رتق ما انقطع

تحدَّث عن حركته القليلة ما بين البيت وبيت المسافرخانة، يمضي من المسافرخانة إلى شارع صَفَر باشا، حتى فرن حبيب بطابقه الوحيد على زاويتي صَفَر باشا ورأس التين، يستقل الترام المتجه إلى المعهد الديني بالورديان. آخر النهار، يعود من الطريق نفسه. ربما اختصر الطريق من سيدي أبي وردة عبر عطفة السلاوي، أو شارع حلابو، إلى المسافرخانة.

نظر إلى حارس البيت — في أول زياراته — بإدراك أنه لم يره من قبل، سبقه حراس آخرون، عم شرنوبي آخر من صافحه وهو يغادر البيت قبل رحلة الحجاز، لا بد أنه طعن في السن، أو مات، يذكر ملامحه الهادئة، التلعثم الطفيف في جانب فمه، نبرات صوته المحملة بلكنة الجنوب، ملامسة طربوشه حاجبيه الكثيفين، نظارته المكسورة الإطار، المربوطة بسلك رفيع.

لم يضق بوصف عم شرنوبي أنه دودة كتب، أو أنه قُراضة، ينتظر العجوز — خارج الحجرة — نداءه لترتيب الكتب على الطاولة الخشبية المستطيلة، أو فوق الأرفف. الأرفف العالية امتلأت بالكتب والمجلدات، أمامه — في مساحة محدودة — دواة، وقلم حبر، وأوراق يكتب فيها ملاحظاته.

امتدت قراءاته إلى خارج مكتبة بيت المسافرخانة، تردد على المكتبة الحجازية بشارع الميدان، ومكتبة أبناء الصفا وخلان الوفا بالعطارين، ومكتبات أخرى في بحري والعطارين وميدان المحطة ومحرم بك، أزالت كتب صبحي وحيدة ومحمد خطاب ومصطفى مرعي وأحمد حسين وفتحي رضوان غِلالات عن حقائق تعاني الشحوب. عرَف ما لم يكن يعرفه من مشكلات المصريين، عاش المشكلات، ولم يستطع التشخيص، ما بدا طبيعيًّا، ومسلَّمًا بوجوده، أخضعه هؤلاء الكتاب لتحليلاتهم ومناقشاتهم. أشاروا إلى ما لم يفطن إليه.

أخذتني السياسة من التصوف، ليس بالانصراف عن الحضرات والأذكار والابتهالات والإنشاد، وإنما بالانشغال بالتطورات السياسية: صراعات الحكم والانتخابات والمناقشات. لم تعد عِظاتي مقتصرة على الحلال والحرام، وما تدعو إليه الشريعة. تناولت مشكلات حياتنا، امتزجت بمتابعاتي لصحف الجمهور المصري والاشتراكية والملايين والوفد المصري. حتى المنشورات السرية التي تتسرب إلى أيدي المترددين على الجامع، كنت أعيد قراءتها، أضمِّن عظاتي ما بقي في الذاكرة، المعنى هو ما كان يشغلني، بعيدًا عن التأثيرات التي ربما تحدثها في نفوس أهل الحكم.

عندما اختارت الإدارة شابًّا للعمل في المكتبة، لفت نظري بحركته السريعة، وقدرته على الفهم والاستيعاب، هو خازن للكتب بلغة القدامى، زكَّى إعجابي به فطنتُه ويقظته. يرقب اتجاه نظراتي، يمضي ناحية الرف، تتقافز خطواته كأنه يطير فوق الأرض، يلتقط ما أريده، يجمع الكتب المتناثرة، يعيد ترتيبها، ثم يضعها في مواضعها فوق الأرفف، تعلو إلى قرب السقف، جعل لها الشابُّ فهارس تعين على البحث، تتخللها دواليب صُفَّت فيها الكتب، على كل دولاب قائمة باسم ما يحويه من كتب، قوامها الفقه وأصول الدين والحديث والتفسير والمنطق واللغة والمعنى والبيان والبديع، إلى جانب كتب النحو والصرف.

الكتاب وعاء الكلمات، مثلما أن الطعام له أوعيته. يُعنَى بحفظ ما في المكتبة من مؤلفات، ينفضها من الغبار، يتعهدها، يعالج إتلافها، وتمزيقها، وتفسُّخ صفحاتها. أتاح للطلبة قراءة ما يشاءون من أرفف المكتبة، يسحبون الكتاب دون استئذان، يجلسون إلى الطاولة لقراءتها. لاستعارة الكتاب شروط، يغيظه من يأخذ كتابًا ولا يرده. خصص كراسة لتسجيل أسماء المترددين على المكتبة، من يقتصر على القراءة في المكتبة، ومن ينتفع بالإعارة. يحذف الاسم بعد أن يوضع الكتاب في موضعه، يحرص على الاستعمال الجيد للكتب، يأذن بنسخ صفحات، أو الكتاب بأكمله، لم يكن يسمح بخروج الكتب إلى خارج البيت، وإن امتثل لأوامر المشايخ، بأن يأخذ الطلبة كتبًا تحتاج إلى أوقات طويلة لمراجعتها، يعيرها إلى الطلبة بضمانتهم، لا يعير شيئًا دون مقابل، أو برسم إعارة. يستعيد الكتاب، يرفض إعارته، وإعارة ما في المكتبة، لمن فرط في الكتاب، أو أساء استعماله بالكتابة، أو التمزيق، أو التوسيخ، أو التشويه أو التلف. يعرف ضيقي بالكتاب المطوي، أو المتسخ، أو المتآكل الأطراف، لو استطعت إعادته فسأفعل، النسخة التي يصعب تبديلها، تحرك أصابعي بالارتباك في الإمساك بالصفحات، أتحسسه، أعيد تأمل ما أساءت إليه القراءة الخاطئة.

لاحظت ميله إلى المطالعة، ينظر إلى عنوان الكتاب الذي طلبته قبل أن يقدمه لي، أرى الكتاب في يده بعد أن أنهي قراءته. تصورت — عقب عودتي — أني سأجد الشابَّ في موضعه، أذكر من اسمه عمر، أنسى بقية الاسم، وإن كان لقبه اسم مديرية كالمنوفي أو البحيري أو الشرقاوي، وما شابه. تلاشى التصور في تذكري أن الشاب لم يعد — بانقضاء السنين — شابًّا، وأنه قد كبر، ولعله مات.

قبل أن يترك الشيخ حامد أبو البركات موضعه في الإشراف على البيت، زكَّاني مقيمًا للشعائر في جامع علي تمراز. كنت أنهيت الدراسة في المعهد الديني بالورديان. شغلت — إلى جانبها — وظيفة المبلِّغ، خلف الإمام، أقرأ — بعد الصلاة — سورة الإخلاص، وما يتيحه الوقت من الأذكار والأحزاب.

أتاحت لي الدراسة في المعهد قراءة الأشموني وجمع الجوامع والمنهج ومختصر السعد. وجدت في الشيخ بابًا أنفذ منه إلى علوم الفقه والحديث والتفسير والنحو والسِّيَر واللغة والفتاوى والطبقات والتصوف، لازمت الشيخ، أخذت عنه الكثير من العلوم الناقصة، والآراء السديدة، والاجتهادات التي يصح الركون إليها.

عشِق التصوف، وأحبَّ المتصوفة، وإن كره ميل الشطحات إلى البدع، ومخالفتها الشرع. الصوفية ليست عصًا سحرية تعالج الأعراض والأمراض. جعل من الإمام ابن حنبل أستاذًا له في التفسير، إذا كان الموت قد غيبه، فإن تعاليمه واجتهاداته تظلُّ صالحة لمناقشة قضايا الدين، استخرج الأحكام — مثل ابن حنبل تمامًا — من النصوص، لم يلجأ — إلا عند الضرورة — لاجتهادات السلف والمعاصرين، يحرص أن يذكر المصادر التي رجع إليها، إن كانت القرآن الكريم، أم الأحاديث الشريفة، أم كلام المتقدمين. صار قدوة للطلبة في أمور الدين، ولأهل بحري فيه اعتقاد عظيم.

بيت الشيخ حامد المطل على الأنفوشي، من طابقين، له فناء وحديقة داخلية، يخلو فيها إلى ورود ملونة، يتعهدها بالسقي والرعاية، يفضي بابها الداخلي إلى صحن مستطيل، تحيط به حجرات صغيرة، جعلها لإقامة المريدين، من يطلب الخلوة، تنغلق عليه الحجرة، وتتشارك الجماعة في تلاوة القرآن، قد تستغرق مجموعة في دراسة الفقه داخل حجرة يظل بابها مفتوحًا، بقية الحجرات يستلقي فيها المريدون من مسافات السفر الطويلة، أو من عناء الذكر. شدد الشيخ أن تُهيَّأَ في البيت سبلُ الراحة، بما يعين المريدين على تحصيل العلم، والانقطاع للعبادة. رتَّب لذوي الحاجة من المريدين خبزًا ولحمًا وأرزًا وحلوى ومبلغًا من المال لمصروفاتهم الشخصية.

حجرته في الطابق الأرضي، جعلها لنفسه خلوة يتعبد فيها، منفصلة عن بقية الحجرات، لها باب مستقل ملاصق لباب البيت، يفضي إلى الطريق، يستقبل فيها زواره من العلماء، وخواصِّ المريدين. افترش الأرض كليم صوف مزين بالنقوش الملونة، ولِصْق الجدار كنبة، حدَست أنه يُحيلها — عند الضرورة — سريرًا للنوم. تناثرت الكتب فوقها، وعلى الكراسي، وعلى الأرض.

أيقنت — من جلوسي إلى الشيخ — أنه يتقن الفتيا في أنواع العلوم، حتى ما لا يتصل بفقه الدين والعلوم الشرعية والصوفية، يكثر من الأقوال والاستشهادات والتضمينات.

وضع الله في قلبه من الأسرار والحقائق ما حرص على ستره، حتى عن خواصه وأقرب مريديه، ما لا يجوز أن يعلمه غير الله، أو يطلع عليه سواه. إذا أراد الله أن يخص به امرأً، فلاعتباراتٍ يعلم بها الله وحده.

يعلق في ذاكرتي ميل الشيخ أبي البركات إلى الحزن، والعكوف على النفس، والانصراف عن حياة الناس، أضاف إلى مشاعره وفاة أولاده الثلاثة في حياته، ومغالبة التأثر وهو ينطق — على حافة القبر — عبارات التلقين. يخاطبني بندِّيَّة، عَلاقة صديقين، وليست عَلاقة أستاذ وطالب، تختلط الأسئلة والأجوبة والآراء المؤيدة والرافضة، وإن فصل الجدار غير المرئي بينه وبيني.

اعتدت استيضاح الشيخ ما يصادفني من وقائع عامة، أو أشاوره الرأي فيما يشغلني ومشكلاتي الشخصية، أجد في آرائه، وحتى في ملاحظاته العفوية، تفسيرًا لما استغلق عليَّ من مشكلات، ليس في الدين وحده، وإنما فيما أواجهه من ظروف، إن واجهتني مشكلة ما، سعيت إليه لسماع رأيه.

أحتاج إلى ملاحظاته ونصائحه ومؤانسته، ربما أشركته في أفكاري، نبع لا يغيض من العلم، بساطته تومئ إلى التحرر من القيود التي تفرضها العَلاقة بين الشيخ ومريديه. يقصده طلبة المعهد الديني والناس العاديون. تستغرقنا المناقشات في قضايا تأويل القرآن، الاجتهاد في الفقه، اختلافات فرق الصوفية. أذكر قوله: أكبر من مجرد خطأ لما يغلق الشيخ بابه في وجه من يسأله النصيحة.

يغمرني شعور عميق بالامتنان لكل ما يقوله. شيخ ضعف جسده، لكن ذاكرته لم تضعف.

ما صحة الرأي بأن المرء بتقدم العمر يتذكر الأحداث البعيدة؟

خصَّني الشيخ حامد أبو البركات بأمور لم يأذن لي بإفشائها. بقيتُ في بركته، وتحت نظره. لم أفارقه، ولا تغيرت عليَّ نفسُه، حتى ألزمه المرض بيته، لم يتركه إلا محمولًا على أعناق مئات من مريديه وعارفي فضله.

رحل الشيخ عن دنيانا دون أن يطرأ ما يشوب عَلاقتنا، أستاذ لا يبخل بعلمه ونصحه، وتلميذ يحرص على الإفادة من المعرفة، لا أفارقه إلا بإذنه وعلمه. الإنسان الذي يرضى عنه ربه هو من يحسن اختيار شيخه.

كانت ملامح الشيخ أبي البركات تنطق بالطيبة والهيبة، الوجه الأبيض المشرب بالحمرة، والعينان البنيتان الواسعتان، والأنف المستقيم، والعباءة النظيفة المكوية، رغم أعوامه المتقدمة فلم يسقط له سن، يده دائمة المسح على جبهته، حتى لو لم تكن مندَّاة بالعرق.

قال لي الشيخ: إذا كان للمريد سريرة يخجل من إظهارها لشيخه، فإنها تنفي المصارحة الواجبة في العَلاقة بين الشيخ والمريد.

حرصت ألا أكتم عن الشيخ شيئًا من أحوالي، لا أكتم حتى الأخطاء التي ربما وقعت فيها، حتى لو لم يكن ثمة ما يدعوني إلى ذلك. همَّني اللجوء إلى رجاحة عقله، فيسهل توقع الصفح، أو أنه بلغ درجة الذنب، فيحتاج التوبة وطلب المغفرة. لم أكتم الشيخ شيئًا من زلات أغرتني بها المراهقة، يبتسم الشيخ دون أن يعقب، يميل إلى قضية أخرى. بدا الشيخ أستر لي من نفسي.

رنا ناحيتي — ذات مغرب — بنظرة مشفقة: أجمل المتصوفة من يحفظ جوارحه من الذنوب.

أزمعت أن ألتقي الموت دون أن أتكلم عن أمور لم يأذن لي الشيخ بإفشائها.

عملي في علي تمراز لم يمنعني من البقاء في بيت المسافرخانة محل إقامتي منذ قدمت من حوش عيسى إلى الإسكندرية للدراسة في المعهد الديني، لا أغادره إلا إلى المعهد، وإلى جوامع بحري وزواياه، وحيدًا، أو في حلقة ذكر، أو حضرة إنشاد وقراءة للبردة داخل صحن البوصيري، أو مجلس للعلم وأحاديث السياسة في نادي الموظفين المطل على المينا الشرقية، وجمعية الشبان المسلمين بالرمل. في أوقات متباعدة، أميل من المسافرخانة إلى صَفَر باشا، خطوات حتى سينما رأس التين، أشاهد الفيلم المعروض، وأعود. كان ثمن تذكرة السينما ٢٢ مِليمًا.

وداد لأم كلثوم أول فيلم شاهدته في حياتي، دخلت السينما مع أبي في زيارة له إلى الإسكندرية. كنت في الرابعة عشرة من عمري.

التقطت — في دردشات المسافرخانة — كلمات ثناء على فيلم «ليلى بنت مدارس»، تقاسم بطولته يوسف وهبي وليلى مراد. إذا استثنينا أم كلثوم، فإنها مطربة زماننا. مِلت من خلف بيت المسافرخانة إلى شارع شيمي بك، شاهدت الفيلم في سينما الأنفوشي.

لقيني الشيخ حفني الخادم — ذات عصر — أهبط درجات سينما رأس التين، تقلصت ملامح وجهه: (لكزني بقبضته في صدري) أنت أزهري … الأزهري لا يتردد على المواخير!

غلبني الارتباك، تلفتُّ حولي في خشية من فضول النظرات، ثم لذت بزحام الشارع.

تبدلت الأحوال عقب الإمامة في علي تمراز، تحددت خطواتي بين الجامع وبيتي، الشوارع لا أغيرها، من ميدان «الخمس فوانيس»، إلى شارع رأس التين، فشارع الحجاري، أميل إلى المسافرخانة، حتى شارع راسم باشا، ومنه إلى مصطفى العربي، المفضي إلى أرض المجاورين، قبالة بيت المسافرخانة.

وشرد أمامه كمن يتأمل شيئًا: آخر عهدي بالسينما أفلام الأسود والأبيض!

لامس بعصاه كتف طفل في حوالي العاشرة — حدَست أنه حفيده — ليبتعد عن مجال مشاهدة التلفزيون: كنت أحرص — في نهاية كل زيارة إلى الإسكندرية — على أن أحدِّق جيدًا، أطيل المشاهدة، وتمعُّن التفاصيل، أحاول أن تظل داخلي في أيام الرياض.

حين أتلفت الآن حولي، أدرك كم تقدمت بي الأعوام. لم أعد ذلك الشاب الذي لا يمل التنقل في شوارع بحري. بدا كل شيء — في النظرة الأولى — على حاله، كأن الناس لم يتغيروا، ولا تغيرت صور الحياة، لكن إعادة النظر تبين عن الجديد الذي حدث، الدنيا التي عشتها في المدينة تغيرت، تبدلت الملامح كما تتبدل ملامح الإنسان، دون أن يلحظ متى، ولا كيف. تنبهت — متأخرًا — أن الإسكندرية المزدحمة بالأجانب تخلي نفسها لأبناء المدينة، تجلى المعنى في إحلال اللافتات والإعلانات باللغة العربية موضع اللغات الأجنبية، طالعني في ميدان الرمل وما حوله، كالأصداء البعيدة أسماء شيكوريل وأثينيوس وماجستيك ولورانتوس وتمفاكو وإيليت وزاراني وسانتي.

لم تعد الإسكندرية هي المدينة الجميلة التي عشت فيها من أيام الصبا، شيء لا أدركه يذكرني بالماضي، يطرح المقارنة بين ما كان وما نعيشه الآن.

أول أيام عودتي إلى الإسكندرية، حل في ذهني ما يشبه الومضة أن أعود إلى قريتي، نفضت الفكرة. حياتي في بحري ترتبط بأصدقاء ومعارف ومريدين، ما يغيب عن توقعات الحياة في قريتي، شرنوب.

بقيت على ما كنت أحرص عليه في علي تمراز: دروس المغرب، صلاة الجمعة، صلاة التراويح، التهجد، العظات والملاحظات التي تحملها الخطب. أعلم الأطفال في جلسات بيت المسافرخانة تلاوة آيات القرآن، لاحظت أنهم يخطفون قراءة القرآن، لا يتدبرونها، ولا يتأملون المعاني. أُعلِّمهم بعض علوم اللغة والحساب، أروي لهم قصص الأنبياء والصحابة والتابعين.

استغنيت عن فقيه يساعدني على التدريس، يختلف البيت عن المدرسة الابتدائية في اقتصاره على مدرس وحيد، إذاعة العلم بين الناس يجب أن تكون حسبة، لا يأخذ العلماء على العلم أجرًا، لذلك فأنا أُدرِّس مبادئ الدين حسبة للأولاد، وأُعلِّمهم فريضة البلاغ والبيان. لا أدير كتَّابًا، إنما هي جلسة يومية — خارج التعليم المدرسي — لتحفيظ القرآن وأحاديث الرسول، ومبادئ العلوم الأخرى. يلامس الأولاد المعرفة الدينية والمعارف الأخرى، بالإضافة إلى أن عددهم لا يجاوز العشرة، ذلك أقصى ما يطيقه الوقت والاستطاعة.

تمنيت لو أني أمتلك من العافية والوقت، ما يحفزني على البدء من البداية، أستأذن الأهل في تعليم الولد حتى ينهي المرحلة الابتدائية، يتعلم القراءة والكتابة وبعض الحساب، يحفظ القرآن، ويتثقف بآداب الشريعة، ويجيد أداء الفروض، بدت ظروف الناس حائلة دون أمنيتي، يفضِّل المقتدرون أن يتلقى أبناؤهم العلم في المدارس، بينما يَقصُر ذوو الحاجة تعليم الأبناء على فترات قصيرة، متباعدة، قبل أن يدفعوا بهم إلى مهن يرتزقون منها.

قصرت ترددي على البيت، أتنقل بين حجرات الطابق الأول، أشاهد الأطفال يتلون القرآن على القراءات العشر، أعلمهم اللغة والنحو، أروي لهم حكايات التاريخ، ساعة، أو أقل، ثم أنصرف، ممسكًا بساعد من يتصادف وجوده. أعود إلى البيت، أو أمضي ناحية زاوية خطاب، أقبل على ما عهدت به — في الأشهر الأخيرة — إلى نفسي من الجلوس إلى المصلين، أفضِّل الجلوس على السجادة، بدلًا من دكة المبلغ. الجلوس إلى الأرض، ليس بعده مرتبة ينزل إليها المرء. المصلون من حولي في نصف دائرة، متداخلة الصفوف. أعظهم بما حصلته من علوم الدين، أناقش مشكلات دنياهم، أنصح بما أرى أنه الصواب.

كان للزوايا — زمان — وضعها في دروس الدين والدنيا، اختلف الحال فاقتصرت على أداء الصلاة. هي زاوية، لكنها تؤدي دور المسجد الجامع، ولبعد مساجد طاهر بك وعبد الرحمن عن المسافرخانة وما حولها، فإنها تسع صلاة الجمعة.

عدَلتُ عن فكرة التدريس للأولاد في الزاوية، لتحفُّظ أئمة كبار من عدم تطهر الأولاد، وأنهم قد يسيئون إلى نظافة بيت الله.

جعلت وقت ما بعد صلاة ظهر الإثنين موعدًا للنساء، أعظ — تلبية لرجاواتهن — وأعلِّم أحكام الدين، وحقوق المرأة وواجباتها في الأسرة، وفي الجماعة.

صار بيتي مقصدًا لطلبة العلم، تطول جلساتهم، يسألون، ويناقشون، يستوضحون بعض ما غمض من فقه الدين، أجلس لتناول الطعام مع زواري، أؤمهم للصلاة، آخر ما عشته تقاسم وقتي في مجلسين، زاوية خطاب، والبيت.

جلسائي هم هم، وإن زادوا في الزاوية بالمصلين.

أذهب إلى الزاوية بالتحايل على نفسي، لم يعد من الميسور ترك حجرتي، وقطع المسافة بين البيت والزاوية.

وثبت نظارته الطبية فوق أنفه، ووشت لهجته بعدم الاكتراث: بلغتُ السن التي إن تركت الحياة فسيغيب السؤال: مم كان يشكو؟

ثم وهو يضغط على نظارته الطبية: إنها الشيخوخة.

أشرت إلى نفسي: أنا في المعاش.

– على من يتقدم في العمر أن يستمتع بشيخوخته.

وترك البسمة الهادئة على شفتيه: لكنني أحرص على متابعة نفسي، كيف أنصت؟ متى أتكلم؟ ماذا أقول؟ هل أكرر الكلمات، أو أعيد ما سبق قوله؟

ومسح صدره براحة يده: القراءة وسيلتي للاستمتاع.

أخرج منديلًا من جيب الجلباب العلوي، مسح به غبش العرق في نظارته: كَلَّ نظري … يقرأ لي أحفادي.

أضاف كلمات كثيرة عن العجز والشيخوخة، ومعاناة الأمراض، والتلفت، دون أن يجد من يعينه على الحركة، على ضرورات حياته، يهمس لإرهاق مطالبه: تعبت!

– تلك أوقات لا أحبها لنفسي، ولا لمن حولي.

وشرد في الفراغ بعينين ضيقتين: طول العمر لمن هو في صحتي إطالة لعذابه.

وطوَّح بالعصا: تكرر الموت في حياتي أكثر من مرة!

ران على صوته أسًى: أعرف من رحيل أهل وأصدقاء ومعارف أني لن ألتقيهم ثانية، وأن الدائرة تضيق.

رشف الشاي ببطء: اعتدت رحيل الأعزاء، صار الأمر مجرد أسماء، مجرد أرقام، اختلطت مواقعهم في النفس، فتساوت النظرة إليهم كراحلين إلى رحاب الله، أسأل عن فلان، أعلق على الإجابة: رحمه الله!

شدني أنه رفع الكلفة، اصطبغت كلماته بأبوة حانية: نحن نرى مصائرنا في أجساد من سبقونا إلى الموت.

شبَّك يديه أمام بطنه، وأحنى رأسه، كأنه يصلي: العظة المهمة أن من يحتويهم باطن الأرض أضعاف، بما يفوق الحصر، مَنْ يقيمون فوقها!

افترَّت شفتاه عن بسمة فاهمة: بلغت من العمر ما يقصر تفكيري في نفسي.

اهتز فنجان القهوة في يده: إن لم أفكر في نفسي فأنا أفكر في الموت.

قلت متشجعًا بعفوية كلماته: هل تخشى الموت؟

حدجني بنظرة متمعنة: ومن لا يخشاه؟!

دون أن يداري تأثره: الحياة جسر نعبره إلى الحياة الآخرة.

هززت رأسي مؤمِّنًا: الموت قدرنا … نهايتنا.

قال: إنه تأكيد على تساوي البشر في العبودية لله!

سكت. أبدى ملاحظة عن إضاءة لمبات الشارع رغم تقدم الضحى. قال: الناس متساوون في أداء الصلاة، وفي رقدة الموت.

زايلت الابتسامة شفتيه: مصالحة الموت تأتي بتقدم العمر، كلما أوغل المرء في شيخوخته، بدا له الحتم آفاقًا من سواد الليل لا نهاية لها.

وأشار بإصبعه إلى السماء: فكرة الموت أتقبلها. أنا أخشى الحساب.

وأغمض عينيه: هل تعرف كيف يتحلل الجسد؟

حدجني الشيخ في لهجته المتسائلة: قدمتَ من القاهرة لتراني؟

وأنا أغالب الحرج: أصارحك أني جئت لمهمة، عندما واجهت مشكلات قيل لي إن فضيلتكم تستطيعون حلها.

أشاح الشيخ بيده: التوجه إلى الله هو ما أفعله الآن.

قلت بلهجة معتذرة: إنها مسألة تخصني.

أزيد من عشرين سنة تفصل بيني وبينه، أحيا سن المعاش، شعوري بتقدم السن يشحب في جلوسي إليه. أعلم أني الآن أكبر — بسنوات كثيرة — من عمره حينما كان إمامًا لعلي تمراز. كنت طفلًا، وكان شابًّا في نهاية عَقده الثالث، لكن نظرة الطفل ظلت في الذاكرة، أتكلم بإحساس كبر السن، أتصرف بالإحساس نفسه، شيخ بين من يصغرونه، يلتقيهم، يخالطهم، إحساس مختلف يشملني وأنا أجالس الشيخ وردي، عصاه الطويلة في قبضته، أو مستلقية على كرسي بجانبه، أو معلقة على الحائط، أنصت إلى التجارب والعبر والنصيحة والتحذير، أشعر — أحيانًا — أني في حاجة إلى من يدلني على الصواب والخطأ.

هو الشيخ حسن وردي، وأنا الطفل سامح نصير المطعني. أتبين — في مجلسه — أني أكلمه بمشاعر الطفل الذي كان، كأني أحذر مضايقته وغضبه.

تنبه الشيخ إلى صمتي، أومأ لأستمر.

قلت: أنا في حاجة إلى رأيك فيما أقوله أو أفعله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤