التي ربما تلغي كل ما توارثناه من دفاتر القيد، سَرَت همهمات ممزوجة بالغضب. قاطع الشيخ — قبل أن يبدأ كلماته — لغط أصوات الورثة، لا يعترضون على بيع الوقف، يطالبون بأنصبتهم فيه.

قال شفيق مصيلحي المطعني، إنه يقيم في الأطلال المتبقية من بيت متهدم. أن يجد مكانًا يضع فيه جنبه، أفضل من أن يمتلك أرضًا يضع قطبُ الطريقة — التي لا نعرفها — يده عليها. يرتدي جلبابًا أبيض من البوبلين، تُطل من منخاريه حُزمتا شعر، يختلط فيهما السواد والبياض.

لم يتح له جهاز التقويم في أسنانه أن يتكلم بطريقة واضحة، فاكتفى بالقول: إخوتي يعملون للحصول على الوقف.

وبدا كأنه يغالب البكاء: أنا لا تشغلني هذه المسألة.

أردف: أريد أن أصفي حسابي في الوقت.

أردف: من واجب الناظر أن يساعدني في الدعوى أمام القضاء للانسحاب من الوقف.

مسد جابر غيث المطعني براحتيه على سرواله الفضفاض، فوقه صديري على اللحم، تمزق في جوانب منه، وتساقط الكثير من أزراره: أحوالي تغيرت، فلم تعد الزكاة عليَّ، إنما صارت حقًّا لي.

لم أعرفه، وإن بدت سحنته مألوفة، كأننا التقينا من قبل.

فاجأ سند رفاعي المطعني الجميع بأنه لا يريد بيع ما ورثه، ولا التخلي عنه لأي سبب. ما يملكه ورثه عن أبيه، عليه أن يكتب وصيته لأبنائه وأحفاده، لم يرث الكثير عن أبيه، وإن واجه الحسد على الدكان ذي الأبواب الثلاثة في شارع الميدان.

في حوالي الخمسين، البياض يغلب السواد في حاجبيه الكثيفين، اندفس عنقه بين وجهه وجسده، بدا كأنه بلا عنق. لمَّا تكلم لوَّن صوته، وبدَّل قسمات وجهه.

تناهى من الصفوف الخلفية صوت تنبه له الحضور.

مال سند رفاعي على الشيخ مكايد: رزيقة، بنت بلال همام المطعني الموظف بالميناء.

نقل نظرته — بعفوية — إلى رزيقة. في حوالي الثانية والعشرين، لها نظرة واثقة، وإن بدا صوتها أميل للاسترخاء، ذات جسد — رغم ضآلته — متناسق التكوين، لها عينان واسعتان كعيني بقرة، عَقَصت شعرها في هيئة كعكة، يتدلى من أذنيها قُرط فضي طويل، أسفل ذقنها شامة صغيرة، أضافت إلى حسنها، إن ابتسمت، ظهرت غمازتان في وجنتيها، ترتدي بلوزة صوفية خضراء، ذات عنق طويل، وبنطلون جينز، وحذاء كوتشي. زينت معصمها بأسورة من الخرز الملون، ولفت حول رقبتها وشاحًا من الحرير الأحمر.

رُوي عن اشتراكها في المظاهرات الداعية لإسقاط النظام. أثر الجرح العميق في جبهتها وشى بملامستها هراوات الشرطة. ترددت الفتاة على مجلس الشيخ حسن وردي في زاوية خطاب، لاحظ اقتصار أسئلتها في قضايا الوقف.

– الوقف شأن جميع الورثة، لماذا تقتصر الآراء على الرجال؟

عرضت رزيقة أمثلة عن أوقاف جعلها أصحابها لانتفاع نسلهم، دون تفرقة بين ذكر وأنثى، استعادت رواية التاريخ عن الخليفة عمر بن عبد العزيز حين أزمع إلغاء الأوقاف التي أُخرجت منها النساء، لكن المنية عاجلته.

هتف مكايد حتحوت: ذات الهمة جديدة؟

مالت برأسها إلى جانب، لفَّت شعرها حول راحتها، واعتصرته، ثم أهملته فوق كتفيها: ماتت جدتنا ذات الهمة، لكن الميراث لم يضع.

قال الشيخ مكايد: شروط الواقف مثل شروط الشارع في وجوب العمل بها، رفع الجد المطعني أسماء النساء من قوائم الوقف، من الأغصان والأوراق، فلا موضع لهم في شجرة الورثة.

قالت رزيقة: لا أحد يستطيع إنكار حق المرأة في الميراث، الحجة بأن المال ينتقل من الأب إلى الزوج الغريب ينفيها أن الزوج لم يعد غريبًا، بالإضافة إلى أن المرأة ليست في حاجة إلى وصاية.

استطرد حسن وردي: منع الحقوق جريمة، وتجاوز لشرع الله!

وشت لهجة مكايد بضيق: النساء لم يُكتبن في شجرة العائلة، لائحة الوقف تنص على أن يكون للذكور وحدهم، دون الإناث.

قال حسن وردي في نبرة متحدية: شرط المطعني أن يقتصر الورثة على نسله، أن يظلم وريث واحد، فهو ظلم لكل الورثة.

وكسا وجهه استياء: إذا أراد ناظر الوقف أن يحرم وريثًا من حقه فهو يرتكب جريمة تغضب الله.

أظهر طارق نسيم المطعني تأثره لقول الفتاة: قرأت أن بلدانًا أوروبية كانت — إلى القريب — تورث الأنثى ولا تورث الذكر، تجد أن الرجل أقدر على التكسب من المرأة.

استطرد بنبرة ضخمة، ربما استعارها ليداري ما يعانيه صوته من أنوثة: إذا ثبت تقصير الناظر، أو إساءة استخدام نِظارته، فمن حق الورثة أن يعملوا على عزله.

وقطع الفراغ براحة يده: نِظارة الوقف ليست أبدية.

ثم في نبرة تسليم: إن ثبتت صحة هذه الوثيقة فلا بأس.

قال زين العابدين: المهم أن تخلو من التزوير.

كان زين العابدين على دراية جيدة بالأنساب، وتسلسل الأجيال، ومواطن النشأة والهجرة. يصوب الأخطاء في الروايات المتعددة. ربما استعاد اسمًا نسيَتْه روايةٌ ما.

بدت الخطوط مهتزة، ترسم أوراقًا تشابه أوراق الشجر، أعلاها تسمية شجرة النسب. أدرك أن الكريكتور محا أسماء كثيرة، وضع في أماكنها أسماء أخرى. تبدلت القوائم إلى حدٍّ كبير. يصلون إلى حجج الأوقاف، يمسحون الأسماء الموجودة، يضعون — بدلًا منها — أسماء أخرى، تنتسب لغير أصحابها.

قال أنيس رشوان: فلنبحث عن أقاربنا الذين حُذفت أسماؤهم.

بدا في هيئة استعراضية وهو يروي ما يعرفه من معلومات. أعاد التحذير من محاولات دس أسماء غريبة في أوراق لا صلة لها بشجرة العائلة، أُعيد تشكيل النسب، حُذفت أغصان وأوراق وحل غيرها، دُسَّت أسماء في القوائم، حلَّت بدلًا من الأسماء الحقيقية.

قال مكايد حتحوت: تجد الخطأ لأنك تبحث عنه.

واصطنع بسمة سخرية، ربما ليخفي ضيقه: أنت تبحث عن الاختلاف … عن التزوير.

هز علاء حكيم المطعني رأسه موافقًا، وإن عكست عيناه ريبة: من الصعب إثبات التزوير.

ملامحه أنثوية، تتباين مع صوته الأجش.

وضع مكايد حتحوت راحته على كومة الملفات: البيانات تقول إن الوقف أرض إسلامية … ليست للبيع أو المبادلة.

ودون أن يدير رأسه: لم أعد مسئولًا عن نظارة الوقف، ليس أهليًّا، لا للمطاعنة ولا سواهم، إنه مسئولية وزير الأوقاف.

بسط إلى جوار الوثيقة الخريطة قوانين ورسائل وأوامر وقرارات، تعين على تأكيد المعنى.

– الأوقاف الأهلية مسئولية وزارة الأوقاف حتى يتسلمها أصحابها.

وهز رأسه دلالة على النفي: لا أحد يملك التصرف في الوقف الخيري، إنه مسئولية هيئة الأوقاف، إذا ظل الوقف قائمًا فإن رَيْعه يُصرف على جهات البر … المستشفيات والملاجئ والمساجد والكتاتيب.

نطق التوتر في الوجوه. حل صمت، خدشته نظرات التساؤل والغضب. علت الأصوات متداخلة، تُدافع الشيخ، تُغلظ له القول، تعيب عليه تصرفاته، تتهمه باستباحة الوقف وأمواله، حرمان النساء من رَيْع الوقف حتى لا تذهب ثروة العائلة إلى من لا يستحقونها. وجد في فوضى ما بعد ٢٥ يناير ما حفزه للاستيلاء على رَيْع الأوقاف، أو نسبة الوقف إلى نفسه، أو مصادرته لصالح الدولة.

علا صوت مكايد بلهجة حاسمة: لا حق لأي شخص أن يتنازل عن حق وهمي في الأرض، أو ينازع في هذا الحق.

أدرك الشيخ حسن وردي أن مكايد حتحوت يريد اقتلاع الشجرة بأكملها، اجتثاث جذورها، كأنها لم تكن، لا يقتصر الفعل على الأغصان والأوراق، لا أحد يعرف الجهة التي أملت تصرفاته.

شهد بيت شهاب جلال المطعني، المطل على الأنفوشي، اجتماعات لرجال العائلة، يبسطون فيها قوائم الورثة، آلاف الأوراق المكتوبة بخطوط متداخلة ومتكسرة، يصعب قراءتها، يضاهون الخطوط، الحروف الكبيرة والصغيرة، الوضوح والشحوب، التشابه والاختلاف، الاستقامة والميل والانحناء، ما يبدو واضحًا، والأقرب إلى الركاكة.

شجرة النسب لها أغصان، لكل غصن أوراقه، على كل ورقة اسم صاحبها، آلاف الأسماء التي يصعب حصرها.

بذل مصطفى مروان المطعني المحامي جهدًا، حتى يقتنع الشيخ مكايد بالتخلي عن ذرائعه ومماطلاته، لا يحق للشيخ أن يأخذ مال الوقف إلا بوجه شرعي. أومأ إلى أن الورثة ربما يلجئون إلى القضاء.

من حق الورثة أن يحاسبوا الناظر على التجاوزات، وعلى تبدل هيئة الوقف، تحوُّله إلى غير معناه، أو خرابه، أو محوه. إذا ضاع الوقف، استولى عليه من لا يستحقونه، الشيخ مكايد هو من يجب أن يوجَّه إليه الاتهام، شغَله صالحه الشخصي، فأساء إلى صالح الجماعة، لا محل للاجتهاد في موضع النص، ثمة إطار لا يأذن للناظر أن يخرج عنه. إذا ثبت تقصير من الناظر، فإن شرط المطعني يبيح للورثة أن يستغنوا عن خدماته، يعزلوه، ويأتوا بغيره. هدد المحامي باللجوء لديوان محاسبة الأوقاف.

ترك الورثة للشيخ حسن وردي أمر عرض الأوراق الصحيحة، الأسماء الحقيقية للورثة، قلَّب رئيس الحي في الأوراق، ثم اتجه ناحية الشيخ وردي بنظرة رافضة، وقال: إن الوقف أرضٌ حِكر، لا يملكها السكان، من حق إدارة الحي أن تستولي عليها دون تعويض. إن تَهدَّم البيت انتُزعت الأرض، صارت ملكًا للدولة. فطن الشيخ إلى أن يد مكايد حتحوت أجادت التدبيرات ونسج المؤامرة.

عاد الشيخ حسن وردي إلى حيث نجلس في صحن زاوية خطاب، ذكَّرنا بما جاء في وصية جدنا، أنهم يكونون — في حال الخطر — يدًا واحدة، لا يأذنون للخلافات أن تنشأ، إذا حدث لأحدهم ما يؤذي، بادر الجميع إلى إغاثته.

تخلل صوته نبرة تحذير: حصول كل الورثة على ما يستحقون سيفتت الوقف … تزول عائلة المطعني.

عائلة المطعني شجرة هائلة، جذورها في باطن الأرض، تفرع من جسمها أغصان وأوراق، ما نسميه شجرة العائلة. تغيب دعوى الخوف من التفتت بعدم المساس بالميراث، زيادته وتوسيعه، قصر حصول الورثة على جزء مما يطلبون من الأنصبة، دون خدش لبنية الوقف.

هز رأسه في استياء: صار للشيخ حتحوت — لا ندري كيف — شجرة نسب تنتمي إلى عائلة المطعني.

تداخلت — بالانفعال — حشرجة في صوته: لم أعد أريد من الوقف إلا إثبات الحق، تأكيده. أعرف أن العصفور في اليد أهم عند الورثة من العصافير العشرة التي ربما لا تكون فوق الشجرة.

أدرك أنه أخطأ التعبير، فاستدرك قائلًا: خطر إنكار الوقف يتهدد الجميع.

علت شفتيه ابتسامة مشوبة بالحذر: إن لم نلحق شجرة المطعني فسيلتهم ثمارها الغرباء.

واصلنا الكلام في سيرنا المتباطئ على الأرض الترابية.

رفع ناحيتي نظرة متأثرة: لن أتحدث عن شبابي الذي أجده فيك. أنت لم تعد شابًّا.

واغتصب ابتسامة: متزوج؟

– لأحفادي أبناء.

– أملي أن تفلح فيما لم أستطع إدراكه.

وأنا أخلي له ساعدي في الطريق إلى البيت، فاجأني بالسؤال: أين تقيم في الإسكندرية؟

– فندق سميراميس.

– أين؟

– يطل على ميدان الرمل.

– تركتم بيت إسماعيل صبري؟

– من زمن.

– لك بيت في الإسكندرية؟

– أفضل الإقامة في الفندق.

– والعائلة؟

– طال غيابي عن الجميع.

شابت صوته رنة تحذير: ما حدث يستفزني للعودة.

شرد في هيئة من يتأمل التعبير، لاحت على وجهه ابتسامة شاحبة: خذ مفتاح الكابين … أعاده لي من احتفظوا به فترة غيابي عن مصر، أصلحوا الدعامات والعوارض الخشبية وبدَّلوا كالون الباب.

ودفع نظَّارته الطبية على أرنبة أنفه: ربما تظل في بحري حتى تجد قضية الوقف حلًّا.

ورفع كتفيه، ومط شفته السفلى: نحن نواجه ما أتصور أننا تغلبنا عليه في ميدان التحرير.

وهز إصبعه في الفراغ: سنواجه الكثير، فلا تيأس!

قلت وأنا أتهيأ للانصراف: ما أسوأ الأيام التي تتذكرها في السنين الماضية؟

– محاولة اغتيال نجيب محفوظ.

أخليت مشاعري للدهشة: ماذا؟

قال لنظرتي المتسائلة: أرفض مواجهة الرأي المخالف بالعنف، علا صوت فرج فودة بما قد يزعج الكثيرين، لكن الحوار بالقتل أبطل كل الحجج.

وخرجت الكلمات من شفتيه متثاقلة: قاومتُ السلطة بالكلام وليس بالسلاح. الدماء تجلب الدماء.

ثم وهو يركز نظراته على نقطة غير مرئية: افعل ما تراه صوابًا، لا تنشغل بردود الأفعال.

ترامى صياح نَورس، التفتُّ — بعفوية — إلى مصدر الصوت: تعلمت أن أحب الناس، أساعدهم بما وسعني، وإن ظللت حريصًا على عدم الحاجة إليهم، والعيش في حالي.

ولاحت على شفتيه ابتسامة وليدة: عندما يتقدم بنا العمر فإن معاملة الناس تتغير إلى الأفضل.

زايلت الابتسامة وجهه: يشفقون على الشيوخ لأنهم في موقف الضعف.

قلت لأداري تأثري: أتمنى لقاءك في القاهرة.

قال: لم يعد في العمر زيادة أتوقع إنفاقها خارج الإسكندرية.

– أطال الله عمركم!

– إذا طال عمر الإنسان فلا بد أن يصبح عجوزًا.

وغلبت الحشرجة صوته: أنا الآن أعاني عجز الشيخوخة، ما أحياه مجرد محطة انتظار، حتى يأتي ما أريده، ما أتوقعه.

أدنى الفنجان من أنفه، يستنشق رائحة القهوة قبل أن يبدأ في احتسائها.

– لم يبق لي من العمر إلا القليل، أملي أن يحصل فيه آل المطعني على حقهم في الوقف.

صمت لثوانٍ، تلفت حوله بنظرات شاردة، تنهد، وقال: إذا كان قد حان وقت جلوسي في الظل، فمن المهم أن أجد من يمتلك العافية والوقت ليدافع عن حق الورثة، يحفزهم للدفاع عن حقهم الضائع، يعوض إخفاقهم باسترداد ما فقدوه.

حدجني بنظرة وامضة: أعرف أني أعيش لحظات عمري الأخيرة، قد يوافيني الأجل قبل أن يذهب الوقف إلى مستحقيه.

ضرب بعصاه الأرض: إذا سكت المطاعنة عن الحفاظ على ما ورثوه، إذا تركوه لمن جعلوا أنفسهم أوصياء، ثم نسبوا إلى أنفسهم حتى اسم المطعني، فإن الوقف سيصبح ملكًا للغرباء.

خيب توقعي أن يصارحني بأنه فعل كل ما يجب فعله، وأنه لم يعد لديه ما يستطيع أن يقدمه لانتزاع الوقف من أيدي سارقيه.

عاود ضرب الأرض: إذا أوقعتك ضربة، فاعتبر ذلك فرصة لاسترداد أنفاسك.

وفي صوت كأنه الحشرجة: أرفض التصور بأن ضياع الوقف حقيقة يجب التسليم بها، لا تسليم في الهزيمة الظالمة.

أدركت — في تلك اللحظة — أن كلًّا منا يعرف ما يفكر فيه الآخر.

قبل أن أميل إلى شارع الحجاري، التفتُّ ناحية المسافرخانة، إلى موضع في جانب الطريق.

كان الشيخ يلوِّح، مودعًا، بيد أثقلها الوهن.

استدار — ببطء — في اتجاه البيت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤