بين مرسية وإشبيلية
أقام ابن عمار بمرسية حاكمًا مطلق اليد يأمر فأَمْرُه تنفيذ، ويُشير فإشارتُه أَمْر فأصبح بعد أن لبس التاج واستَبدَّ بالسلطان لا يُحِسُّ بالمعتمد في شيء، فأخذ يُصدِر الأوامر ويَمْهَرُها بخاتمه هو لا بخاتم المعتمد، وأَمَر فأُنشِئ جامعٌ وأَطلَق عليه اسم نفسِه دون المعتمد وتبلُغ هذه الأنباء آذان المعتمد فيقولُ قولَ كُثيِّر:
ولكن ابن عمار لا يرعوي، ولا يلتوي به فضلٌ من المعتمد يُطوِّق عنقه، وكان ابن عمار في ذروة مجده حين نما إليه أن فئةً ممن لا يزالون على ولائهم لابن طاهر يُدبِّرون أمرًا فيما بينهم، وأنهم حادثوا ابن طاهر أن يتزعَّمَهم؛ وحينئذٍ تذكَّر ابن عمار ما كان قد نَسِيَه من أَمْر ابن طاهر، وتذكَّر أنه اغتَمَزه فذكَّره بملبسِه فأَمَر ابن عمار بابن طاهر فسُجن بقلعةٍ يُطلَق عليها قلعة «منتاجو».
وكان لابن طاهر صديقٌ اسمه «ابن عبد العزيز» وكان حاكمًا على بلنسية (القريبة من مرسية)، فأرسل هذا الصديق إلى ابن عمار يرجوه أن يُطلِق ابن طاهر ولكن ابن عمار أبى واستَكبَر فقد خَشِي أن يخرج ابن طاهر من سِجْنه فيؤلِّب عليه الأعداء، فلمَّا يئس ابن عبد العزيز من ابن عمار أرسل يستنجد بالمعتمد في إشبيلية وأَلحَّ عليه حتى أرسل المعتمد إلى ابن عمار يأمُرُه بإطلاق أَسِيره، ولكن ابن عمار لم يَلتَف أَمْر المعتمد كما لم يَلتَف إلى رجاءِ ابن عبد العزيز وأَبقَى على ابن طاهر في سجنه.
واغتاظ المعتمد من ذلك، وكان الذين حوله في القصر قد أُوغِرَت صدورهم على ابن عمار، فاهتبلوا فرصة غضب المعتمد، وأخذوا يكيلون التهم لابن عمار يتزعمهم في ذلك أبو الوليد ابن زيدون ابن شاعر الأندلس الأشهر ابن زيدون، وكان آنذاك ذا نفوذٍ في قصر المعتمد يلي نفوذ ابن عمار، وقد أحب ألا يلي هو أحدًا فينفرد وحده بجاه الملك وجبروته، فحق له إذن أن يقدح في ابن عمار ويتسقَّط مظاهر خروجه على المعتمد ويرويها له، مضيفًا إليها ما يزيدها بشاعة حتى فاضت الكأس بالمعتمد، لكنه أراد أن يُجرِّب تجربةً أخيرة قبل أن يقطع صداقة حياته، فأراد أن يُرسِل إلى ابن عمار رسولًا آخر يأمُرُه أن يُطلِق سراح ابن طاهر، ولكن الأخبار وافته أن ابن طاهر قد تمكَّن أن يهرب من قلعة منتاجو، وأنه قصد إلى ابن عبد العزيز ونزل بقصره ضيفًا كريمًا، وكانت هذه الأخبار حقًّا كلها، ونزلت على المعتمد بردًا وسلامًا فقد كفَته مئونة التجربة واستراح وأَوهَم نفسه أن ابن عمار قَبِل أن تُدبَّر هذه المؤامرة تحت عينَيه فهَرَّب الأسير بدلًا من أن يُطلق فيحفظ بها على نفسه كرامتَها أمام من يحكمهم ويطيع في الوقت ذاته أمر المعتمد إليه.
هكذا اعتقدَت نفس المعتمد الصافية، ولكن الحقيقة أن هروب ابن طاهر والتجاءه إلى ابن عبد العزيز نزل على ابن عمار نزول الصاعقة، فأصبح كالمجنون يبحث عن وسيلة ينتقم بها من ابن طاهر وابن عبد العزيز معًا، حتى إذا ضاقت لجأ إلى سلاحه القديم الذي أوصله إلى ما هو عليه الآن، وأخذ يكتب القصائد الطوال في هجاء ابن عبد العزيز ولم يكن ابن عمار كريمًا في هجائه، بل كان ثائرًا لا يدري ماذا يقول، فكتب يهجو زوجة ابن عبد العزيز ويُحرِّض أهل بلنسية أن يثوروا بصاحبهم.
وبلَغَت هذه القصائد مسامع المعتمد فعرف أن حسن ظنه بابن عمار كان أوهامًا، واغتاظ أن يكتب ابن عمار هذه الأبيات فيُشهِر للملأ أنه كان يُعارِض المعتمد في إطلاق ابن طاهر، وغاظه أن يتهجم ابن عمار وهو من هو على أقدار أمثال المعتمد من الملوك الكابرين. اغتاظ المعتمد وأراد أن يحارب ابن عمار بذات سلاحه فأَمسكَ بقلمٍ وأخذ يَنظِم، ماذا يَنظِم؟! لقد أخذ المعتمد بعد صداقة خمسة وعشرين عامًا لابن عمار ينظم قصيدةً في هجاء ابن عمار.
وبلَغَت القصيدة ابن عمار وكان في أَوْج مجده وكان الذين حوله يُوهِمُونه أنه الفرد العلَم فتمكَّنَت نَشْوة المديح من رأسه وأَنسَته ماضِيَه وعقله وكِياسته وأَنسَته كلَّ ما تعلمه من تَدبُّر للأمور، بل أَنسَته كلَّ ما سكبه عليه المعتمد من فضل، بل نَسِي أن هذا المديح الذي يَسْمع هو نتيجة لفضلٍ من أفضال المعتمد عليه، وخُيِّل إليه أنه هو صاحب الفضل على المعتمد، وأنه هو الذي أدى إليه من الخير ما لم يستطع أحد أن يُؤدِّيه له. نَسِي ابن عمار كل هذا وخُيِّل إليه أنه غدا ملكًا مثل المعتمد، وقابَلَ قصيدة الهجاء من المعتمد بقصيدةِ هجاءٍ من ابن عمار ولِمَ لا وكلاهما شاعر؟
ولكن ابن عمار لم يكن في مثل شجاعة المعتمد فهو في عميق نفسه يحس — ما زال — بأنعُمِه، وهو يعرف تمامًا الفارق بين المُفَضَّل والمفضول فهو يلقي القصيدة فيمن ظنَّهم خاصته وكان من بينهم يهودي من عيون ابن عبد العزيز استطاع أن ينال ثقة ابن عمار، فما إن سمع القصيدة حتى أبدى إعجابه الضخم بها ثم طلب خمرًا ليستمع إليها مرةً أخرى وهو مخمور فتزداد نَشْوته، وجاءت الخمر فأخذ اليهودي يشرب حَسْوا في إقلالٍ ورَزانةٍ بينما يعطي ابن عمار الكئوس دهاقًا مليئة حتى دار رأس ابن عمار، فسرق اليهودي القصيدة منه مكتوبةً بخط يمينه وأرسل رسولًا إلى ابن عبد العزيز في مرسية، وما لَبِثَ هذا أن أرسلها إلى المعتمد في إشبيلية وقرأ المعتمد، ولأول مرة بعد خمسة وعشرين عامًا من صداقته لابن عمار، قصيدةً يهجوه فيها ابن عمار، بل إنه لم يَهْجُه وحده وإنما زاد فهجا «إعتماد» وسَخِر من حُب المعتمد لها، وزاد فذكر بُنيَّاته وأهل بيته بشر.
سَفَر العداء إذن وصرَّح الشر وتقطَّعَت السبُل بين الصديقَين فما لإصلاحٍ من سبيل، وملأ الغيظ قلب المعتمد فأخذ يُدبِّر للانتقام.
ولها ابن عمار عما يُدبَّر له والتفَت إلى ما يُحيط به من مَجدٍ وقد استقر لديه أن الأمور قد أسلَسَت قِيادها له.
نَسِي ابن عمار أن الذي فتَح له مرسية يستطيع أن يُثيرها عليه، نَسِيَ ابنَ رشيق صاحب حصن بلج الذي عاونه، نَسِيه وهو في أَوْج مجده وفي غَمْرة مُلكه فما التفَت إليه وما أناله مما كان يطمع شيئًا، وَيْلَ المديحِ! إنه يُعمي أشد الناس ذكاءً عن أبسط الأمور وأقربها إلى الذهن. لقد استطاع أن يُعمِي حتى ابن عمار فما عاد يَلتَفِت إلى تلك الأشياء الدقيقة التي ما كانت لتفُوتَ عليه قبل أن يصل إلى المُلك.
لقد وجَد ابنُ رشيق أنْ لا غَناء عند ابن عمار، وعرف بقصيدة المعتمد ثم بقصيدة ابن عمار فعرف أن المعتمد يُريد الانتقام فشَدَّ إليه الرحال وعَرضَ بين يدَي الصديق الذي يريد أن ينتقم لصداقته، والزوج الذي يريد أن ينتقم لزوجه، والأب الذي يريد أن ينتقم لولده، وصاحب الفضل الضائع الذي يريد أن ينتقم لفضله، عَرضَ بين يدَي المعتمد وسيلة الانتقام.
كان ابن عمار لا يزال في بُلَهْنِيَتِه ليس يدري بأَمْر أعدائه الذين ألَّبَهُم هو على نفسه، خُيِّل إليه أن ابن عبد العزيز وابن طاهر لن يمُدا إليه يدًا بِشَرٍّ، وخُيِّل إليه أن ابن رشيق لن يهمَّ به فهو صديقه، وحَسْبُ ابن رشيق فَخارًا أن يكون صديقًا لابن عمار.
خُيِّل إليه هذا كلُّه فانصَرفَ إلى مادحيه، وبينما ابن عمار في هالةٍ من صَحابتِه إذ سمع أصواتَ ضَجيجٍ وصخبٍ وصُراخ تَتقارَبُ نحو قصره فقام إلى الشُّرفة فوَجَد جموعًا حاشدة تَدْنو وما هي إلا لحظاتٌ حتى استبان صُراخُهم، لقد كانت الثورة به، لقد جاء الجنود يُطالبون بمرتَّباتهم ويُهدِّدون بالويل العظيم إن هم لم ينالوا ما يريدون. أدرك ابن عمار حينئذٍ أنه وقَع فَريسةَ خُيَلائه ويهمُّ أن يلُوذ بسهمٍ أخيرٍ فيَخطُب الجموع أنه سيسأل المعتمد أن يُرسِل إليه المال فيُعطِيهم رواتِبَهم ولكن قبل أن يفعل هَتَف به نائب الجنود من أسفل الشُّرْفة: هيه ابن عمار! أَحَسِبتَ أن تقطع عنا رواتبنا ونسكُتَ عنك؟ هَيْهاتَ، لقد أقسمنا فيما بيننا قسمًا غليظًا إن لم تُسلِّمْنا حقَّنا سلَّمناكَ للمعتمد من فَوْرِنا، إلى المعتمد يا ابن عمار، أتعلم من هو المعتمد اليوم؟
كان القول حاسمًا، نعم إن ابن عمار يعلم من هو المعتمد اليوم، إنه النقمة التي كانت خيرًا، وإنه الذل الذي كان مَجدًا، وإنه النار التي كانت نَدًى ورحمةً وبِرًّا. عَجزَ ابن عمار الذي احتال على الملوك والوزراء والكابرين، عَجزَ عن أن يحتال على ثُلَّةٍ ليست من الملوك ولا الوزراء والكابرين وإنما هم أصحابُ حقٍّ يطالبونه به، مهما تكُن الأيدي التي حرَّكَتهم قد ابتعثَها الحِقْد والانتقام والبُغْض الشديد إلا أن هذا لا يُغيِّر من موقفهم شيئًا، إنهم أصحابُ حقٍّ يطالبونه به.
لم يَبْقَ أمام ابن عمار إلا أن يفلت بحياته فهو يتكلم لا ليدافع ولا ليطلُب من القوم الريْثَ فقد رأى منهم عَزمًا وإصرارًا، إنه يتكلم فلا يقول شيئًا إلا: أيها الجند، إنْ هي إلا بعضُ الساعة حتى تكون رواتِبُكم بين أيديكم. ويدخل ابن عمار إلى القصر لا ليُؤدِّيَ الرواتب فما كان بخزائنه شيء؛ فلقد اشترى المديح الذي تَهدَّى إليه بكل المال الذي كان لديه، يدخُل ليَجْمعَ ما يُطيق أن يحمل. ومن بابٍ سِرِّيٍّ يخرج ابن عمار من القصر فلا يراه الجنود ويَظَل مُستخفيًا حتى يخرج من مرسية جميعها إلى … إلى الطريق.
سلامٌ إذن يا قصر الملك، وسلامٌ أيتها الأحلام التي ما تحقَّقَت حتى انهارت، وسلامٌ أيها المديح الذي ما قِيلَ حتى هَوَى بالممدوح، سلامٌ على كل هذا وإلى … إلى الطريق.