إلى أين؟
حار ابن عمار أين يُولِّي وجهه وضاقت به السبل وطال الطريق عليه مرةً أخرى فذكر حماره وذكر أيامه الأُولى وما تَبِعها، وذَكَر صداقته للمعتمد ثم خيانتَه له، وذَكَر … وذَكَر … ثم أخذ يُورِد بذهنه كل الأصدقاء الذين أُتيح له أن يعرفهم عساه أن يختار من بينهم من يلجأ إليه، فكَّر في ملوك الأندلس المسلمين الذين يعرفهم أجمعين ولكنه خشي أن ينصرفوا عنه، بل إنه عَزفَ عن الالتجاء إليهم فقد كان في قصر أَعظمِهم شأنًا وأَعزِّهم سلطانًا فعرف أنه لن يرضى بالأدنى بعد أن ترك مجد المعتمد وقصوره، وانتقل ذهنه على غير إرادةٍ منه إلى ملوك الفرنجة في الأندلس، وفكَّر في ريمون صديقه ولكنه لا بُد قد اكتشَف زيف الذهب الذي أرسل إليه فدية، ثم فكَّر في الأذفونش.
أجل الأذفونش ولم لا؟ لقد ترك أعظم ملوك الأندلس العربية فما له لا يذهب إلى أعظم ملوك الأندلس الإفرنجية؟! تذكَّر الشطرنج ولكنه تذكَّر أيضًا أنه أهداه للأذفونش وتذكَّر أن الرجل يُقدِّره فيطلق عليه «رجل الجزيرة»، وأن قصة الشطرنج في ذاتها لدليلٌ على ذكاء ابن عمار وإن يكن الأذفونش هو ضحيته فيها إلا أنه سيُقدِّر الذكاء — لا شك — لأنه رجلٌ ذكي، وسيقدر الولاء الذي عَمِل به ابن عمار من أجل المعتمد وسوف ينتظر نفس هذا الولاء من ابن عمار له إذا عمل به من أجله، وإن يكن ثَمَّةَ غضبٌ ما زال في نفس الأذفونش فلا شك أنه سيكون غضبًا هينًّا غشَت عليه السنون يستطيع ابن عمار ببعض كِياسته أن يُزيله.
واتجه ابن عمار إلى «ليون» عاصمة الأذفونش وألقى رجاءه ببابه ولكن ويح الأيام! هيه ابن عمار لقد بَدأْتَ هبوطكَ إلى الهاوية فلاتَ حينَ صُعود. لقد رفض الأذفونش إيواء ابن عمار وكان قد عَلِم بكل ما حدث في بلنسية فبدأ ابنَ عمارٍ بقوله: أنت سارقٌ يا ابن عمار، سَرقتَ المُلك من ابن طاهر على يد ابن رشيق فليس ظُلمًا أن يُسْرَق منك المُلك بنفس اليد التي سَرقَته لكَ.
وخرج ابن عمار من ليون ولم يَبْقَ له إلا أن يرتمي بأبواب الملوك العرب مرةً أخرى، ولكنه في هذه المرة لا يعرض شعرًا يقوله خاملُ ذكرٍ لا يعرفه أحد وإنما هو يعرض ابن عمار بتاريخه كله الذي لا يجهله أحد، يعرض ابن عمار الوزير الداهية والسياسي البارع والقائد الصنديد.
يذهب ابن عمار إلى «سرقسطة» وهي مملكةٌ أندلسية عربية يقوم عليها أحد ملوك الطوائف يُطلِق على نفسه اسم الملك «المقتدر»، وكانت هذه المملكة هَيِّنةَ الشأن صغيرة الرُّقْعة ففرح صاحبها أن يكون بين رجاله وزير المعتمد الأول ومن كان صديقه الأثير. يأوي المقتدر ابن عمار ويُولِّيه بعض شئون الدولة، ولكن هذه المملكة الصغيرة التي لا تتضاءل أمام إشبيلية فحسب بل إنها لتتضاءل أمام مرسية مملكته، هذه البلدة، سرقسطة لا تتسع له فهو لا يُطيق العيش فيها، فيزعم ابن عمار للمقتدر أنه لم يعُد يطيق العيش في زحمة الناس، إنه يَوَدُّ لو أُتِيحَ له أن يذهب إلى مملكة بعيدة منقطعة عن الناس الذين كَرِهَهم جهده والذين يريد أن يُباعِدهم جَهدَه فيسأله المقتدر عن المكان الذي يريد فيجيبه ابن عمار أنه يتُوق أن يذهب إلى «لاردة» التي يحكمها «المُظفَّر» أخو «المقتدر» ويَقْبل المقتدر آسفًا ويذهب ابن عمار إلى «لاردة» فيستقبله «المظفر» أحسن استقبال ويُنزِله بأكرم مكان. ويفرح ابن عمار بما لَقِي وتعُود إليه بعضُ ثقته بنفسه، ولكنه لا يلبث أن يضيق بهذه العزلة التي فَرضَها على نفسه فيرجو المُظفَّر أن يسمح له بالعودة إلى سرقسطة، ويزعم له أنه اشتاق أن يرى أخاه «المقتدر»، ويُصدِّق المظفَّر قوله كما كان المعتمد يُصدِّق قوله ويأذن له بالذهاب ولكن ابن عمار يعرف وهو في الطريق إلى سرقسطة أن المقتدر قد مات وأن ابنه «المؤتمن» قد قام على المُلكِ مِن بعده فيُواصل طريقه كأن لم يسمع شيئًا. إنه يريد أن يذهب إلى سرقسطة لا يهمه إن كان عليها المقتدر أو المؤتمن أو مَن يكون.
ويصل ابن عمار إلى سرقسطة ويُنزِله المؤتمن منزلةً كريمة ويستشيره في أمور مملكته فيُصرِّفها ابن عمار وكأنها شئون ضيعةٍ صغيرةٍ لا مملكةٍ ذات ملك ووزير، ويضيق ابن عمار بتضاؤل أعماله فما هي مهما تعظم في سرقسطة بشيءٍ يُذكَر إلى جانب أعماله في إشبيلية أو مرسية أو حتى شلب.
وتلُوح لابن عمار فرصةٌ يعمل فيها فيَهتبِلُها؛ فقد جاء إلى المؤتمن مَن يُخبِره أن أحد أصحاب القِلاع التابعين لسرقسطة قد خَرجَ عن طاعة المؤتمن فيعرض ابن عمار على المؤتمن أن يذهب هو لإخضاع هذا الخارج فيَقبَل المؤتمن فَرِحًا ويسأل ابن عمار: كم جنديًّا تريد؟
- اثنين.
- أسألك كم جنديًّا تريد لتحارب القلعة؟
- أريد اثنين — جنديَّين.
- ولكنكَ تمزح لا شك.
- بل أَجِدُّ.
ولكن المؤتمن لا يُصدِّق هذا القول ويأبى إلا أن يرسل جندًا كثيفًا، فيُصِرُّ ابن عمار على أن يكون جيشه مُكوَّنًا من اثنَين، حتى إذا طال النقاش وقَفَا عند أواسط الأمر فقَبِل ابن عمار أن يصحب كَوْكبةً صغيرة من الفرسان.
ويصل ابن عمار إلى مكانٍ قريب من القلعة فيأمر الكوكبة أن تختفي وراء الجبال ويصطحب هو جنديَّين يقصد بهما إلى القلعة، ثم ينادي ابن عمار على صاحبها المتمرد فيجيبه فيقول ابن عمار: هلا نزلتَ إليَّ أُحدِّثك حديثًا قصيرًا؟
وينظر صاحب القلعة فلا يجد إلا ثلاثة أشخاصٍ فلا يرهب منهم شيئًا وينزل إلى ابن عمار فيستقبله خارج القلعة ويأخذ بيده ليعود به إليها، فإذا بالجنديَّين يطعنان الرجل طعنًا متلاحقًا دِراكًا فيسقط في مكانه وقد فارق الحياة، ويرى جنود القلعة ما حدث لقائدهم فتَملِكُ الخشية نفوسهم ويستسلمون، ويعود ابن عمار وقد نَجحَت حيلته ويستقبله المؤتمن والفَرحُ يَغمُره فيذكر ابن عمار كيف كان يستقبله المعتمد حين كان يعود إليه بعد أن يُوقِع أعداءه في الأشراك فتدمع عيناه ولكن لاتَ حينَ …
وَثِق المؤتمن في ابن عمار بعد حيلته تلك، وكان المؤتمن يفكر أن يحقق أمنية أبيه فيستولي على قلعة «شقورة» وهي قلعةٌ حصينة لا تتبع لسرقسطة وإن كانت قريبة منها، فطلب إلى ابن عمار أن يستولى عليها بنفس الطريقة التي استولى بها على القلعة المتمردة. ولم يكن ابن عمار يدري أن أهل هذه القلعة قوم أذاقهم هو مُرَّ العذاب في مرسية، ولم يكن يدري أن الطريق إليها وَعْر لا يستوي ولا يعتدل، ولكنه كان يدري أنه يُريد أن يعمل وكان يدري أنه لا يُطيق الخُمول.
تزعَّم ابن عمار بضعة من الفرسان وكما فعل في المرة الأُولى فعل في هذه المرة فأَمَر الجنود بالاختفاء واصطحب اثنَين وعمد إلى القلعة لا يريم، ونادى ابن عمار فلم يُجِبْه أحد فاقترب ونادى فلم يجبه أحد حتى أصبح ملتصقًا بجدران القلعة، فإذا حبل قد أحاط بوسَطِه وإذا هو مُعلَّق في الهواء صاعدًا إلى أعلى لا يدري من يجتذبه حتى بلَغ نافذة للقلعة فأُدخِل منها وأُلقي إلى الأرض ثم عاجله القوم بالقيود فأحاطوا بها معاصمه وأقدامه.
وقع ابنُ عمارٍ أسيرًا في يد أعدائه وحاوَلَ من معه أن يُنقذوه فحين رأَوا مناعةَ القلعة أصبح كلُّ همِّهم أن ينقلبوا إلى ذويهم سالمين فانقلَبوا.
ماذا يفعل صاحب القلعة بابن عمار؟ إنه يدخل عليه فيجبهه.
- ألم تر إلى نهايتك يا رجل الجزيرة؟ ماذا تريدني أن أفعل بك؟ لستُ من أهل السرَّاء حتى أصطنِعكَ لتقول فيَّ شعر المديح، ولستُ ذا مُلكٍ حتى أجعلك وزيرًا. نعم إنك وزيرٌ حصيف، لا شكَّ أنكَ بضاعة رائجة يا ابن عمار، سأعرضك في سوق الملوك فمن يُغلي الثَّمنَ كنتَ له.
فيُجيبه ابن عمار والغضب آخذٌ منه كل مأخذ: ألا والله ما نِلتَني إلا بالخَتْل القَذِر، ولا والله ما كنتُ لأمدحَ مِثلكَ وإن كنتَ أكبرَ الملوك.
- أتتحدث عن الخَتْل يا ابن عمار؟ يا لكَ من جريء وقح! على أنني لن أقتلُكَ كما فعلتَ أنت بصاحب القلعة، بل أنا سأبيعك يا أخي إلى الملوك؛ لتعود وزيرًا كما كنتَ، ألا تشكرني إذن؟ وخرج الرجل وتَركَ ابن عمار.
لم تكن إجابة ابن عمار الجريئة عن شجاعةٍ خالصة، بل إنه أدرك أن الرجل يجد فيه بضاعةً رائجة، فأدرك أنه لن يمسه بسوء حتى يتمكَّن من بيعه بثمَنٍ كبير.
بَقِي ابن عمار في سجنه وانسابت إلى ذهنه الذكريات وتطلع إلى القابل من الأيام فوجد نفسه يعود إلى أسوأ مما كان في شلب يوم عاد إليها على الحمار؛ فهو اليوم يُباع كعبدٍ رقيق وهو لم يكن عبدًا في يوم من الأيام، نعم كان عبدًا للتملُّق والخداع، كان عبدًا لرغباته ومطامحه، كان عبدًا للمديح الذي أحاط به ولكنه لم يكن عبدًا في سوق الرقيق فهو يقول دون أن يُفارِقه كِبْره:
ثم ينظر حوله فيجد حُجرته في قلعة شقورة تلك صغيرة، ويجد القيد في يدَيه وقدمَيه فتَدْمعُ عينه ويَنتَظِم البيتان في ذهنه: