سحيق الهاوية
ابن عمار في السوق سلعة لمن يُغلي الثمن والمعتمد ممن عُرِضَ عليهم الشراء فمن يشتري ويغلي ثم يغلي إذا لم يكن المعتمد؟
ثم يشتري من بعدُ أبغضَ فَترةٍ في حياته، يشتري الصداقة الخائنة، يشتري العهد المُضاع، يشتري الأُخوَّة الخادعة، يشتري من هَدَم الصروحَ الشوامخَ من ثقته وحُبه ووفائه، يشتري ذلك الذي سَوَّد الدنيا في عينَيه؛ فبَعْد أن كانت إشراقة حُب وضياء ووفاء أَصبَحَت ظلامَ خيانةٍ وليلَ خِداع.
اشتراه المعتمد إذن وأَرسَل بابنه الراضي ليأتي به، وأوصى ابنه أن يحذَر من خِداعه، وأن يُكثِر عليه الأحراس.
وأَخَذ الراضي صديق أبيه وسار الرَّكْبُ حتى بدَت طوالعُ قرطبة، فتذكَّر ابن عمار وما كان بحاجة إلى قرطبة ليتذكر فهو لا ينسى أبدًا، لا ينسى كيف فتَح قرطبة هذه في أَوَّل عهد المعتمد، ولا ينسى كيف كان يدخُل قرطبة بعد ذاك تحُفُّ به المواكب الضِّخَام وترنو إليه العيون، والسعيد السعيد من يلمس حوافر خيله والسعيد الأسعد من يَلُمُّ طَرْف ردائه، لا ينسى ابن عمار، لا ينسى.
وبلَغَت طوالعُ مُوْكبِ الأسير ظاهرَ قرطبة فإذا هناك حشدٌ كبير، لم يجتمع لتحية ابن عمار، ولم يجتمع لإكرامه، وإنما جاء يشهد القمة تَنحَطُ إلى الهاوية، والمَجْد يَنحَدِر إلى الحضيض.
ونَزلَ ابن عمار من فوق الحصان الذي كان يمتطيه ومشى إلى حيث يمشون به، يا لسخرية الأقدار! إنه سيركب حمارًا، حمارًا مرةً أخرى. نظَر ابن عمار إلى الحمار فلم يتمالك نفسه من الضحك رغم هذا الضَّنْك الذي يحيط به، حمار؟ أبعد كل هذا السفر الطويل في مَدَارج المَجْد وعُليا المراتب يعود إلى الحمار؟ وَيْح الأقدار! بل إن الحمار ليُشبه ذلك الذي سُرِق أو انسَلَّ في إشبيلية عند قصر المعتضد، إنه ليكاد أن يكون هو نفسه يحمل خُرْجًا كذلك الذي كان يحمله حمار، بل إنه ليكاد أن يكون نفس الخُرْج وإن كانت جَنَباتُه قد مُلِئَت اليوم تِبنًا بدلًا من تلك الكِسراتِ التي كانت فيها، عَوْدٌ على بَدْئه يرجع، بل إلى شَرٍّ من بَدْئه. لا بأس إذن فمن على ظَهْر الحمار صَعِد إلى القِمَّة فعلى ظَهْر الحمار يَنحدِر إلى الهاوية.
لقد كان المعتمد هو الذي مَهَّد سُلَّم المجد لابن عمار فصَعِد وهو هو نفسه من يُمهِّد له الطريق إلى الهاوية، هو الذي أَوصَله وها هو ذا يُعيده، وعلى الحمار يعود.
رَكِبَ ابن عمارٍ الحمار وهَمَّ بمسيرٍ ولكنه رأى عن بُعدٍ رجلًا يركب حصانًا يعدو إليه ناهبًا الطريق نهبًا، فسارع ابن عمار ومَدَّ يده إلى عِمامته ورفعَها عن رأسه وألقى بها إلى الأرض وكان راكبُ الحصان قد وصل فوقف حائرًا لا يدري ماذا يفعل، فَسألَ ابنَ عمار واحدٌ ممن يحيطون به: ماذا فَعلتَ حتى جَعلتَ الرجل يقف باهتًا؟
فقال ابن عمار: لقد كان هذا الراكب قادمًا من عند المعتمد ليرفعَ عِمامتي من على رأسي ويُلقي بها إلى الأرض إمعانًا في تحقيري والنَّيْل مني فسبَقْتُه إلى ما يريد أن يفعله فبُهِت كما ترى.
ونظر السائل إلى راكب الحصان فإذا هو يُؤيِّد ابن عمار فيما قال مُعجَبًا من ذكاء الوزير ودهائه، وهكذا لم تتَخلَّ الومضة النافذة عن ابن عمار حتى وهو في أَحْلَك أوقات حياته.
سار موكب الخزي يطوف بأنحاء قرطبة، فلم يَبْقَ من أحدٍ فيها إلا وقد رأى ابن عمار على مَطِيَّته الجديدة القديمة إلا المعتمد الذي كان في قرطبة وأبى أن يرى ابن عمار.
نعم، ابن عمار الذي كان كل ما يخشاه أن يَبعُد عنه لحظة من زمن، هو نفسه من يأبى رؤيته اليوم، بل يأمُر المعتمد أن يسير الركب إلى إشبيلية فيدخلها ابن عمار كما دخل قرطبة ثم يُلْقَى به في السجن، فكان ما أمَر به المعتمد واستقَرَّ ابن عمار في السجن.
ومن هناكَ أخذ ابن عمار يستشفع بكل ذي أُكْرومةٍ أن يطلُب الصفح من المعتمد والمعتمد يَزجُر كل مُحاوِلٍ فتتكسَّر على أبوابه الشفاعات حتى إذا ضاق بكثرتها نادى ابن عمار وذَكَّرَهُ، ذَكَّرَهُ المعتمد بملابسه القذرة التي دخل بها القصر، وذكَّره بليلته الأولى بين شُعراء القصر، ذكَّره بنفسه وزيرًا في شلب، ثم أميرًا لشلب ثم قائدًا للجيش، ثم مَلِكًا أو شبه ملك لمرسية، ذكَّره فما أَلْفَاه ناسيًا، ثم ذكَّره بخروجه عليه في مرسية، وذكَّره بقصيدته التي هجاه فيها، ذكَّره فلم يُلْفِه ناسيًا، فهبَّ المعتمد في وجهه: فماذا تُريد إذن؟ لقد أفقَدتَني شبابي وهَيهاتَ أن يعود، ألا لعَن الله يومًا عَرفتُكَ فيه، إذن لأبقيتُ لنفسي ذكرياتي نقيةً منك.
وعاد ابن عمار إلى السجن وأخذ يكتُب إلى أصحابه أن يُعاوِدوا الشفاعة، وهو يَكتُب إلى أصدقائه، يَنظِم أنَّتَهُ شعرًا عساها أن تُريح بعضًا مما يجد فيقول لأحدهم:
وهكذا يبلغ البؤس بابن عمار حتى إنه ليبحث عمن يُحادِثه أيَّ حديث ولو كان هذا الحديث مكتوبًا.
ويُلِحُّ ابن عمار في رجائه ويُرسِل به إلى شتى الناس فيضيق المعتمد بكثرة الشفعاء فيه فيأمر أن تُمنع عنه الأوراق فتُمنع، ثم يزيد المعتمد قَسوةً عليه فيُخرِجه في الحفلات التي كانت تُقام في القصر ويجعل منه سخريةً للجواري والخدَم فيَبصُقون في وجهه ويَفْتَنُّون في اهانته وابن عمار صامتٌ ذاهلٌ لا يدري أفي حُلمٍ بَشِعٍ هو، أم في حقيقةٍ ملموسة؟ هذه الطنَافِس، هذه المقاعد، تلك البُسُط، هاته الثُّريَّات، هذه الأقداح، هؤلاء السقاة، أولئكن النسوة، إنه يعرف جميع هذا، ويعرف أنه كان ريحانة هذا المكان، أهكذا يفعل الدهر بأعدائه؟ وَيلٌ لأعداء الدهر! ويعود ابن عمار إلى سجنه شَرَّ ما يعُودُ عائدٌ إلى السجن.
وفي يومٍ يطلب ابن عمار ورقًا ويُلِحُّ في الرجاء ويسأل الخدم المعتمد فيأذن في ورقتَين لا تزيدان ورقة، ويأخذهما ابن عمار ثم يُنشِئ قصيدته الخالدة:
ويُرسِل ابن عمار بخالدته إلى المعتمد فيقرؤها فيَطرَب، ثم يُنشِدها على الجالسين مُترنِّمًا وقد هَملَت عَبَراتُه وكان بين السامعين أبو الوليد ابن زيدون فحاول جَهدَه أن يجد لنفسه مأخذًا إلى القصيدة فتَأبَّت عليه ولكنه استطاع آخر الأمر أن يقول: ما أتفَه قَولَ الخائن:
وما يهمنا نحن بما بين ضلوعه؟ ولماذا لم يَرْعَ لهذه التميمة حُرمةً ولكن المعتمد عاجله: بل إنه والله لم يفقد الذكاء وحسن الإشارة، إنه ابن عمار وإن خان، لقد قصَد إلى بيت الهُذَلي:
وهكذا استعصَت القصيدة حتى عن ذم الكارهين، وحرَّكَت في نفس المعتمد ذكرياتٍ قديمة، وكان قد تهيَّأ لجلسة خمر فأرسل إلى ابن عمار أن يأتي وطلب ممن أَرْسَله ألا يراه أحدٌ وهو قادم بابن عمار، وأَخلَى المعتمد القاعة وانفَضَّ القوم وهم لا يعلمون بما أَسَرَّه للخادم، ويجيء الصديق الشاعر ويجلس إلى المعتمد ويتَذاكَران ويَتَناشَدان حتى لَتَكادُ النفوس أن تَصفُو ويُشرق الصباحُ فيقول المعتمد لابن عمار: إيَّاكَ، إيَّاكَ ابن عمار أن تقول لأحدٍ عن جلستنا تلك، إياك ابن عمار وإلا …
ولا يُكمل فقد كان ابن عمار يعرف تمامًا ما بعدها، وينصرف المعتمد إلى جَناحِ نَومِه ويُعاد ابن عمار إلى السجن والفرحةُ تكاد تنفَجر من فؤاده فلا يملك نفسه أن يُمسِك الورقة الثانية الباقية لديه، ويكتب إلى الراضي بن المعتمد يخبره أن أباه قد صَفَح.
وتصل الورقة إلى الراضي وهو جالس بين صحابٍ فيهم من يُبغِض ابن عمار ويَحقِد عليه ولا يكتم الراضي ما جاء به الخطاب بل هو يُذيعه.
ويصحو المعتمد فإذا سِرُّ الأمس هو حديثُ اليوم فيذهب إلى ابن عمار في سجنه: أأذَعتَ ما حذَّرتُكَ أن تُذيع؟
- بل لا و…
- وحَقِّي.
- … وحَقِّكَ.
- إذن فأين الورقة الثانية.
- أيُّ ورقة؟
- لقد أرسلتُ إليكَ ورقتَين كَتبتَ في إحداهما القصيدة فأين الثانية؟
- لقد … لقد … لقد سَوَّدتُ بها القصيدة.
- فهاتِ التسويدة.
وتَنغَلِقُ الطُّرُق على ابن عمار، فيبلُغ الغيظُ أقصاه بالمعتمد، فيُمسِك بقطعةٍ من حديدٍ ذات مقبض كان قد أعدَّها، ويَهْوي بها على رأسِ ابن عمار، ثم لا يزال يَضْرب ويَضْرب حتى يموت ابن عمار بيد المعتمد، بيَدِ صداقة خمسةٍ وعشرين عامًا، بيد المَجْد الذي اقتَعَده، بيد القمة التي ساوَرَها.