عهد جديد
انصرف ابن عمار إلى غرفته مُعجَبًا بنفسه؛ فقد سارت الخطة في الطريق الذي رسمه لها، ولقد ظَفِر بالمعتمد وقد عرف من أين يذهب إليه، وقد لاقاه وأمسى أو هو أصبح وقد حقَّق لنفسه من الأُمنياتِ ما ظن أنه لن يتحَقَّق في يوم من الأيام؛ فلقد أصبح شاعر الملك المعتضد وقد أصبح قريبًا إلى نفس المعتمد وليِّ العهد الشاعر الذي يُحب الشعراء. ويُفكِّر ابن عمار فيما كان بينه وبين المعتمد حين أفهَمَه أنه ينقده وأنه مخلصٌ له، فكَّر ابن عمار في هذه الخطة التي رسَمَها لنفسه يوم كان فقيرًا ويوم كانت آماله تصبو إلى يومه هذا؛ فقد كان حينذاكَ يُفكِّر فيما يلقاه هؤلاء الأمراء من تزلُّف وتمليق، وكان يفكر في غباء هؤلاء المتملِّقين المتزلِّفين كيف يفوتُ عليهم أن الأذكياء من الأمراء يضيقون أحيانًا بكثرة المديح كما يضيقون من كثرة النقد، وكان يُفكِّر كيف يجب أن يضع المتقرِّبون إلى الأمراء مدحهم في قالبٍ من النقد حتى يُخيَّل للأمراء أنهم يستمعون إلى صادق. إنه لم ينقُد المعتمد اعتباطًا، ولم تكن سرعة خاطر ولا حِدَّة بادرة، وإنما هي خطَّةٌ نَظَمَها في نفسه منذ آمادٍ بعيدةٍ غاية في البُعد ورأى الفرصة أمامه فاهتَبَلَها، ولقد نَجحَت الخطة وقفَز وَثْبًا إلى الهدف الذي تقطَّعَت أنفاسُ الكثيرين ممن يُحيطون بالمعتمد ليصلوا إليه فما بلغوا مما بلغ ابن عمار شيئًا.
وأغفَى ابن عمار يُؤرِّقه شوقه إلى الغد بعد أن كان يُؤرِّقه خوفه من هذا الغد، وهكذا ذاق حُلو الحياة ابن عمار حليف البؤس وأخو الطريق.
حتى إذا أقبل الصبح وكاد أن يغدو ظُهرًا دلَف إلى حجرة ابن عمار خادمٌ من القصر يُوقِظه، وما أسرع ما تيقَّظ وما أجمل ما سَمِع! فقد جاء الخادم يدعوه إلى المعتمد.
ووضع ابن عمار على نفسه تلك الحُلَّة الجديدة التي أنعم عليه بها المعتضد في ليلته الذهبية ثم نظر إلى المرآة فوجد شيئًا، ولم يكن قد نظر إلى المرآة منذ كان طفلًا، وما كان بحاجة لينظر إليها، وما كانت حاجته إلى هذه النظرة؟! أما وجهه فهو يعلمه، وأما الأسمال التي كانت عليه فهو ضَيِّق بها يريد أن تَغْرُب عن وجهه فهو يدعو الله أن يُعفيَه منها أو يُعفيَها منه. أما اليوم فهو ينظر إلى المرآة ويجد شيئًا، يجد إنسانًا في وجهه حُمرة من أَثَر الفرح، وفي عينَيه حُمرة من أَثَر السهر، وفي ملبسه فخامةٌ من عند الملك.
سعى ابن عمار إلى المعتمد ومكثا معًا وتحادثا، وكانا كلما فعلا اقترب ابن عمار إلى نفس المعتمد، فهو يقُص عليه ما رأى وما سمع، ويقُص عليه ما أصابه به الدهر، حتى إذا حسَّ ابن عمار نفسه وكأنه يُكلِّم شخصًا يعرفه منذ زمنٍ بعيد تَجرَّأ فسأل المعتمد عن دخوله بالأمس من بابٍ سِرِّي وأوشك أن يأخذ هذا على المعتمد ولكنه لم يكَد؛ فإن المعتمد أسكته وطلب إليه أن ينتظر حتى يُقبِل المساء.
وأَقبلَ المساءُ والأميرُ والشاعرُ متلازمان، وسأل ابنُ عمار الأمير أن يجيب عن سؤاله الذي أبداه في صَدْر النهار، فإذا الأمير يقف ويأخذ بيد ابن عمار إلى حجرة ليس بها من شيءٍ غريب؛ فهي حجرةٌ ذات بابٍ وبها بعض الستائر تُزيِّن جُدرانها، ولكن الأمير يُزيح ستارًا منها فيرى ابن عمار من خَلْفه ثُقبًا في الحائط ويسأل الأمير عنه، فيطلب إليه الأمير أن ينظُر من الثقب، فيفعل فيرى مجلس الشعراء الذي كان فيه بالأمس وقد التأم لا ينقصه غير نفسه وغير المعتمد، ويستوضح الأميرَ فيخبره أنه يريد أن يرى الشعراء وهم جالسون في الغرفة الأخرى دون أن يُحِسُّوا به فيُتاح له أن يراهم في مَباذِلهِم من غير هذه الكُلْفة التي يصطنعونها في مجلسه؛ فلقد ضاق بهم أمام الأمير وأراد أن يراهم أمام أنفسهم، فيسأل ابنُ عمار: فإذا مسَّك أحدُهم بما لا تُحب.
- إن أحدًا منهم لا يجرؤ؛ فكلُّهم عينٌ على كلِّهم، وهم يخشَون على أنفُسِهم من أنفُسهم.
- فلماذا أريتَني هذه الحجرة؟
- لأنني أحسستُ فيكَ الصدقَ، ولقد رأيتُكَ بالأمس من هذا الثقب وأنت لا تعلم، ثم رأيتُكَ تتكلم أمامي فما رأيتُ اختلافًا بين الحديث والحديث، بل رأيتُكَ في كل مجالسك تُطلِق نفسك على سجيَّتها، فهذا الثقب لا أحتاج إليه معكَ.
- والباب لماذا جَعلتَه مُختفيًا؟
- حتى لا يُحاول واحدٌ منهم فتحه ليعرف أن وراءه حجرة. إنهم يظنون حين أدخل منه أنه مُفضٍ إلى دِهليزٍ من دهاليز القصر.
وهكذا تكشَّفَت الحقيقة لابن عمار وهي في تكشُّفها جَعلَته يُحِسُّ أنه صار أقرب الناس إلى المعتمد، ويفتح المعتمد الباب المُختفي ويمضي إلى المجلس ومن خَلْفِه ابن عمار.
ويرى الجالسون ابن عمار مصاحبًا للأمير فتشتعل نفوسهم غَيْرة، ولكن النار التي بقلوبهم ما تلبث أن تنقلب تَملُّقًا لابن عمار وتوسيعًا له في المجلس وفي الحديث؛ فقد صار القريب إلى المعتمد، وناهيكَ بقريبٍ إلى المعتمد. ومَرَّت الأيام فكان الشاعر يُلازِم الأمير لا يُفارِقه، بل إن الأمير لم يعُد يُطيق أن يُفارِق الشاعر لحظةً من حياته؛ فهو معه طُولَ يومه وليله لا يفارقه إلا لهجعةٍ في أصيل، أو نومةٍ في مساء، بل لعله كان يلازمه عند الأصيل أيضًا، ويكتفي المعتمد بضجعةٍ يتخذها ويُبيح للشاعر أن يتخذ لنفسه الجلسة التي يريدها. ومَرَّت الأيام سريعة على المعتمد بصداقته الجديدة بعد أن كانت بطيئةً ثقيلة لا يُحِسُّ لها جمالًا ولا رُواءً، وهي إن كانت تُسرِع على المعتمد فهي تُومِض ومضًا لابن عمار لا يكاد يحسب أنها أيام مثل تلك الأيام التي مَرَّت به وبحماره، حتى لقد كان يُخيَّل إليه أن الدهر قد تَغيَّر فأصبح يَلِد أيامًا جديدة لا صلة لها بتلك الأيام البائسة النكِدة التي قاساها.
وانقطع المعتمد عن مجلس أبيه وفرَغَ لابن عمار في الصباح ثم لشعرائه جميعًا منذ صَدْر الليل حتى يُشارِف نهايته وهو يخلو بعدئذٍ إلى ابن عمار، وهكذا حتى لم يصبح له لحظةٌ يخلو فيها لأبيه أو لمجلسِه، وأَحَسَّ الوالد بانقطاعه هذا وقد كان يَعْلم أن ابنَه شاعر وقد كان يَعْلم أنه يُحب الشعراء ويَهفُو لمجلسهم، ولكنه مع هذا كان يراه خاليًا إليه حينًا، وإلى مجلسه أحيانًا، فأَحَس الوالد أن ثَمَّة جديدةً في حياة ابنه استقصاها فعرف أنها ابن عمار، وأنه قد زاد على الشعراء فالْتَهَم وقت ابنه الذي كان يُبقيه له هؤلاء الشعراء، وما كان المعتضد ليسكُت عن هذا؛ فهو يحب الشعر ويُحب المجلس المُرفَّه ولكنه يُحب مُلكه أولًا، وهو يخشى أن يُصِرَّ المعتمد على شِعره وشُعرائه فلا يُصبِح المَلِكَ الذي يرجوه الغد ويرنو له العرش.
لم يسكت الملك عن هذا الأمر، ولكنه خَشِيَ أن يَلْوي ابنَه في عُنف، أو يَزجُره في قَسْوة، فيَنفَلِت الزمامُ من يده؛ فهو يعلم أن ابنه ذو رُوحٍ شاعرةٍ طليقةٍ لا تُطيق القيد ولا تَرْضاه حتى ولو كان هذا القَيد مُلكًا، فهو يدعو ابنه ويُبصِّره في رَوِيَّة ويُسايِره في الحديث والرأي أَوَّل الأمر ليصل به إلى رأيه الذي يُريده له في آخر الأمر؛ فهو يقول عن نفسه إنه شاعر وإنه يُحب الشعراء ويُقرِّبُهم وإنه ليتَرسَّل مع ولده في الحديث حتى ينتهي به إلى تلك الأبيات التي قالها في صدر شبابه:
وإن المعتضد ليطلُب إلى ابنه أن يَقسِم زمانه بين شِعرٍ وإمارة ولكن المعتمد لا يقطع برأيٍ، بل يلُفُّ مع المقال ويدور في طاعةٍ من الحديث وعصيانٍ عن الوعد، والمعتضد ذكيٌّ يعلم ما يجول بخاطر ابنه، ويعلم أنه يخشى من وعدٍ يقطعه ثم لا يُطيق أن يُنفذه، ويترامى الحديث ويطول فلكلِّ إحراجٍ من المعتضد مَخرجٌ عند المعتمد، حتى إذا أحَسَّ المعتضد أنه مُفضٍ إلى إخفاقٍ فيما يريد صارح ابنه أنه سيُولِّيه إمارة شلب، فيَستهوِل الولد الخَطْب ويهمُّ بأن يستقيل أباه؛ فهو شاعر لا شأن له بالإمارة، فإن تُفضِ إليه في غدٍ له بعيد فهو سيُصاب بها مرغمًا لأنه لا يُطيق لها دفعًا، أما أن يُصاب بها وأبوه على قيد حياة وهو بعدُ ما يزال غارقًا في الشعر وابن عمار، ودون أن يرى داعيًا لتلك الإصابة فهذا ما لا يُطيق. ويقرأ المعتضد هذه المعاني على وجه ابنه وفي عينَيه فيشير إلى ابنه أن يسكت قبل أن ينطق ثم يبدأ في حديثٍ آخر نابع من القلب:
- وبعدُ يا بُنَيَّ، أتعينُ الدهر عليَّ؟ فلقد أصابني بأخيك الأكبر أَرغبَ ما يكون في الخلافة وأَعجلَ ما يكون إليها، حتى لقد هَمَّ بقتلي ليعتسِفَها مني قبل أن يتيحها له موتي، وقتلتُه، وقتلتُ به شطرًا من نفسي وجانبًا كان في حياتي إشراقًا حين ميلاده فإذا هو السوادُ الحالك.
ثم صِرتَ أنت الأكبر والأمل، فإذا أنت أزهدُ ما تكون في الخلافة وأقعدُ ما تكون عنها، فلا والله لن يُصاب مَلِكٌ في مُلكه وأولاده كما أُصاب، فبالله إلا أعنتَني على الدهر وأُعيذُكَ أن تكون عونًا له.
واغرَورقَت عينا المعتضد بالدمع وهمَّت أن تفيض به لولا أن أمسَكَه عزةُ الملك وقَبولُ الابن.