أغصان بلا جذور

المواريث هو علم الفرائض، بمعني أنه فرض من الله، والميراث مصدر من مصادر انتقال الملكية، حق الملكية يضم ثلاث نقاط: حق الاستغلال، حق الاستعمال، حق التصرف.

معنى الوقف هو التقرب إلى الله بالأعمال الصالحة. لم يضع الجد شروطًا إلا أن يتولى نظارة الوقف من يتصف بالصلاح والفضل والخير والفلاح، وأن يكون من حملة القرآن الكريم من السادة الصوفية.

تسمية الوقف تعني أن الأراضي والعقارات لا تتحرك إلا لوجوه البر والخير، لا يحصل عليها من يدينون بغير الإسلام. الوقف جعله صاحبه الله، لا يصير مملوكًا لامرئٍ ما، إنما هي على حكم الله، لا يجوز التصرف فيها. ربما جعل مالك الوقف تركته لسلالته من بعده، يتقاسمونها وفق قواعد الشرع، أو بما يراعي القسمة العادلة.

مكايد حتحوت هو صاحب الأمر والنهي، قد يستمع إلى اختلاف الآراء، لكنه يملك الكلمة الأخيرة، ما يقرره لا بد أن يُنفذ.

عهد الشيخ حتحوت الكبير إلى نفسه اختيار موظفي الوقف. جعل زهيري الصباغ مساعدًا له، يعينه على تيسير العمل، ومراقبة أداء الموظفين في العمل، يسجل مواعيد الحضور والانصراف، ما يطرأ من الإجازات والغياب والحضور والخصومات والفصل من العمل. من عمله اختيار أسطوات الصيانة: المرمَّاتي، المحَّار، الرخَّام، السباك، النجار، وغيرهم من الحِرفيين. أسند إلى أنور المشاقي مهمة تحصيل رَيْع الوقف، وعوائد عقاراته ومحاصيله، وتوريد ما يحصل عليه إلى الناظر، لا تقتصر إقامته على القاهرة، يسافر إلى الجهات التابعة للوقف، يستوفي حقوق الورثة بلا تقاعس ولا إهمال، يقاضي من يستأجرون عقارات الوقف ويماطلون في السداد، أو يمتنعون عنه، يوفون بما عليهم من إيجارات، لا ينهي مقاضاته إلا إذا حصل على أجر العقار كاملًا، أو طرد المستأجر من العقار. عهد إلى أفراد بحراسة العقارات والأراضي الزراعية، يدرءون محاولات السطو عليها. لم يكن — قبل هذا الزمان — حدود بين الزراعات. الكل يشارك في البذر والري والرعاية، ويتقاسمون الحصاد.

رحل الجد زين الدين المطعني دون أن يترك إلا عقود ملكية ومخطوطات ومذكرات، تشي بالوقف والورثة، تُعنَى بالقسمة العادلة التي تعطي كل وريث ما يستحق في ضوء ما تفرضه الشريعة، للذكر مثل حظ الأنثيين.

كان جدي يضيف كل نبت إلى شجرة العائلة، حتى تفرعت وتشابكت أغصانها وأوراقها. يدقق جيدًا قبل أن يكتب اسمًا في موضعه، الخطأ الهين يفضي إلى نتائج يصعب تخمينها. وكان يحرص ألا يذهب المال الذي جمعه بعرقه، لغير سلالته. قصر المستفيدين من أموال الوقف على من تضمنت القوائم أسماءهم. من حق كل واحد أن يحصل على حقه، إن أثبت ذلك الحق.

خصص مبلغًا لتوسعة وتجديد جامع ياقوت العرش، هو تلميذ المرسي وصفيُّه وزوج ابنته، يقضي فيه مريدو الطريقة أوقاتهم، يصلون، ويفيدون من المكتبة، ويقضون أوقات الراحة. ما بقي من رَيْع الوقف قصره جدي على الورثة. الأوراق تثبت حقه في كل مساحة الأرض، الأرض ملكه، طول عمره يرمم بناياتها، يحرثها، ويزرعها، ويجني حصادها، لا يستأثر برَيْع الوقف ولا الحصاد وحده، وزع منه على إخوته. حرص أن يكتب الأسماء بنفسه. أجهد ذاكرته في استدعاء أسماء الأبناء والحفدة، هؤلاء الذين كتب أسماءهم، قُدمت أسماء، وغابت أخرى. اقتصر ما كتبه على سلالة العائلة، الأوراق تتصل بالأغصان، الأغصان تخرج من جسد الشجرة. لم تكن قوائم الأسماء هي كل ما في الأوراق، تحيط بها وتتخللها دوائر ومربعات ومثلثات وخطوط متقاطعة ومتشابكة.

تضمنت حجة الوقف أموالًا وأراضيَ زراعية وعقارات وحيوانًا ومحاصيل، خصص جانبًا كبيرًا من عائد الوقف للإنفاق على زاوية خطاب: الإمام والقارئ والمؤذن والخادم، بالإضافة إلى المريدين الذين يتوسم فيهم الإمام حاجة للمساعدة. حبس عقارات في نواحي الإسكندرية على أعمال البر والصدقة، وأوجه الخير الصوفية، توزعت الأراضي في الوجه البحري والصعيد، وظل بعضها في السودان، حتى انفصل عن مصر، فصار الوقف حيازة للدولة الجديدة، شمل الوقف الكثير من قطع الأراضي والعقارات والدكاكين والوكالات والمخازن والأفران والطواحين والأموال الثابتة والمنقولة.

أصل الوقف يظل على حاله، لكنه يعطي عائدًا جيدًا، يفيض — في بعض السنين — عن مخصصات الورثة، يستأذن الشيخ حتحوت الكبير، فيخصص الفائض لوجوه الخير. قصر على نفسه تقاضي رَيْع الوقف، ووسائل إنفاقه، دافع عن أفعاله بأن أحكام الوقف تضمن مشروعية تنمية ما تدره الأراضي والبنايات الموقوفة، واستثمارها، وبيعها بما يفوق أثمانها الحقيقية. لاحظ الورثة أن الناظر يقصر الفائض على أفراد أسرته والقريبين. جعل الشيخ من الوقف وسيلة لسلب الناس أموالهم. أنفق من عائد الوقف على شراء الأراضي الزراعية وتأجيرها، والمتاجرة في العقارات، وبناء المجمعات التي تضم عددًا من الدكاكين والوكالات والمقاهي، وإقراض النقود مقابل فائدة معلومة، وتخصيص الرواتب لبلطجية يسلطهم على من يريد أذيته.

حين مات جدي، حرص الأبناء والحفدة أن يشاركوا في غسله وتكفينه، مجرد أن يلامسوا أدوات الغسل، أو الماء، أو قماش الكفن، يطمئنوا إلى أنهم أحسنوا وداع العائل.

حاولوا أن يدفنوه إلى جانب الأولياء الاثني عشر بميدان أبي العباس، لكن ضيق المكان جعل أبناء الشيخ يحوِّلون اتجاه الجنازة إلى ساحة قلعة قايتباي، جعلوه لحدًا بنية تغطيته بضريح، وإفساح الأرض من حوله، بما يصنع مزارًا له جلاله.

أقحم الشيخ حتحوت الكبير نفسه على جلسات الورثة دون أن تكون له بنِظارة الوقف صلة.

حين قال أبي إن من حق الورثة أن يرفعوا على الشيخ حتحوت الكبير دعوى إساءة التصرف، ثار الورثة، وسخفوا الرأي، وإن ظل أبي صامتًا.

رد أبي على سؤالي في طريق العودة إلى البيت: أفكر في رفع دعوى لمنع الشيخ حتحوت من التصرف في أموالنا.

– لكنها أمواله هو أيضًا؟

استطرد أبي بلهجة مشفقة: هي أموال أبنائنا وأحفادنا.

وضغط على كتفي: أموالك أنت أيضًا …

أضاف لشرودي الصامت: غدًا تكبر.

عائلة المطعني هي من يشكل أبناؤها أغصان الشجرة وأوراقها، من يُلقبون بالمطعني. الشيخ حتحوت يفتقد اللقب، لا يستطيع حتى أن ينتسب إليه، لكنه — لا أدري كيف — صار ناظرًا للوقف، جعل لنفسه التصرف في الميراث، يقضي، ويبيع، ويوزع الهبات والمنح.

لم يعد الوقف ملكًا لعائلة المطعني، سلبه آخرون، العدو الصريح ربما يسهل مواجهته، أخطر الأعداء من يزعم قرابتك ليستولي على ما تملك.

نبه علاء حكيم المطعني إلى أن من يساير الغرباء، وينصرهم على أبناء العائلة، فإنه يواجه العقاب الذي يبلغ حد إهراق الدم.

تحدى أبي الشيخ حتحوت الكبير أن يمضي في تسلسل عائلته إلى لقب المطعني. استعاد الشيخ نسب السيد عمر مكرم إلى البيت النبوي، وإن اكتفى بإيراد اسمه، واسم أبيه، وأجداده الأقربين. لم يجد في انتسابه إلى الدوحة الشريفة ما يدعو إلى الريبة. هو من نسل المطعني، وإن كان في غير حاجة إلى حجج وأوراق تثبت هذا النسب.

قال أبي: نحن لا نشتري شجرة النسب من السوق، هكذا وصلت إلينا، وهكذا يجب أن نسلمها لمن بعدنا.

روى الشيخ حتحوت الكبير حكاية الشيخ كيلاني أبو السرور شيخ الطريقة السعدية. مات قبل أن يخلف أولادًا. تناثرت الأسئلة: هل يختار المريدون أحد قرابة الشيخ لوراثته؟ أو يكون الوريث، الخليفة، من بين خواص الشيخ الراحل؟ أو تظل الطريقة بلا شيخ، فتُواجه التلاشي؟

أساء الشيخ أبو السرور إلى طريقته حين جعل الكثيرين في قائمة الخلفاء، يجتذبه موقف، أو عبارة، أو تصرف. يوصي أن يكون الشخص أحد خلفائه، قاربت أعداد الخلفاء أعداد المريدين. استبدل الولاية من البيعة التي توارثت الطريقة تقاليدها، إلى إسنادها لمن يجهل أمور الدين، أعملَ في ذلك وسائل التغلب والقهر.

حدد الشيخ حتحوت الكبير تسلسل الوراثة داخل مشيخة الطريقة، تنتقل من الشيخ إلى أبنائه، يظل أكبر الأبناء نائبًا، حتى يرحل الشيخ، فيحل بدلًا منه.

حرص الشيخ — وهو يتهيأ للرحيل — أن ينقل السر إلى مكايد، أكبر أبنائه، تكون وراثة الخلافة له، وتمكين أمره، يطمئن إلى رجاحة عقله، وحسن تصرفه. لو أنه تولى المشيخة، فسيتولى نظارة الأوقاف، يتصرف بما لا يظلم بقية الورثة.

أعطاه العهد، القبضة، البيعة، وضع نظامًا لتوريث الطريقة، يقصر المشيخة على أكبر الأبناء، فأكبر أبناء الابن.

عاب غالبية أبناء الطريقة أن أكبر أبناء الشيخ الذي أوصى له بالخلافة، لم يكن أهلًا لشيء. أدركوا أن هم الشيخ هو الحفاظ على الخلافة التي ورثها بالموالسة، والوقف الذي لا صلة له به، وتوريثهما لأكبر أبنائه، قال إن الحلقات لا بد أن تتصل دون انفصام. أخطر ما تواجهه الطريقة أن تنكسر السلسلة، تنفصل حلقاتها. ذلك ما سيحدث لو لم يصبح أكبر الأبناء خليفة لأبيه من بعده. ميراث الابن لأبيه مبدأ تعارفت عليه كل الفرق. لماذا لا يُطبَّق في طريقته؟

دعا أبناء الطريقة للموافقة أن يتولى أبناء الشيخ وحفدته — من بعده — أمور الطريقة، إحياءها، ضبط المنهاج الذي تلتزم به في قادم أيامها. لأن الابن يلازم أباه منذ الصغر، فهو الأقدر على خلافته. تعلم من أسرار الطريقة وعلومها وأورادها أكثر من سواه، شجع ابنه على مخالطة أتباع الطريقة، فيحظى برضاهم وموافقتهم. أحضر المصحف الشريف، دفع سائر النقباء والمريدين إلى إعلان موافقتهم على أن تصبح مشيخة الطريقة لمكايد أكبر أبنائه.

قال الشيخ أبو المعاطي همام: إن أوصى الإمام بوريث، على أتباعه أن يعملوا بوصيته.

وأشار بيده دلالة الرفض: لا أحقية لأحد في المشيخة من بعده إلا لمن اختاره.

قال الشيخ متولي مدكور: الوراثة حق أصيل لأبناء المشايخ.

تشابكت أصابع يديه في توتر واضح: تربوا في الصوفية، وتعلموا العلم على أصوله.

قال متولي مدكور: إنه ابن شيخنا.

قال أبي معترضًا: ألهذا اخترته؟

– حلقة في السلسلة الذهبية.

– المثَل يتحدث عن العالم الذي ربما أنجب فاسدًا.

– لا يصح المثَل في ابن لم يترك حضرة أبيه.

– لا عَلاقة للمشيخة بالأبوة والبنوة ولا انتقاص حق المرأة.

ومضت عينا الشيخ حسن وردي بنظرة متحيرة: لو أن الشيخة ذات الهمة أتمت دعوتها، ربما تغيرت الأحوال إلى الأفضل.

تساءلت في دهشة: ذات الهمة؟

– سيأتي حديثها في وقته.

قال: للذكَر — في الشرع — مثل حظ الأنثيين، لكن الكثير من المواريث تساوي فيها المرأة الرجل في الميراث، وربما يفوق نصيب المرأة — في مواريث أخرى — نصيب الرجل.

اتخذ الشيخ هيئة الواعظ من فوق المنبر، ضغط على الكلمات: حق المرأة في الميراث محصن شرعًا بآيات القرآن ونصوص الشريعة وأحكام القضاء.

وهز إصبعه في تأكيد: لم يعد حق المرأة مقتصرًا على ما يحصل عليه الرجل، إنها تفوقه في مواريث كثيرة، وتحجبه في مواريث أخرى.

وهو يغلف كلماته بنبرة تحذير: هذه نصوص في قوانين …

أطلت من عينيه نظرة مفعمة بالحزن: لكننا لا نقرأ!

ثم وهو يمسِّد جبهته بأطراف أصابعه: تساوي المرأة والرجل هو ما سعت إليه الشيخة ذات الهمة.

تحدث عن بنات من عائلة المطعني دفعن ثمن تعنت الشيخ حتحوت، وإصراره على حجب الميراث عن النساء: أعرف من تجاوزن الثلاثين دون أن يوافق الأهل على تزويجهن. خشُوا مطالبة الأزواج بحق الميراث.

جرى على أنفه بظهر سبابته: جميلة بنت الريس محمد مجاهد شيخ الصيادين … تنازلت عن حقها في الميراث لإخوتها الرجال حتى يوافق أبوها على تزويجها!

أطلق ضحكة عصبية لم أستطع تبين ما تضمره: حرمها من حقها الشرعي والقانوني بالحصول على تنازلها عن الميراث.

قال أنيس رشوان المطعني: صابرين بنت رفيق المطعني وقَّعت على ما يفيد استلام حقها في الميراث.

وهو يداري نظرة تضمر خيبة رجاء: تنازلت البنت عن حصتها الإرثية حتى يحق لها الزواج.

وهز رأسه في هيئة المتحير: حرص أبوها أن يبقي المال والممتلكات داخل العائلة، فلا تتوزع التركة في عائلات أخرى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤