أول مقام الأمل

زاد تلفُّتي في المكان الخالي.

استعدت — وأنا أنظر إلى ما حولي — إحساس الألفة للمكان: الباب الحديدي الهائل، يفضي إلى صالة دائرية عالية الجدران، يحيط بها سلم من الناحيتين، ينتهيان إلى صالة مستطيلة، واسعة، تفضي إلى طرقات، وإلى الطابق العلوي، الطرقات موصلة بين الحجرات والمطابخ ودورات المياه والحمامات.

تترامى في مخيلتي — كالأصداء — أصوات انهمار الماء من الحنفيات والأكواب، وقرقعة الأواني والأطباق، تتردد في القاعة الواسعة تلاوات القرآن، لغط المناقشات، صيحات الطلبة ونداءاتهم على السلالم الرخامية العريضة، والدرابزين الحجري، غناء الشيخ ياسين الحامولي على إيقاع ما في أيدي الطلبة من الملاعق والسكاكين، يختار كلماته من مقام الراست، تعبر عن معاني الشجن والحب.

الطابق الأول تتداخل فيه حجرة شيخ المعهد والإدارة وحجرات الطلبة بحوائط خشبية، ومخازن العهدة، وحجرة المشايخ، والمكتبة. تدور على الطلبة — في مسامرات المساء — أكواب الماء البارد والشاي الساخن، تتكرر أدوارًا متتالية، يتوقف دورانها عندما تنتهي الإشارة بالمعنى. يمتد السهر إلى مطلع الفجر، يأخذنا السمر والنقاش والجدال والغناء، حتى يُرفع الأذان من أبي العباس، يؤدون الصلاة جماعة داخل البيت، ويمضون إلى حجراتهم. أقل من ثلاث ساعات، ثم يمدون أيديهم إلى القفاطين والكاكولات والعمائم، تأهُّبًا للخروج.

جاوزت المكان الذي اعتدت دخوله، في بالي أن أجلس إلى الشيخ حسن وردي، نأخذ ونعطي في قضية الوقف: هل تحركَت، أو أنها لم تغادر موضعها؟ يقدم الشيخ حلولًا يراها مناسبة.

لم أصادق الشيخ حسن وردي ولا خالطته، لكنه أحد الثوابت في ذاكرتي. تبتعد الصور، تتلاشى، حتى لمن كانوا قريبين مني. أنسى حتى الملامح، حتى الأسماء، أغمضت عينيَّ بتلقائية، واستغرقت في الصمت، لحظات حاولت خلالها أن أستعيد الصورة المرسومة للرجل في ذاكرتي: ملامحه الطيبة، نبرة صوته، إيماءاته وتشويحاته العفوية.

الشيخ حسن وردي هو الرجل الذي كنت أنتظره، وأبحث عنه، هو من سيعيد الصورة إلى تمامها.

محاولات الحصول على حقي في الميراث بلغت حائطًا مسدودًا. لم أستطع الوثوب من فوقه، ولا اختراقه، رفْضُ الشيخ مكايد حتحوت جعَل المستحيل أفقًا وحيدًا، عرَفت أن تحريك الساكن ربما أحدثه الشيخ حسن وردي، استمعت إلى كثير من مواقفه أمام الشيخ مكايد. لم تأخذ صورة المواجهة، نقل أفكاره وأقواله ورثة الوقف، ردَّهم حتحوت بكلمات معتذرة، أو طردهم من مجلسه، لما فاجَئُوه بالأسئلة والأرقام والوثائق الصحيحة.

تعددت الرسائل التي تطرح الأسئلة، تحول الشيخ حسن وردي إلى ذكرى في أذهان كثيرين. ثمة من عرَفوه بالاسم والهيئة، ومن عرَفوه — على البعد — من أحاديث آبائهم، والناس الذين تتلمذوا على يديه. ألِف الناس رؤيته في أكثر من مكان، يقف أمام مقام أبي العباس، يداه ممسكتان بالأعمدة المعدِنية، شفتاه تهمسان بأدعية وتهدجات، يسير مطمئنًّا في زحام شارع الميدان، يهبط السلالم من الطابق العلوي لجامع سيدي خضر، شوهد فوق مكعب أسمنتي في المينا الشرقية، دلَّى السنارة في المياه، وانتظر، وأشارت رواية إلى جلوسه — ذات عصر — على مقهى رأس التين، ورُوي أنه شوهد مع مريدي الطريقة الأحمدية الشاذلية، في طريقهم إلى ضريح سيدي أبي الحسن الشاذلي بحميثراء.

آخر ما أبلغتني به رسالة من أخبار الشيخ وردي، أنه يقضي سِنِي تقاعده في بحري. لا أحد من أئمة المساجد ولا الخدم يعرف أين يقيم الرجل، وإن تعددت الروايات عن رؤيته في تجمعات المظاهرات والاعتصامات، ترفض إشفاقي من أن شيخوخته لا تتفق مع زحام المظاهرات والهتاف والدخول في معارك محتملة مع الشرطة.

قال العجوز ذو التجاعيد المتداخلة في وجهه، والأنف الأشبه بمنقار، والسروال الأبيض الفَضفاض، الضيق عند الكاحلين: أمضى أشهُرًا يعظ الناس في زاوية خطاب، ثم اختفى.

استطرد كالمتنبه: أعرف أنه يسكن بالقرب من بيت المسافرخانة.

كأني رأيته من قبل، لكن الملامح التي تعيدني إلى ما عشته تغيب.

قلت: البيت مغلق منذ سنوات.

– جعله الشيخ مدرسة لتحفيظ القرآن.

ولاك في فمه ما لم أتبينه: كان البيت سكنًا داخليًّا، وليس معهدًا.

حاولت أن أتخيل الرجل في شيخوخته: هل ما زال يحفِّظ القرآن، ويدرس للصغار في المسافرخانة؟ هل يخرج من بيته؟ هل يتحرك أو أن العمر أقعده؟ هل تقتصر حياته على الانتظار، أو أن ذهنه متصل بالسنوات البعيدة؟

سبقني الولد إلى الحجرة الصغيرة، تلفها ظلمة شاحبة، إلى جانب البسطة الصغيرة خلف الباب. غاب — في القامة الضئيلة — ما كنت أتذكره. تخلى عن القفطان والجُبة والكاكولا والعمامة، ما كان يرتديه وقت إمامته في علي تمراز، لم تتبدل صورته بارتداء الجلباب الأبيض، الطويل الكمين، وفتحة الصدر ذات الأزرار الصغيرة، على رأسه طاقية بيضاء مشغولة بنقوش صفراء، ونظارة القراءة تطلُّ من الجيب العلوي. يلقي العباءة على كتفيه، بدلًا من إدخال جسده فيها.

وقف يحدق ناحية الباب، يده تحيط بعصًا طويلة. عرَفت أن صحته تعينه على الوقوف، وربما الحركة.

المنضدة الصغيرة إلى الجانب، أمامها دولاب بضلفتين، وتحيط بها ثلاثة كراسيَّ، عليها كتب تضاف إلى الكتب المصفوفة، والمتناثرة، على الأرفف، وفي أرجاء الحجرة. حتى الحائط المجاور للسرير المعدني، صُفَّت عليه كتب ومجلدات، إلا من نافذة حديدية. لِصْق الجِدار جهاز تلفزيون، ومكتب خشبي صغير عليه مجلدات وأوراق وقلَّامة يطل منها أقلام حبر جافٍّ ورَصاص. وثمة — على الجدار المواجه — شماعة من الخشب المخروط، في داخلها صورة للكعبة، ولوحة مرسومة بألوان الزيت؛ رجل يرتدي جُبة وقفطانًا، ويعتمر عمامة. حدَست أنها للجد المطعني. على الأرض كليم أسيوطي. يختلط صوت التلفزيون والضحكات والنداءات المترامية من الطريق، وصيحات لعب الأولاد والبنات في الصالة، وداخل البيت، ويترامى من الشارع — عبر النافذة — طنين الأصوات المتلاغطة.

اكتفى الشيخ بنظرة متسائلة.

قلت: أنا سامح نصير المطعني … من أقربائك.

أومأ بهزة من رأسه، يحثني على مواصلة الكلام.

– ومن تلاميذك في سيدي علي تمراز.

وضع راحة يده إلى جانب أذنه، أدركت أنه لم يسمعني.

أعدتُ ما قلت.

وضع رأسه بين راحتيه، يتقي الصخب من حوله، قال بلهجة معتذرة: تركت رضَّعًا يعبِّرون بالصراخ، عدتُ إليهم وهم يتعثرون في النطق، ثم عدتُ بعد أن أحسنوا الكلام بمفردات ذات معانٍ، جلست إليهم — فيما بعد — تأخذنا القضايا في حوارات، أنصت فيها إلى ما لم أكن أعرفه في وقتي.

وحدجني بنظرة متأملة: ظني أنك كنت طفلًا.

– كان نقلك إلى جامع القائد إبراهيم وأنا في الثامنة.

استطردت موضحًا: هذا ما أذكره.

زوى ما بين عينيه، ومال برأسه: أنا أذكر أشياء كثيرة، وإن لم تكن واضحة، ١٩٤٨م هو العام الذي أُنشئ فيه القائد إبراهيم، بعد ثلاث سنوات صدر قرار نقلي إليه من علي تمراز.

بدا أن الكلمات لا تصدر عن شفتيه، هما في حالة انطباق، الكلمات كأنها همهمة: قرن وكيل وزارة الأوقاف قراره بتخييري للعمل في مساجد أخرى، لعله راعى خاطر المصلين.

ورفَّت على وجهه ابتسامة: قلت للوكيل: أفضِّل صلاة الجمعة في القائد إبراهيم للطف جوِّه. وبَّخني الوكيل: اخشوشن!

وتنهد في ارتياح ظاهر: طول عمري عضو في جماعة تحض على التمتع بما لا يفسد القلب.

ثم وهو يداري تأثره: نطقتْ كلماتي ما أملَته الدُّعابة، لكن وكيل الوزارة وافق على طلبي، لو أني لم أنتقل إلى القائد إبراهيم، ربما صار علي تمراز هو الجامع الذي تلتقي حوله المظاهرات. ظلَّت التأثيرات في موضعها الجديد، حتى بعد أن سافرت إلى الحجاز.

غاب عن تصوري أنه سيهبني إنصاته. أعددت نفسي لإلحاح يرجوه البوح، لكنه تكلم كما لو كان توقَّع لقائي، وأعدَّ نفسه لأسئلتي، ورتَّب الأجوبة، ينتقي تعبيراته، يختصر مفرداتها. جذبتني العفوية في الكلمات، المطعني كلمة السر، دفعتْ إلى نفسه ما ظهر على ملامحه من طمأنينة، غاب التشكك والريبة، كأن صداقتنا قديمة، فهو يصل ما انقطع.

لاحظ تفحصي للعصا المطعَّمة بالصَّدَف في يده، قال: اشتراها لي أكبر أبنائي من رحلة إلى الخليج.

قلت: هل السفر إلى السعودية اختيارك؟

– سافرت إلى الحجاز مضطرًّا، صعب أن أحيا في الثلاثين بلا عمل ولا نقود.

– سن صغيرة لوظيفة الإمام.

– إمامتي في علي تمراز أول عملي بعد تخرجي في الأزهر. أمضيت أربع سنوات في مرحلة التعليم الابتدائي بدمنهور، المسافة قريبة إليها من شرنوب، السنوات الخمس التالية قضيتها في بيت المسافرخانة، أتنقل بينه وبين معهد الورديان الثانوي. لم أهجره حتى بعد أن اعتدت السفر إلى القاهرة لاستكمال دراستي بالأزهر.

كانت وقفتي فوق المنبر في وقت انتشار الكوليرا. طويت الورقة التي وزعتها وزارة الأوقاف على خطباء المساجد، لاحظت — بعد قراءة أسطر قليلة — لامبالاة المصلين. تكلمت عن خطر الوباء، لم ينشأ من ذاته، بل هو نتيجة التآمر والإهمال، إبعاد الخطر لا يحدث بالوقاية، وإنما بالمحاسبة والعقاب. لم يصل الوباء إلى الإسكندرية، لكن الخوف تسلل إلى كل بيت، النواهي والمحظورات والمصادرات وريح الموت. وظيفتي في الجامع — كما حددتها الأوقاف — إمامة المسلمين في الصلوات الخمس المفروضة، لأول أوقاتها الشرعية، وفي قيام شهر رمضان، وصلاتي الخسوف والكسوف عند وجود سببها الشرعي، لم يفرق التحديد بين الإمامة والخطبة، فانطلقت عظاتي في آفاق رأيتها حولي. عرَفت في نفسي إجادة الارتجال، لا أرقى المنبر بأوراق كتبتُها، ولا كتيباتٍ من التي اعتادت وزارة الأوقاف توزيعها على أئمة المساجد، ما يوائم قناعتي أتحدث فيه، أستمده مما أراه، وأعيشه. إهمال الحكومة في منع الوباء، وفي مكافحته، سَدَى خُطبي الأولى.

بدا منطلقًا، شحب ما أظهره — في البداية — من حذر، لم يعد يتأمل في ملامحي رد الفعل لكلماته.

– عكست عظاتي تأثري بما جرى في البلد.

ربت كتفي مستطردًا: رعاية مصالح الناس أفضل من تعليم صحة الوضوء.

حرص على إمامة المصلين في صلاة الجمعة، وفي الصلوات الخمس، إن تأخر دخوله صحن مسجد علي تمراز في موعد إحدى الصلوات، ظل المصلون في أماكنهم، يتطلعون إلى قدومه من الباب المطل على ميدان «الخمس فوانيس». إذا تعذر عليه — لسبب ما — إمامة الصلاة بنفسه، فإنه يكون قد أوصى بمن يخلفه فيها.

كان نور اللمبة قد تلاشى في نور الضحى، مال الشيخ على زر الإضاءة، فأطفأه.

– تبدل المكان، وإن لم يتبدل المشهد. كانت خطبة الجمعة وسيلتي الوحيدة للقاء من تهمهم كلماتي. علي تمراز مقصد كثيرين من الإسكندرية والمدن القريبة، يحملون السجاجيد الصغيرة، توقُّعًا لشغل الحصر حول الجامع، فيُصلُّون في نهاياتها. تترامى صفوف المصلين في الشوارع المتصلة بالميدان، إلى امتدادات الشوارع المتفرعة.

لم أَعُدْ — بعد قرار نقلي — أستطيع البقاء في الإسكندرية، أخطب في جامع القائد إبراهيم أو سواه، أخفقت في التكيف مع الواقع، فتركته.

أضاف بصوت مفعم بالأسى: لأني أزمعت الغياب الطويل، فقد بعت معظم كتبي، والكثير من ملابسي وأمتعتي، لم أترك إلا القليل مما يسعه البيت بعد أن يكبر أبنائي الثلاثة.

قلت: كنت طفلًا، لكنني أتذكر تأثيرات ما تقول في جلسات أبي وأصدقائه.

قلب شفته السفلى: كان الناس يؤدون صلاة الجمعة في علي تمراز لأن الخطيب ينتقد الحكومة.

زاد في تحريك العصا: عملي هو الإفتاء في الدين بما أعلم، لكنني لا أستطيع أن أهمل السياسة.

أطلق ضحكة قصيرة: أعرف أن الحديث في السياسة يفسد كل شيء.

تَنبَّه إلى المفارقة في كلماته، استطرد قائلًا: كانت خطبي عن البلد، هذا حق للجميع.

اتجهت عيناه ناحيتي، أيقظ في داخلي ما لم أنسه: آلاف المصلين يغطون الميدان أمام علي تمراز، وامتداداته في الشوارع، تلاوة القرآن، رفع الأذان، الإنصات السائد لخطب الجمعة، تهامُس أصوات المصلين ونداءات الباعة عقب انتهاء الصلاة.

قال: كثيرون قدِموا إلى الجامع من مدن بعيدة، لأداء صلاة الفجر خلفي.

هذه الأعداد الهائلة من المصلين، في حرصهم على سماع خطبي، كانوا سيغيبون لو أنهم وجدوا في شيخ الجامع واعظًا للسلطان.

اعتدتُ امتلاء الجامع إلى حد صعوبة اختراق الصفوف إلى المنبر، يكثر اعتذاري، وأنا أحاول السير لِصق الجدران، في نصف دائرة، حتى أبلغ المنبر، فأرتقيه. هُداي كلمات العلماء الكبار الراحلين، لم يمشوا في ركاب الحكام، ولا أحنَوا رءوسهم بالخشوع والذل. لم أخَف السلطان قدر خوفي من الحريصين على إرضائه. اتهمت القائمين على الحكم بمخالفة الشريعة، وأخْذ الرِّشا. وكنت أشتَمُّ التملق، وأرفضه. يعمل الإنسان بالسياسة عندما يشغله الشأن العامُّ، إذا كان شاغله الشأن الشخصي فأولى به الانكفاء على نفسه. ساءني قول الشيخ حتحوت الكبير: هل أصبح الدين جناية؟

أدركت أنه يطلب الإجابة التي يريدها.

قلت: بل من يستغل الدين.

تصورت واجبي عند الحاكم أن أساعده على الحق بنصائح مقبولة. رفضت عرضًا من وكيل وزارة الأوقاف بالإسكندرية أن أزور سراي رأس التين، فترة إقامة الملك الصيفية. إذا كان عنده ملاحظات، فعليه أن يرفعها إلى مقام الملك.

لاحظت في عينيه أنه لم يسمعني جيدًا، قلت في نبرة تعمدت أن تكون واضحة المخارج: أعرف أن السلطان هو من يجب أن يسعى إلى عالم الدين، وليس العكس.

قال الشيخ مكايد حتحوت: اشتغل بالقرآن والعلم، لا شأن لك بأحوال الناس.

في نبرة متحدية: القرآن والعلم يدعوان للاهتمام بأحوال الناس.

أشاح الشيخ بيده: من يناقش آراءنا عليه أن يبحث عن مكان آخر.

امتدت آفاق الخلاف بين الشيخ مكايد حتحوت وبيني، تكاثرت الغيوم، فحجبت الرؤية. شعرت أن ما بيننا من خيوط قد انقطعت.

لم يكن يثبت على آرائه، ما يقوله اليوم يتناساه في الغد، وإن حرص على أن يفتي في كل شيء، ربما تستَّر بالفقه لفرض ما تلغيه تعاليم الدين. له قدرة غريبة على الجدال، والرغبة في الانتصار، حتى لو ادعى ما لم يحدث، أو استشهد بأقوال غير صحيحة، يرفض الأخذ بالحجج والبراهين، ما يراه ويقضي به هو ما يجب أن يؤخذ به، لا يرجع إلى مصادر أو مراجع، ولا يحمل أوراقًا تعيِّن آراءه. حتى ما يغيب عن علمه وفهمه يُبدي فيه رأيًا قد لا يطمئن هو نفسه إليه، مجرد أن يرُدَّ، ويعارض، يميل إلى الجدل الصاخب، والمناظرات التي تعيد منافرات الجاهلية، والكلام لمجرد إثبات القدرة، أو الثرثرة. وظيفته إدارية، لكنه يقضي في كثير من الأمور، دون أن يرجع إلى شيخ المعهد — آنذاك — فوزي العقدة. منحه الشيخ ثقته، فهو يفعل ما يراه صوابًا. يخفي انفعالاته، لا تبيِّن ملامح وجهه عما يشغله، تنفرج شفتاه عن ابتسامة عصبية، تظل أسنانه مطبقة، كأنه يتوعد.

عمِل على تنفير الطلبة من حضور مجلسي في زاوية خطاب، شكَّك في قيمة ما أطرحه من اجتهادات وأفكار، لم أصدق ما رُوي لي عن إفتائه بحرق ما تصل إليه أيدي الطلبة من أوراقي.

أنا لا أميل إلى تكفير الناس، هو الكفر بعينه، من يدعي ذلك ينسب لنفسه حقًّا من حقوق الله!

يعجِز الطلبة أمام تبدل مشاعره وتصرفاته والكلمات التي يفاجئهم بها، معرفةِ إن كان مزاجه رائقًا أم متعكرًا، لا يدركون «الحالة» إلا بعد أن يطالعهم القول أو الفعل.

أبرز ما ميَّزه: عينان جاحظتان، ولُغد ممتلئ، في وجهه آثار جدري قديم، وفي صوته خَنَف واضح. يحرص على الجبة والقفطان. (طفَرت البسمة على شفتيه) إذا صبَّ برادًا من الشاي، خص نفسه بكوب منه، يرشُفه دفعة واحدة.

فرض طاعته على طلبة المعهد، يلبُّون أوامره دون أسئلة، ولا مناقشات، ما يقضي به هو الصواب الذي يجب على الكل أن ينفذوه. لم يكن أحد يقوى على مجادلته، يمتلك صبرًا على الحوار والجدال، تتقلص ملامحه، وتصبُغ الحمرة وجهه، دلالة الرغبة في قول الكلمة النهائية. أذكر اهتمامه بفتوى شطَّاف المرحاض، إن كان يبطل الصيام.

تعددت الصفات التي أطلقها الشيخ مكايد حتحوت على معارضيه، فهم: حشرات، شواذُّ، عملاء، أولاد كلب، أنجاس، زنادقة، أذناب. قهرني الحزن لشعوري أنه مسكون بالكراهية، لا أحب الكراهية في نفسي، ولا أتصورها في الآخرين.

لما أخذت على الشيخ أنه يقتِّر فيما يحتاج إليه الطلبة من أمور المعيشة، ردَّ مؤاخذتي بحظر تقديم وجبات لي مما يُعدُّ داخل البيت.

ساءني الاتهام بأني حرَّضت على إلصاق منشورات على الأعمدة الخارجية لعلي تمراز، تدعو إلى الثورة. داخلني شعور بالأسى، من يجاهر برأيه من فوق منبر الجامع يرفض أن يتخفى وراء منشورات تُلصق على الجدران.

ظلِلت هادئًا في مواجهة الاتهامات التي نالني بها أئمة مساجد الحي، وخطباء الجمعة في الزوايا، الدعوة إلى الثورة على السلطان تخالف الدين في صميم قواعده، ونزع الشرعية عن الحاكم — حتى لو كان ظالمًا — ليس من الشرع في شيء.

علت شفتيه ابتسامةٌ يائسة: حتى أستاذنا الشيخ مصطفى عبد الرازق ذاق الأمرَّين على أيدي المشايخ.

اخترت الانسحاب من قضايا الوقف، إشفاقًا على عائلة المطعني، واحترامًا لسن الشيخ. لا أميل للتفكير في أشياء مستحيلة. أجاد الشيخ حتحوت الكبير بذر الفرقة في نفوس الورثة، تكاثرت دوائر الاختلاف، صار العداء بين الجميع مرضًا متوطنًا.

لم يكتفوا بإبعادي عن الوظيفة، ولا عن بيت المسافرخانة، لكنهم حرصوا على حصاري، فلا أجد حتى موضعًا أؤدي فيه الصلاة.

وجد في صلاة الجمعة بزاوية خطاب ما يناقض أحكام الدين، قال إن صلاة الجمعة لا تصح في المساجد، ولا الزوايا، ولا حتى الخلاء من الأرض، لكنها تقتصر على الجامع الكبير في المدينة، أو الحي، هو — في بحري — جامع المرسي أبي العباس.

خلع نظارته، جرى عليها بطرَف كمه، ثم أعادها إلى وجهه: كأنه أوكل للشيخ فوزي العقدة مضايقتي.

كان يفرض على الطلبة صمتًا، منذ لحظة وقوفه على باب القاعة: الجهامة لا تفارقه، العدوانية — سامحني الله — تكوين في طبعه، الخشونة في كلماته وتصرفاته تدفع الطلبة إلى الإمساك عن مبادرته بقول أو تصرف، إذا ثار فهو يلجأ إلى الانفعالات المتطايرة: الصراخ والشتائم والكلمات المتوعدة، يرافقه تطويح بيديه واهتزاز في كل جسده.

يحرص الطلبة على تقبيل يده الممدودة عند دخوله الدرس. يُلزمهم الصمت، لا يتكلم أحد توقيرًا لشخص الشيخ وعلمه. إذا استدعى طالبًا إلى حضرته، فإنه لا يأذن له بالقعود. لا يشجع الطلبة على الأسئلة والنقاش، يسأل الطلبة، نبرته القاطعة ترفض المناقشة والأسئلة، يطلب الإجابة بنعم أو لا، لا يأذن بالاستطراد، يجيب الطالب عن أسئلة الشيخ، أو يصغي إلى ملاحظاته، وينصرف دون تلفُّت.

أهملتُ العبارات القاسية والشتائم التي كان يقذفها طلبة لزموا حضرة الشيخ مكايد، أبعدهم الشيخ عن مجالسي، وضَع في أفواههم كلمات يقذفونني بها حين وجودي في بيت المسافرخانة. لم أدُس للطلبة على طرَف، وإن بالغوا في الإساءة لي، تصيدوا كل فرصة لكشف عيوبٍ من اختراعهم، ونسبة أقوال لي، لم تصدر عني، أو تبديل أقوالي، وصرفي عن القضايا التي تشغلني.

ترددت في الموافقة على الرحيل.

كنت على يقين من أن مقصدي أطهر بقاع الأرض، لكن عزوفي عن السفر والتَّرحال، ربما حتى الآن، جزء من طبيعتي. عدا ما تفرضه الظروف، فإني لا أنتقل من بلد إلى آخر، ولا من مدينة إلى أخرى، ولا من حي إلى حي، ولا مسجد إلى مسجد. أحب المكان، وأميل إلى الاستقرار، أُهمل حتى ملاحظاتي الشخصية، وأضع المكان في الصورة التي تغريني بالملازمة.

خشيتُ أن يدفعني نفاد الصبر إلى التصرف بما لا أرضاه لنفسي.

قال صديقي الشيخ ياسين الحامولي مهوِّنًا: إذا نذر المرء نفسه لقضية ما، فإن عليه ألا يتوقع مكافأة، وربما عليه أن يتوقع الأذى.

عدا ياسين الحامولي، فإني لم أودِّع أحدًا من الأصدقاء، اقتصر ما أحمله على جواز السفر، وحقيبتين، متوسطة وصغيرة.

فترة عملي في الحجاز استراحة محارب، ابتعدت عن الوعظ الديني، وإن لم أبتعد عن الفقه، أضفت اجتهادات ابن تيميَّة وابن حنبل ومحمد بن عبد الوهَّاب إلى ما كنت تعلمته من مذاهب الإسلام.

تابعت — في الحجاز — تحوُّل أسرتي الصغيرة إلى فروع من عائلة، تعددت البيوت التي سكنها الأبناء والأحفاد، وزادت الوجوه التي اعتدت مناداتها لي بالقول: جدي.

لا أدري، ماذا كان يحدث لو أني عشت بمفردي، لو أني بلا أسرة، بلا أبناء وحفدة، قلَّلوا من تأثير رحيل الزوجة. أضيق — أحيانًا — بالصخب، لكن تصور الحياة في الوحدة يستدعي الشيخوخة والعجز وافتقاد العون والمؤانسة. كلما مضى العمر، أحسست أني أشد وحدة مما كنت، تغيب ملامح ألِفتها، تتحول الذكريات إلى أطياف أو أشباح، معظم ما أذكره لا صلة له بخبراتي الشخصية، لم أعايشه ولا شاهدته، وإن استمعت فيه إلى حكايات، وقرأت ما يتيح لي إبداء وجهات نظر.

أشار إلى الدولاب الخشبي ذي الضلفتين: هنا ثيابي القليلة وكتبي الكثيرة، هذا ما تبقَّى من دنياي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤