دهاء الوزير
لم تكن الأندلس في ذلك الحين خالصة الحكم لملوكها؛ فلقد كانوا أضعف من أن يقوموا بالأمر وحدهم، وقد انتهز الإفرنجُ هذا الضعف فراحوا يُهدِّدونهم في ديارهم ويفرضون عليهم الجِزْية لقاءَ سكوتهم عنهم. ولقد أَذعَن الملوك لهذا التهديد فدفَعوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون فما كان الخُلْف بينهم ليتركَ لهم سانحةً يَفرغون فيها من عدوِّهم المشترك ولو كانوا قد تضامنوا لتغلَّبوا عليه. لكن من أين لهم وقد تقطَّعَت بينهم السبُلُ فأصبح ما بينهم وبين بعضهم خَرابٌ بَلْقعٌ لن يعمُره الشرُّ الذي يَحيقُ بهم ولن يصله العدوُّ الذي يتنمَّر لهم؟
ولقد كان هذا العدو حصيفًا؛ فهو لم يهجُم لأنه يعلم أن جيوشه لا تكفي فهو يُهدِّد في تبجُّح فتهلَعُ نفوسُ الملوك فهي خائرة، وهو يطلب الجزية فتمتد بها أيدي الملوك صاغرةً ذليلة.
ولم يكن حالُ المعتمد خَيرًا من حال إخوانه وإن يكن هو أقواهم وأعزَّهم جانبًا إلا أن أمواله كانت جميعها منزوفةً على مطالبِ إعتماد وقد كانت لا تنتهي، والقليل الباقي لم يكن كافيًا لإقامة جيش لكنَّه كان كافيًا لأن يدفع الجزية فهو يدفعها.
وكان الأذفونش كبير ملوك الفرنجة في ذلك الحين هو الذي يتقاضى الجزية من المعتمد ومن ثم كان على صلة وثيقة بابن عمار وقد كان الأذفونش معجبًا به كل الإعجاب، حتى لقد أَطلَق عليه اسم «رجل الجزيرة» فكان كلَّما مَرَّ اسمُ ابن عمار في حديثٍ يسمعه الأذفونش قال عنه «هو رجل الجزيرة غيرَ مُنازَع.» وقد علم ابن عمار بما يقوله عنه ملك الفرنج فارتاحت نفسه إليه، وكان يخرج إليه بالجزية فعرف عاداتِه وعرف ما يُحب وما يَكْره وعَرفَ هواياتِه فما غفل شيئًا مما يُحيط به.
ولكن هذا الإعجاب الضخم الذي يُكِنُّه الأذفونش لابن عمار لم يمنعه يومًا أن يأخذ الجزية كاملةً بل إنه زاد على ذلك.
أحس الأذفونش أن مملكة المعتمد في حالِ ضَعفٍ شديد وكان هو قد تكاثر المال لديه فانتوى في نفسه أمرًا ولم يسكُت عند النية.
وبينما كان المعتمد في إشبيلية على حاله لا يُفِيق من حب إعتماد إلا ليجلس إلى ابن عمار، وبينما كانت الدولة جميعها مشغولةً لإعتماد تُنفِّذ مطالبها وتُحقِّق رغباتها كان الأذفونش يقوم بعملٍ أكثرَ قيمةً وأجلَّ منفعة.
وفي يومٍ نظرت إعتمادُ من شُرفتها فرأت فتياتٍ يملأن الجرار فحدَّقَت مليًّا ثم همَّت بزوجها تريد أن تراه في سريعٍ حاسم من الأَمْر ويُسارع الخدم ومن خلفهم الجواري يسألون عن الملك، وكان المعتمد جالسًا إلى حفنةٍ من وزرائه يبحث معهم في حاجة الدولة إلى المال ولكن هذا لم يقف بالخدم أن يقتحموا المجلس ويطلبوا إليه أن يُسارع إلى إعتماد فيُسارع وإذا هي تطلُب إليه أن يجعل لها ما تَملأُ منه الجِرار فقد اشتهت أن تفعل مثلما يفعل أولئك النسوة، ويُنشئ المعتمد معجنةً من المسك ومن ماء الورد تُكلِّف الدولة ما كانت ستبذُله لتقوية الجيش فلا يبقى بالخزانة إلا القليل.
كان هذا في أندلس الإسلام حين كان الأذفونش يبذل من المال فوق ما تحتمل موارده جميعًا ليُقيم شيئًا آخر غير معجنة المسك، وليُرضيَ غاياتٍ أخرى غيرَ نفس امرأة.
وفي يومٍ بينما المعتمد جالس إلى النافذة يرنو إلى إعتماد ترفع ذيل الثوب عن أرجلٍ ناعمات غائصاتٍ في المسك وماء الورد، وبينما المعتمد مُنتَشٍ بما يرى يستخِفُّه الفرح ويُصفِّق قلبه بين ضلوعه كأنه طائرٌ يحُوم حول من يحب، وبينما السرور يَشِيع في أجواء المعتمد إذا بوزيرٍ من وزرائه يدخل فلا يحتشم من مقاصير الحريم شيئًا وإنما هو يَقصِد إلى المعتمد لا يريم وإذا هو يصيح به: أدركنا يا مولاي.
فينتفض المعتمد فما كان بيده حينئذٍ أن يُدرِك أحدًا وما كان يتوقع أن يتجاوز رجلٌ مهما يكن وزيرًا أعتاب إعتماد. انتفض المعتمد من الدهشة ومن الغضب وإذا هو يقول للوزير بصوتٍ يخنقه كل ما يثور بنفسه من اضطراب: ماذا أبا القاسم؟ ماذا بك؟
فيجيب الوزير هالعًا ملتاعًا: لقد هاجمنا الأذفونش بجيشٍ أَوَّلُه هنا وآخره لم يظهر حتى الآن.
- وأين هو؟
- في ظاهر المدينة.
- ومتى رأيته؟
- لقد رآه من رآه في باكر الصباح وما زال يتقاطر حتى الآن.
- ويحك وماذا نفعل؟
- أمركَ يا مولاي.
- عليَّ بابن عمار.
وما أَسرعَ ما يجيء ابن عمار وما أَروعَ ما يرى من ملكٍ مضطرب ووزيرٍ هالع فإذا هو يُشرِق بينهم كالأمن يشيع في النفس وإذا هو هادئٌ أهدَأَ ما يكون المرء وكأن ما يُلْقى إليه بُشرياتٌ لا أَثَر فيها للحرب فالقتل فالخراب والدمار ودولةٍ تَهوِي وعرشٍ يزول، كأن شيئًا من هذا لم يُلْقَ إلى ابن عمار فهو يتكلم في هدوء وهو يُهدِّئ الروع الثائر ولكنه يقول عجبًا، يقول ابن عمار: مولاي، إني مُخلِّص الأندلس والإسلام من كلِّ ما تخشاه، كلُّ ما أرجوه منكَ أن تفعله هو شطرنج.
فيُذهَل المعتمد ويسأله وكأنه لم يسمعه: ماذا؟
- شطرنج.
- أتقصد الشطرنج الذي يُلعَب به؟
- نعم أقصد الشطرنج الذي يُلعَب به.
- أتهذي؟!
- بل أَجِدُّ.
- وماذا أنت فاعل به؟
- هذا سِرِّي يا مولاي، فأبقِه عليَّ أبقاك الله.
- وكيف تريده أن يكون؟
- أريده أَفخَمَ ما يكون الشطرنج، أريده من خالص الذهب ومن خالص الفضة وأريد أمهر الصنَّاع أن يتركوا أعمالهم جميعًا فلا يفعلوا شيئًا إلا أن يُتقِنوا صناعة هذا الشطرنج.
- يَسيرٌ مطلبك يا ابن عمار، يَسيرٌ مطلبك.
ويأمر المعتمد فيَمتثِل الصنَّاع أَمْره ويفرغون للشطرنج حتى يفرغوا منه، ويخرج ابن عمار إلى خيام الأذفونش فيلتقي بقادته والمقرَّبينَ إليه ويتكلم معهم حديثًا جاريًا لا يقصد ظاهره إلى هدف ولا يهدف في لفظه إلى غاية، يتكلم ابن عمار فإذا حديثُ الشطرنج وصفاته وإتقان صناعه حديثٌ شائعٌ بين خيام الأذفونش، وإذا القوم لا يتكلَّمون فيما بينهم إلا عن الشطرنج حتى يرتقي حديثهم إلى الأذفونش، وإذا الأذفونش وقد أصبَح كلُّ همه أن يرى هذا الشطرنج فهو يستدعي ابن عمار ويسأله: أصحيح ما يُقال عن الشطرنج يا رجل الجزيرة؟
- وما الذي يُقال يا مولاي؟
- يقولون إن الصُّنَّاع قد أبدعوه إبداعًا فهو ما لم يَرَ الأوائلُ ولا الأواخر.
- ليس السماع كالعِيان يا مولاي.
- فمتى أراه؟
- متى تُحب.
- فهاتِه الآن.
- أُحضِره الآن.
ويقوم ابن عمار إلى الشطرنج فما هي إلا بعضُ ساعة حتى يكون الشطرنج بين يدَي الأذفونش يُقلِّبه بين يديه عاجبًا مُعجَبًا مادحًا كل قطعةٍ فيه، ويرى ابنُ عمار إعجابه فيسكُت ولكنَّ الملك لا يُطِيق السكوت.
- كيف السبيل إلى مِثْله يا رجل الجزيرة؟
- ليس إلى مِثْله من سبيلٍ يا مولاي.
- وكيف؟ إنني أبذُل لنَيلِه ما تشاءُ من المال.
- إن المال لا يعوقُ يا مولاي، غير أن الصنَّاع الذين قاموا بصناعته قد ماتوا جميعًا ولن يقدر على إبداع مثله صُنَّاع اليوم.
- فليس من سبيلٍ إلى مثله.
- إلى مثله لا سبيل، أما إليه، فلعل هناك سبيلًا.
- وما هو؟
- أُراهِنُكَ عليه.
- عَلامَ؟
- أُلاعِبُك به فإن غلبتَني فهو لكَ وإن كانت الغلبةُ لي فإن لي عندك مطلبًا.
- وما مطلبك؟
- لا أقوله حتى تكون الغلبة لي.
- ولكنكَ تعلم أن أحدًا لا يُتقِن لعب الشطرنج مثلما أُتقِن.
- وأعلم ذاك.
- ولكنك لا تُبينُ عن مطلبِكَ.
- حتى يتمَّ النصر لي.
- لا أظنُّني أرضى بهذا فأنا لا أعرف مدى قدرتِكَ في اللعب وأنا لا أعرف مطلبَكَ وأخشى أن يكون عسيرًا.
- ولكنك يا مولاي تُتقِن اللعب إتقانًا فما خشيتك؟
- إن الذي عند الملك كثير فأخشى أن يكون مطلبك كثيرًا.
- أمركَ إذن يا مولاي.
- أَنظِرني إلى الغد.
وخرج ابن عمار من عند الملك واجتمع بقُوَّاده المقرَّبينَ إليه كلٍّ على حِدَةٍ وأغراهم أن يُطمِعوا الملك باللعب وألقَم من يَمُد يده ذهبًا وأَفهَم من لا يَمُدها أن الملك لا يَجمُل به أن يتراجع وهو اللاعب الحاذق، وانتقل الإغراءُ إلى الملك، ألقاه إليه أصحابُه مُظهِرينَ له أنهم ينصحونه وأنهم يَخشَون أن يتسامع الناس بتقَهقُره.
ويطلُع الصباح فإذا الملكُ قد انتصَح بنُصحِ قُوَّاده، وإذا هو يُرسِل مَن يدعو ابن عمار فيجيء فيُخبِره الملك أنه قَبِل الرِّهان.
ويبدأ اللعب وقُوَّادُ الأذفونش شُهودٌ فما يلبث ابن عمار أن يتغلب على الأذفونش غلبةً واضحةً لا سبيل إلى نكرانها، فيعترف الأذفونش بها ويغتَصِب ابتسامةً يلصِقُها بفمه ويسأل ابن عمار: فما مَطلبُكَ يا رجل الجزيرة؟
- لا شيء إلا أن يتفضل مولاي فيأخذ جيوشه ويعود بها من حيثُ أقبل.
يسمع الأذفونش هذا الحديث فتُصبح ابتسامته تَشنُّجًا مُرتعِشًا ويصيح بابن عمار: ويحك أجادٌّ فيما تقول؟!
- ليس لي مطلبٌ آخر يا مولاي.
فيعلم الأذفونش أن الوزير قد أحاطَ به فيلتفت إلى قواده ثائرًا بهم: أرأيتم ما نصحتُم به؟ أرأيتم ما أوقعنا فيه الرجل؟ ولكن لا، لا يمكن أن يُصبِح الهَذرُ جِدًّا.
فيجيب ابن عمار: إن هَذرَ الملوك جِدٌّ يا مولاي.
فيعود الملك إلى وزرائه يكاد يقتلُهم من شدة غيظه فيتركه ابن عمار ثائرًا هائجًا ويخرج، ولكنه لا يترك الخيام قبل أن ينتظر القُوَّاد مرةً أخرى فيُلقِمهم مالًا أو يُلقِّنهم أن كلام الملوك لا يمكن أن يتراجع فإنه كلام الملوك.
ويترك القُوَّادُ ملِكَهم لَيلتَهم هذه ثم يُصبِحون إليه فيقولون له إنه وَعَد ووعْدُ الملك تنفيذٌ ولا بُد أن يقوم بما طلَبه إليه ابنُ عمار إبقاءً للرهان، فما يُصبِح اليوم التالي حتى يكون الأذفونش قد دعا ابن عمار فيذهب إليه فيقول الأذفونش: لقد أوقعتَني يا ابن عمار ولن أنساها لك.
- أَسَيِّئةً تحتسبها لي يا مولاي أم حسنة؟
- ويحكَ أتريدني أن أَعتدَّها لك حَسَنة.
- وما لكَ لا تفعل يا مولاي ألم أخدم بها ملكي وبلادي؟
- ويحكَ قد يعتدُّها غيري حسنةً لكَ يا ابن عمار أما أنا فلا، لا يا ابن عمار.
- بل سوف تفعل يا مولاي حين يهدأ ثائرُكَ.
- والآن.
- والآن يا مولاي.
- لا أترك بلادكم حتى أنال الجزية مُضاعَفةً هذا العام.
- أمرك يا مولاي.
وينصرف ابن عمار ليعود إلى الأذفونش بالجزية مضاعفةً فيأخذها الملك مُزمجرًا، ولكن ابن عمار يتقدم إليه بشيء كان قد لفَّه فهو لا يظهر ويسأله الأذفونش: وما هذا؟
- فليُزِلْ مولاي عنه لِفافتَه.
ويفعل الملك فيجد الشطرنج فيقول ابن عمار: هديةٌ خالصةٌ متواضعة من ابن عمار.
فيُسَرُّ الملك من هذه اللفتة ويكاد ابن عمار أن يعود إلى سابق مكانته في نفس الأذفونش، ويعود الأذفونش إلى بلاده ويعود المعتمد إلى نافذته يرنو منها إلى إعتماد وذيل ثوبها قد رُفِع وقدماها قد غاصتا في المسك وماء الورد، إلا أنه في هذه المرة لم يكن وحده بل كان ابن عمار إلى جواره يرنو هو أيضًا إلى جواريه يغُصنَ بأقدامِهنَّ مع الملكةِ في المسك وماء الورد.