قمة المجد
لم يكن ابن عمار ليَغْبى عن فهم الأمر فهو على يقين أنه قد هُزِمَ ولكن لا بُد له أن يُظهِر للمعتمد أنه انتصر حتى يهدأ طائره وتطمئن نفسه، أما ابنُ عمار فإنه يعلم الحق من الأمر ولكنه لم ييأس إلى الهزيمة بل إنه ليُصِر في بعيد نفسه أن ينال مرسية، وقد خشي ابن عمار أن يُظهِر إصراره هذا للمعتمد فيغضَب فأخذ يعمل وحده مُستخفيًا مرسلًا الرسل إلى مرسية مُتنطِّسًا أخبارها، وقد خشيَّ ابن عمار أن يعرف المعتمد بما يفعله فلم يجد وسيلة خيرًا من الإغراق في الخمر والتظاهُر بهذا الإغراق ما وَسِعَه التظاهُر حتى تناقَل الناس عنه ذلك وحتى بلَغَته قالة الناس، فإذا هو يَنظِم أبياتًا ثلاثة يكتبها فلا يُظهِرها لغير المعتمد حتى يثق المعتمد أن ابن عمار قد عاد إلى ما كان عليه من خمرٍ وشِعرٍ بعيدًا عن السياسة وطموحها:
يظهر ابن عمار المعتمد على هذه الأبيات مُبديًا فيها كرهه للناس ولا يخشى أن يغضب عليه المعتمد لأنه بإظهارها له يستثنيه من هؤلاء الذين قلاهم فأبعدهم؛ فقد كان ابن عمار يعلم أن هذه الأبياتَ لا بُد واقعةٌ في يد المعتمد وخشي أن يظن نفسه ضمن هؤلاء الناس، فابن عمار يُسارِعُ بقراءتها عليه لهذا جميعه وليفتح للمعتمد بابًا يقول فيه الشعر بعد أن ثاب إليه ولده فعاد إليه لُبُّه غير مُشتركٍ فعساه إذن أن ينشغل بمعالجة الشعر عن متابعة ابن عمار.
ويفرح المعتمد بعودة ابن عمار إلى الشعر والخمر ويفرح أيضًا ببغضه للناس فإنه بهذا سيفرغ له فيرتاح نفسًا، ويهدأ خاطرًا؛ فقد كان يخشى طموح ابن عمار فهو يعلم أن آماله لن تقف به إلى حَدٍّ ينتهي إليه، وهو يعلم أن آمال ابن عمار هذه محفوفة بالأخطار فهي تمتد إلى الفتوح الجديدة وإلى الممالك بأكملها وكان لا بُد لفتح الممالك من الجيوش والأموال والرجال، وكان لا بُد أيضًا أن يتعرض ابن عمار في هذه الفتوح إلى الأخطار المُحدِقة وهو لا يكتفي بأن يُقدِّم نفسه بل هو يزيد فيحيط أبناء المعتمد أنفسهم بما يخشاه المعتمد عليهم.
كان المعتمد يعلم هذا جميعه وكان يعلم أيضًا أنه لا يستطيع أن يرفض مطلبًا لابن عمار فهو يخشى أن تظل هذه الآمالُ تُداعِبه فيطلب الجيوش والأموال ويُضطَر المعتمد إلى أداء هذه المطالب وهو كاره وإنما يؤديها حبًّا لابن عمار لا لشيء آخر. كان المعتمد يتمنى أن يفتح الممالك وأن تنضم إلى ملكه ولكنه يريد ذلك بغير عتاد ولا مشقة فإنما لا يُزهِيه من هذا الاتساع إلا أن يقول الشعر ويفخر بمجده ومجد وزيره. أما إذا كانت الفتوح تُكلِّفه عنتًا من أمره فبحَسْبه المجد الذي تمَّ له وهو غني كل الغنى عن فتوحٍ أخرى. وهكذا فرح المعتمد أن ابن عمار عاد إلى الخمر والشعر وأغضى عن آماله الواسعة.
ويُحِسُّ ابن عمار بهذه المعاني التي تدور بنفس المعتمد فينكب على الشعر والخمر متحينًا الفرصة ليعود إلى ما كان يطمع فيه واثقًا أن المعتمد لن يخذله. ويزيد ابن عمار من إظهار ميله هذا للخمر ومجالس الغناء حتى إنه لا يكتفي بتلك المجالس التي يُفسِحها له المعتمد بل هو يقبل دعوةَ من دعاه إلى مثلها فهو يقصد إلى بيوتِ خاصَّة أصدقائه فيشرب ويسمع ويبلغ هذا المعتمد فيشتد يقينه أن ابن عمار لن يعود إلى السياسة أبدًا.
وقد حدث يومًا أن أرسل إليه أحدُ خاصته يدعوه إلى ليلة من تلك الليالي وكان هذا الصديق شاعرًا فكتَب إلى ابن عمار يقول:
ووصَلَت الرفعة إلى ابن عمار وهو في زاويةٍ من بيته يتَسقَّط أنباء مرسية من عيونه بها، فلم يستطع أن يترك هذا الأمر الجليل من أجل إتقان تظاهُره فأغضى عن الدعوة وظل ليلتَه في شغلٍ عنها خطير حتى إذا طلَع الصبحُ كتَب إلى هذا الصديق يقول له:
وهكذا وفَّق ابن عمار بين التظاهُر بالمجون وبين العمل الجليل الذي يقوم به، ولكنه في هذه الليلة كان قد سمع أنباءً ضخامًا وكان لا بُد له أن يتهيأ للعمل بعد أن طال به الهجوع إلى الخَمر والغِناء والرقص.
كانت الأنباء تقول إن مرسية قد حان قِطافُها ولكن ابن عمار لم يشأ أن ينقلب فجأة أمام المعتمد من مخمورٍ لاهٍ إلى رجلِ عملٍ؛ فهو يتقدم إلى المعتمد ليتحدث عن ولده الأمير الراشد الذي أصبح أميرًا على قرطبة، ثم هو يُطيل من الحديث عنه ليُثير شوق المعتمد إليه حتى إذا وصل إلى غايته قال للمعتمد إن الأمير أَرسَل يطلبه ليقضي عنده بعض ليلةٍ يُسرِّي عنه فيها فيَفرَح المعتمد لإخلاص ابن عمار ويسأله أن يُبلِغَ تحياته إلى ابنه.
ويذهب ابن عمار من فَوْره إلى الراشد بقرطبة ويجلس إليه يروي له من شِعره وشِعر غيره حتى إذا دارت الكأس وانتشى الراشد نظَم ابن عمار أبياتًا في جلسته تلك يقول:
تمتد الجلسة إلى الصباح والجالسون لا يُحسُّون بليلٍ ينحسر ونهارٍ يُشرِق حتى يأتي خادم فيؤذن سيده أن الإصباح قد أقبل فإذا ابن عمار ينطلق ناظمًا مُوجِّهًا كلامه إلى الخادم والخادم مبهوتٌ لا يفهم شيئًا مما يُلقى إليه:
وهكذا مكث ابن عمار لدى الراشد يُظهِر أنه يُسلِّيه وهو في الواقع يستطلع أنباء مرسية التي كانت قريبةً إليه حتى إذا علم أن الوقت قد حان أرسل إلى المعتمد يخبره أن مرسية ثائرة على حاكمها «ابن طاهر» وأن زعماءها قد كتبوا إليه يريدون جيشًا من المعتمد يفتحها، ويُلِحُّ ابن عمار في خطابه ولا يفوته أن يذكر أن ليس ثَمَّةَ رهينةٌ ولا اتفاقٌ فليس ثَمَّةَ خشية، ومرةً أخرى يُصدِّق المعتمد أقوال ابن عمار فيرسل الجيش على أتَمِّ أُهْبة ويتولى ابن عمار قيادة الجيش ويأخذ سبيله إلى أقرب حصن وهو حصن «بلج» وكان زعيم الحصن رجلًا يُدعى «ابن رشيق» ما إن يسمَع بقدوم ابن عمار حتى يخرج إليه ليستقبله ويدعُوه للنزول في قصره فيَقبل ابن عمار الدعوة ويُفسِح له الضيف مكانًا رحيبًا ويسكُب عليه من الحفاوة والتكريم ما لم يكن ابن عمار ينتظره. وامتَحَن ابن عمار «ابن رشيق» فعَرفَ أنه يستطيع أن يثق به فحادثَه في أَمْر «مرسية» وطريقِ فتحِها فإذا ابن رشيقٍ على أتَمِّ معرفةٍ بحالة مرسية وبالوسيلة التي تصل بهما إلى الفتح. وهكذا وجد ابن عمار عونًا من حيث لا يحتسب وما هي إلا بعضُ الساعة حتى كانت حامية حصن بلج تحت قيادة ابن رشيق قد مشَت مع جيش ابن عمار في طريقهما إلى مرسية.
كانت بلدة «مولا» هي طريق المؤن إلى مرسية وليس غيرها من طريقٍ فحاصرها ابن عمار وابن رشيق حتى وقعَت في أيديهما فأصبحَت مرسية في حالٍ من الضَّنْك شديد. وفَرحَ ابن عمار بفتحِه هذا ولم يُطِقْ صبرًا، فتَركَ ثُلَّةً قليلة من فُرسانه في مولا وسارَعَ إلى المعتمد ليَزُفَّ إليه البُشرى، وليَمحُوَ أثَر الهزيمة الأُولى، وليتقبَّل من مولاه التهنئات، و… ولشيءٍ آخر يرجو مولاه أن يُحقِّقه له، أنه يريد أن يكون حاكمًا على مرسية إن هي وقعَت له، وما كان المعتمد ليمنع عنه مرسية أو غيرها فهي له.
وتلقَّى ابن عمار أنباءً من عونه ابن رشيق يقول فيها إن وجوه مرسية من ذوي السطوة والسلطان قد خَرجُوا إليه يسألونه أن يأذن لهم أن يُعاوِنوه في فتح مرسية، وطلبوا إزاء ذلك بعض المال والهدايا. ولا ينتظر ابن عمار حتى يستأذن المعتمد بل هو يُرسِل إلى ابن رشيق أن اقبل ما يعرضون، ثم هو يلتفت إلى من معه فيقول «إن هو إلا يوم أو بعضُ يوم حتى تُوافِيَنا الأنباء بفتح مرسية.»
وما هو إلا يوم أو بعض يوم حتى فتَحَت مرسية أبوابها بأيدي الخونة الذين ما لَبِثوا أن مدُّوا أيديهم هذه ليتلَقَّوا بها الهدايا والأموال.
وما هو إلا يومٌ أو بعضُ يومٍ حتى كان ابن عمار في مرسية ومعه الكثير العديد من الهدايا الفخمة الجميلة فإنَّ أملًا ضخمًا في حياته قد تحقَّق، وما أهونَ ما يبذُلُه في سبيله وإن غلا!
لم يكن ابن عمار قد تهَّيأ لدخول مرسية بموكبٍ فَخمٍ فكان دخوله لها على غير انتظارٍ من أهلها ولكنه في صباح وصوله أعدَّ لنفسه استقبالَ الملوكِ الغُزاة الفاتحين، بل إنه لَبِس مثل ما يلبس الملوكُ فوَضَع على رأسه تاجًا كتاج المعتمد الذي يتخذه حين يجلس إلى استقبال.
وكان «ابن طاهر» حاكم مرسية المعزول قد استكان إلى كسرةٍ من بيته يبكي مُلكه الضائع، وأراد ابن عمار أن يبدو لأهل مرسية كريم النفس عَفَّ الخصومة فأرسل إلى «ابن طاهر» بضع حُلَلٍ فاخرة ليختار منها ما يريد هديةً خالصةً من ابن عمار، ولكن «ابن طاهر» أبى أن يجود عليه ابن عمار الذي يعرفه ويعرف خُرْجَه وحِماره وأخلاق ثيابه. ولم يُرِد «ابن طاهر» أن يرُدَّ الثياب دون أن يخِز ابن عمار وَخزةً تُريح بعض ما في نفسه فإذا هو يقول لمن يحمل إليه الحُلَل: «ارجع إلى مولاك ابن عمار فقل له إن ابن طاهر لا يريد من الثياب غير جُبةٍ طويلةٍ خلقةٍ من خشِن الصوف الناحل، وغيرَ قلَنسُوةٍ قذرة، فإن سألك مولاك عنهما فقل له إنكَ أنتَ أعلم الناس بهما.»
وعاد الرسول يحمل الحُلَل والرسالة، وأحَسَّ ابن عمار وَخْزةَ الحديث ولكنه لم يُرِدْ أن يُفسِد فَرحَه بمثل هذه القالة فكتَمَها في نفسه وقد أَزمعَ ردَّها حين يَفْرغُ إلى ابن طاهر، ثم التفت إلى أفراحه القائمة، لقد أصبح ملكًا؛ فإن مرسية لم تكن مدينةً فحَسْبُ كبلدته «شلب» ولكنها كانت مملكةً تتبعها مُدنٌ وولايات.
إنها القمة ابن عمار، فانظر إلى قدمَيكَ واحذَر، احذر؛ فما وراء القمة غير الهاوية.