هكذا خُلقت
لست أدري أأهنئ صديقنا الدكتور محمد حسين هيكل برجوعه إلى القصة أم أهنئ القصة برجوعه إليها، ولكني أعلم أن قرَّاء الأدب النقيِّ الصفو هم الجديرون بالتهنئة؛ فقد أتاحت لهم عودة هيكل إلى القصة، بعد أن كان من السابقين إليها وبعد أن هجرها هجرًا طويلًا غير جميل، أتاحت لهم كتابًا رائعًا جديرًا أن يُقرأ وأن يُقرأ في أناة ومهل، وجديرًا حين يُقرأ أن يملك على قارئه أمره كله ووقته كله ومَلَكاته كلها أيضًا.
فهيكل بارع في هذه القصة لا يتحدث فيها إلى القلب والشعور وحدهما، ولا يتحدث فيها إلى العقل وحده، ولكنه يتحدث إلى هذه المَلَكات كلها هي وملكات أخرى غيرها؛ يتحدث إلى السمع بهذا اللفظ السهل العذب النقيِّ البريء من التبذُّل والابتذال جميعًا، والبريء مع ذلك من التعقيد والتكلُّف، ومن هذا التصنُّع البغيض الذي ما زال بعض الناس يشغفون به ويتورَّطون ويُورِّطون غيرهم فيه، ويتحدث إلى البعض بهذه الأوصاف البارعة لنجوم السماء حين ترسل سهامها المضيئة إلى الأرض، وللشمس حين تغرب فتملأ كل شيء روعة وجمالًا، وتأخذ على الناظرين إليها أبصارهم وعقولهم وأذواقهم جميعًا، وللقمر حين يلقي ضوءه الهادئ المطمئن على النيل وعلى البحر وعلى الصحراء وعلى قمم الجبال وسفوحها.
وهو يتحدث إلى الضمير حين يقيس أعمال الناس بما فيها من خير وشر، وبما فيها من إحسان إلى الناس أو إساءة إليهم، وبما فيها من إرضاء للعقل وللشعور الديني مجتمعين أو متفرقين، وهو من أجل هذه الأحاديث كلها لا يشغل بعض مَلَكات قارئه وإنما يشغل مَلَكاته جميعًا، وهو من هذه الناحية مريح للقارئ ومتعِب معًا؛ يريحه لأنه لا يشغل بعض مَلَكاته عن بعضها الآخر، ويتعبه لأنه يأخذ القارئ فلا يرده إلى نفسه وإلى ما يحيط به من الظروف وإلى ما يدعوه من شئون الحياة إلا بعد أن يفرغ من قصته.
وقد قلت إنه يتحدث إلى القلب والشعور، وأيُّ حديث أقرب إلى القلب والشعور من حديث الحب هذا الذي يشقى به صاحبه لِمَا يُثير في نفسه من الأهواء المتناقضة والعواطف المختلطة، ويشقى به غيره لِمَا ينغص عليه من بياض أيامه وما يؤرق عليه من سواد لياليه، ويشقى القارئ نفسه لِمَا يضطره إليه من العناء كل العناء حين يريد أن يهتديَ في هذه الخصومات الملتوية العنيفة بين ألوان العواطف وضروب الشعور؟ وقلت إنه يتحدث إلى العقل، وأيُّ حديث إلى العقل أكثر متاعًا من حديث هذه القيم الكثيرة لأعمال الناس وملاءمتها للحق مرةً ومخالفتها له مرةً أخرى، وموافقتها للعدل حينًا وانحرافها عنه حينًا آخر، وائتلافها مع القصد في أول النهار واندفاعها إلى الجور المسرف في آخره، واضطرابها هذا المتصل وتأثيرها بهذا الاضطراب في آراء الناس وأحكامهم فيما يكون بينهم من الصلات، بل فيما يكون بينهم وبين نفوسهم من صلات؟ وقلت إنه يتحدث إلى الضمير، وأيُّ حديث إلى الضمير أدقُّ وأنفذ وأمضُّ في الوقت نفسه من محاسبة الإنسان لنفسه في كل لحظة من لحظات حياته، وتقدير الإنسان لكل عمل من أعماله وكل لفظ من ألفاظه، وبما يمكن أن يكون لهذا اللفظ أو لهذا العمل من أثر حسن أو سيئ، قوي أو ضعيف في نفوس غيره من الناس؟ وأيُّ حديث إلى الضمير أدقُّ وأنفذ من حديث الدين حين يتخذه الإنسان مقياسًا لكل ما يَصدر عنه من قول أو فعل، ولكل ما يضطرب في نفسه من تفكير أو شعور؟
كل هذا تجده في الكتاب فتنعم به وتشقى به أيضًا؛ تنعم به لأنه يمتعك، وتشقى به لأنه لا يخرجك من حيرة إلا ليدخلك في حيرة أخرى، ولأنه يضطرك إلى أن تكون مشاركًا لأشخاصه حين يرضون وحين يسخطون وحين يثورون وحين يهدءون، ثم لا يعفيك الدكتور هيكل من أن تشرف من قرب على محاسبة هؤلاء الناس لأنفسهم واحتكامهم إلى ضمائرهم، فترضى عنهم مرةً وتسخط عليهم مرةً أخرى، وتوافقهم الآن لتخالفهم بعد حين، وتعطف عليهم في هذه الصفحة من صفحات الكتاب لتصب عليهم نقمتك بعد صفحتين أو صفحات، وأيُّ غرابة في ذلك وقد قلت لك إن هذا الكتاب متعِب مريح، ومُسعد مُشقٍ وممتع مثير؟! وانظر معي إلى هذه الصَّبِيَّة التي تنشأ في بيت أسرة من أولي اليسار لا تعرف هذا الشقاء المألوف الذي يعرفه كثير من الناس؛ شقاء البؤس والجوع والحرمان، ولكنها معرَّضة لألوان من الشقاء ليست أقل منها إيذاءً للنفس ولا تعذيبًا للقلب تأتيها من هذه الحياة الناعمة نفسها، فصَبِيَّتنا هذه مُدلَّلة بين أبوَيْها هي وحيدتهما، وهي تنعم بحبهما كله، وعطفهما كله، وحنانهما كله، لا يشاركها في ذلك أخ أو أخت، وهي لا تنعم بحب أبوَيْها وحدهما، ولكنها تنعم بالحب والبِر من بعض أقاربها أيضًا، ومن صديق الأسرة على اختلافهم، ومن معلماتها وأترابها حين تختلف إلى المدرسة، ثم هي لا تُفتن بهذا النعيم ولا يُدركها البطر أو الأشر، ولكنها مقبلة على الدرس في نشاط وجهد وذكاء ولا تكاد تعرف الصلاة حتى تُقبل عليها إقبالًا شديدًا، ثم لا تكتفي بأداء فرضها ولكنها تُعنَى بأداء الأتراب والمعلمات فروضهن، فهي محتفلة بالمُصلَّى في المدرسة تنفرد — أو توشك أن تنفرد — بالقيام عليه؛ فشعورها الديني قويٌّ يملأ قلبها رِضًى، وعقلها ذكيٌّ يتيح لها التفوق في الدرس، وهي مع هذا كله بارعة الجمال رائعة المنظر محبَّبة إلى كل من يراها، وهي لا تكاد تنشأ وتشب حتى تعرف كل ما مُنحت من المزايا، تعرف جمالها وسحر عينيها وتعرف حديثها إلى القلوب واختلاب حسنها للألباب، وتعرف ذكاءها وإعجاب المعلمات والأتراب بها، ويوشك بعض الغرور أن يستقر في نفسها.
وإنها لفي هذا كله وإذا المحنة تفاجئها؛ فأمها مريضة، وإلحاح المرض عليها يشتد من يوم إلى يوم، وإذا هي بعد حين تعرف الحزن اللاذع والألم المُمِض؛ فقد فقدت أمها وأصبحت يتيمة يرعاها أبوها الذي مهما يكن حبه لها وبره بها فهو رجل لا يُحسن القيام على تنشئة الفتيات، ولها عمة صالحة تقيَّة تؤدي الصلوات، وقد حجَّت البيت وزارت قبر النبي الكريم، ودفعها هذا كله إلى إمعانٍ في الدين وهي قد أقبلت من الريف لتقوم على بيت أخيها وتُعنَى بأمر ابنته، وهي تمنح الفتاة من حبها وعطفها شيئًا كثيرًا، ولكنها في الوقت نفسه ترثي لأخيها من هذه الوحدة وتكره أن تنتقل ثروته يومًا ما إلى من سيتخذ هذه الفتاة لنفسه زوجًا، فهي تُغري أخاها بالزواج بعد أن أدَّى للفقيدة حقها من الحزن عليها والوفاء لها، وما تزال تُزين له الزواج وتلح عليه فيه حتى تُحبِّبه إليه، ثم تنتهي به إلى ما تُريد؛ فقد رأت الفتاة في بيتها امرأة أخرى تقوم مقام أمها وتُشاركها في قلب أبيها وهي ضيقة بهذه الزوج الجديد ما في ذلك شك.
وقد أخذت تعرف الانطواء على نفسها والانفراد بآلامها، والشعور بأن غيرها قد اعتدى عليها وسلبها بعض ما كانت تستأثر به من حب أبيها، وهي قد مُنعت من الذهاب إلى المدرسة وحُجبت عن الناس، واضطُرَّت إلى أن تقضيَ وقتها كله مع هذه الزوج التي لا تحبها ولا تجد عندها شيئًا من حب — وإن وجدت عندها كثيرًا من التلطف والرفق — وقد أخذت تُؤْثر العزلة وتحب أن تخلوَ إلى نفسها، وربما استعانت بصلاتها والتمست فيها شيئًا من عزاء، ولكنها شقية على كل حال، وهي تفزع إلى الموسيقى لتشغل نفسها عن نفسها وعن هذه التي غصبتها دار أمها وقلب أبيها، ولكن أباها يُرزق صبيًّا فتحار الفتاة بين الرِّضَى بذلك والسخط عليه، ويغلب حبها للصبي آخرَ الأمر فتُعنَى به أشد العناية وتُشغَل به عن كثيرٍ من همها، والصبي يمرض ذات يوم ويُدعى الطبيب؛ فإذا شابٌّ لا تنبو عنه عين الفتاة وإنما تتصل به ثم تحب هذا الاتصال، ثم ترقبه وتتمناه وينتهي الأمر في كثير من التحليل والتعليل إلى الخِطبة، ثم إلى الزواج، ونفرغ من قصة الأسرة لنخلص لقصة هذا الحب الجديد الذي يحلو إلى أقصى ما يستطيع الحب أن يحلوَ ويمر، إلى أبعد ما يستطيع الحب أن يبلغ من المرارة، ويلين حتى يجعل الحياة نعيمًا خالصًا، ويعنف حتى يُحيل الحياة عذابًا أليمًا، ولستُ مستطيعًا أن أتبع هذه الفتاة بعد أن أصبحت زوجًا فيما تقص من حياتها؛ فهيكل لا يحدثنا عن بطلته، وإنما ينقل إلينا حديثها عن نفسها، فحديثها طويل مُمعنٌ في الطول، دقيق مُمعنٌ في الدقة، بطيء ملحٌّ في البطء، مفصَّل مسرف في التفصيل، ولكنها على كل حال قد أحبت زوجها وأحبها زوجها أصدق الحب وأصفاه وأعذبه وأمرَّه في وقت واحد، ورُزقت منه طفلين صبية وغلامًا، ونحن نعرف أن زوجها طبيب وأنه طبيب ممتاز، ولكن صاحبتنا طموح مؤمنة بنفسها معجبة بنضرتها مقتنعة بسحر عينيها وسحر حديثها، توَّاقة إلى أن تبهر الناس بهذه الخصال جميعًا، وهي تودُّ لو انصرف زوجها عن صناعة الطب إلى السلك السياسي لتزدان بها هذه السفارة أو تلك السفارات المصرية فيما وراء البحر خاصة، وزوجها مُحب لطبه حريص عليه؛ فيكون بينهما إذنْ أول اختلاف ينتصر فيه زوجها وتُذعن هي لهذا الانتصار، ولكن ضميرها الخفي قد أسر في أعماقه هذه الهزيمة وضاق بها أشد الضيق.
وهي كَلِفَة بالأسفار يأنس ذلك زوجها منها فيرضيها بما ينظم لها من الأسفار المختلفة مرةً معه ومرةً وحدها لا يصحبها إلا الصبيان والمربية، وهي تذهب حينًا إلى الأقصر وحينًا إلى أوروبا، وهي في بعض أسفارها تُحس افتتان الناس وهيامهم بسحرها؛ فيرضيها ذلك أعمق الرِّضَى ويُخيفها مع ذلك أشد الخوف؛ لأنها تحب زوجها مخلصة له وتكبر نفسها عن الزلل، ولكنها مغرورة بحسنها وسحرها مكبرة لنفسها أشد الإكبار، ترى في تملُّق الناس إياها وإعجابهم بها وافتتانهم بها شيئًا طبيعيًّا لا تكلُّف فيه، بل ترى هذا حقًّا لها فهي إنما خُلقت لتفتن بجمالها وتسحر بلحظها ولفظها جميعًا، وهي راضية كل الرِّضَى محتاطة أشد الاحتياط؛ لأنها لقيت رجلين في الأقصر أحدهما ألماني هام بها هيام العقلاء الذين يعرفون كيف يملكون نفوسهم، والآخر مصري هام بها هيام الضعفاء الذين تعرف أهواؤهم كيف تملكهم وكيف تتسلط عليهم؟ لقيت هذين الرجلين مع صديقةٍ لها كانت تشتو مثلها في الأقصر، فلم تَعُدْ من مشتاها إلا وقد بلغت بعض ما تُريد من الظفر بالإكبار والإعجاب والثناء، وزوجها يبذل كل ما يستطيع وأكثر مما يستطيع ليُرضيَها، لا يتردد في أن يستدين ويُسرف في الاستدانة ليتيح لها الحياة الراضية التي تطمح إليها، وليتيح للصبيين ما ينبغي لهما من نعمة ولين، ولكنه مقصِّر مهما يفعل؛ لأنها ترى نفسها أهلًا لأكثر مما يقدم إليها، والتقصير الخطير الذي يُفسد على الزوجين أمرهما يأتي من أن زوج هذه المرأة واثق بها كل الثقة مطمئن إليها كل الاطمئنان فهو لا يغار عليها، بل هو لا يغلو في إظهار الإعجاب بجمالها والافتتان بسحرها؛ فهي إذنْ مريضة بحب الإعجاب لأنها مريضة بالغرور، وهي تبذل كثيرًا من الجهد لتثير الغيرة في نفس زوجها فلا تستطيع فيملؤها ذلك حفيظة وغيظًا، ثم لا تلبث الأيام أن تكشف لها ولزوجها عن مرض آخر في نفسها وهو الغيرة؛ فزوجها لا يُعجب بها كما ينبغي، ولكنها لا تُطيق أن تُظهر امرأةٌ لزوجها شيئًا من الرِّضَى عنه أو العناية به، بل هي لا تُطيق أن تُظهر غيرُها شيئًا من العناية برجل تعرفه، وإنما تريد أن يكون الرجال كلهم لها عبادًا وبها معجبين، يُفتنون بها وحدها لا يشركون بها امرأة أخرى.
وقد أرادت الظروف أن تئيم صديقتها تلك التي لقيتها في الأقصر، وأن يُشغل زوجها وصديق له بأمر هذه الأيِّم واستخلاص ميراثها وميراث أبنائها من أسرة زوجها الفقيد؛ فتستأثر بها غيرة منكرة تفسد عليها حياتها كلها وتدفعها إلى شر عظيم؛ فقد عرفت ذات يوم أن صديق زوجها قد يتزوج هذه الأيِّم، فما تزال تسعى حتى تفسد هذا الزواج وتقطع الصلة بين الصديق وهذه المرأة، وهي تحاول ما استطاعت أن تصرف زوجها عن العناية بأمر هذه الأيِّم وبنيها فلا تُوفَّق، يُلحُّ الزوج في البر والوفاء ويُجَن غرورها وتضطرم غَيرتها اضطرامًا، وينتهي الأمر إلى القطيعة بين الصديقين، ثم ينتهي إلى هجرها منزل زوجها، بل هجرها لمدينة القاهرة والحياة في الإسكندرية ليكون المزار بينها وبين زوجها بعيدًا، وزوجها على ذلك كله رفيق بها مُحبٌّ لها مُمعنٌ في إكرامها مغدق للمال عليها، ولكنه كلما أمعن في العناية بها أمعنت هي في النفور منه، وهي لا تتحرج من إهانته بمشهد من الناس، وهي لا تتحرج من توسيط صديقه ليظفر منه لها بالطلاق، وهي لا تحفل بنصح هذا الصديق، ولا بلوم ضميرها لها بين حين وحين، ولا بمستقبل ابنَيها؛ قد ركبت رأسها ومضت في القطيعة لا تلوي على شيء، والغريب أنها تعرف بين حين وحين أنها ظالمة متجنِّية، ولكن هذا كله لا يزيدها إلا عنادًا وإصرارًا، وهي تنتهي إلى ما تريد فتظفر بالطلاق على كره من زوجها البائس الذي طلقها لأنه يحبها ولا يريد أن تشقى وهو حي، ولكن جنون الغرور لا يقنعها بما انتهت إليه وإنما يُطمعها فيما ليس إليه سبيل؛ يُطمعها في أن تقطع كل صلة بينها وبين زوجها، وكل صلة بين هذين الصبيين وبين أبيهما، وما تزال بصديقها ذلك حتى تسحره كما سحرت غيره من قبل، وإذا هو يصبح لها زوجًا، وهي تريد على رغم ذلك أن تستأثر بالصبيين من دون أبيهما، فإذا حُكم القضاء بردِّهما إليه صارت إلى المذلة والخنوع، وجعلت تتوسل إلى زوجها الأول بمختلِف الوسائل ليعدل عن الإلحاح في تنفيذ الحُكم، والرجل على رغم هذا كله مُحب لها رفيق بها فهو يجيبها إلى ما تريد ويترك لها الصبيين ويرسل إليها نفقتهما مع ذلك في نظام، وقد فسدت حياة هذا الرجل فسادًا منكرًا، فساءت حاله المالية، وزهد في ممارسة الطب، ثم جعل السقم والهم يعبثان بصحته حتى أظلته الساعة الأخيرة وهو مشرف على الموت، وهو على رغم ذلك يريد أن يلقى مطلقته ليراها ويسمع منها العفو عنه قبل أن يموت ولكنه لا يظفر حتى بذلك؛ فيقضي دون أن يراها ودون أن يسمع منها كلمة العفو، ولا ينتهي غرورها وغيرتها إلى هذا الحد البغيض، بل هي تأبى إلا أن تقطع نسب الصبيين بأبيهما وتحمل زوجها الجديد على أن يتبناهما، ولكن لكل شيء غاية وليس بُد للظلم من أن يشقى به الظالمون، وما أسرعَ ما تأتي ساعة العقاب! فقد بلغ الفتيان رشدهما وحرصا أشد الحرص على أن يعودا إلى نسبهما ويعرفا أباهما — وقد فعلا — وهذه المرأة مضطربة لهذه الأحداث الكثيرة الثقيلة التي اختلفت عليها؛ فهي شقية في اليقظة مروعة في النوم، وهي تعود إلى صلاتها ودينها ممعنة في التقوى حتى تنهض بأداء الحج، وقد تزوج ابناها فتمضي إلى حجها ولا تكاد تُحرِم وتبلغ الحجاز حتى يأخذها شيء يوشك أن يكون انجذابًا، وإذا هي عرضة للأحلام تصنع بها ما تشاء، والغريب أن أحلامها تصدق، وهي قد أخلصت نفسها لله وبرئت من آثامها كلها، ثم زارت المدينة فجُنَّت تقواها كما جُنَّ غرورها وتقواها من قبل؛ فهي لا تُريد أن تعود إلى مصر وإنما تريد أن تُجاور في المدينة لتنعم بالقرب من صاحبها العظيم، ولتؤديَ صلواتها في مسجده المطهَّر، ولتخلص لله وحده من الأحياء والأشياء ومن نفسها إن استطاعت أن تخلص من نفسها.
ولكنها تُضطَر بعد خطوب إلى أن تعود إلى القاهرة لأن زوجها مشرف على الموت، ولا تكاد تبلغ القاهرة حتى تفقده؛ فهي إذنْ قد آمت وعرفت الحزن وفقدت زوجيها جميعًا، والغريب أنها أحبتهما جميعًا بعد موتهما؛ فهي تزور قبريهما وتضع عليهما الزهر وتتصدق عليهما جميعًا، وهي جديرة أن تفرغ لما كانت قد أخذت فيه من التقوى والإيمان والمجاورة في مدينة النبي الكريم، وقد همَّت بذلك لولا أن ابنيها كليهما قد رُزقا الولد فشُغلت بأحفادها، وانتقلت من الإمعان في الدين والعبادة إلى الإمعان في الحكمة والتدبر في الأحداث وما تجرُّه على الناس من الخطوب، وصوَّرت لنا ذلك في خاتمة قصَّتها.
ولذلك لخصت لك هذه القصة تلخيصًا مخلًّا، ولو قد أردت تلخيصًا دقيقًا لاستأثرت بهذا العدد كله من دون كُتَّابه الأدباء، ولكني بعد هذا التلخيص لا أتردد على رغم إعجابي بالقصة واستمتاعي بها واطمئناني إلى أن القراء سيستمتعون بها كما استمتعت وسيرضون عنها كما رضيت؛ لا أتردد في أن أقف عند بعض الملاحظات وقفاتٍ قصارًا جدًّا؛ ففي هذه القصة بطء مسرف وتفصيل قد يدعو إلى شيء من السأم؛ فالكاتب لا يعفينا من الجزئيات التي لا نحتاج إليها مطلقًا، وهو لا يعفينا من كلمةٍ فضلًا عن أن يعفيَنا من جملة أو فصل، وبطلته حين تتحدث عن نفسها لا يكفيها أن تنبئنا بأنها أوت إلى غرفتها حين تريد أن تستريح أو حين تكون متكلفة للحاجة إلى الراحة، ولكنها تنبئنا بأنها ذهبت إلى غرفتها وخلعت ثيابها ولبست قميصًا واستلقت في سريرها، وأنا أفهم هذا التفصيل حين تدعو الحاجة إليه في بعض المواطن عندما تريد مثلًا أن تتزين لنومها لسريرها لتفتن من يزورها في غرفتها الخاصة، وهي قد فعلت ذلك غير مرة مقلدة فيه أمريكيةً عرفتها في بعض الفنادق الأوروبية.
وهذا الإسراف في التفصيل ليس قليلًا ولكنه منثور في القصة كلها، ولو قد أعرض عنه الكاتب وفصَّل في موضع التفصيل وأجملَ في موضع الإجمال لكان في ذلك جمال للكتاب واختصار لطوله أيضًا.
وملاحظة أخرى لست أدري أمخطئ أنا فيها أم مصيب، ورجال القانون — وصديقنا هيكل منهم — يستطيعون أن يدلُّوني على موضع الصواب من هذه الملاحظة؛ فقد رأيت آنفًا أن هذه السيدة أرادت أن تقطع كل صلة بينها وبين زوجها الأول، وألجأها ذلك إلى أن تُغيِّر نسب ابنيها وتحمل زوجها الثاني على أن يتبناهما بعد أن تُوُفِّيَ أبوهما، وأنهما عادا إلى نسبهما حين بلغا رشدهما، والذي أعرفه أن الإسلام قد محا هذا النوع من التبنِّي الذي كان معروفًا في الجاهلية، وأن الله عز وجل يقول: وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ۚ ذَٰلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ ۖ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ * ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللهِ ۚ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ، والله ألغى بهاتين الآيتين تَبَنِّيَ نبيه الكريم لمولاه زيد بن حارثة، وأنا أعلم أن هذه السيدة مسلمة تقيَّة تمعن في التقوى بين حين وحين، ولكني لا أدري أخالفَت مصر في قوانينها المدنية المعاصرة عن هذا الأصل من أصول الإسلام أم لم تُخالف، فإن تكن الأولى فقد أصابت هذه السيدة من الناحية المدنية الخالصة ولكنها تجاوزت حدود الدين تمعن فيه، وإن تكن الثانية فكيف استباحت لنفسها، وكيف استباح زوجها الثاني لنفسه، وكيف استباح القضاء المصري لنفسه أيضًا المخالفة الصريحة عن حكم الدين والقانون جميعًا.
وأكاد أعتقد أن صديقنا لم يقف عند هذا الموضوع وإنما اندفع في تصوير جنون الغرور والغَيرة حتى ألهاه ذلك عن ملاحظة الحقائق الواقعة في أحكام الدين من غير شك، وفي أحكام القانون إن لم تكن مصر قد خالفت في القانون عن أمر الدين.
وملاحظة ثالثة تتصل بهذه الجذبة التي أصابت هذه السيدة حتى دفعتها إلى ما دُفعت إليه حين حجَّت إلى البيت وزارت المدينة وانقلبت أو كادت تنقلب وَليَّةً من أولياء الله الصالحين.
ثم رُدت بعد ذلك إلى الحياة المألوفة في غير تكلُّف ولا مشقة، بل رُدت في خاتمة قصتها إلى شيء من الشك المريب في حقائق الدين نفسه.
أيرى صديقنا هيكل أن هذا يستقيم لامرأة لها حظ من عقل، أم هو يريد أن يصوِّر ما أصاب هذه المرأة من شيء يشبه الجنون فيما تأتي وما تدع؟ وكم كنت أود لو لم يجعل هيكل لجنون هذه المرأة سبيلًا إلى الإمعان في الدين مرةً والانحراف عنه مرةً أخرى، وأستأذن صديقي في أن ألفته في رفقٍ كلَّ الرفق إلى أنه قد نسيَ هذه السيدة نسيانًا تامًّا حين كتب خاتمة قصتها؛ فهذه الخاتمة لا تصوِّر سيدة وإنما تصور كاتبًا مفكرًا مالكًا لأمره كله يفلسف الأحداث وحقائق الحياة الواقعة، ويشك فيما يُسمِّيه الناس العبرة شكًّا يهيئ له أسبابه ووسائله والأدلة على صدقه وصحته — إن جاز أن تُقام الأدلة على الشك — وهذا الكاتب الذي يفكر ويفلسف ولا يكتفي بالشك بل يُغرى به إغراءً يشبه صديقنا هيكلًا شبهًا قريبًا جدًّا، وقد كنت أحب أن ينسى الكاتب نفسه في خاتمة القصة كما نسيَ نفسه في أكثر أجزائها فأحسن نسيانها. وملاحظة أخيرة أذكرها ولا أقف عندها، وهي أن صديقي هيكلًا لم يُرد أن يخلف ظني به فيما يظهر؛ فقد كنت أغيظه أيام الشباب بأنه يُهمل الاحتياط للغته العربية بين حين وحين، وكان يرد عليَّ بأني أنا لا أحسن العربية ولا أجيد كتابتها، وهو قد وفَّى بحقي عليه؛ فإنه يُهمل في غير موضع حق اللغة ليُتيح لي أن أُذكره بأيام الشباب، ومن يدري لعله يحمل هذا الإهمال على خطأ المطبعة وتقصير المصحِّحين، وما أكثرَ ما يحمل على المطابع والمصحِّحين! وهو على كل حال لا يستطيع أن يحمل على المطبعة ولا على المصحِّحين إسرافه في استعمال اسم الإشارة الذي طال؛ مما عبثت به من أجله لأني أراه منافرًا بعض الشيء للذوق المصري الحديث، وهو هاتيك، وما أكثرَ هاتيك في قصة هيكل! ولو قد وضع مكانها هذه أو تلك لَكان له في إحدى هاتين الكلمتين مقنع وغناء.
أما بعدُ، فكل هذه الملاحظات لا تغضُّ من قدر الكتاب ولا تنقص من قيمته الفنية، ولا تُزهد محبًّا للفن ومشغوفًا بالأدب الجدير بهذا الاسم في أن يقرأه حفيًّا به حريصًا على الاستمتاع بدقائقه، والشيء الذي أستطيع أن أؤكِّده مطمئنًّا هو أن قارئ هذا الكتاب لن يفرغ من قراءته إلا راضيًا مغتبطًا راجيًا أن يمتعه هيكل بين حين وحين بقصة تُشبه هذه القصة.