وقائع لا يمكن التنبؤ بها

شاطئ البحر فرصتي في الوحدة والتأمل.

بدا لي سهلًا قضاء أيام في الإسكندرية، بعيدًا — ولو إلى عودة — عن جلسات الوقف، ومطالب الورثة، وملاحظات الشيخ حسن وردي، ورفض الشيخ حتحوت، والصخب، وعما يضايقني.

أمام البحر، تأتي النسمات المنعشة، مفتوح الذراعين أستنشقها ما وسعني، كأنها تصب في أوردتي، الأمواج المتتالية تتكسر على رمال الشاطئ، في شريط متعرج من الزبَد الأبيض، تختلط بالأصداف والأعشاب والحصى وقطع الحجارة، تتقافز الأسماك، تحدث دوائر في المياه، تضيق، تتلاشى.

الأمواج لم تتغير منذ بداية الحياة، تهدأ وتثور، تولد الكائنات وتموت: البشر والحيوان والطير والزواحف والنبات، لكن الأمواج لا تموت، هي في حالة مد وجزر مستمرة، تجاوز ما تصادفه من عوائق، ولا تعرف الانتهاء.

أسير على الشاطئ، يداي معقودتان وراء ظهري، صدري إلى الأمام، أستمع إلى صخب الأمواج، وتكسرها على الرمال. الرمال مغطاة بالقواقع، والعلب الفارغة، والزجاجات، والأسماك الميتة. بجانب عيني أتأمل الأمواج والصخور وتحليق النوارس وتناثر البلنصات والفلايك وأفق البحر.

تظل طيور النورس في تحليقها، حتى تلمح فوق المياه شيئًا يتحرك، تهبط كالومضة، تلتقطه بمنقارها، أو تُنشِب فيه مخالبها.

كل نوع في طير السماء يحلق في سرب منفرد.

لماذا؟

لماذا تُحجم النوارس عن الدخول إلى مدى الآفاق؟ لماذا تقصر طيرانها على الساحل؟

ربما أفتح النافذة الصغيرة، أتنفس هواء الليل المحمل برائحة البحر، أضواء الكلوبات تهتز باهتزاز القوارب فوق الأمواج. أتمدد على الرمال، يحيط بي هدير الأمواج، والنسائم القادمة من البحر، واختلاط روائح الملح واليود والطحالب والأعشاب.

في داخلي تصرفات الشيخ مكايد حتحوت، لا مبالاة الورثة، سيرة الشيخة ذات الهمة، وأمور كثيرة، لم يأذن لي الشيخ حسن وردي بإفشائها.

تمنيت أن أفرغ مما شغلني، أكتفي بالتردد على شاطئ البحر، أدلي السنارة في الموج، أترقب جذبة السمكة الطُّعم.

نزلت بحري، لا أُعنَى بأسماء الشوارع، ولا إلى أين تمضي، الميل في اختراقي لها يفضي إلى طريق الكورنيش، اخترقت الشوارع المرصوفة بأحجار البازلت المستديرة، الصغيرة، الأزقة المتربة، الضيقة، الأبواب الواطئة، مفتوحة، يجلس على عتباتها نسوة ينقين الأرز، أو يقشرن الخضار. فُتحتْ نافذة في مواربة، أَطلَّ منها وجه لم أتبين ملامحه، لحظة واختفى.

على الجانبين صفوف من البيوت القصيرة، القديمة، والعمائر الحديثة. لشوارع السيالة وحاراتها وأزقتها رائحتها التي تذكرني بالحلقة، مختلطة بروائح الطعام وزفارة السمك وبقايا الخضر والطبيخ ومياه الغسيل والعرق والنوم والنُّفايات والبراز والبول والعطن ورائحة المجاري، وما يتسلل إلى الجسد بالخدر. لم يكن شارع الميدان بزحامه الصاخب الحالي، لا تعتذر عن اصطدام كتفك بكتف مارٍّ آخر، المارَّة محدودون، والباعة يُعنَون بالبضاعة وفصال الزبائن، علت الأصوات متداخلة، النداءات والصياح والصراخ والزعيق والشتائم، تداخلت في رأسي هتافات المتظاهرين، عظات الشيخ حسن وردي، نصائح الشيخ أبي البركات، غناء ياسين الحامولي، رفع الأذان من أبي العباس، إنشاد حلقة الذكر، صرير الترام في انحناءة ميدان إبراهيم باشا، أصوات الملاعق والسكاكين المترامية من مطبخ بيت المسافرخانة. لم يثبت صوت ما، نفضتُ رأسي، وواصلت السير.

رأيت — من قبل — كل شيء، هي الدنيا التي اعتدت السير فيها، لكن معظم الأشياء — لطول غيابي — كأني أراها للمرة الأولى. شعرت — في أثناء سيري — أني أنتمي إلى الناس والبنايات والشوارع الضيقة الكثيرة الانعطافات والانحناءات والحواري والأزقة أعرف الملامح والقسمات جيدًا، دون أن أحدق فيها، أو أعيد النظر إليها، مشاهد أخذت مواضعها في ذاكرتي، أعرف حتى الصور التي عبرتها دون أن أنظر ناحيتها، وخلفتها ورائي.

ندَّت عني صيحة دهشة لرؤية ضريح سيدي محمد شرف الدين، بالقرب من جامع علي تمراز: كيف لم أره؟!

مساحة صغيرة تحيط بالمقام ذي الكسوة الخضراء، تطل عليه الأعلام من وراء الباب الحديدي. لصغر حجمه، ولموضعه في زاوية الميدان، ظل غائبًا عن تلفُّت نظراتي.

هذا العدد الكبير من الجوامع والمساجد والمآذن والقباب والزوايا والمقامات والأضرحة، استعدت قول الشيخ حسن وردي: لأن الدنيا ضاقت بأهل بحري، حاولوا أن يتغلبوا على ضوائقهم بالاتجاه إلى السماء.

تمشيت على أرصفة الميناء، بين اللوادر والخطاطيف الحديدية المدلَّاة من الأوناش والشاحنات وقاطرات المازوت وعمليات الشحن والتفريغ وحبال السفن وشباك الصيد والفلايك الصغيرة وبلوطات البضائع ورصات الأجولة والصناديق ورائحة العطن والزيت المتسرب، أرقب البواخر الضخمة واللنشات والفلايك الصغيرة، أقرأ الأسماء على جنباتها. من حولي مشهد غبت عنه أعوامًا طويلة، جنود البحرية وخفر السواحل وعمال الميناء، هياكل البلنصات في القزق تغطت بالشباك، وضعها الصيادون لتجفيفها، وطيور البحر تشكل سُحبًا متقاربة من الصخب، تختلط صفارات السفن ونداءات سائقي سيارات النقل وعربات الكارو وأصحاب القوارب والعاملين في الميناء وصراخ النوارس في امتداد الساحل.

سرت وحيدًا على شاطئ الأنفوشي.

اللسان الحجري، الممتد في داخل البحر، صنعته كُومات الحجارة، يؤنسني وقع خطواتي، وتكسر الأصداف والقواقع تحت الحذاء. تنبهت إلى طائر نورس وحيد، يتجه — بسرعة — نحو الأمواج الساكنة، يصعد بسمكة تنتفض بين منقاره.

عربات النقل تصعد الدحديرة المفضية إلى حافة الشاطئ الجيري، تقذف بحمولتها من ردم البنايات المنهارة، تزيد مساحة اليابسة الداخلة في البحر.

حين تناهى وقع الخطوات إلى الفئران المتقافزة فوق قطع الحجارة البيضاء الضخمة، اختبأت في الشقوق.

لمحت الكابين.

رفع العجوز رأسه من رَفْو الغزْل في أصابعه، حدجني بنظرة متسائلة وهو يهز رأسه تجاه الكابين: هل تقيم هنا؟

– هي للشيخ حسن وردي. استضافني فيها.

لم يكن المكان بعيدًا عن الناس، خطوات قليلة تفصل بين موضعه والشاطئ، خطوات أخرى تمضي بي إلى قلعة قايتباي، أو تميل إلى اليسار في اتجاه حلقة السمك، وما تلاها إلى شاطئ الأنفوشي، حتى قصر رأس التين، ربما ملت إلى اليسار في امتداد طريق الكورنيش، حتى السلسلة وما بعدها. يجتذبني الشارع الجانبي إلى ميدان أبي العباس، أعبره إلى ميدان الأئمة. ربما اخترقت الزحام — من اليمين — إلى السيالة، أو — من اليسار — إلى الموازيني والحجاري والشوارع المتصلة بهما.

الكابين معزول عن الشاطئ، هياكل القوارب تفصل بينه وبين الكبائن الأخرى في اتجاه نقطة الأنفوشي.

تحسست المفتاح — براحة يدي — داخل جيب البنطلون. الباب الضيق يفضي إلى أرضية من الأسمنت.

واربت ضلفة الباب، الكابين ينضح برائحة الرطوبة، وإن تسللت نسائم هادئة، مشبعة برائحة الأعشاب والطحالب والملح، لا يبدو — من النافذة الصغيرة — إلا السماء وأفق البحر، أرقب الظلال وهي تزحف على ضوء النهار، تقضِم أطرافه، حتى تحل الظلمة تمامًا.

صحوت على الظلمة، الستارة المسدلة على النافذة صعَّبت تعرفي إلى الوقت، إن كان ليلًا أو نهارًا، تسللت نظراتي من وراء الخَصاص الموارَب، جعلت الظلمة من البحر والسماء شيئًا واحدًا.

اختلط — عبر النافذة — هدير أمواج الأنفوشي، بترامي أصوات أنفاس عالية، منتظمة، وترددات أنفاس، وحفيف أثواب، ووقع أقدام تغوص في الرمال، في أذني قول حسن وردي: مكايد حتحوت يريد ضم الكابين إلى أملاكه، فعل كل ما يستطيع لإبعادي عنها.

وقفت وسط الكابين، أعاني الوحدة والخوف، أرهف السمع للأصوات في الخارج، هبات الريح، صخب الموج، صياح الطير فوق الساحل، أستبين توقعات الخطر، الأشياء الصغيرة، المتناثرة، ارتدَّت من السقف والجدران، قذف بها ضغط الهواء.

هل ما رأيته حقيقة أو حلم أو هذيان المعاناة التي قيدت أفكاري وتصرفاتي؟

أخلو إلى نفسي — أوقات السحر — في الكابين، تتكاثف الظلمة إلى حد انعدام الرؤية. أتوقع، وأنتظر لحظات انبثاق الفجر، أعرف معنى تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود. اللحظات تسبق البزوغ التدريجي للفجر، لا أشعر بكيفية اقترابها، ألحظ تأثيراتها على المرئيات من حولي، كأنها غِلالات بلا حصر، كلما نقصت غِلالة رقَّت الظلمة حتى أتنبه — لا أعرف متى، ولا كيف — إلى قدوم النهار.

الموج الساكن يُضوِّي بأَلَق بقايا زيوت البواخر العالقة فوق المياه.

لا صوت، عدا ملامسة الموج للشاطئ، وأصوات متباعدة لموتور لنش، أو صفارة باخرة في الميناء الغربي.

بدا لي أن الكابين تتخلله ثقوب، وأن الثقوب تنظر منها أعين لا أعرف أصحابها، عشرات الأعين تحدق في داخل الكابين من كل الجوانب، مجرد النظرات التي لا أعرف إن كان الفضول هو الذي يدفعها، أو أنها تُعِد لأمر يصعب فهمه.

نهضت مفزوعًا، أضأت نور الكابين، انسحبت الأعين الملتمعة، عادت الجدران إلى استوائها.

مددت إصبعي، وضغطت على الزر، ظل النور مطفأً. أدركت أن التيار الكهربي مقطوع. دفعت قبضتي في موضع النافذة، لكن الظلام بقي سادرًا.

عانيت حيرة لإضاءة الكابين، كنت أطفأته حين غادرته، أو للظلمة التي تلفُّه، وكنت أضأته، فتظل تلك حاله عند عودتي.

الكابين كلها من الخشب، السقف من عروق الخشب، قائم على أعمدة خشبية، حتى الأرضية تغطت بقطع خشبية متلاصقة.

تنبهت على جلَبة، كأن خطرًا يرج الباب، ترامت أصوات غريبة، ليست من البحر، ولا من الأرض، يختلط فيها النعيق والزئير والهديل وصفارات البواخر، وأصوات أخرى موحشة، كئيبة. تضوَّع أريج بخور لم أدر مصدره، أعقبه اختلاط روائح الملح واليود والطحالب والأعشاب والأسماك الميتة.

لم ألحظ متى أطلَّت العينان الواسعتان من النافذة المفتوحة. هل قدم الكائن الغريب من البحر، أو أنه كان ينتظر على الشاطئ؟

الجسد العملاق، الشعر المهوش المحيط بالوجه، العينان اللتان تصدران شررًا.

انتصب الكائن كمارد. تقلصت يداه المِخلبيتان على حافة النافذة.

انتفضت مفزوعًا، صارخًا، على ما رأيت، لا أعرف إن كان الجسم الغريب قد فتح النافذة، أم أني نسيت إغلاقها؟ وهل حدث — أمام النافذة — ما أيقظني، أو أني صحوت من تلقاء نفسي؟

سد الكابين الخشبي بجسده العملاق، لا أعرف طوله ولا عرضه تمامًا، عمقت الظلمة بسد النافذة، فلم أر شيئًا، لم أر حتى نفسي.

لم يلبث الجسم الغريب إلا بمقدار ما رأيته، ظهر، ومضى، فيما يشبه الومضة الخاطفة، ابتلعته ظلمة الليل، لا أعرف إن كان قد اتجه ناحية السماء من نفسه، أم من صرختي العالية، الخائفة. اخترق الظلمة دون أن يخلِّف أثرًا — عدا الخوف في داخلي — أشبه بما يفعله إلقاء الحجر في البحر، يصنع دائرة، تتسع في البداية، ثم تضيق، وتتلاشى.

ظننت الأمر حلمًا، أو كابوسًا، لكنه لم يتبدل وأنا واقف داخل الكابين. تملكني الإحساس بالخطر، وأني غير قادر على معرفته، أو مواجهته.

هل يسكن البحر، أو أنه اختفى في الأفق؟ أو لعله من سكان تحت الأرض، يظهرون في الأوقات التي يختارونها؟

تألمت لوخز الأعشاب، أدركت — لتألم قدمي — أني تركت الكشك حافيًا.

كتمت أنفاسي حين سمعت وقع ابتعاد أقدام على الحصى والأصداف.

حدقت في مقبض الباب، أتوقع تحركه، لكن الصمت ظل سادرًا.

عرَفت من النقرات فوق السطح أن المطر بدأ في الانهمار، قلَّت النقرات، تساقطت متباعدة، توقعت سكوتها، تلاشيها، لكن وقعها تزايد، وتقارب سقوطها، وعلا صوتها، تحولت إلى مطر حقيقي، هطلت كسيل، تسربت إلى الداخل من الثقوب والشقوق، صنعت بِركًا في الأرضية الحجرية، شعرت أني في حصار اختلاط هدير الأمواج وصيحات الطيور وصفير البواخر، اهتز السقف والجدران، كأن الكابين يتهيأ للسقوط، أحسست بالاهتزازات تخترق جسدي، نسيت — في احتمائي بالكابين — خوفي من الظلمة.

توقعت أن تطيح الرياح العنيفة بسقف الكابين، ينهار قبل أن أستطيع الهرب.

تلفتُّ إلى الجدران في حيرة، أتبين ما إذا كان تحركها ناحيتي، ضاقت المسافة بين الجدران، وبينها وبيني، كأنها تهم بالإطباق، والسقف ينخفض في اتجاه الأرض.

أخذت الجدران تضيق، وتضيق، حاولت التراجع، لم أعرف كيف، ولا إلى أين. تلاشت الظلال، حدست أن الجدران ستواصل التضييق حتى تهصِرني، تقتلني.

رمقني الجسد الذي بلغ السقف، بعينين هائلتي الاتساع، كأنهما لحيوان لا أعرفه، لم أره من قبل، ثم اندفع نحو النافذة المفتوحة، واختفى في الظلمة. امتصه الصمت السادر، كأنه لم يكن.

قتلني الخوف.

أدركت أني لن أستعيد بصراخي — إن حاولت الصراخ — حتى الصدى، الصمت يشمل كل شيء، يمتد إلى نهاية الآفاق، البرد الشديد أخلى المكان: الساحل والشاطئ وطريق الكورنيش.

تقارب السقف والجدران، ضاقت المساحة من حولي، وفوقه، تقلصت، كأني في داخل زنزانة، داخل تابوت، قبر، يضغط بقسوة، يتداخل ما يحيط بي في جسدي، يطحن عظامي، يكتم أنفاسي، لا أقوى على الحركة، ولا الرؤية، ولا الصراخ، كمن انفصلت عن الدنيا.

شعرت أن الكابين يهتز في العاصفة، كأنه سيتقوض، أو يطير من مكانه.

تملكتني رغبة في الفرار.

لو أني فررت من الكابين قبل أن ينطبق، فسأجد حياتي.

تمنيت أن يلهمني الله، فأجد خلاصًا مما أنا فيه، منفذًا أغادر منه الكابين، أجاوز الحصار والتوقعات القاسية. أستعيد كلمات رزيقة القلقة، كلمات حسن وردي، أسئلة سكينة عن جدوي الميراث، صمت مرتضى وياقوت عن التعليق، هتافات الطلبة في خروجهم من بيت المسافرخانة.

بدا الشَّقُّ الطولي الضيق منفذًا محتملًا، أنفذ منه خارج الحجرة المصمتة، الشَّقُّ يأذن بما لا يزيد عن السنتيمترين، ما أستطيع أن أفعله هو أن أنفذ بأصابعي منه، وأحاول توسيعه، أضيف إلى مساحة الشق بما يساعدني على الخروج، أحاول، هذا هو ما أملكه. ربما لاحظ الناس في الشاطئ تحرك أصابعي، يحاولون إنقاذي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤