أعود — كما كنت — وحيدًا

اعتدل في جلسته، وأسند ظهره إلى الكرسي: أعتذر عن حاجتي إلى فترات استراحة، توطَّن الربو صدري، أحاول استعادة انتظام أنفاسي.

أنست عيناي لطيبة ملامح الرجل، وعفوية كلماته.

– جامع علي تمراز، أول ما زرته عقب العودة.

اكتفيت بالوقوف على ناصية الطريق من ناحية إسماعيل صبري، تأملت تبدلات المكان، لم تعد الفوانيس الخمسة في قلب الميدان، وحلت بنايات جديدة موضع ما أتذكره من بنايات قديمة، علت الطوابق بما يختلف عن الطابقين والثلاثة، الحوائط أكلها النشع والرطوبة وأملاح البحر، وما يشبه الخضرة تخللت الفجوات بين قطع الحجارة.

لم تكن السن تقدمت بي إلى هذا الحد، لم أكن — كما أنا الآن — طعنت في الشيخوخة. لعلي مثل المقاتل الذي يقضي فترة الإحالة على التقاعد. تُناوشه مواقف، يتمنى لو استعادها، يكرر الفعل، أو يتصرف بفعل مغاير.

تمنيت أن أعرف ما يقوله في داخله. إذا لم يجد ما يقوله، فإنه يظل صامتًا.

ران على صوته شحوب: للشيخوخة أعراضها، أهونها تغلب النوم وأنا أقرأ الجريدة، تنزلق من يدي إلى الأرض، يضعها الأحفاد على الطاولة حتى أصحو.

أدركت أنه ينتظر — بصمته — أن أقول شيئًا.

عض على شفته السفلى، وأضاف: عندما يبلغ الإنسان مرحلة الشيخوخة، فإن عليه أن يتوقع المرض والوحشة وفقد الأصدقاء، ربما أسلمه اليأس إلى ما يصعب تصوره.

وشوَّح بطرف يده: كل ما في الذهن الآن أن أواجه الشيخوخة بلا متاعب قاسية.

قلت: جئت للتقاعد؟

– من الوظيفة … لكن الوزارة منعتني من إلقاء خطب الجمعة. فهمتْ أني في سن التقاعد، وأنه لم يعد لدي ما أقدمه. رفض وكيل الوزارة عملي في أي شيء، ما لم يكن باطلاعه ومشورته.

نزلت في شقة ابني زين العابدين بشارع فرنسا، مفتش بوزارة التموين، ظللت فيها حتى انتهى ترميم بيت المسافرخانة، وتأثيثه، وتزويده بما يحتاج إلى إقامتي المتصلة، وصلاتي بطلبتي وزواره.

في دهشة: طلبتك؟

– من خطبتهم في علي تمراز صاروا شيوخًا … لم تنقطع الصلة.

زم شفتيه، نفخ في فنجان الشاي: جعلت في قاعة البيت حضرة للطريقة الأحمدية الشاذلية؛ قراءة القرآن، والأوراد، والذكر. جاء الأمر من نقطة الأنفوشي — في اليوم الثالث — بإلغاء الحضرة. اكتفيت بالقول — تعليقًا على أمر الإلغاء — طاعة الله والرسول وأولى الأمر واجبات لا نناقشها!

قلت: ما معنى الطريقة إن لم تقم الحضرة.

– كل شيء مرهون بوقته … أقمتها — قبل الأحداث الأخيرة — في زاوية خطاب.

قلت للشيخ: هل ما زلت صوفيًّا؟

– كانت الصوفية مرحلة من حياة الإمام البنا، وهي كذلك في حياتي.

ووضع يدًا فوق أخرى على مقبض العصا: الطريقة الآن تعاني تعبًا، يرفض المريدون سلطة المشايخ.

واربت البنت الصغيرة ضلفتي النافذة بما يأذن بدخول الضوء، تسللت حزمة من أشعة الشمس، صنعت على أرضية الحجرة نثارات فضية ملتمعة.

قلت: بحري حي صيادين.

– به الكثير من فرق الصوفية.

– ليسوا جميعًا من أبناء الحي.

كان الشيخ شلبي أبو علي يرفض الطرق الصوفية والدراويش، يجد فيهم عباد قبور. أفتى بعدم جواز الصلاة في المساجد ذات الأضرحة. جاهر النسوة بالعداء، عدا المسدلات، أو اللائي يغطين رءوسهن بإيشاربات. رفض فرق الصوفية لأنه يرفض التبرك بالقبور.

حدجني بنظرة مستنكرة: نحن لا نرفض الأضرحة لذاتها، بل نرفض المعنى الذي تحمله.

وسرت في صوته بحة: إذا أردنا التوسل بالله فنحن لا نلجأ إلى البشر، حتى لو كانوا أولياء أو أنبياء.

دعوت زوار حضرتي إلى وأد الدعوة بإزالة الأضرحة والمقامات، رد من يحاول الإزالة، وخوض المعارك، لو اقتضى الحال.

استطرد الشيخ حسن وردي لإنصاتي الهادئ: احترامنا لمقامات الأولياء هو احترام للأولياء، وليس عبادة لهم!

أطال قضم شفته السفلي، ثم قال: المقام أو الضريح ليس الكعبة!

وعلت شفتيه ابتسامة فاترة: لم يعد في الأمر ما يهمني، أخالط الناس في حياتهم اليومية.

ثم وهو يوسط الهواء بيده: خطباء الجمعة يقولون كلامًا مؤثرًا، لكنهم لا يقدمون شيئًا حقيقيًّا!

واختلج أنفه: أقسى ما يؤلم عندما يشعر المرء أنه مسئول عن أهل زمانه!

التفت نحوي في تأثر: لا تقل: انفض رأسك، فالشعور بالمسئولية حالة تسيطر عليك، يصعب أن تهملها.

ظل مطرق الرأس، صامتًا، كأنه يتأمل شمس الضحى في تسللها من زيق النافذة، عدَّل من وضع النظارة فوق أنفه، وقال: كانت البلاد مشغولة بمشكلات الفساد، وسيطرة رجال الأعمال، وتوطن أمراض السرطان والكبد والكلي، وحالات الاكتئاب والانتحار. حتى أراضي الدولة حُولت إلى أبراج سكنية وإدارية، ومنشآت سياحية، ومجمعات تجارية. عرَفنا — للمرة الأولى — عمائر البودرة، أي التي أنفق مالكوها على إنشائها من بيع المخدرات والمكيفات.

هلل وكيل وزارة الأوقاف لشئون الدعوة لرؤيتي: أهلًا بالطائر الذي طال تغريده خارج سربه.

اعتبرتُ الكلمات مجاملة، وإن وجدت العزاء في الجلوس إلى زواري في بيت المسافرخانة.

عزفت عن إقامة عَلاقة بالأحزاب أو التنظيمات السياسية، فضلت الصلاة — عدا الجمعة — في البيت، كي لا ألفت عينًا مترصدة، أكتفي بقراءة الصحف القومية، أعزف عن المجتمعات، لا أجلس على المقاهي، أخاطب محدثي في الهاتف بكلمات تقتصر على المعنى المحدد، لا أشارك في المظاهرات أو المؤتمرات. حتى المناسبات الدينية لم أعد أشارك فيها، وإن ظلت صلتي بعدد من أئمة الجوامع والمساجد في بحري وخارجه، حتى الشيخ المحلاوي الذي حل بدلًا مني في القائد إبراهيم، بعد أن اخترت الرحيل.

لم يقتصر تاركو بيت المسافرخانة على الضيوف الذين اعتُبروا غرباء، بدأ الطلبة — من المسموح لهم بالإقامة — في نقل كتبهم وأوراقهم وحاجياتهم، تناقصت أعداد النزلاء، خلت غالبية الحجرات، سادت الوحشة أرجاء المبنى، اضطربت أحواله، تضاءل إنفاق الأزهر عليه، فتضاءل دوره. أصابه الركود والإهمال. فقد ما كان يحظى به من عطف الموسرين. زاد تبدل الأوضاع، وتدهور الأحوال.

فطنت — متأخرًا — إلى زاوية خطاب، قريبة من البيت، أقطع خطوات قليلة لأؤدي فيها صلاة الفجر، استوقفني مصلون في مسائل فقهية، زاد من ترددي على الزاوية، صليت فيها أوقاتًا أخرى، واستبقيت نفسي لأرد على ما قد يُلقَى من أسئلة، ربما ألقيت خطبة الجمعة، وألقيت دروسًا في زاوية خطاب، لقربها من المعهد الديني، أو لأني أعرف غالبية المترددين عليها، يجالسونني، يسألون في فقه المذاهب الأربعة، والحديث النبوي، يناقشون أمور الدين، يأخذون ما أتاحه لي الله من خبرات في علوم القرآن والحديث والكلام والأصول والفقه على المذاهب المختلفة وعلوم النحو والصرف والبلاغة. أفسر النصوص، أشرحها، أعلق على المتون والحواشي، أنصح بإهمال ما لا يفيد، أوضح الغريب من المعنى واللغة.

لم أكن ألقي دروسي على التخصص، أختار ما أطمئن إليه من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، ومن فقه اللغة، ربما انعكس انفعالي في بكاء الحضور لغلبة التأثر على كلماتي.

جعلت دروسي عقب صلاة العصر، يوم الإثنين من كل أسبوع. أتحت لزواري أن يترددوا على مجالس المغرب لعلماء آخرين في أبي العباس وياقوت العرش ونصر الدين وعلي تمراز والبوصيري وعبد الرحمن وغيرها من مساجد الحياة وزواياه.

ألِفت — كما ترى — مناداتي بسيدنا، واعتذاري عن تقبيل الطلبة يدي، أو قيامهم لي إن التقينا في داخل مبنى المسافرخانة، أو في الطريق. عادتي أن ألقي التحية على من ألتقيه، حتى لو لم أكن أعرفه.

وهو يحاول التخلص من انفعاله: الأجدى أن أعلِّم من يخطئ في شعائر الدين ولا أعاقبه.

ثم شوح بيده: المسلم الحقيقي لا خوف منه.

وأدار وجهه ناحيتي متسائلًا: هل نعتنق الدين لنؤذي الناس؟!

قلت: هل يزور الزاوية كبار المسئولين كما كان الحال في علي تمراز؟

أطلق ضحكة قصيرة مرتبكة: في علي تمراز زارني الملك، أما زاوية خطاب فلا يزورني إلا رجال الشرطة، وإن اقتصرت زياراتهم على القعود والملاحظة.

قاعة البيت لاستقبال الزوار، أغلبهم من طلبة المعهد الديني، يغيب — في ساعات الصباح — صياح الأطفال وصراخهم، وإن ترامى صوت اصطفاق باب، أو سقوط جسم معدني على الأرض الصلبة، أو مُواء قِط يتناهى من مكان قريب.

المسافة قريبة بين البيت والمعهد والزاوية، يسألونه في غوامض خطبه، ينصتون إلى الآراء التي لم يجاهر بها في الزاوية، تدور أسئلة وأجوبة وملاحظات وتعليقات، يتململ الشيخ بما يعني التهيؤ لدخول البيت، فينصرفون. لم تعد السن تأذن بمجرد الاستيقاظ ساعات طويلة.

أحسست أنه قريب مني، لعل ذلك هو إحساسه ناحيتي.

تمنيت لو أني انقطعت إلى الشيخ بالحب والتلمذة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤