التحليق في سماء مغلقة
في ساعات الصباح الأولى، يغادر البيت القريب من بيت المسافرخانة.
يتجه إلى حلقة السمك. يفضل شراء السمك من البناية المطلة على الأنفوشي، يضمن نقلها — قبل الصبح — من البلنصات.
يعرف أنواع السمك، يجيد الاختيار والفصال، يقلب خيشوم السمكة، يتبين ما إذا كانت صيد يومها أم فاسدة، يجيد إعداد الصيادية، يشوي السمك، أو يقليه في الزيت، أو يعده في صينية، ينزع أحشاءه وينظفه، يضيف إليه الزيت والملح والبهارات، يرى أن السلطة الخضراء لا تستحق اسمها إلا بالطماطم والخس والخيار، ما عداها تفاصيل، ربما أوصى على شروة سمك، التوصية على الترسة في اليوم السابق على يوم ذبحها، لا يقدم البائع على الذبح إلا بعد أن تكمل الحجز. إذا ظلت أجزاء منها، دون أن تباع، فإنها لا تلبث أن تفسد. لم يكن ثمة ثلاجات للحفظ — كما هو الحال الآن — ومن الصعب أن يحتفظ لحم الترسة بمذاقه إن تعرض لملاقف الهواء، مثلما يحدث مع أنواع اللحم الأخرى. يتحسس الطعام بأصابعه، يتذوقه بلسانه، فيعرف نوعه: أحرص على شراء طعامي من بحري، أعرف أن ما تبيعه الدكاكين لا بد أن يكون جيدًا، يدرك الباعة أن الزبائن يتذوقون، يُعنَون بالمساءلة قبل أن يُقدِموا على الشراء. العكس هو ما يحدث في الأحياء الأخرى، يشترون المعروض بلا تدقيق في جودته، ربما دفعوا مقابلًا أزيد بكثير مما يدفعه أبناء الأحياء الشعبية، إنها ضريبة الانتماء لحي راق.
يصل المعهد بالورديان قبل أن تبدأ الدروس، يتجنب الجلوس إلى الطلبة، ويؤثر الخلوة لنفسه، تقتصر مجالسه على المحاضرات في داخل المعهد، ودروس ما بعد المغرب في سيدي علي تمراز. عدا صداقته لياسين الحامولي، كان أميل إلى الوحدة، يتدخل في الحياة الشخصية بقدر ما يتيحه له الطالب، ولا يأذن لحياته الشخصية أن تلوكها الأفواه. عرف في نفسه ميلًا إلى الصحبة الحلوة والمؤانسة، لكنه وجد في العزلة ما يمنع فضول الآخرين، وتدخلاتهم، لم يكن يمتلك الشجاعة التي تدفعه لمواجهة التآمر والتصرفات الصغيرة، احتفظ بنفسه عن تدبيرات الطلبة، وخلافاتهم، وما ينشأ بينهم من صراعات.
يمضي إلى شاطئ الأنفوشي، بمفرده، أو بصحبة الحامولي، لا يهيمن على أفكاره وتصرفاته إلا الرغبة في الوحدة، الخلو إلى ذهنه، وتأملاته، واجترار ما قرأه، أو شاهده، أو استمع إليه. ينشغل بمتابعة أسراب الطير في دورانها حول الخليج، أو انطلاق لنش إلى خارج البوغاز. ربما تسلى بقذف قطع الحصى الصغيرة في الأمواج الساكنة، تلقفها في دوامات صغيرة، ما تلبث أن تختفي.
يعرف الناس الكابين التي يقيم فيها، عُرفت باسمه طيلة أعوام غيابه عنها، وعن الإسكندرية.
حرص على عدم الخروج عن النظام الذي وضعه شلبي أبو علي الشيخ الحالي للمعهد، لم تعكس ملامحه ما يدل على رضاه عن استقباله، له اعتراض وتحفظات، لكنه تجنب التأثير على الطلبة بما قد يُظن أنه محاولة لإبعادهم عن الشيخ حسن وردي.
لم تكن الدروس موزعة بين المشايخ، يجلس الشيخ إلى من يقصد مجلسه، لكل شيخ في المعهد مريدوه وطلبته.
قرأ الكثير من المتون والحواشي والشروح والزوائد والاختصارات، تعددت دروسه في الأصول والفقه والتفسير والحديث والتوحيد والتصوف وأحكام النحو والصرف والمعاني والبيان والبديع والمنطق. قاموسه اللغوي يتيح له اختيار المفردة والعبارة المعبرة عن المعنى. أخذ على المشايخ أنهم يأخذون في اجتهاداتهم بعلم الفروع، يهملون علم الأصول، أصول الدين. الأصول تشمل الشريعة، واشتقاقها من الكتاب والسنة، ودراسة النصوص الشرعية، والأدلة العقلية، وتفاصيل العقائد، وأصول الفقه، ومعرفة النبوة والرسالة. أما الفروع فتقتصر على دراسة فرائض العبادات والمعاملات، وأحكامها.
عُرِف عنه تقبله لكل ما يصدر من أسئلة، إن وجد فيها ما يدعوه إلى الإجابة. إذا كانت في نطاق معارفه قال ما لديه، أو ذكر آراء تتصل بها، أو ينصح الطالب بشيخ آخر، قد يكون أشد استيعابًا لمادة السؤال.
لم يسأل أي طالب عن مذهبه الديني، وإن حدس المذهب من ردود الطالب على أسئلته، ومن حصيلة الطالب المعرفية.
أمر شيخ المعهد بوضع قائمة بالطلبة الذين يحق لهم المبيت. صلاة العشاء آخر موعد لاستضافة الغرباء، يُغلَق البيت بعدها على ساكنيه، لا يُؤْذَن لهم بإيواء أي شخص، حتى لو كان طالبًا في المعاهد الأزهرية. البيت ليس مكانًا للزيارة والمذاكرة والمؤانسة.
مساحة البيت أضيق من أن تتيح نظام المجاورة والأروقة، كل مجموعة طلبة يختارون حجرة تسعهم، لا يقصرون الدروس على شيخ ومريدين، أستاذ وتلاميذ، لكنهم يتنقلون بين الحجرات، يضعون انتباههم في الآذان والأعين.
توزعت أوقاتهم بين تلاوة القرآن وحفظ الدروس وأحاديث السياسة والمسامرة وتناول الطعام والنوم. الأسِرَّة الثلاثة يتوالى الرقاد عليها واحد من العشرة المقيمين في الحجرة.
تحولت البناية إلى مدرسة داخلية، يسودها النظام. لكل شيء موعده المحدد، أوقات الصلاة والمذاكرة والقراءات، حتى أوقات السمر وارتشاف الشاي لها أوقاتها التي لا تتبدل، تتعدد أدوار الشاي، يتخللها الكلام والأسئلة والأجوبة والملاحظات واستعادة ما يتذكرونه من أبيات الشعر والحكم والحكايات، تضاف أدوار شاي أخرى، يهملون فيها العدد، يعرف كل طالب أحداث يومه منذ الصحو، قبل الفجر، إلى ما بعد العشاء، ينقطعون للدين وحده.
يُدرِّس الشيخ حسن وردي لطلابه — في معهد الورديان — أصول الدين والفقه والنحو والتفسير والحديث والبلاغة والأصول وغيرها من العلوم المستندة إلى كتاب الله وسنة رسوله. يدرسون الأصول والفقه والتوحيد والتفسير والجدل والحديث وعلومه والنحو والصرف والمعاني والبلاغة والبيان والبديع والمنطق. يذاكرون ألفية الإمام مالك، والمنهاج للنووي، ورسالة القشيري، وسراج القول للقزويني، وإحياء علوم الدين للغزالي، والفتوحات المكية لابن عربي، وتفسير الجلالين، وجوهرة التوحيد، والرجبية، ينصحهم فلا يكتفون بقراءة مصادر البحث ومراجعه، إنما يفتشون عن كل ما له صلة بالموضوعات التي يبحثونها. لا يقيد الطالب نفسه بعلم شيخ واحد. يتنقل بين حلقات المشايخ في أبي العباس، وغيره من الجوامع، يسأل، يناقش، يبدي الرأي، يقرر إن كان سيعود، أم يغادر إلى حيث يجد من يهبه سعة الصدر.
لاحظ أن الطلبة الوافدين من خارج الإسكندرية يفضلون العزلة، مجموعاتهم تزيد عن ثلاثة أو أربعة. ربما انطوى الطالب على نفسه، لا يخالط زملاءه إلا لضرورة، يأتون من مدن وقرى خارج الإسكندرية، يصعب القدوم والعودة في اليوم نفسه، تظل إقامتهم في بيت المسافرخانة، من صباح السبت إلى مساء الخميس، ربما استبدلوا بالرحلة الأسبوعية رحلة تجمع إجازات شهر.
ذاع بين الطلبة أن مشايخ الأزهر ومسئولي الأوقاف يدارون الشيخ شلبي أبو علي، ويعملون على إرضائه، ثبت في يقين حسن وردي أن الشيخ ألِف مخالطة السلطان، ومداخلة الدنيا. اتهمه بأنه جعل التراث الفقهي في خدمة السلطة، دعا الطلبة للاقتداء بأولياء الحي، قال إن المرسي والبوصيري وياقوت العرش والسيوطي ونصر الدين، مشكاوات نور في مجتمع الظلمة.
لم يكن له سابق عداء مع الشيخ شلبي، دفاعه عن تصرفات الشيخ حتحوت أثاره، حتى من قبل أن تبين تفصيلاتها. شلبي أبوعلي لا شأن له بالوقف، لكنه — إرضاء للشيخ مكايد — بدا مَلكيًّا أكثر من الملك. يعلو صوته بما يدفعك — للرد عليه — إلى رفع صوتك.
عاب حسن وردي على مناهج الدراسة في المعهد، أنها جمدت على حال الزمن القديم، وعاب على مشايخ المعهد تضخم كروشهم، وزيادة طبقات الدهن في أجسادهم.
نطقت ملامح الشيخ مكايد حتحوت بالاستياء: أنت تكرر في المعهد وفي بيت المسافرخانة ما تقوله في علي تمراز.
أردف: معهد الورديان للدرس والقراءة، أما بيت المسافرخانة فلإقامة المشايخ والطلبة.
تلاحقت ضرباته بالعصا على الأرض: نحن تابعون للأزهر.
دعا الشيخ حسن وردي طلبة المعهد إلى وأد الدعوة بإزالة الأضرحة والمقامات، رد من يحاول الإزالة، وخوض المعارك، لو اقتضى الحال.
قال: نحن نتوسل بالله … لا نلجأ إلى البشر، حتى لو كانوا أولياء أو أنبياء، وإن كنا نبقي على أضرحتهم ومقاماتهم.
عُرِف عن مكايد حتحوت ميله إلى التصوف السني، كما في اجتهادات أبي حامد الغزالي، لكنه ساير شيوخ المعهد في رفض الطرق الصوفية، وضيق على المتصوفة. قال ما لم يكن من آرائه، عاب على الفرق خلطها بين دراسة الفقه والصوفية، وجد فيهم عباد قبور، يأخذون علمهم عن الموتى، يحصلون من أضرحة الأولياء على الشفاعة والغوث.
أفتى بعدم جواز بناء القباب على المساجد وضرائح الأولياء، وبعدم جواز الصلاة في المساجد ذات الأضرحة، لا يجد حرجًا في أداء الصلوات بجامع أبي العباس لخلو المقام من قبة تعلوه. نحن — كما تعلم — لا نتوسل بالأولياء. نأخذ الأذكار من الحضرة الإلهية. الذِّكر يجلِّي القلوب، يصفِّي النفوس.
جاهر النسوة بالعداء، عدا المسدِلات، أو اللائي يغطين رءوسهن بإيشاربات، يجد في إسدال النساء وعلامة الصلاة على جبين الرجال معنًى يطمئن إليه، أن يعرف الناس دينهم جيدًا، فهو خير. كما رفض أن يعظ العامة بما لا يناسب إلا الخواص، هم وحدهم يحسنون التلقي والفهم.
– نحن فقهاء وعلماء دين، التصوف متاح لكل من يريد، أما الفقه وعلوم السنة فهي مقصورة على من أجاد دراستها وفهمها.
ثم وهو يغالب انفعاله: لو أن الطرق الصوفية زالت، فلن يبقى إلا الدين الخالص!
قال حسن وردي: نحن نعرف أن غالبية علماء الأزهر يدينون بالصوفية.
أرجفت حركة عصبية جانب فمه: معهدنا لإحياء السنة وإماتة البدعة، والبيت لطلبة العلم وليس للصوفية.
وعبر عن الاستياء بتكشيرة قلَّصت ملامحه: أكره الفِرَق لأني أرفض التبرك بالقبور.
قال حسن وردي: هدم الأضرحة لن يسهل تقدم البلاد.
وركز نظارته الطبية فوق عينيه: الأضرحة ليست لذاتها، بل للمعنى الذي تحمله.
دعا حسن وردي إلى العمل بآيات القرآن وسنة الرسول. التوسل إلى الله يجب أن يتم دون وساطة بني البشر، حتى لو كانوا من الأولياء، حتى لو كان الرسول بموضعه الذي لا يرقى إليه أحد، وإن لم يجد ما يمنع الطلبة من الاقتداء بأولياء الحي. قال: إن الأولياء مشكاوات نور في مجتمع الظلمة.
التقط من فمه سنًّا مكسورة، تأملها ثم أعادها.
– الاختلاف لا يعني الخصومة، نختلف ولكن يظل الحوار قائمًا.
اتخذ هيئة من يلقي النصيحة: وجادلهم بالتي هي أحسن.
وعلا صوته بالتلاوة: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ
ثارت مناقشة حول كروية الأرض. لا أحد يدري من طرح المسألة. اختلفت الأصوات، وعلت، فغاب المعنى الذي يطمئن إليه الجميع.
قال شلبي أبو علي: الله دحا الأرض، هي منبسطة، وغير مستديرة.
قال حسن وردي: أفضل أن يتوصل الطلبة إلى قناعاتهم بالتفكير.
وغمغم من بين أسنانه: نحن نحاسَب على إيماننا، وليس بما يُفرَض علينا.
قال الشيخ شلبي: أنا أربي الطلبة وأنت تفسدهم، تنصحهم بما يجب أن يتخلوا عنه.
رفض حسن وردي ما يردده المشايخ عن سؤال الملكين، وعذاب القبر، والثعبان الأقرع. قال: إن موعد الحساب يعرفه الله، عقب نهاية العالم.
حريق القاهرة بدَّل كل شيء، الحجرات تُفتح وتُغلق على جماعات من الطلاب يتناقشون فيما لا ترتفع به أصواتهم عن الهمس. حدس عيون الشيخ شلبي أبو علي أن الطلبة يُعِدون لأمر ما يقلب الأحوال في المعهد.
اتهم الشيخ حسن وردي بالسعي بالإفساد بين طلبة المعهد، حذر من أن تسري عدوى الفتنة إلى كل حجرات البيت وقاعاته، تتحول إلى كتلة من النيران.
قرأ الطلبة على واجهة المبنى إعلانًا يحظر الحديث في السياسة، المبنى للإقامة، والسياسة لها مجالاتها.
قال الشيخ فوزي العقدة: إذا لم يتعلم الطلبة كيف يخفضون أصواتهم في بيت العلم، فأين يتعلمون إذن؟
أبدى الشيخ شلبي أبو علي غضبه عندما رأى الطلبة يستعيضون بسماع أحاديث الشيخ حسن وردي، يتجهون إلى مجالس شيوخ آخرين، يسلمونهم آذانهم وانتباههم. تحدث الشيخ عن وظيفة البيت، وأنه خُصص للإقامة والدرس والقراءة. قال إن دروسه يجب أن تقتصر على فقه الدين.
فاجأ الشيخ وردي قرار منعه من التردد على بيت المسافرخانة.
أُلصِقَت اللافتة على الحائط الملاصق للباب الحديدي. هي المرة الأولى التي تمنع فيها إدارته شيخًا من دخول المبنى. لم تشر الكلمات إلى السبب، وإن نقل مكايد حتحوت عن شيخ المعهد قوله: لا نريد في البيت علي عبد الرازق جديدًا.
عرَف أن مكايد حتحوت وراء ما حدث، رفض شلبي أبو علي دخوله القاعة التي يلقي فيها دروسه، ثم رفض زيارته بيت المسافرخانة. أغضب الشيخ تردده على البيت في غيابه، نسب إلى صالحه دخوله البيت وخروجه دون أن يلتقيه، هدد بأن الطرد هو ما سيفعله لو أن الزيارة تكررت.
حذر الشيخ طلبة المعهد مما تنطوي عليه كتبه — رغم قلتها — من خطر. أخذ عليه أخطاء فقهية كثيرة، اتهمه بأنه يدعي النسك والزهد والورع، وبترويج البدع، والانحراف عن مبادئ الدين الصحيحة. لاحظ اتساع الهوة بينه وبين الطلبة، نشأت خلافات لم يتسببوا فيها، ولا أعد نفسه لها، اعتقدوا في الشيخ شلبي، أَنِسوا إلى عظاته ونصائحه وتوجيهاته، تعلقوا بكلامه، شددوا النكير على من ينكر عليه، رددوا اتهامات شلبي بالسعي بالإفساد بين طلبة المعهد. في حجرة مكتبه نافذتان صغيرتان، تطل إحداهما على البسطة في نهاية درجات السلم، والثانية على البهو الفسيح، على جانبيه حجرات الطلبة، يتعرف من موضعه إلى الحركة في المعهد، يرقب الطلبة في دخول الحجرات، والخروج منها.
عرف حسن وردي أن شلبي أبو علي سعى لدى إدارة الأزهر، لتقطع صلته بالطلبة، وبالمعهد، ولإبعاده عن البيت. عهد إلى عدد من الطلبة يبلغونه بكل ما يرونه من أحداث، وما يستمعون إليه من كلمات تجذب الانتباه.
توقع الطلبة ردًّا قاسيًا على ما نقلوه، لكنه التزم صمت الفاهم للتصرفات الغريبة، لا دافع يملي عليه إلا الشرخ الذي أحدثه الوقف في العَلاقة بينه وبين مكايد حتحوت. أحاط نفسه بسياج من اللامبالاة، لا يأذن لسؤال، أو ملاحظة، أو نظرة فضول، أن تنفذ إليه.
– كأنما اتحد الجميع من أجل افتراسي. أجادوا حصاري، وتنظيم قواهم حولي.
عاني الحيرة، فلم يدر كيف يتصرف.
أحزنه ترك البيت، استهواه العيش في القراءات والنداءات والزعيق والصياح وارتطام الملاعق والسكاكين والأوعية، وانسياب ماء الوضوء، ورفع الأذان، والأغنيات.
قال ياسين الحامولي: إذا نذر المرء نفسه لقضية ما، فإن عليه ألا يتوقع مكافأة، وربما عليه أن يتوقع الأذى.
في لهجة لا مبالية: لم يستطع نابليون أن يخضع الأزهر … هل يخضعنا هؤلاء الأجلاف؟
اتخذ في داره مجلسًا لإلقاء الدروس في الفقه والحديث وعلوم القرآن، وإتاحة الفرص في السؤال. امتلأت مجالسه بالعلماء والطلبة. يجد متعته في التفافهم حوله. يعكف على الخلوة وتلاوة القرآن والقراءة من أول رمضان إلى ما بعد عيد الفطر.
بدل — في الأشهر الفائتة — ما كان ألِفه، يغادر البيت، يميل من شارع المسافرخانة إلى زاوية خطاب. عُنِي بفرش الزاوية، وتأثيثها. عهد إلى الخادم عاكف بفتح الباب الخارجي عند صلاة الفجر، وكنس القاعة الداخلية، وتنظيفها. إذا استحق الأذان لصلاة ما، وقف الخادم على باب الزاوية، ورفع صوته بالأذان، يؤدي الصلوات في أوقاتها ويعود. يعقد مجالس بزاوية خطاب، في كل خميس من بعد صلاة الظهر.
اخترت زاوية خطاب لضيق مساحتها، وقلة المترددين عليها، ليست جامعًا، ولا مسجدًا. الدائرة المحدودة حولي تفي بما أرجوه من موضع مناسب لإلقاء العظات، وآذان تحسن الإصغاء، وعقول تحسن الفهم. عرَفت من توالي العظات ما يهم الناس، ما يعنيهم سماعه، تعلمت الكلام بما يناسبهم، ويجذبهم إلى عظاتي. ربما امتد النقاش إلى قضايا يقتصر الحديث فيها على العلماء: الاجتهاد في الفقه، تأويل القرآن، الموقف من الفرق، إلى قضايا اللحظة المعيشة: الحكومات والأحزاب والجمعيات السياسية والتضخم والغلاء والعولمة وتقلبات الجو والانفتاح وأحكام الدين ومكافحة الآفات وأزمات المرور وحوادث الطرق والاغتيال الفردي والفوضى وغياب النظام والعنف.
أيام كنت شابًّا، يا دوب في الواحدة والثلاثين، لم أكن أعرف ما ينبغي أن أكتمه، وما يقال. أقول ما أقول بعفوية. لا يدور بخاطري أني سأصير دافعًا كي تحاصرني اتهامات لا أعرف ماذا تعني، ولا تصورتها، مجرد آراء، اجتهادات، تشغلني، لا أعرف مدي صوابها. طرحت القضايا نفسها في الشيخوخة، وإن تكلمت بما لا يغير المعني، ولا يؤذي.
ثم وهو يمسِّد صدره: أن يختار المرء ما يمليه اقتناعه، فتلك هي الحرية.
وأشاح بيده علامة الرفض: لا قيمة لليقين الديني ولا حتى العدل ما لم يكن المرء حرًّا!
عانيت — تلك الأيام — غياب الراحة والطمأنينة والسلام، نظرات تترصدني، آذان تصيخ السمع، تقارير أخاف مفاجآتها. أشعر أني مراقب، حتى في الأشياء التي قد لا يعكس التعرف إليها ما يُدينني، حتى في الأشياء العادية التي أجاوزها.
أحاطتني النظرات من كل جانب، نظرات متسائلة، ومستريبة، ومتشككة، ومُدينة.
سألت نفسي: إلى متى سأتحمل هذه التصرفات؟ لماذا لا يبتعد مكايد حتحوت عن طريقي؟
رحيلي إلى الحجاز اختيار ضرورة، حاصرتني مضايقات مكايد حتحوت وطلبة شلبي أبو علي في بيت المسافرخانة، وإلحاح مديرية الدعوة بوزارة الأوقاف للعمل في القائد إبراهيم.
أعدت قراءة عرض السفر بنية القبول.