الشيخة محاسن الملقبة بذات الهمة

وجد الناس في شخصية الشيخة محاسن مشابَهة لشخصية ذات الهمة، لم تكن في الجمال الذي تحدثت به الروايات عن ذات الهمة، لكنها كانت تمتلك شخصية شبيهة بما كانت عليه الأميرة العربية، ساست ذات الهمة الأمور، ووحدت أبناء قبيلتها على كلمة سواء، استقلت برأيها حتى عن الخليفة، دون خشية من أذًى.

روى مكايد أكبر أبناء الشيخ حتحوت الكبير لأبيه ما حدث من الشيخة محاسن، وما حدث لها، حين سعت للحصول على حقوق الورثة:

عكفت على العبادة، وأداء الفروض الدينية. ظلت تتردد على مقام المرسي أبي العباس حتى استوت معرفتها، لقيت أجوبة الكثير من الأسئلة، صارت — في تقدير مريديها — مؤهلة للوقوف في مصاف أولياء الله الصالحين، لجئوا — وأبناء الحي — إلى مشورتها، استغاثوا بها أوقات الشدة، تعينهم بالمشورة والنصائح وتحديد المسارات. لم تكن تأذن بالخلاف أو التناحر، قولها هو الفصل في كل ما يثار من مشكلات، يعلو به صوتها — أو يهمس — فيرضخ الجميع لما تقول.

إذا استعصى عليها حل مشكلة ما، فإنها تلجأ إلى الصلاة، تفرد السجادة أمامها، تؤدي ركعتين، لإراحة النفس، وليس للاستخارة.

بدت لها الأمور واضحة، وأدركت أي الطرق ينبغي أن يُسلك.

حين التفتت إلى زاوية الست مدورة بنظرة ملهوفة، كانت قد وضعت تصورًا للطريق التي اختارتها.

قوة دافعة، غامضة، مضت بها إلى ميدان أبي العباس. صعِدت الدحديرة خلف الجامع، جسرًا ترابيًّا إلى الموازيني. قرأت الفاتحة للسلطان أسفل الجامع، ثم اتجهت بكليتها إلى صف البيوت القصيرة المتلاصقة، لولا أنها تعرف موضع ضريح الست مدورة جيدًا، ربما كانت أخطأت مساحته الصغيرة.

لم تُعِدَّ الكلام الذي أزمعت أن تتوجه به إلى مقام الست مدورة، اختارتها لأنها الامتداد لنساء آل البيت، وأولياء الله من السيدات، محاسيب آل البيت يجدن صحيح الولاية في بنات الرسول، وسيدات البيت النبوي، هن المثل والقدوة لشيخات أظهرن كرامات الولاية بأقوال وتصرفات ومعجزات وخوارق: رابعة العدوية، مريم البصرية، لبابة المتعبدة، سيدات كثيرات لهن قدم كبيرة في التصوف.

قالت: أتيت لأحصل على بركتك، وليس على موافقتك.

دون أن تدير رأسها: سأنفذ ما اعتزمت حتى لو لم يكن مقبولًا!

قالت إن الرسول وضع مؤهلًا لإمامة المسلمين، هو العلم والقرآن.

هي أخلصت في حفظ القرآن، وما اطمأنت إلى صحته من الأحاديث الشريفة، وسيرة القطب الشاذلي وتلاميذه، وما تيسر لها قراءته من أذكار الشاذلي وأحزابه وأوراده، وحاولت التفقه في الدين قدر ما وسعها الفهم، اختبرت الخوف والصدق والمعرفة والشوق والأنس والجمع والتفرقة والبقاء والفناء والقبض والبسط والتأمل والتعرف والتولع.

فاجأت الجميع باندساسها في حلقة الذكر، أهملت النظرات المتسائلة، والمتطلعة، والفضولية، أخذت مجلسها دون تلفُّت، رفضت عزلة النساء في موضع مستقل. الزار هو الأقرب للمرأة. لم يتصور رجال حلقة الذكر أن تشاركهم الأداء امرأة، للشيخة محاسن قدرها ومكانتها، لكن الزار ربما أكثر ملاءمة للمرأة.

لم تنعزل عن الرجال، إنما كانت تجلس في الموضع الذي تجده خاليًا، لا يشغلها من يجلس جوارها. حصنت نفسها بحاجز غير مرئي، لرد الفضول والمضايقة. لم تجد سببًا لرفض الصيادين وجود امرأة على البلنصات في إبحارها للصيد، حتى الزوجات — رغم اشتغالهن، داخل الحلقة، بالبيع والشراء — لا يتركن الحلقة، أو يبقَين في البيوت.

حين سألت شكور الحسني ريس البلنص «سلطان البحر»، قال: وجود المرأة في المركب يصيبه بالعجز، يخاف عليها فتربكه! لماذا يطوف الحجاج ببيت الله الحرام، دون تفرقة بين النساء والرجال؟

فاجأت الحضرة بطلب الكلمة.

غالب الشيخ حتحوت الكبير تردده قبل أن تدفعه النظرات المشفقة إلى الموافقة، قالت إن بداية الحياة رجل وامرأة، واستمرارها يقوم على المرأة والرجل، وحساب المرء يوم القيامة لأنه إنسان.

قالت: أول مبادئ الشريعة تساوي المرأة والرجل في الحقوق والواجبات.

أغمضت عينيها، واستطردت قائلة: ميراث المرأة حق لها.

وُشِّيَ صوت الشيخ بتنمر: حتى لو خالف الشريعة؟!

هي ليست الشيخة محاسن التي لم تكن تترك موضعها لِصق جدران أبي العباس، دعاها إلى حضرته، شغل نفسه بتعليمها، وتربيتها ورعايتها وتنبيهها إلى الخطأ، وما ينبغي تجنبه، حتى أعاد صنعها. يعلو صوته: نسيتِ كل شيء، لا تتذكرين إلا وقفًا من اختراعك!

أطالت الحديث عن حقوق المرأة في الإسلام، صار لها حق الميراث والمتاجرة، مثل الرجل، وحق اختيار زوجها، وحق الطلاق، وحرية التصرف في أموالها. استعادت — بصوت منغم — آيات في سورة النساء، لماذا خصها الله بعلم الفرائض، وتوزيع أنصبة الخلق؟ لماذا يحلو للبعض أن يسطو — بحجج واهية — على أموال الإناث؟ لماذا يصبح مال المرأة نهبًا لصراع وهمي بين حق العائلة الميراث، وطمع الزوج في الحصول على نصيب زوجته؟

آيات المواريث في القرآن جعلت للنساء والذكور نصيبًا مطلقًا في الميراث. حبس المطعني وقفه على سلالته من بعده، لم يفرق بين ذكور وإناث. وصاية الشيخ حتحوت الكبير فرضت التفرقة، ألَّفت ما كانت تشترطه الوصية، قصرت المتن على الذكور، يبقى الإناث على الهامش.

حكايات التاريخ تروي عن الأوقاف التي خلفها نساء، عاد رَيْعها إلى الذرية من الرجال والنساء. ذكَّرَت الشيخ حتحوت الكبير بناظرات نساء على أوقاف أخرى كثيرة، بعضهن تولت نظارة الكثير من الأوقاف. أدَرْنها، تعاملن مع الورثة والمستأجرين، وقفن أمام القضاء للدفاع عن حق الورثة.

لماذا تقتصر أوقاف الرجال على الذكور دون الإناث؟

لماذا التقسيم؟

أدانت إهمال حق المرأة في الميراث، جعلها ضعيفة في مواجهة التقاليد التي تنتهك حقها، عابت على الشيخ حتحوت أنه فعل ما لم يفعله ذكور عائلة المطعني، أتاح سيطرة الذكور على أموال لا حق لهم فيها شرعًا ولا قانونًا.

قالت: ما أريده أن يتسلم كل وارث حقه عقب وفاة الموروث.

وجدت في تخصيص أماكن للمرأة في الحضرة، لا تشارك في الطقوس والشعائر التي تقتصر على الرجل، ما يقلل من مكانة المرأة، هي تطوف الكعبة إلى جوار الرجل، ويختلط الجميع في مناسك الحج، لماذا تخالف اجتهادات الطرق ما دعت إليه السماء؟

كل شيء قابل للتعديل والتغيير والإضافة والحذف، وتقديم ما لم يكن موجودًا، عدا الكتاب والسنة. عابت على كل الفرق أنها لا تقبل عضوية النساء، ترفض دخول النساء إليها. إذا لم يشهد التاريخ الإسلامي طريقة باسم سيدة، فإن طريقتها، طريقة السيدة محاسن، هي أول طريقة شيختها امرأة.

– نحن نعبد الله كآدميين، لا دخل في الأمر لذكورة ولا أنوثة.

حذَّرَت من أن عضوية الفرق الأخرى، لا تأذن للنساء بالانخراط فيها.

قال الشيخ توكل أبو عامر إن الصوفي — بطبعه — يتعاطف مع المرأة، يحرص على نصيحة الترفق بالقوارير. تحدثَت عن «الشفاء»، المرأة التي ولاها الخليفة عمر القضاء، وعن رأي أبي حنيفة في جواز تولي المرأة الحكم، وأجاز المالكية أن تكون وصية ووكيلة، وعن وجوب إنفاقها على زوجها إن عجز عن الكسب.

أزمعتْ أن تنشئ طريقة صوفية، تكون هي الشيخة، لا تقتصر الطريقة على النساء. أولياء الله من النساء لسن بدعًا ولا اختراعًا، ثمة نساء صوفيات في التاريخ الإسلامي: فاطمة الزهراء، عائشة، خديجة، نفيسة، سكينة، رابعة العدوية، وغيرهن مئات. تنسب إلى أمها فضل اكتسابها صفة المقاتلة.

قبل أن تجلس للفتيا، زارت جوامع السيدة زينب، والسيدة عائشة، والسيدة سكينة، والسيدة نفيسة، والسيدة فاطمة النبوية، ورابعة العدوية. استلهمت، واستأذنت، في السير على درب الحقيقة، تفيد الناس بما بصَّرها من علمه، وما أهلته لها القراءات ودراسة المشكلات والتأمل، من تفسير آيات القرآن، وإجلاء معاني أحاديث الرسول، وأحكام العبادات الشرعية. تميل في عظاتها إلى تخفيف أمور الدين على البسطاء.

أطلقت على طريقتها اسم «النسائية»، تأكيدًا لدور المرأة في الصوفية.

رنا إليها الشيخ طلبة قمحاوي بنظرة إشفاق: لم يحدث أن امرأة تولت مشيخة طريقة!

التمعت عيناها بالتحدي: إن كان ذلك صحيحًا، فلماذا لا يحدث الآن؟

قال الشيخ: هل هذه الطريقة لضمان حق المرأة في الوقف؟

قالت الشيخة: لن تنشأ مشكلة لو أن الجد وزَّع الوقف على الأبناء والحفدة بالتساوي، لا يفرق بين رجل وامرأة، ولا بين أسرة وأخرى.

أخفق في مداراة انفعاله:

لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا [النساء: ٧].

لم يُشر الشيخ إلى من يقصده بحكاياته. تحدث عن ست الغرب، أخت الزناتي خليفة، ودورها في إشعال نيران الفتنة بين بني هلال. والبسوس التي أجادت صنع الوقيعة بين بكر وتغلب. وريمة بنت عم السلطان حسن، والخيوط التي حاولت نسجها لصراع دائم بين أبناء الهلالية.

وعلا صوت الشيخ: لمنع المرأة من الميراث حكمة، الخوف من تشتت الأرض وضياع ملكيتها بدخول الأغراب مصاهرين أصحابها.

ظلت الست ذات الهمة في طريقها، العبادة والعفة والزهادة والأمل، إذا ألم بها مرض، فإنها تغلق باب حجرتها، لا تأذن لأحد بالدخول، إلا للخادم نبيهة تحمل ما تحتاجه من الأعشاب الورقية والطب النبوي، ترفض تعاطي الأدوية.

تبرأ من المرض، فتخرج إلى الناس.

ما تقوله يجاوز الحكمة، أو النصيحة، إلى فعل يُقبل المريدون على أدائه بنفوس مستريحة، وضعت لمريديها كتابًا — نسخوه — يضم صفحات كثيرة من الاستغاثات والأحزاب والأوراد، أقبلوا على دروسها وتعاليمها بنفوس راضية، تعلن لها الحب والإكبار.

لم تكن قد ظهرت على الست محاسن أمارات الولاية، كانت حياتها عادية تمامًا، حتى وافقت — في الصف الثاني الثانوي — على الزواج بجاد ربيع المدرس براتب باشا الابتدائية، أنجبا ولدًا وحيدًا. لم يعودا — من رحلة في البحر — إلى الأنفوشي، لزمت البيت — اتقاء الفتنة — لا تتركه، حين جاءها محمد عارف الموظف بالدائرة الجمركية يطلب يدها، أبدت انشغالها بما يصرف عن الزواج.

اختارها الله للولاية.

لم تتحدث عن كرامات اختُصت بها، ولا نسبت إلى نفسها أية علامة، وإن رأى الناس من كراماتها ما يعجِز عن تصوره الخيال، حتى الذي سكن جسده فظن الناس وفاته، مسحت على جبهته بأصابع مترفقة، فانتفض كمن صحا من استغراق حلم.

لكل طريقة شيخ يأخذ المريدون العهد على يديه، وهي شيخة طريقة، يأخذ المريدون العهد على يديها، لا يهم إن كانوا من النساء أم الرجال، يشاركون — دون تفرقة — في الحضرات، يمارسون السماع والإنشاد والتسابيح والابتهالات والغناء. تجد الشيخة في لقاء مريديها ما يعدل الصلاة في جماعة. استغنت — بالطريقة — عن كل ما في الدنيا من إغراءات.

جعلت من نفسها مدافعة عن حق التوزيع العادل للثروة، المنزَّل من السماء، الاعتداء على حقوق المرأة هو اعتداء على حدود الله.

خصصت درسها بزاوية الست مدورة للكلام عن رفض الشيخ حتحوت الكبير منح المرأة حقها في الوراثة. اتهمت النساء بضعف الوعي، والرضوخ لإرادة الرجل.

– نسل عائلة المطعني لا ينقطع بالنساء، نسل آل البيت أرحامه الأولى من الإناث.

حين عرض عليها عبد التواب قرني صاحب المَقْلَى أول شارع الميدان، أن يخطبها لنفسه، عاودت الرفض، ارتابت في أنه يسعى لمقاسمة نصيبها من الوقف، بعد أن جاوز الاستحالة. رفضت عروضًا بالزواج من رجال مهمين في الدولة، وتجار كبار يحركون ملايين الجنيهات، وإن قال طلبة الشيخ حتحوت الكبير إنها نسبت إلى نفسها نصيبًا في الوقف، لتظل مرغوبة في عين الرجال، لم يعد في سنها المتقدمة ما يغري، فهي تحاول تعويض المال بالجمال الذاهب.

أثار السيدة محاسن ما أقدم عليه شقيقها حذيفة التاجر بالسكة الجديدة، من بيع التنازل بالبيع عن الأرض التي يرثها، تدخلت بالشراء للاحتفاظ بحقه في ملكية الأرض: لو لم أستعد الأرض سيقلدك إخوتك، ونفقد حقنا في الميراث، لن يبقى ما نرثه.

جاوزت ذات الهمة طلب حق نساء العائلة في الوقف، إلى رفض ما يعيق المرأة عن الحصول على حقوقها، دعت نساء الطريقة إلى الجلوس في أي مكان، لا يقتصر جلوسهن على أطراف الحضرة، ذلك ما قد تحرص عليه الطرق الأخرى، لكن المساواة حرص الطريقة النسائية، من يخشى الفتنة، فإن عليه أن يخشى نفسه. عُرِف عنها شدة الضبط والمواظبة على وظائف العبادات، لا موضع في حضرة الصوفية لتصرفات تنقصها البراءة، وتصرف القلوب عن التلاوة والأدعية والذكر والتسابيح والابتهالات والسماع.

تزايدت أعداد المعتقدين في بركاتها. منعت اختراق مريديها من أتباع الشيخ حتحوت الكبير، ومن مريدي الفرق الأخرى.

قبل أن يلقى الشيخ طلبة قمحاوي وجه ربه، أوصى أن تصلي عليه السيدة ذات الهمة، قال في لهجة مستغربة: هل نرفض إمامة المرأة لأنها امرأة؟!

زال حرجها بإلحاح المصلين، وأمَّت صلاة الجنازة على الشيخ الراحل.

مضت في طريق الهداية دون وسيط. أتعبها التأمل والحيرة والدهشة في درب المجاهدة. لم تكن في حاجة تريزا إلى أبي الحجاج الأقصري، ولا فاطمة بنت بري وتبدل حياتها عقب تعرفها إلى السيد البدوي، ولا رابعة العدوية التي ألزمها الهاتف أن تغير ما كانت تعيشه إلى حياة أخرى، تقطرت سماؤها بالصفاء، سكن النور قلبها، معظم يومها تحمل المسبحة، تؤدي الصلاة في أوقاتها، تهمس شفتاها بالتهجد والأوراد والتسابيح، أخلصت للرياضات الروحية والمجاهدات، صالت في الميادين الفقهية والصوفية، تدرجت في المقامات الصوفية من التوبة إلى المحبة، عرَف الناس أنها من أصحاب الحب الإلهي، والوجد الرباني، أقر لها المشايخ ورؤساء الفرق بالمعارف والولاية.

امتنعت عن لبس الخرقة كما يلبسها المتصوفة الرجال، وامتنعت عن لبس ما لا ترتديه النساء، لم تبدل العباءة التي كانت ترتديها منذ أدركها البلوغ، عكفت على العبادة والتبتل، تقوم الليل، وتصوم النهار. ربما فرغت إلى وردها الليل كله.

كثر حديثها — في آخر العهد بالدنيا — عن قرب الرحيل. قيل إنها حددت ميقات موتها، وماتت في الموعد الذي حددته.

قالت: إذا أردتم السير في طريقي، فهو بالحرص على ملكية الوقف، يتساوى فيه آل المطعني، لا يئول إلى سواهم.

حين زارها هاجس الموت، دعت مريديها، تكلمت عن عبر الحياة والموت، حددت كل ما يتصل برحيلها من الدنيا حتى تنزل القبر، تلفتت حولها: في هذه القاعة يتم غسلي. ثم كأنها توصي: يقتصر الحضور على أم إسكندر المغسلة، وخادمتي نبيهة، إن هُيئتُ للدفن، وُضعتُ في النعش، إذا رأيتم في جنازتي شيوخًا لم تروهم من قبل، يتصدرون المشهد، ويتلون الأدعية، فإنهم أولياء الله الست مدورة والمرسي وياقوت العرش والبوصيري ونصر الدين وكظمان، يريدون تكريمي، فالزموا الصمت، لا تقاطعوا، ولا تشوشروا. كان هداهم طريقي إلى الله. تسير الجنازة من شارع الأباصيري إلى ميدان «الخمس فوانيس»، أطلب من المشيعين، أو أدفعهم إلى الوقوف أمام جامع ولي الله علي تمراز، سبقني إلى السماء، فأحدثه عن قرب اللقاء. تواصل الجنازة سيرها إلى تقاطع شارعي إسماعيل صبري والميدان، وقفة أبنائي من المريدين هي التي تحدد سير الجنازة، نخترق شارع الميدان إلى جامع الشيخ إبراهيم. لا يحول غطاء النعش، في صعود الرجال درجات السلم، دون رؤيتي الآلاف الذين سيدفعهم الفراق إلى صحبتي، تميل الجنازة — بعد أداء الصلاة — إلى المنشية، ومنها — عبر شوارع العطارين — إلى كرموز، أشفق على تأثر تلاميذي لقرب الفراق، ليتهم يهملون تصور الكرامات، وأنا أسبق الملقن في كلماته، يهبطون بالجسد إلى الأرض، تصعد الروح — في اللحظة التالية — إلى السماء، سبقني أنبياء وصحابة وتابعون وأولياء، يحتوينا الخلد في جنات النعيم.

مدت خادمتها نبيهة إصبعيها الإبهام والسبابة، أسبلت العينين المفتوحتين، لما ظلت العينان مغلقتين، عرفت نبيهة أن السيدة ذات الهمة قد رحلت في صحبة أولياء الله.

قدمت إلى بحري جماعات من الصوفية، ينتمون إلى فرق متعددة، زادت الأعداد من لحظة إعلان وفاة السيدة ذات الهمة، أول الليل، حتى ضُحى اليوم التالي، امتلأ ميدان أبي العباس والميادين والشوارع المحيطة، صنع المريدون خيامًا حول الضريح، أقيمت الأكشاك والمصاطب، علا الإنشاد والأدعية والابتهالات والأعلام والبيارق والكلوبات، تحول المكان إلى ما يشبه المولد بباعة المصاحف وسيرة الرسول والأحزاب الشاذلية والأدعية والمسابح والبخور والحلوى وأكشاك الطهور. حتى الأشجار المحيطة بالميدان تغطت بالمريدين، يحاولون إلقاء نظرة وداع، قبل أن ترحل السيدة ذات الهمة إلى رحاب الله.

تقدم الشيخ أحمد رضوان شيخ الطريقة الأحمدية الشاذلية عددًا من شيوخ الطرق، وأئمة المساجد، في سيرهم أمام الجنازة، يحيط بهم، وبالنعش، جنازة هائلة، تتخلل الشوارع الجانبية، وتمتد إلى ميادين وشوارع بعيدة، آلاف المريدين والأتباع من بحري والأحياء المجاورة، ومن مدن خارج الإسكندرية. حلقت الطيور فوق زحام جنازتها، رفرفت على نعشها، بدَّلت بالصيحات ما يشبه الابتهالات السماوية.

تخلل النسوة زحام المشيعين، تناثرت العباءات وسط الجبب والقفاطين والجلابيب والبدل. بدا النعش زورقًا يعوم فوق أمواج البشر، حاول عساكر الشرطة تنظيم الفِرق، لكن الأعداد الهائلة ابتلعتهم.

أصرَّت الشيخة — في أثناء الجنازة — أن تزور ما كانت تسير فيه من الشوارع والأسواق والميادين، وما كانت تتردد عليه من الجوامع والزوايا والأضرحة والمقامات ومجالس العلم.

عندما رفعوا غطاء النعش، وهموا بإنزالها القبر، تضوعت رائحة ذكية، استنشقتها الأنوف في نشوة، عرف المريدون أن الجنة تتهيأ لاستقبالها، استمرت القراءة عند ضريحها أربعين نهارًا وليلة.

صنع المريدون — عقب رحيل الشيخة — ساحة باسمها في الأرض الردم المطلة على يمين الأنفوشي، توسطها مقام، مفروش بالجوخ البني، يحيط به مقصورة معدنية، غُطِّيَ جانب منها بسرادق ذي سقف يحجب الشمس والمطر.

فشت الروايات عن كرامات السيدة ذات الهمة فُشوًّا عظيمًا في الجوامع والزوايا والقهاوي والقعدات الخاصة. تقاطر الناس على مقام الشيخة، يهمسون بآيات القرآن والأدعية والابتهالات وطلب المدد، يغمضون الأعين، ثمة نسوة يستلقين على أرضية المقام، يتمرغن على التراب، طلبًا للبرء من العقم، يشممن تضوع الرائحة الذكية، يمسحن المقصورة بأطراف أرديتهن، يتنقلن بين ملامسة الأعمدة النحاسية، وتمسيد الوجوه ببركة صاحبة المقام.

لا أحد يذكر مصدر الشائعة، نُسبت إلى خادمتها نبيهة أن نقود صندوق النذور لسعت يدها بمثل النار، لما حاولت أن تأخذها لنفسها، أغضبها ما حدث، فأذاعت أن بركات الشيخة ليست لها، شُيد المقام على أرضية مقامِ وليٍّ عالي المكانة، وإن كتم عن الناس بركاته ومكاشفاته، حتى مات وهو في ظن الناس مجرد درويش لا حول له ولا قوة.

ظل مقصد الناس لمقام الشيخة تبركًا، وطلبًا للنَّصَفة والمدد والشفاء وتطهير الجسد والروح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤