على حافة أرض مجهولة
انشغلتُ بالوقف، التركة، الميراث. لم أهمل السياسة، وإن عزفت عن الانضمام إلى جماعات أو أحزاب، أناقش، وأبدي رأيي، أوافق، وأعترض، من خلال نافذة في الدائرة المغلقة تتيح لي الرؤية، وإن حجبتني عن نظرات الآخرين وتدخلاتهم، ومحاولات اجتذابي لما يدعون إليه. حتى في المظاهرات، أكتفي بالنظر من نافذة، أو من جانب الطريق، لا أتصور نفسي في قلب المحتشدين، أردد الشعارات والهتافات، أواجه جنود الأمن المركزي والهراوات والشماريخ وقنابل الغاز والرصاص المطاطي، وجهة نظري كوَّنْتها، أعلنْتها، دافعتُ عنها بما يضعف قدرتي على الحوار، لا يذهب الفعل — ولا أتصور — إلى أبعد من ذلك.
قال لي ياسين الحامولي: في أيام المبارزة، من يختلف معك كان سيلقي القفاز في وجهك، وينتظر النزال.
قلت: كنت سأعيد القفاز إليه معتذرًا بأن مزاجي على غير ما يرام.
زرت وكالة الأوقاف في شارع فرنسا، أشبه بقصر قديم، تتوسط الساحة المستديرة أمامها نافورة لا تعمل، السلم يعاني التكسر في معظم درجاته، الحجرات المتخمة بالأوراق والدوسيهات والخرائط والوثائق التي علاها التراب. ترددت على مكتبة البلدية بشارع منشا، صادقت إبراهيم ألماظ صاحب مكتبة إخوان الصفا وخلان الوفا، والحاج حجازي صاحب المكتبة الحجازية، فتشت عن كل ما له صلة بالأوقاف والتركات والميراث، الخرائط والوثائق والرسائل، وكل الأوراق التي تعينني في صواب قسمة الميراث، مخطوطات وكتب قديمة وحديثة، أستنبط الأحكام، أحصل على العبر والدروس التي تعينني في البحث عما أريده، المعاني المستغلقة والغامضة.
بسط الموظف أوراقًا كثيرة أمامي، عشرات الكشوف، ممهورة بتوقيعات، وعليها أختام. تأملت قوائم الأسماء، عرفت أقلها، ولم أعرف غالبيتها. إذا كانت الأسماء صحيحة، فإن الجريمة في التوقيعات والأختام.
شمل الوقف الكثير من الجوامع والمساجد والزوايا والرُّبُط والمدارس والقصور والتكايا والأسبلة والحمامات والساحات والدور والدكاكين والطواحين والأفران والخانقاوات والفنادق والخانات والقِيساريَّات والوكالات التجارية ومصانع النسيج والطواحين وأبراج الحمام والحمامات العامة والقهاوي والإسطبلات والمشاغل اليدوية والأفران ومخازن الغلال، وأنواع البر والقربات وأحواض الدواب، وجهات الصدقات والخير، وغير ذلك مما يخطئه العد.
لتعدد الأعيان الموقوفة واتساعها، رتَّب الشيخ مكايد حتحوت عددًا من الموظفين لمساعدته في الإشراف على الوقف، وضمان حسن أدائه، عمَلُ هؤلاء الموظفين إدارةُ الأوقاف، صيانتها، ودوام عمارتها، وحسن استغلالها، واستخراج رَيْعها، وصرفه في جهاته. ضعف رَيْع الوقف من كثرة موظفيه، ضاعفهم الشيخ، تضخمت رواتبهم، أخذت من الورثة حقوقًا لهم.
حدَّقت، وأنا أنزل من السلم، في طريقي إلى شارع فرنسا، ما أُلصق على الجدران، وعلى أعمدة الإنارة، من لافتات تدعو إلى وراثة الطريقة، الابن يخلف أباه.
دوَّن الشيخ مكايد سجلات جديدة، تقصر حق الميراث على عائلته، وتنفيه عن النساء، حتى لو انتمين إلى عائلته. رافقت نظراته الغاضبة صوته الجهير: المرأة شرف، الأرض مثل العِرض، من يدافع عنهما فهو يدافع عن شرفه.
أراد أن يئول الوقف إلى الرجال من عائلته، يعرفون الحصص التي يستحقها كل وارث فيما ترك الميت. يفرقون بين الميراث والبيع والشراء والهبة والإيجار والوصية، والخشية من أن يئول الوقف إلى غريب يحرم — بالزواج — نصيبًا من الميراث عن العائلة.
تأوَّه لتقلُّص في راحة يده، نزعها عن العصا، وواصل تحريكها، ثم عاد إلى الاتكاء على العصا: أذكر أني حذرت من أن القانون ينص على منع الوقف على غير الخيرات منذ ١٩٥٢م. بات من الضروري تسليم أعيان الوقف المنتهي، إلى شخصية من ذرية الواقف الأحياء.
قلت في نبرة محذرة: إذا لم توجد ذرية للواقف، فإن التركة تئول إلى وزارة الأوقاف.
أشرت إلى مريدي حضرة زاوية خطاب — قبل أن تعلو الأصوات — بإشارة من يدي. حدَسوا خطورة الأمر، فلزموا الصمت: نحن محاسيب آل البيت … لا نوافق على التوريث.
ضغطت على الكلمات: التوفيق هبة من الله … لا تورث ولا تتوارث!
استطردت موضحًا: قطبنا الأعظم المرسي أبو العباس أخذ المشيخة عن أستاذه أبي الحسن الشاذلي. لم ينتسب إليه بأبوة ولا بقرابة من أي نوع!
علت الأصوات، تشابكت، أخذتني الرؤى، شردتُ، وإن تظاهرتُ بالإنصات.
قلت: نحن مطاعنة، والشيخ حتحوت ليس كذلك، لكننا نرفض الوراثة.
وهززت سبابتي: الشاذلية لا تعرف وراثة القرابة، إنما تعرف وراثة العلم من خلال مشارب وأبواب وأذواق ومواجيد يهبها الله من يريد.
قال الشيخ فوزي العقدة: نحن نبايع ولا نورث.
وسرت العصبية في صوته: لو أنه لم يكن ابن الخليفة … هل كنا نبايعه؟
استعدت قولًا لأبي: محاسيب آل البيت يرضون بالخلافة، لكنهم يرفضون التوريث!
تنهد، هز رأسه معترضًا: الخلافة اختيار … أما التوريث فإجبار.
قال المريد كريم طوسون: الشيخ يريد الخلافة لابنه حتى يرث الطريقة وما فيها.
استطرد فاضل المطعني بلهجة مستاءة: ومن فيها.
وقال كالمنتبه: لماذا لا نتداول المشيخة؟
– المشيخة يجب أن تئول لمن هو أحق بها.
علا صوت كريم طوسون بالسؤال: إذا لم يكن للشيخ عقب، فمن يرثه؟
قلت: الوقف للطريقة، هي التي تملك، وهي التي ترث.
قال فوزي العقدة: لا بد من وريث فرد، خليفة، شيخ للجماعة.
قلت في غضب: لا مشكلة في الوراثة، المشكلة في زحام الفرق … كل عشرة يؤلفون طريقة!
استعدت — ثانية — قول أبي: جَدُّنا جاوز زمانه … جعل الميراث لكل أبنائه، لم يفرق بين ذكر وأنثى.
قال الشيخ مكايد: حرمان الأنثى ليس مقصورًا على وقف المطعني، ملفات الأوقاف فيها كثير من التشابه.
قلت: ولا تزر وازرة وزر أخرى.
وهززت قبضتي — بتلقائية — في الهواء: الظلم لا يبرر الظلم، وإلا فقد العدل معناه.
الشيخ مكايد حتحوت يسعى إلى التوريث ليداري الجرائم التي ارتُكبت منذ أيام أبيه، أساءت إلى الطريقة، واستلبتها أموالها وعقاراتها. اعتمد على طلبة في المعهد في تغطية عُواره، وستره.
اتجه الشيخ حسن وردي ناحيتي بعينين متأملتين: لعلك وجدت في مشكلة الوقف ما يشغلك، أما أنا فقد وجدت فيها حقًّا ينبغي استعادته.
خانتني الكلمات، فسكتُّ، غمغمت كأني أحدث نفسي: ظني أنه قد آن الأوان كي يعود الوقف لأصحابه، لوارثيه.
قال لي ياسين الحامولي: لا شأن لي بالوقف، لكنني أوافق أن يحصل كل صاحب حق على حقه.
كنت أطمئن إلى صداقة الطالب ياسين الحامولي، يقاربني في السن، لم تؤثر إصابته بالعمى في قدرته على حفظ فقرات طويلة من الكتاب الذي يقرؤه، وإجادته إجراء عمليات حسابية معقدة، دون أن يطلب من قارئه الإعادة، يتميز في تلاوة القرآن بصوت رخيم، فيه حلاوة وطلاوة ودقة، يضفي الورع والخشوع والتقوى، يحاكي أصوات الطير والحيوان والأصوات المغنية، يعوِّض باللمس ما فقده من البصر، يستعيض بالشم عن السمع، يتذوق الطعام بشمه، يعرف إن كان طيبًا، أم يطلب استبداله، يتشمم المكان فيعرف إن كان زاره من قبل، وما طبيعته، وهل يطمئن إليه، فيحدث نفسه، أم يلوذ بالصمت؟
يدير رأسه فيما حوله، ربما تعيده رائحة ما إلى موضع ابتعد عنه، أو حادثة نسيها، يصدر من منخاريه شهيق مسموع، يصمت لحظة، ثم يقرر إن كان سيظل في المكان أم يغادره، يتفادى — دون تحذير — ما يصادفه من أشياء قد يصطدم بها.
أذكر مغالبة عيني التأثر ونحن نتمشى على شاطئ الأنفوشي: أحب البحر، أحب أن أراه، أتطلع إلى أفقه، لكن الظروف تحجب ما أتمناه.
كان يريد أن يرى نور الشمس، وضوء القمر، وزرقة البحر، وخضرة المزروعات، وصفرة الصحراء، وزحام الشوارع، يري كل شيء بعينيه، ولا يكتفي بتصوره. حتى ظلمة الطبيعة لا بد أنها تختلف عن ظلمة العينين.
علق الكاكولا على مسمار في جدار الحجرة، وعُلقت العمامة على مسمارٍ ثانٍ، الكاكولا والعمامة جزء من شرف المجاورة، تدلت — من مسمارٍ ثالثٍ — لمبة جاز نمرة خمسة.
يحرص على أن يرتدي ثيابه بنفسه، يعتني بلف العمامة جيدًا، لا يحبكها فوق رأسه أكثر من اللازم، ولا يهمل قلوظتها فتبدو مثل الخرقة. تغلب عليه الوسوسة، فهو يشك إن كان قد توضأ، وينسى ما أداه من ركعات، وما إذا فاتته آيات في قراءة الصلاة. أصابعه تكُر — في صمت — حبات المسبحة، يواظب على قراءة الأوراد، يقيم الصلوات في أوقاتها، حتى لو نسي الشيخ موعد الصلاة، وضع راحتيه في جانبي وجهه، ورفع الأذان. يقرأ دروسه بصوت مرتفع، وهو يدور في الحجرة، يطالع ما يصادفه من كتب، يبتلعها، يهضمها، ثم يعيد كتابتها متضمنة أفكاره، وبصياغته وأسلوبه، أحب الجاحظ وابن عبد ربه والأصفهاني والتوحيدي ورسائل إخوان الصفا. كراهيته للكتب التراثية الصفراء جعلته يكره كل ما هو أصفر. تشغله أصول الشريعة، لا فروعها، يعيب اختلافات المذاهب، وتعدد الروايات، والقيل والقال والاحتمالات والتجويزات. العلوم — على قول الإمام مالك — ثقيلة، على العلماء أن يُبسِّطوا العلم بلغة يسهل فهمها. إن ضاقت به الحال، اشتغل بنسخ الكتب، يعهد إليه المشايخ — والطلبة أحيانًا — بكتب ومخطوطات، يغلق على نفسه باب الحجرة في بيت المسافرخانة، بضع ساعات في أيام متوالية، حتى يفرغ من النسخ.
أتذكَّر اليوم الذي بدأت فيه صداقتنا — ياسين الحامولي وأنا — لكزني بكوعه، وأنا أناقش الشيخ مكايد حتحوت في آراء فقهية.
مال بجانب رأسه، وهمس: انتظر حتى يهدأ انفعالك، ثم تكلم!
ترك لي مقوَده عند المغادرة. صحبته إلى حجرته في الطابق الثاني، فاجأني بالقول، وأنا أتهيأ للقيام: في الحجرة سريرٌ خالٍ. نحتاج إلى زميل جديد.
عرَفت في تصرفاته اهتمامًا واضحًا بالآخرين، يبذل النصيحة والتحذير وكلمات الود والمؤانسة. لم يكن ميله إلى النكتة والدعابة ينعكس في ملامحه، وإن بقي في ذاكرتي ضحكته المقهقهة، لما سألته عن النيل، كيف يتغنى به عبد الوهَّاب لأنه لم يأت.
– من قال إن النيل ما جاشي؟
عاود ضحكته المقهقهة: النيل نجاشي، ملك البلاد على الضفتين.
قلت متنبهًا: هل تحب الغناء؟
قال الشيخ حسن وردي: أنا من جيل السهر لسماع أم كلثوم، الزمن الحالي للألحان السندوتشات.
تراجع إلى الوراء، وأغمض عينيه، كأنه يستعيد ما حدث:
طرد الشيخ شلبي أبو علي طالبًا من البيت، لأنه شتم زميلًا له بالقول: يا رفضي.
قال ياسين الحامولي: هذا القول عقابه السجن.
ودافع عن حبه لآل البيت: إن كان رفضًا حب آل البيت … فليشهد الثقَلان أني رافضي.
كان يكثر من الكلام في السياسة، لكنه لا يتخذ موقفًا سياسيًّا، يناقض، ويحلل، ويوضح، لكنه لا يعبر عن ميل أو رفض.
– هذه هي الصورة كما أراها، أما رأيي فأنا أحتفظ به.
ثم بنبرة متألمة: يؤلمني تكفير من يختلف في الرأي!
يحاول إخفاء تأثره: لا أرفض الرأي المخالف، بل أرفض الفعل المخالف، الفعل الظالم.
ويقلب شفتيه ممتعضًا: عندما يضربني العسكري فأنا لا أكرهه، أكره من حرضه على ضربي!
يلح في أن أقاسمه ما يأتيه من مدينته شبراخيت: برام أرز معمر، وحمام محشي محمر، ومفتقة، وسمن بلدي، وأقماع سكر، لا يقرب اللحم في الطعام، لا لأنه يكرهه، بل لأن بقايا اللحم تتخلل ما بين أسنانه، فيصعب إزالتها. ربما أكلنا من مطاعم السوق، فولًا وطعمية وبطاطسَ مقلية وباذنجانًا من حسونة بشارع صَفَر باشا، ومعلبات وفطائر من شارع الميدان.
قال ياسين: أنت — بمفردك — لن تصنع شيئًا، لا بد من الجماعة التي تناصرك.
– في بالي ما ليس في بال أحد.
وهو يخفض من نبرة صوته: هذا ما تظنه.
نفترق في بداية الإجازة الصيفية، بوعد اللقاء أول العام الدراسي. أذكر أنه زارني ثلاث مرات في قريتي، وأني انتزعت من ظروف عملي في علي تمراز ما أتاح لي — ذات يوم — زيارته.
بعد أن سافرت إلى الحجاز ظلت مراسلاتنا على حالها، أراسله من الرياض، ويراسلني من شبراخيت، أتاح له فقد بصره وظيفة واعظ في المدينة.
في واحدة من زياراتي إلى الإسكندرية، أغلقت السماعة بعد أن فاجأني صوت مشروخ، لم أدر إن كان لرجل أم لامرأة: الشيخ ياسين مات.
كنت ألِفت رحيل الكثير من أصدقائي ومعارفي.