صفقة، أهي رابحة؟!
أَحسَّ ابن عمار بعد أن خلَّص البلاد من خطر الغزو أنه أصبح دعامةَ هذه البلاد وأَحسَّ أنه داهيةٌ في السياسة يتلاعب بالملوك ويرُدُّ بدهائه الجيوش عظيمةً ما عَظُمَت تلك الجيوش، ثم أَحسَّ بعد فترة من الوقت أن ذكاءه لا بُد أن يجد شيئًا ينشغل به فما تَعوَّد أن يُراح إلى هدوء، وما كانت النساء مأربًا لحياته وهو لم يصطنع الخمر والجلسات المازحة إلا إرضاءً للمعتمد. ووافت ابن عمار أنباءٌ عن مرسية المجاورة لإشبيلية والمستقلة عنها في الحكم، وكان مُؤدَّى هذه الأنباء أن مرسية تفتقر إلى الجيش، وأن حاكمها على غِناه لا يملك خيلًا ولا رجلًا. وكان ملك مرسية في ذلك الحين هو «أبو عبد الرحمن ابن طاهر» ينتمي إلى أصلٍ عربي ويملك أموالًا ضخمة لم تُلْهِه عن ثقافةٍ واسعة فكان حصيف الرأي قويم الفكرة، وكان أيضًا ضعيف الجيش منكسر الشوكة.
وكان يقيم بجوار مرسية «كونت» يدعى «الكونت دي برشلونة ريمون بيرنجيه» وكان ذا قوةٍ وأيدٍ وكان صديقًا لابن عمار. وهكذا تهيأ لابن عمار أن يدَّعي أنه ذاهبٌ لزيارة هذا الكونت وكان لا بُد له أن يمُرَّ بمرسية في طريقه إلى الكونت، فلم يكن غريبًا إذن أن يظهر ابن عمار في مرسية، وأن يكن رأى فيها بعض من يريدون خيانتها وأن يكن قد رشاهم فقَبِلوا الرشوة، إلا أن هذا لم يكن إلا تحت ستارٍ كثيفٍ من الكتمان لم تَخترِقْه أَعيُن «أبي عبد الرحمن بن طاهر».
وقصد ابن عمار إلى الكونت وأجرى الحديث فجرى إلى حيث يريد، فإذا الكونت يتحدث عن مرسية وعن ضعفها وإذا ابن عمار يظهر في الحديث إغضاءً يكاد في ظاهره أن يصل إلى المَلَالة، ثم لا يلبث أن يميل إلى الحديث رويدًا ثم هو يشارك فيه ويُشجِّع عليه، فينطلق الكونت وينطلق ابن عمار حتى إذا رأى منفذًا إلى غايته نفَذ فعرض على الأمير أَمرًا.
- ما دُمتَ يا مولاي ترى هذا الأمر فما حبسك عن أن تعتسف هذه المملكة وإنها لثمرةٌ ما تحتاج منك لغير أُصبعٍ تمدها.
- ومن أين لي المال يا ابن عمار؟
- أيمنعك المال أيها الأمير؟
- والله يا ابن عمار إن شئت الحق فإن المال وحده لم يكن ليمنعني ولكنَّني أخشى أن أُثير في الدولة الإسلامية الأخرى حفيظةً لا أريدها أن تثور.
- لقد أَصبتَ فاصلًا من الأمر، ولكن ماذا تُراك تقول لو أن دولةً عربية إسلامية هاجمت مرسية فاحتلَّتها وتُصيب أنت ربحًا وأنت في مكانك لا تريم؟
- أكاد أفهم ما تريد.
- بل إنك لتفهمه.
- فزِدْه إيضاحًا.
- أجيئك بالمال وتُمِدُّني بالجيش.
- أليس الجيش دماءً تُراق فعائلةٌ يَتبدَّد شملها، فزوجًا أيِّمًا، وابنًا يتيمًا، وأمًّا ثَكْلى؟
- ولكنه المال … والحاكم — بعدُ — ينظر للمصلحة العليا فشأنه الملك، وما شأنه زوجًا ولا طفلًا ولا أمًّا.
- وهل الملك يا ابن عمار إلا هذه الزوجة وذلك الطفل وتلك الأم؟
- ولكنك تريد مالًا.
- وأريد رجالًا.
- الرجال كثير ولكن المال، المال.
- كم تدفع؟
- كم تقبل؟
- عشرة آلافِ مثقالٍ ذهبًا.
- فإن كانت خمسة؟
- عشرة.
- قَبِلتُ.
- ومن يضمن لي أنكَ ستُرسِل المبلغ؟
- ومن يضمن لي أنكَ ستُرسِل الجيش؟
وحينئذٍ اقتحم الغرفة ابنُ أخي الكونت فكأنما وجد الكونت طلبتَه فهو يلتفت إلى ولد أخيه، ويطلب إليه أن ينتظر ريثما ينتهي حديث ويخرج الفتى ثم يلتفِتُ إلى ابن عمار قائلًا: ابن أخي.
- مرحبًا به.
- ألا تسأل من يضمن لك إرسال الجيش؟
- أجل.
- وأنا أقول ابنُ أخي.
- ما له؟
- يضمن لك.
- وكيف؟
- تأخذه رهينة.
- وماذا تُريد مني رهينة؟
- أريد ابن المعتمد.
وأخذ ابن عمار بهذا المطلب ولكن تردُّده لم يطل فقد كانت القيمة المتفق عليها حاضرة عند المعتمد، ثم ما له لا يتصرف في أولاد المعتمد وقد تصرف في المعتمد نفسه وما البأس الذي يخشاه؟ لا بأس عليه إذن ولكنه عاد يسأل: وكيف يجيء إليك؟ إن أباه لن يرضى كما تَعلَم، وأنا لن أخبره أن ابنه سيُصبِح رهينةً لديكَ.
- ألن تُرسِل المال في موعده؟
- بلى.
- إذن فأخبر المعتمد أن ابنه سيتولى قيادة الجيش حتى يُمرَّن على الحرب والقتال.
- لقد قَبِلتُ.
- وقد قَبِلتُ.
وخرج ابن عمار من عند الكونت وهو يعتقدُ أنه غلبَه على أمره والكونت يعتقد أنه غلَب ابن عمار على أمره، وشاع في نفسَيْهما الفرحُ بصفقةٍ يعتقد كلاهما أنها الرابحة.