كنز جديد
هو جديد لأننا كنا نقرأ عنه في بعض الكتب ولا نعرف من ذخائره القيِّمة شيئًا.
وقد أتيح له أن يظهر في هذه الأيام، وأصبح من اليسير أن نقرأه أو نقرأ فيه ونجدُّ في قراءته — قلَّت أو كثرت طالت أو قصرت — متاعًا أي متاع.
وهو قديم لأنه كُتب في القرن الخامس للهجرة وفي القرن الحادي عشر للمسيح، وهو من أجل ذلك كنز من أقدم الكنوز التي تركها لنا القدماء من علماء المسلمين.
والفضل في إظهارنا عليه يرجع إلى أستاذين كريمين من أساتذة كلية الآداب بجامعة القاهرة.
أحدهما مصري وهو الأستاذ يحيى الخشاب.
والآخر إيراني وهو الأستاذ صادق نشأت.
والكتاب قد كُتب في اللغة الفرنسية ففضْل الأستاذين مضاعف؛ فهما قد عرَّفاه للعالم العربي من جهة وترجماه إلى اللغة العربية من جهة أخرى، ولأمرٍ ما تُذكر الترجمة في هذه الأيام فلا يفهم منها المحدثون إلا النقل عن الغرب الأوروبي والأمريكي، وقلَّما يخطر لغير المتخصصين أن في الآداب العالمية — قديمها وحديثها — آدابًا أخرى لها خطرها العظيم، وربما احتجنا إليها لنتم بها ثقافتنا العليا.
وفي اللغات الإسلامية غير العربية كُتُب قديمة وحديثة لها قيمتها، ومن الحق علينا لأنفسنا أن نعرفها ما وجدنا إلى ذلك سبيلًا، فللغرب الأوروبي والأمريكي خطره الذي لا معنى للنزاع فيه، والنقل عن لغاته المختلفة ضرورة ملجئة من ضرورات الحياة الحديثة، ولكن للشرق الإسلامي وغير الإسلامي خطره العظيم أيضًا، والنقل عنه واجب لتتم الثقافة ويحسن العلم بأحوال الأمم الشرقية على اختلافها وما ينبغي لأحد العالَمَين أن يشغلنا عن أحدهما الآخر.
وقد كان قدماء المسلمين — فيما يظهر — أنفذ منا بصيرة وأحسن تقديرًا للأشياء.
فهم حين أخذوا بأسباب الحضارة لم تبهرهم حضارة الغرب الأوروبي، ولم تشغلهم عن الشرق القريب منهم والبعيد عنهم، فترجموا عن اليونان علومهم وفلسفتهم، كما حاول أهل المغرب الإسلامي أن يترجموا بعض التراث الذي تركه الرومان في لغتهم اللاتينية، وترجموا مع ذلك عن الفرس والهند، واجتهدوا في أن يعرفوا من أمور الصين ما أُتيحَ لهم على عسر المواصلات في تلك الأيام بين الشرق الأقصى ومواطن الترجمة في العراق والشام، بل قد حاولوا أن يترجموا عن اللغات السامية القديمة.
وكذلك ينبغي للذين يلتمسون العلم والثقافة أن يطلبوهما حيث يكونان في أقصى الشرق أو في أقصى الغرب أو فيما بين ذلك من الأقطار.
والأوروبيون سبقونا في هذا العصر الحديث إلى العلم بشئون الفرس والهند والشرق الأقصى.
ولم نحاول نحن شيئًا من ذلك إلا بعد أن أُنشئت جامعة القاهرة وكلية الآداب فيها خاصةً، ودُرِّست فيها بعض لغات الشرق والغرب واشتدت العناية باللغتين الفارسية والتركية أول الأمر، ثم تجاوزتهما شيئًا إلى غيرهما من اللغات الإسلامية وإن لم تصل بعدُ إلى العناية بلغات الشرق الأقصى.
وبفضل هذه العناية بكلية الآداب أخذنا نعرف كثيرًا من شئون الأمم الإسلامية غير العربية.
فترجم الدكتور عبد الوهاب عزام أشياء كثيرة — قديمة وحديثة — للفرس والهند، وهو سابق هذا الجيل من علمائنا الذين اشتدت عنايتهم باللغات الشرقية.
وترجم تلاميذه أشياء كثيرة من الأدب الفارسي لها قيمتها الخطيرة، والحديث عنها يطول الآن.
وهذا الكتاب الذي أُريد أن أتحدث عنه اليوم قد أُلف في اللغة الفارسية منذ أكثر من تسعة قرون، والذي نُقل إلينا منه — على ضخامته — ليس إلا جزءًا ضئيلًا من كتابٍ كان يأتلف من ثلاثين جزءًا، لم يبقَ منه إلا جزء واحد هو الذي نقله إلى اللغة العربية الأستاذ يحيى الخشاب وزميله الأستاذ صادق نشأت بفضل إدارة الثقافة في وزارة التربية والتعليم.
وهذا الجزء الذي بقي لنا ونُقل في هذه الأيام إلى لغتنا جزء ضخم جدًّا يروعك بمجرد النظر إليه، وحسبك أنه يقع في تسع وخمسين وسبعمائة صفحة من القطع الكبير، وذلك غير المقدمة الممتعة التي كتبها المترجمان، والفهارس الدقيقة المختلفة التي ألحقاها بهذا الكتاب.
وأعترف بأني ترددت غير طويل قبل أن آخذ في الحديث عن هذا الكتاب إلى قُرَّاء الجمهورية؛ لأني أعلم من أمر الناس في هذه الأيام ما كان جديرًا أن يغريَني بإيثار الاستمتاع بهذا الكتاب في صمت؛ فجيلنا القارئ الآن قليل الإقبال على القراءة.
وهو إذا أقبل عليها فإنما يتخير منها اليسير القريب، وكلما قصر الكتاب كان ذلك أدعى إلى قراءته في هذه الأيام، فإذا توسَّط في الطول كان الإقبال عليه مستكرهًا والضيق به شديدًا، فأما إذا أسرف في الطول فلا نصيب له من قُرَّائنا المحدثين إلا الإعراض عنه والزهد فيه، وتركه لهذه القلة القليلة من أولئك الذين يقفون حياتهم وجهودهم على قراءة الكتب الطوال.
وقراؤنا المحدثون لا يُؤْثرون قراءة الكتب الصغار القصار فحسب، ولكنهم يُؤْثرون من هذه الكتب نفسها ما كان مسليًا وملهيًا، كأنهم يرون حياتهم سجنًا يريدون أن يتخففوا من أثقاله بهذه القراءة التي تسليهم عن آلامهم وأحزانهم، وتعينهم على أن يقطعوا الوقت الذي قُضي عليهم أن ينفقوه في السجن وإن كانوا يضيعون حياتهم نفسها بمثل هذه القراءات التي لا تُغني عنهم شيئًا، وأنا مع ذلك قد أقدمت على الحديث عن هذا الكتاب لأمرين؛ أحدهما الأمل في أن يكون بين قُرَّائنا من يمنحهم الله شيئًا من الحزم والعزم والصبر والاحتمال والإقبال على ما كان قدماؤنا يرونه خير ما يُتاح لهم من المتعة القيِّمة في الحياة، والثاني هو أن يعلم الذين يظلمون الجامعة ويسخرون منها ويظنون بها وبعلمائها الظنون أن هذه الجامعة لم تنشأ في مصر عبثًا، ولم تُضِعْ ما أُنفق عليها من الأموال وما بُذل في إنشائها وتنميقها من الجهود، وإنما أخرجت لمصر أجيالًا من العلماء وقفوا أنفسهم على العلم الخالص وأنتجوا فيه أقوم النتائج وأبقاها، ولم يمنعهم ذلك من المشاركة في النهوض بالأعباء العامة على أحسن وجهٍ وأكمله حين يُطلب إليهم النهوض بها؛ فالجامعة في حياة مصر الحديثة — بل في حياة الشرق العربي الحديث — نعمة يجب أن نغتبط بها وأن نستزيد منها وألا نضن عليها بجهد أو مال.
والكتاب الذي أتحدث عنه مع هذا كله بعيد كل البعد عن أن يكون مملًّا أو ثقيلًا؛ فمع أنه كتاب في التاريخ، وفي تاريخ ملك بعينه من ملوك المسلمين في الشرق وهو مسعود بن محمود الغزنوي صاحب البلاء الرائع العظيم في تحقيق الصلة الدقيقة المنظمة بين الهند وبين العالم الإسلامي في وقت كان علم المسلمين بشئون الهند فيه محدودًا أو كالمحدود. وكان المؤلف قد قصد في الأجزاء الثلاثين من كتابه أن يؤرِّخ للأسرة الغزنوية كلها، ولكن كتابه ذهبت به الأيام ولم تترك لنا منه إلا هذا الجزء الذي يتحدث عن تاريخ مسعود وحده.
وكان مؤلف الكتاب يعمل في ديوان الرسائل منذ شبابه الأول إلى أن بلغ الشيخوخة على أحداثٍ عرضت له أثناء عمله، فكان عالمًا أدق العلم بحقائق السياسة في هذه الدولة وحقائق الصلات المختلفة بينها وبين الدول الإسلامية وغير الإسلامية أيضًا.
وهو يحدِّثنا في هذا الجزء بألوانٍ من سياسة الحكم ومن العلاقات بين الملوك في تلك الأيام من جهة، وبينهم وبين الخليفة العباسي المستقر في بغداد من جهة أخرى، ثم بينهم وبين بلادٍ لم يكن الإسلام قد ساد فيها بعدُ من بلاد الهند والترك ومن إليهم. وهو لا يحدثنا عن هذا كله — كما تعوَّد المؤرخون القدماء — حديثًا جافًّا غليظًا، وإنما يحدثنا حديثًا سهلًا قريبًا لا مشقة في قراءته، ولا يجد القارئ فيها هذا العناء الذي يجده عادةً عندما تُساق إليه أحداث التاريخ في غير تأمل ولا تدبر، ولا استخراج لما فيها من عبر وعظات، ولا تعمق للدوافع الخفية التي دفعت إليها؛ ذلك أن مؤلِّفنا يُناجي بهذا الكتاب نفسه أكثر مما يناجي غيره من الناس، فهو قد عمل في القصر كاتبًا في ديوان الرسائل أيام محمود وابنه مسعود، ورأى حقائق السياسة من كثب واستقصى أسرارها وحكم عليها أحيانًا وحكم لها أحيانًا أخرى، فهو فقيه بما يكتب، وهو بكتاب المذكرات أشبه منه بالمؤرخين الذين عرفناهم من علماء المسلمين.
وهو من أجل ذلك حاضر معك حين تقرأ لا يُخيَّل إليك أنه يقص عليك الأنباء ويعرض عليك الأحداث، وإنما يُخيَّل إليك أنك ترى عقله وقلبه وهما يستعرضان الأنباء والأحداث فيرضيان حينًا ويسخطان حينًا آخر، ويتأثران دائمًا بما فيها من عبرة وموعظة ويودان لو رأى الناس كلهم ما يريان واستخلصوا من العبرة والعظات مثل ما يستخلصان؛ وترى عقله وقلبه كذلك حين تعرض لهما الأحداث يستحضران ما يشبهها من أحداث مضت، وقد يستحضران بعض الأقاصيص التي تثيرها هذه الأحداث لما تدعو إليه من تأمل واعتبار، وربما خيل إليك المؤلف أنه يقص عليك هذه الأقاصيص ليتعظ بها الجاهلون ويتنبه بها الغافلون.
والكتاب بعد ذلك رائع في تصوير القصر الملكي الذي يزدحم فيه المتنافسون في الحظوة لدى الملك، ويتفوق فيه البارعون في الكيد الماهرون في المكر والدس والخداع، وفي تصوير مسعود نفسه كما كان ملكًا ظالمًا آثرًا لا يُحب شيئًا كما يُحب نفسه ولا يهيم بشيء كما يهيم بالمال يُجبى له بالحق حينًا وبالباطل والجور غالبًا، وهو لا يكره الغدر ولا يتحرج من سفك الدماء على أبشع صور الظلم في أقبح مظاهر الجور والاستهانة بما للناس من حقوق وحرمات، وهو بعد هذا كله مالك لأمره محقق لكل ما يفعل، قد استجاب للمفسدين من وزرائه وحاشيته لا عن جهل أو غفلة بل عن توافق بين طبعه وطباع المفسدين من الوزراء ورجال القصر، وهو على رغم ذلك شجاع لا يهاب المكاره ولا يتردد في تجشم الأخطار، وهو ينفق أيام ملكه محاربًا للعدو أو ماكرًا به كائدًا له دون أن يمنعه ذلك من المكر بالرعية أو يشغله عن الكيد لها، ومن ورائه وزراؤه المفسدون يهوِّنون عليه من ذلك ما يعسر، ويفتحون له أبوابًا من الفساد لا يتردد في ولوجها، ثم هو على حبه للمال لا يتردد في الإنفاق حين تدعو إليه مصلحة أو حين يرضى عن شاعر أو عالم أو رجل من رجال القصر.
والمؤلف يتحدث إلى نفسه وإلينا بهذا كله في يسر وإسماح، ويُظهر مع ذلك إجلالًا للملك وإكبارًا لمكانه، مع إنكاره لِمَا فيه من خصال السوء ولِمَا في أعماله وأقواله من خطأ.
وليس من شك في أن ما ضاع من أجزاء كتابه لم يكن أقل قيمة أو أهون شأنًا من هذا الجزء الذي بقي لنا، والذي نقله الأستاذ يحيى الخشاب وزميله إلى اللغة العربية، فالخسارة بفقْد هذه الأجزاء الكثيرة عظيمة ليس إلى تقويمها من سبيل، وقد تُرجم الكتاب ترجمة يسيرة تُحبب قراءته وتُغري بالانتهاء منه حين تبدؤه لا تجد فيها شيئًا من مشقة، قد كُتبت باللغة التي يفهمها الناس في هذه الأيام دون إخلال بأصول الفصاحة لولا هنَّات هنا وهناك يرجع بعضها إلى الخطأ المطبعي، وعسى أن يرجع بعضها الآخر إلى أن الأستاذين الناقلين قد تأثرا بما أَلِفَ الناس من ألوان التعبير الذي لا يخلو من بعض الإهمال، وإن كنت أنا أستكثر هذا على الجامعيين وأحب لهم ألا ينقادوا لما أَلِفَ الناس، وأن يكونوا حُرَّاصًا على إصلاح ما قد يكون في هذا المألوف من تقصير كله بعيد كل البعد عن أن يكون عملًا. إنه معلم دائمًا حين يعمل وحين يقول، والأصل في المعلم أن يتوخى الدقة ويتخير ألفاظه ما وجد إلى ذلك سبيلًا.
وشيء آخر ألاحظه وأتمنى أن يتداركه المترجمان حين يعيدان طبع هذا الكتاب؛ فهناك أنباء تتصل بالقصور العربية القديمة نقلها المترجمان باللغة التي يألفها الناس، وكنت أوثر أن يرجعا إلى نصوصها الأولى كما جاءت في كتب التاريخ العربي.
ومن أمثال ذلك ما جاء من التمثيل بقصة الرشيد حين ولَّى على بعض بلاد فارس بعض ولاته مكان الفضل بن يحيى البرمكي، فأرسل إليه الوالي الجديد هدايا نفيسة لم يتلقَّ مثلها من الفضل حين كان واليًا على ذلك الإقليم، فلما عُرضت عليه الهدايا راعته وسأل يحيى البرمكي: أين كان هذا كله أيام كان الفضل واليًا؟ فأجابه يحيى: عند أهل الإقليم.
أراد الرشيد أن يُلمِّح إلى أن الفضل كان يُؤْثر نفسه بهذه النفائس، وأراد يحيى أن يُلمِّح إلى أن ابنه كان عدلًا مؤثرًا لمصلحة الرعية، وأن الواليَ الجديد يُرهق الرعية ويستصفي أموالها ليتقرب بها إلى أمير المؤمنين، ولو رُويت هذه القصة بنصها العربي القديم، لكان ذلك أدق وأكثر إمتاعًا. وكذلك قصة الفضل بن الربيع حين حنث في عهده للرشيد ولم ينفِّذ وصيته حين رضي المأمون عنه وعن أمثاله من الذين نظروا إلى مصالحهم ولم يخلصوا في النصح للخلفاء بمقدار ما أخلصوا في إيثار أنفسهم بالخير؛ فهذا كله يُروى في الكتب العربية القديمة في لفظ رائق شائق، وكان الرجوع إليه أدق وأدنى إلى إمتاع القُرَّاء، ولكن هذه الهنَّات لا تكاد تُذكر إلى جانب الجهد الهائل الرائع الذي بذله الأستاذان، والمشقة الشاقة التي احتملاها في استخراج هذا الكنز النفيس من كنوز اللغة الفارسية وإهدائه إلى اللغة العربية وقُرَّائها؛ فلهما التهنئة صادقة والشكر خالصًا.