السير في طرق الحيرة
قلت ما في نفسي، فرفع رأسه. عرَفت أنه لم يكن نائمًا، بل كان يحسن الإنصات.
ظل ساكنًا، يشرد في الفراغ كمن يتأمل شيئًا يراه هو وحده.
خالط نظرته المشفقة تأثر واضح: لم يعد يشغلني المستحيل.
خلع عباءته، ألقاها على كتفه: كأني قدمت من الحجاز لأخوض معارك لم تعد تخصني، وإن كانت تدافع عن حق أصحاب الوقف فيما يملكون. تعاقُب نسج المؤامرات، وتدبير المكائد. عانيت توقُّع ضربات لا أملك ردها، ولا أستطيع الفرار منها.
طبيعة الوقف حبس الأموال، لا يجري تداولها، أو التصرف فيها، يُحبس الأصل، يصير وقفًا، يحصل الورثة على ثماره دون أن يلحقه التفتيت، يظل صدقة محرمة، لا تمتد إليها الأيدي بالإساءة، ما يُدرُّه من عوائد يُنفَق على الورثة، يزيل العوز من أبناء العائلة الواحدة.
قوام المجتمع عائلات، إذا نفضت كل عائلة قسوة الظروف، فإن الأثر الطيب ينسحب على المجتمع كله. شجرة العائلة تتفرع إلى أغصان، لكل غصن أوراقه، الغصن الخالي من الأوراق بلا قيمة.
الوقف لتعميق الروابط بين أبناء العائلة الواحدة، الانتماء إلى العائلة، الجماعة، معنى وجود الإنسان في هذه الدنيا، لكن الشيخ مكايد حتحوت أشعل — بتدبيراته — نيران الخلافات بين مستحقي الأوقاف بعضهم البعض، وبين المستحقين والموظفين، وإن ادعى وضع قواعد تحقق العدل بين الورثة. تحول من نظارة الوقف إلى امتلاكه، حتى الموظفون تابعون له ولا يعملون في الوقف، حقق ثروة هائلة، وفرها له موظفون أجاد اختيارهم، خضعوا لأوامره، وعملوا على تنفيذها.
ومط شفته بمعنى الحيرة: كلهم ينتسبون إلى عائلات أخرى، لا شأن لهم بالوقف.
وعلا صوته بنبرة محذرة: عندما ينتقل الوقف إلى عائلة غير عائلة المورث فتلك مخالفة لشرع الله.
تنبهت إلى حركة يده، دائمة التعديل لوضع نظارته الطبية على أنفه، ربما نزعها، يجري عليها بقطعة قماش، أو بكُمِّ جلبابه، ثم يعيدها.
– اكتفى الأزهر بتدريس علم الحساب بين العلوم الأخرى لضبط أحكام المواريث.
وهو يداعب حلمة أذنه: لكن الشيخ حتحوت أفسد الإفادة من هذا العلم الوحيد.
قلَّب كفيه في حيرة: لم نعد ورثة وقف المطعني، آل إلى ورثة آخرين!
وبدا كأنه يسترجع كلمات سبق له قولها: حل الأوقاف الأهلية قانون مهم لو أُحسنَ تطبيقه، الحنفية تذهب إلى جواز أن تُحلَّ الأوقاف إذا كان بالمسلمين لها حاجة، ألِف الورثة رَيْعًا لا يساوي المشوار إلى وكالة الأوقاف بشارع فرنسا. لم يعد واردًا — منذ صدر القانون — أن يظل الوقف بلا بيع، ولا توريث، ولا هبة، ولا مناقلة، ولا استبدال، وغيره مما كان يجعله قائمًا على أصوله، حتى يرث الله أرضه. توقَّعنا عودة الحق إلى أهله، البحر كله، وليس قطرات في مياهه، لكن الأوضاع لم تتبدل كثيرًا، ما كان بعيدًا عن أهله قبل ١٩٥٢م، ظلَّ على حاله بعد قيام الثورة.
لما بلغ مجموع رَيْع الأوقاف جملة كثيرة، عيَّن الشيخ حتحوت الكبير محاسبًا يشرف على الأمور المالية، يضبط ما يُتحصل من رَيْع الأوقاف، ويراقب مصروفه، وأوجه إنفاقه، وما فيه مصلحة الوقف العائد نفعها على المستحقين، يصرف من رَيْع الوقف ما يأذن له الناظر في صرفه، يفعل جميع ما يعين على خلاص مال الوقف ممن تسول لهم أنفسهم فعل الحرام. عيَّن ربيع السكران جابيًا للأماكن الموقوفة، من مهامه تقاضي استحقاقات المستأجرات. بالإضافة إلى توريث الشيخ أكبر أبنائه، فقد أفاد من حق الناظر في اختيار موظفي الوقف، عيَّن أقاربه في وظائف الوقف، الخطابة والإمامة والأذان والفراشة، أرجع استعانته بأقارب في وظائف الوقف إلى أنها الوسيلة الصحيحة لمراقبة أدائهم في العمل، وابتعادهم عما يريب. حتى الوظائف الصغيرة: الفراش والسباك والخفير وغيرها، جعلها في اختصاصه، جعل له الكثير من أعوانه، يخضعون لأوامره، يحرصون على تنفيذها.
وهو يشرد أمامه كأنه يتأمل — وحده — ما يراه: أنت تسكن آخر الدنيا، يقصد القائل بحري. لماذا بحري آخر الدنيا وليس أولها؟ لماذا لا يكون العكس هو الصحيح، يصبح بحري أول الدنيا المصرية، ولو لإطلالته المباشرة على البحر، ولأنه الأرض التي طلب الإسكندر أن تُشيَّد فيها أولى مدن إمبراطوريته؟
البدء والمنتهى في جغرافية الأماكن مسألة نسبية، حتى الكوكب الذي نعيش فيه يصعب أن أحدد أدناه وأقصاه، ما يبدو أقصى في نظرتي من مكان ما، يتحول إلى العكس عندما يتبدل موضع النظرة.
قلت: لم تغادر بحري منذ العودة؟
– غادرت الإسكندرية مرة وحيدة … سافرت إلى بورسعيد.
أضاف للدهشة في ملامحي: ذلك كان آخر عهدي بالميراث. لا قيمة للحق الذي يتناساه أصحابه!
وأخذ هيئة المتذكر: التقيته في مبنى مديرية الأمن، هو الشقيق الأصغر للشيخ مكايد حتحوت. فتشت في عينيه عن تذكره لي، أطال تأملي، كأنه يفتش عن ملامح الشبه في العائلة: حسن وردي.
استطردت في نبرة واضحة: المطعني.
توقعت أن ألتقيه بالزي الحكومي، البدلة البيضاء والكاب ذي القصب المنقوش، والمقص الذهبي والنسر والنجمة على الكتفين.
سافرت إلى بورسعيد بموعد هاتفي. حفزني ما كان قد تبقَّى من عافية. عرَفت أن تعليمات مدير الأمن هي التي يسرت لي دخول المدينة، ومبنى المديرية، والصعود إلى الطابق الثالث.
فتح مدير المكتب بابًا مجاورًا، ودعاني للدخول.
أعرف أنه الشقيق الأصغر للشيخ مكايد، وإن لم أستطع تخمين سنه، جذبني الوجه المنقط بالنمش، والشعيرات الحمراء الدقيقة المتشابكة في بياض العينين، والبدلة الصيفية من الكتان.
قال: لم يعد للوقف مكانته القديمة، حالات سرقة الأراضي والتعدي على الملكية، جعلته قضية خاسرة.
تكلم عن مصاريف المذكرات والعرائض والوثائق والمستخرجات والمحامين وموظفي المحاكم.
قرن كلماته بالتقليب في ملفات وخرائط ووثائق ومحاضر وعقود بيع وشراء وسندات ملكية ومذكرات شخصية ورسائل بين زوجات وأزواج وشهادات وقصاصات وجذاذات صحف. أطال الكلام عن مراجعة حجج الوقف في أرشيف الشهر العقاري، وأرشيف دار الوثائق، وأرشيف وزارة الأوقاف، وسجلات المحاكم الشرعية. هو على معرفة بجهات أوقاف الجوامع والمدارس والمساجد والزوايا والدور والأرض الخلاء وأنواع البر والقربات وجهات الصدقات والخير. رفض أن يمتد إشراف الحكومة إلى الأوقاف الأهلية، من حق مستحقيها ما تُدرُّه من رَيْع، وعلى نظارها أن يتولوا أمرها في هذه الحدود.
لفت نظري حرصه على إيصال معنًى بأنه يستند إلى قوًى غامضة ذات نفوذ. تحدث عن الملايين التي رشا بها مسئولين، حتى انتزع حق الورثة، أتاح له منصبه نسج صداقات مع ذوي المكانة في المجتمع، بسط قوائم هدايا وإكراميات، قال إنه قدمها إلى وزراء ومحافظين ومديري أمن وخبراء في وزارة الأوقاف ورؤساء مؤسسات صحفية. عدَّد مدن دمنهور والخطاطبة وكوم حمادة وإطفيح وطوخ وشربين وبهتيت وإخميم، والمربع السكني والتجاري في باب الشعرية.
قال في لهجة مستفزة: إن كنت زرتنا لتوثيق القرابة فأهلًا وسهلًا. أما إن كانت الزيارة لأمر آخر، فلا شأن لك عندي.
كَرِه الشيخ مكايد حتحوت رأيي بنصرة مستحقي الوقف، رفض مراجعة الإنفاق على غير المستحقين من أقاربه وخواصه ومريديه.
غالى طلبةٌ في بيت المسافرخانة بأكثر من مكايد في معاداتي. لا فائدة لهم في الوقف، المعاداة تعبير عن ولائهم للشيخ، لم تكن تصرفاتهم تثيرني، أو تغضبني، عرفت أنهم أدوات يحركها الشيخ ضدي، كنت أعتبره أخًا، لا أذكر أني عاديته يومًا، ولا سعيت إلى خصومته، يجمعنا الحرص على الدين بأكثر مما تشغلنا القضايا الدنيوية.
مشكلتي مع مكايد حتحوت أني وقفت إلى جانب الحق. صرت عدوًّا حينما خالفت رأيه في قضية الوقف. أخفى، أو أحرق، ما كان لدى أبيه من السجلات القديمة، ما نص على حق النساء في التركة، وما نفى اقتصار الميراث على عائلة شرف الدين المطعني.
المرة الوحيدة التي رافقت فيها أبي إلى بيت الشيخ حتحوت الكبير، كان أبي يحمل أسئلة عن حكم الشرع في تقسيم الوقف بعد أن يوزع على مستحقيه، وكان يقاطع ردود الشيخ حتحوت بأسئلة كثيرة.
قال الشيخ إنه لم يعهد إلى نفسه من نفسه بوكالة الورثة، هم الذين اختاروه لعمله، تحدث عن ناظر الوقف، وأنه ينبغي أن يكون من ذوي الاقتدار على تعمير أماكن الوقف، وحسن إدارتها، ويكون متصفًا بالأخلاق الحميدة. طالت أحاديثه عن تقليب الأوراق والسجلات والوثائق والحجج الشرعية، استنزل أسرارها، واستجلى غوامضها، حتى ظهر ما كان خافيًا.
علا صوت الشيخ بنبرة متحمسة، إنه اشترط أن تكون النِّظارة من غير معلوم، وظيفة الناظر — في أحكام الشريعة — حسبة لله تعالى. لم يتقاض مقابلًا محددًا لنظارة الوقف، في حوزته وثائق عن وجوب إنفاق عائد الوقف على الخيرات والقربات والمساجد والمدارس، خصص جانبًا من رَيْع الوقف للصرف على الأدوية والأشربة والمعاجين وغيرها. ذكر أنه أنفق الكثير من العائد على خدمة أضرحة ومقامات آل البيت، صرف الكثير من رَيْع الأوقاف فيما يرى أنه يخفف عن الورثة عذاب الآخرة، وإن دفعته الضائقة إلى أخذ أموال من إيراد الوقف، ينفق منها على الطريقة.
عرض على الورثة أمرًا من وزارة الأوقاف، بإلزام وكيل الوقف — هو الشيخ نفسه — ترميم وتعمير الأماكن والعقارات والأراضي الموقوفة من قبل أصحابها، بما لا يخالف ما هي عليه، ولا خُصِّصَت لأجله. لم يمنعه تقدم سنه، ولا مكانته الدينية، من أن يتفقد الأماكن الموقوفة بنفسه، على فترات متقاربة، يشرف على مرمتها وإصلاحها وكنس ترابها، يأمر بإصلاح ما يحتاج إلى إصلاح. إن ترك الناظر ما في الوقف من أراض مجدبة، أو جرى تجريفها، يُعهد بأمرها إلى ديوان الأوقاف.
سجَّل الشيخ حتحوت الكبير إنفاقات هائلة في بخور العود الهندي والكافور والمسك، وفي شراء القناديل والتنانير من الملح والزيت والسلاسل والحبال والأزيار، لكنس المساجد والزوايا، وإنارتها، وتوفير المياه.
وجد أبي في ذلك الادعاء ما يصعب قبوله، دخلت المياه والكهرباء، فبات ذلك كله من الماضي، هي أشبه بالجزية التي كانت مصر تدفعها لدولة الخلافة العثمانية — بالنسيان — إلى ما بعد قيام ثورة يوليو.
رفض الشيخ حتحوت ما أثاره المحامي مصطفى مروان المطعني من أن ناظر الوقف لا يحق له البيع، ولا الرهن، ولا الهبة. ما يحتاجه البيت يحرم على الجامع، نحن أولى بكل ما يُنفق على تعمير المساجد والزوايا والعناية بالقبور. قال إن نِظارة الوقف تعطيه الحق في حرية التصرف بالبيع، أو بالهبة، هو صاحب الحل والعقد، كلماته مسموعة، وأوامره نافذة. جاوز الشيخ دفع عوائد الوقف نقدًا، إلى العوائد العينية في صورة لباس أو طيور أو حيوان.
أضاف الشيخ حتحوت الكبير لاختصاصاته توثيق العقود، وإبطالها، وإسقاط الديون، ورفض الخلوِّ والاستبدال. يتثبت من مشتري الوقف أو مستأجره، لا يكون بلا موارد معروفة، ولا مفلسًا، ولا يلجأ إلى المماطلة، شرط على مستأجري الأوقاف المستأجرة أن يعمروا العقارات الموقوفة بدلًا من هدمها، جعل من سلطته إبطال العقود، وكتابة العقود الجديدة للبيع والإيجار، والإشراف على الكتاتيب ومراكز العلم التابعة لوقف المطعني.
أتاح للأكلاء أن يستولوا على ما ليس من حقهم، قضموا، واقتطعوا، وابتلعوا، جعل لأقربائه وخواصِّه ما لا يُحصَى من الوظائف والرزق (المخصصات) والضياع والدور والخانات والدكاكين والأسبلة والمسقَّفات والساحات والخلاء المهجور، خصص لهم مساحات من أرض الوقف، بنَوا فوقها دورًا ودكاكين، استخدم أموال الوقف في المتاجرة، تصرَّف في الأراضي والعقارات — بحجة أنه يستثمر الكثير لصالح الوقف — بالبيع والرهن، أوقف عدة أملاك حتى ينفق — في زعمه — من رَيْعها على مباشرة عمارة الوقف، وأحواله، وترميمه، وإصلاحه بما يتيح له البقاء، استولى — في أوقات متقاربة — على أموال الورثة، ضمَّها لحساباته في البنوك، دون أن يرجع لأصحاب الوقف. انشغل — في نهاية عمره — بالبيوع والرهون والدعاوى، تصرف — بالرهن — في عقارات وأطيان وأراضٍ كثيرة. لم يعد يقتصر على نظارة وقف المطعني، لكنه جاوزه إلى جهات أخرى، اختلطت حسابات وقف المطعني بحسابات كثيرة متشابكة.
نصح أن تزداد أعداد الورثة، كل من له حق يحصل عليه، قال: إذا اتسعت قاعدة ملاك الوقف، فإن الفرصة تزداد في ابتعاده عن أطماع الآخرين.
قال أبي: للوقف وصيته … يجب أن ننفذها.
قال الشيخ حتحوت الكبير: العمل بالوصية سيخلق متاعب نحن في غنًى عنها.
– حكم الشرع مهم.
– لا يرضي حكم الشرع قسمة الميراث على الذكور والإناث.
– هل اشترطت الوصية شيئًا آخر؟!
– قصرت الميراث على الذكور.
تململ في ضيق واضح: يحفظون شجرة العائلة.
علا صوته بنبرة وعظية: التركة للأبناء، ولأبنائهم من بعدهم، ثم لأولاد الأبناء وذريتهم، ونسبهم، وعقبهم من الذكور. إذا لم يخلف الابن ذكرًا يرثه، فإن مشيخة الطريقة تئول لذوي القرابة العائلية، أقرب المقربين في عائلته.
اتهم أبي الشيخ حتحوت الكبير، والشيخ مكايد من بعده، بأنه نسب الوقف إلى نفسه، ادعى ملكيته، حصر استحقاق الوقف بين الرجال أولا، دون النساء. تعددت حالات الاستئجار من الباطن، يستأجرون العقارات من الناظر بأقل من أثمانها، يؤجرونها — بقيمة أعلى — لآخرين، يفيدون من فرق السعر. أسكَنَ — بالخلو — تجارًا في شارع وكالة الليمون، حصلوا على الخلوِّ لأنفسهم، لم يحصل الوقف على عائد يفيد الورثة، عاون الشيخ في أفعاله موظفون في الأوقاف، وجدوا في الرشا ما يغويهم ببيع ضمائرهم.
ساء الشيخ حتحوت الكبير مناصرة أبي لورثة الوقف، حاول طمس الحقائق بمزاعم وتلفيقات، أضاف إليها نسبة ما لم يحدث إلى من اتهمهم بالأفعال الرديئة.
عاب على موظفي الوقف عدم مداراة الإهمال الذي تعانيه بنايات في اللبان وغربال وكرموز وغيط العنب، غابت أعمال العمارة والصيانة التي تتيح للبنايات عمرًا أطول. لائحة الوقف تشترط — في وظائفه — الأكمل والأصلح. عُنِيَ بتعيين من تحتاج إليهم صيانة الوقف: السباك، نجار السواقي، سائق الساقية، الفراشين، الخدم، البوابين. ذلك ما حرص عليه في اختيار موظفيه، أشار إلى أن لائحة الوقف تجعل رواتب المستحقين والوظائف لتقدير الناظر.
ظل أبي يعتبر الوقف وصيته الوحيدة، لم يداخله اليأس من إصرار الشيخ حتحوت الكبير على حجب إيراد الوقف عن الورثة. صار له حق التصرف الشرعي في البيع والشراء والهبة وغيرها، بما يَزيد دخله، تحكم في أموال الوقف، حصل على رَيْعها، دون أن يسأل الورثة رأيهم إن وافقوا أم اعترضوا. شرط نِظارة الوقف أن تظل أصوله في الحفظ والصون، لا تُباع، ولا تُجزأ، ولا تُستبدل، ولا تُستعمل في غير أغراضها.
أغرى التحايلُ حتى بعض من لا يعتنقون الإسلام إلى الانتساب لبيت النبوة، الدوحة المحمدية، التحايل كذلك هو الذي أغرى الشيخ حتحوت الكبير بالانتساب إلى آل المطعني.
لجأ إلى حيلة كانت تُتخذ في القديم، يُباع الوقف إلى الغير باسم الإجارة الطويلة، سنوات طويلة تقارب المائة، زيادة أو نقصًا، تئول إلى البطن وريثًا بعد آخر، كما في الملكية العادية تمامًا، يضعون أيديهم — وهو ما فعله الشيخ حتحوت الكبير — على مساحات الأراضي والزراعات والأبنية، زاد الشيخ حتحوت فنسب نفسه وذويه إلى الاسم الذي حصل الورثة على ما تركه.
نسب حتحوت الكبير إلى نفسه اسم المطعني تبرُّكًا، تحول النسب المخترَع إلى نسب يتداوله الناس، حتى ذرية المطعني، وإن لم يكن اللقب صحيحًا.
بدا أن مكايد هو الابن الذي اختاره الشيخ حتحوت الكبير لوراثته. أراد الشيخ أن يستأثر برَيْع الوقف حيًّا وميتًا، بعد أن أخذه في دنياه، سعى لأن يَئُول إليه، وإلى ذُريته، بعد رحيله، يفيدون من رَيْعه في توالي السنين.
ما أحزن أبي أن التاريخ الإسلامي من بين دروس الشيخ حتحوت الكبير على طلبته، تناسى أن توريث معاوية لابنه يزيد بداية المأساة التي تعيشها الآن أمتنا الإسلامية؟ هل كان توريث ابنه وصية يجب أن يلتزم الآخرون بها؟
لما بلغ حتحوت الكبير الشيخوخة، واستُعفي من وظيفته، ترك كل ما يبعد عن الدين، ولجأ إلى جامع أبي العباس يقضي فيه معظم الأوقات.
وهو يغادر الجامع — عقب صلاة الفجر — تداخل ذيل عباءته بين حذائه، فسقط على رأسه، حاول مريدوه إنهاضه، كان قد مات.
طالب أبي — عقب رحيله — تغليب القرابة الشعائرية على القرابة الطبيعية، رشح لوراثة الشيخ نقباء ومريدين من أفراد الطريقة، يملكون صفات وقدرات تؤهلهم لخلافة حتحوت الكبير في قيادة الطريقة. لاحظ في مكايد أنه لا يحفظ سور القرآن، ولا الكثير من الأحاديث النبوية، ويضيق بالصوفية. سأله في العديد من الفتاوى، فلم يُجب بشيء. أدرك أنه لا يعرف شيئًا في أحكام الشرع.
حذر من تصور أن ابن حتحوت الكبير أجدر من سواه بقيادة الطريقة. الولي الحقيقي هو الذي يرث حضرة النبي، ويتدرج في مقامات الصوفية. كان شاغل شيوخ الصوفية حل مشكلات المريدين، تبدل الحال، المشكلة الآن هي الشيوخ. في توريث الصوفية مخالفة للشرع. يقين المسلمين أن القرآن الكريم كتاب سماوي، وأن الله واحد، والشهادتين ركن من أركان الإسلام، مثل الصلوات الخمس والزكاة والحج والصوم، اليقين الديني لا مجال للاختلاف فيه، ربما حدث الاختلاف في مذاهب الاعتقاد والسياسة والفقه، وغيرها مما لا شأن له بجوهر الدين، بحقيقته. اليقين الديني يملي أقوال المرء وتصرفاته، ما قد يؤمن به شيخ الطريقة قد يغيب — بصورته الكاملة — عن تلاميذه، ربما امتلك اليقينَ صوفيٌّ ليس من المريدين، ولا شأن له بالطريقة.
قال أبي: مشكلة الطريقة هي التوريث للابن أو الأخ.
رفع حاجبيه مستنكرًا: إذا كان حتحوت الكبير قد استطاع — بوسائله — أن يدير نِظارة الوقف، فإن أبناءه لا يعرفون الظروف الحقيقية لعيش الطريقة، ولا يشاركوننا حلقة ذكر؟!
وهو يغالب انفعاله: معظم جلسائه من رواد المقاهي.
قال المريد راغب أبو الغيط: لكن ذلك ما درجت عليه كل الطرق.
قال أبي: الاستمرار لا يبرر الخطأ.
دارى ضِيقه بابتسامة فاترة: شيخ الطريقة يجب أن يكون اختيار الجماعة!
قال المريد رفعت المنياوي: لماذا لا نلجأ إلى المشيخة الجماعية؟ مجلس مؤلف من كبار رجال الطريقة، الأوتاد والنقباء والأبدال، يتولون أمور الطريقة، ويُعنَون بها.
قال الشيخ حتحوت الكبير في تظاهر بالقبول: اختاروا من تشاءون.
قال أبي: ينبغي ألا نكرر مأساة آل البيت؟
كان له موقفه الرافض لرئاسة المرء طريقة صوفية، تتبع الطريقة، لكنك لا ترأسها. ذلك عهد المتصوفة منذ زمن قديم.
وهو يحرص ألا تعكس نبرة صوتي ما يمور في داخلي من الغضب: التوريث أشعل الفتنة الكبرى، لا نريد بعد مئات السنين أن يتكرر ما حدث في حياة المسلمين!
وتلفت حوله في استغراب: لماذا نحصر الخلافة في أسرة الشيخ؟
قال المريد راغب أبو الغيط: شيخنا لم يخطئ … فِرَقٌ غيرنا تعمل بالتوريث.
أمَّن مريد لا أعرفه على قوله: عُرف الطريقة يعطي أكبر الأبناء منصب الوريث.
قال أبي: حتى لو كان في الطريقة من هم أحق بها منه.
قال المريد رفعت المنياوي: أعراف الطريقة لا شأن لها بمن هو أحق.
وهو يداري انفعاله: الوراثة لأكبر الأبناء.
قال أبو الغيط: لا طريقة بلا شيخ، وشيخ الطريقة لا بد أن يربطه رابط دائم بآل البيت.