السد
أريد اليوم أن أنتقل بقُرَّاء هذا الحديث من مصر ومن أدبائها وكُتَّابها إلى وطن عربي آخر لا نكاد نعرف عن حياته الأدبية شيئًا ذا بال؛ لأن ظروف السياسة حالت بيننا وبين الاتصال الدقيق المنظَّم به وبأدبه آمادًا طوالًا وهو تونس؛ فقد جثم الاحتلال الفرنسي على هذا الوطن العربي الكريم وتعمَّد أن يقطع الصلة بينه وبين أشقائه من الأوطان العربية الشرقية، وأُتيحَ له نجح كثير فيما أراد، فلم تكن كتب التونسيين تصل إلينا من طريقٍ مباشرة إلا نادرًا، ولم تكن كُتُبنا وآثارنا الأدبية تبلغ تونس إلا مهربة إلى أهلها من طريق فرنسا نفسها، وربما جاء تونسي كريم إلى مصر يحمل إليها بعض الآثار التونسية وعاد إلى وطنه ببعض الآثار المصرية، ومع ذلك فقد حاولت وزارة المعارف المصرية في يوم من الأيام أن تُحقق الصلة بين الأدب العربي الشرقي والأدب العربي في تونس؛ فنشرت للأستاذ الجليل حسن حسني عبد الوهاب — عضو مجمع اللغة العربية في مصر — كتابًا صغيرًا قيِّمًا عن الأدب التونسي المعاصر، وزَّعتْه على تلاميذ المدارس الثانوية منذ أكثر من عشر سنين، ثم انقطع هذا الجهد ولم يتجدد. ووصل إلى مصر شيء من الشعر التونسي المعاصر فتلقَّاه المصريون لقاءً تجاوز الرِّضَى إلى الإعجاب، ولكن الأمر وقف — أو كاد يقف — عند هذا الحد، وقد انجلت عن تونس — أو كادت تنجلي — غمرة الاستعمار الفرنسي البغيض، وجعلت الصلة تُستأنف بيننا وبين إخواننا التونسيين في شيء من النظام نرجو أن يطرد ويزداد.
والأثر التونسي الذي أُريدُ أن أتحدث عنه اليوم قصة تمثيلية رائعة ولكنها غريبة كل الغرابة، كتبها صاحبها الأديب الأستاذ محمود المسعدي لتُقرأ لا لتُمثَّل، ولتقرأ قراءة فيها كثير من التفكير والتدبر والاحتياج إلى المعاودة والتكرار، وحسبك أني قرأتها مرتين ثم احتجت إلى أن أُعيد النظر فيها قبل أن أملي هذا الحديث، وهي بأدب الجد العسير أشبه منها بأي شيء آخر، وضع فيها الكاتب قلبه كله وعقله كله وبراعته الفنية وإتقانه الممتاز للغة العربية ذات الأسلوب الساحر النضر والألفاظ المتخيَّرة المنتقاة، وقصد بها إلى إثارة التفكير الفلسفي لا إلى التسلية والتلهية، ولا إلى الإمتاع السهل والإثارة اليسيرة، بل إلى تعمق الحياة والفقه بها والنفوذ إلى ما وراءها، وقد تستطيع أن تقول إنها قصة فلسفية كأحق وأدق ما تكون الفلسفة، وتستطيع كذلك أن تقول إنها قصة شعرية كأروع وأبرع ما يكون الشعر، ولا غرابة في ذلك؛ فما أكثرَ ما يلتقي الشعر والفلسفة! والمثقفون جميعًا يعرفون أن آثار أفلاطون لم تخلص للفلسفة وحدها ولم تخلص للشعر وحده، وإنما التقطوا فيها تفكير العقل وتدبُّره وتوثُّب الخيال وتساميه؛ فارتفعت بذلك إلى مرتبة من العلو قلَّ أن يظفر بها شعر شاعر أو فلسفة فيلسوف.
ولا بد لقارئ هذه القصة من أن يلاحظ شيئين لا بد من استحضارهما لفهمها وتعمُّق أسرارها؛ أحدهما أن الكاتب تونسي عاش في وطن قد ألح عليه الاستعمار الأجنبي فحرم أهله الحرية وحال بينهم وبين النشاط الخصب، واستأثر من دون أهله بالخير كله ولم يترك لهم إلا ما يقيم الحياة، وحال بينهم كذلك وبين النشاط العقلي الخصب لولا فضل من قوة أصيلة فيهم عصمتهم من الاستكانة والإذعان، وتطاول به الزمن وتتابعت معه الخطوب حتى فرض على أهل الوطن شيئًا إلا يكن يأسًا فهو من اليأس غير بعيد؛ والثاني أن هذا الأديب التونسي قد تثقف بالأدب العربي كأحسن ما تكون الثقافة، ثم أتم دراسته في فرنسا فأتقن العلم بالأدب الفرنسي كل الإتقان وتأثر فيها بكاتب مفلسف معروف هو ألبير كامو، وألبير كامو هذا نشأ في شمال أفريقيا في الجزائر، وغلبت عليه الفرنسية كما تغلب على أكثر الشباب الجزائريين؛ فأصبح كاتبًا ممتازًا من الكُتَّاب الفرنسيين، وله مذهب فلسفي معروف نشأ عن الوجودية، وهو يقوم على أن من العبث أن نحاول فهم الحياة الإنسانية؛ فليس لهذه الحياة غاية معروفة يمكن الوصول إليها وحكمة قريبة يمكن استكشافها، وإنما هي عبث من العبث، وليس للإنسان إلا أن يكتفيَ بنفسه ولا يبحث عن حكمة وجوده ولا عما وراء حياته؛ لأنه لن يظفر بشيء، وهو يشبِّه حياة الإنسان أو الوجود كله بهذه الأسطورة اليونانية القديمة التي تروي أن بطلًا من أبطال اليونان قُضي عليه بعد موته أن ينفق الخلود دافعًا صخرة من الحضيض إلى قمة الجبل، وهو يدفعها أمامه حتى يبلغ بها القمة، ولكنها لا تكاد تبلغ القمة حتى تنحط إلى الحضيض فيُضطَر إلى أن يدفعها من جديد، وهو كذلك يدفع الصخرة إلى القمة وتنحط به الصخرة إلى الحضيض إلى آخر الأبد إن كان للأبد آخر، وليس لهذا القضاء الذي قُضي على هذا البطل فقه ولا حكمة؛ فخلوده عبث وجهوده عبث، والوجود كله يشبه هذا العبث الذي فُرض على هذا البطل اليوناني القديم.
وتأثر كاتبنا بهذا الأديب الفرنسي كما تأثر بالأدب العربي وبالوطن التونسي والحياة التي كان يحياها قبل الاستقلال، وكانت هذه القصة صورة رائعة لهذه الألوان من التأثر كلها، فالكاتب يائس — أو كاليائس — يدفعه الأمل والخيال وطبيعته الإنسانية إلى أن ينشئ ويبدع ويبتكر، فينفق الجهد ويحتمل العناء ويشقى بألوانٍ من المشقة والألم، حتى إذا استيقن أنه قد بلغ الغاية وانتهى إلى النجح ذهب كل ما أنشأ وكل ما أبدع وكل ما قدر لإنشائه وإبداعه من نتائج كأنه لم يكن، وكأنه لم يبذل جهدًا ولم يحتمل عناءً ولم يقهر المصاعب أو يذلل العقاب، أو قُل — إن شئت الدقة — إنه يتصور الإنسان كذلك في كل ما يقدر وفي كل ما يدبر وفي كل ما ينشئ أو يبتكر، والإنسان على ذلك مغرور بطبعه؛ فجهوده الضائعة وعناؤه الذي لا يُغني عنه شيئًا، والمصاعب التي تذعن له، والعقاب التي تذل له ثم تثور به ثم تعود سيرتها الأولى؛ كأنه لم يقهرها ولم يذللها ولم يشقَ الأعوام الطوال بما بذل من جهد واحتمل من عناء في سبيل قهرها وتذليلها؛ كل ذلك لا يفل من عزمه ولا يجعل لليأس إلى قلبه أو عقله سبيلًا.
وقد استأثر الأمل والخيال بأمره كله، فهما يدفعانه إلى الجد في غير طائل وإلى الكد والعناء في غير احتمال، ويخدعانه خداعًا متصلًا ويُلقيان في روعه أنه إن يخفق اليوم فسيبلغ النجح غدًا، ولا عليه في أن يخفق مرة في إثر مرة؛ فالنجح مكتوب له على كل حال، بل لا عليه أن يكون النجح مكتوبًا له أو محرَّمًا عليه؛ فهو مدفوع إلى الأمل ومدفوع إلى العمل لا يصرفهما عنه إلا الموت. والموت يصرف جيلًا عن الأمل ولكن الجيل الذي يأتي على أثر هذا الجيل لا يتعظ ولا يعتبر بما لقي الجيل الذي سبقه، وإنما يسلك طريقه ويمضي على أثره آملًا عاملًا محاولًا ما لا مطمع له فيه ولا سبيل إليه، كأن أبا تمَّام قد صوره أصدق تصوير في بيتيه المشهورين:
وواضح جدًّا أن قصة كاتبنا هذه لا يمكن إلا أن تكون رمزية؛ فهو نفسه لم يخفق بعد جد وكد، ولم يفكر فيما كُتب له هو من نجح أو إخفاق، وأكبر الظن أنه مؤمن في هذه الأيام بالأمل والعمل سالك طريقه إلى النجح والتوفيق في توطين التعليم الثانوي في تونس، ولكنه ينبئنا بأنه كتب هذه القصة أيام عزلة وانفراد، ثم اختبرها بعد أن عاشر الناس وعمل معهم فلم تنكره ولم ينكرها. والحمد لله على أنها لم تنكره ولم ينكرها؛ فقد أتاح ذلك نشرها وإمتاعنا بقراءتها.
وما دام الكاتب قد اتخذ التعبير الرمزي له سبيلًا، وما دام لا يريد أن يكتب فلسفة خالصة، وإنما يريد أن يكتب فلسفة أدبية أو ينشئ أدبًا فلسفيًّا، فليكن التعبير الشعري هو سبيله إلى تصوير فكرته هذه بالرمز والإيماء، ولقد وُفق إلى ذلك توفيقًا ما أعلم أنه أُتيح لأديب عربي معاصر من الرمزيين؛ لأن أدباءنا الرمزيين في الأوطان العربية — على اختلافها — لم يبلغوا من تطويع اللغة العربية لفنِّهم ما يتيح لهم الإتقان والإبداع؛ فهم ما زالوا في طور المحاولة والتجربة.
أما كاتبنا فقد أذعنت له لغته إذعانًا واستجابت له في غير مقاومة ولا عناد، وأخشى أن تكون قد استجابت له أكثر مما ينبغي فأطمعته في نفسها وأغرته أحيانًا بأن يشق عليها ويرهقها من أمرها عسرًا، وكاتبنا يبدأ بإنشاء بيئة شعرية خالصة لا تكاد تُقبِل عليها حتى ترى نفسك في عالم من الخيال غريب لا عهد لنا بمثله في الأدب العربي إلا أحيانًا قليلة حين يرمز الفلاسفة إلى بعض ما يريدون تصويره من ألوان الحكمة؛ فيتصورون إنسانًا فردًا قد وُجد وحيدًا في جزيرة خالية، فاستكشف وحده العلم والحكمة كما فعل ابن سيناء في الشرق وابن طفيل في الغرب، أو حين يرمزون إلى ما يكون بين الإنسان والحيوان من استئناس وتذليل ومن فورة وعصيان، كما فعل إخوان الصفاء في بعض رسائلهم، ولكن كاتبنا على ذلك خصب الخيال ناقد العقل غني اللغة يشيع الحياة والعقل والمنطق في الجبل وصخوره وحيوانه المستأنس والمستوحش، ويشيع الحياة كذلك في الجو بما يبتكره من هذه الهواتف التي تتحدث بين حين وحين إلى الإنسان والحيوان والجبال بما يريد الكاتب أن تتحدث به إلى هؤلاء جميعًا. وأشخاص القصة عجب من العجب؛ فهناك إنسان ملكه الأمل وحب العمل والامتناع على اليأس والثورة بالواقع من الحياة وهو غيلان، وهناك امرأة ميمونة التي تؤمن بالواقع أشد الإيمان وتريد أن تكتفيَ به وترفض الأمل والخيال كل الرفض، وتحاول أن تكف زوجها عن الاستجابة لهما وتوئسه من غايتهما، وهناك بغلهما الذكي الناطق — إن أتيح للبغال حظ من نطق أو ذكاء — وهناك الصخور التي تعرض لها الحياة ساعة من نهار أو ليل أو ساعة بين النهار والليل، فتتحدث وتصلي وتُسبِّح باسم تلك الآلهة التي ابتكرها كاتبنا ابتكارًا وهي صهباء، وأحسبه رمز بها إلى الأرض التي تُحب الجدب والظمأ والقحول والإقفار، وصاحبنا غيلان يريدها على أن تشرب الماء وترتوي به وتنشق عما يمكن أن تثمر من الثمرات لتُغيِّر حياة الذين يعيشون عليها وتخرجهم من الضيق إلى السعة ومن البؤس إلى النعيم، ولكن هذه الآلهة عنيدة أبيَّة عصيَّة لا تسمع ولا تستجيب، بل هي تبطش بمن يحاول أن يشكرها على ما لا تحب. ولهذه الآلهة التي تكثر السكون والركود والجمود نبيُّها ذو الأصوات الكثيرة المختلفة، الذي لا يرى ولكنه يتحدث إلى الناس وإلى الأشياء والحيوان جميعًا بأصواته المختلفة كلها في وقت واحد، مغريًا بالإذعان للآلهة وبعبادتها، زاريًا على الإنسان غروره الذي يُخيِّل إليه القدرة على عصيان الآلهة واستكراهها على أن تطيعه وتذعن لما يريد أن ينشئ عليها من ضروب الإصلاح والتعمير. وغيلان قد استكشف ينبوعًا غزيرًا، وهو يريد أن ينشئ سدًّا يمنع ماء هذا الينبوع من التفرق والانتشار ليصلح به الأرض ويملأها خيرًا وثراءً، وميمونة توئسه من ذلك وتريد أن ترده عنه وتُزهِّده فيه، ولكنه لا يحفل بها ولا يسمع لها، وإنما يحفل بشخص آخر غريب رقيق فاتن بارع الجمال وهو مياره رمز الخيال، الذي يغري دائمًا بالمضي إلى أمام وبالامتناع على اليأس. وغيلان يوفَّق إلى بناء السد وهو عنه راضٍ وبه معجب، ولكنه لا يكاد يتم السد حتى يثور به عماله فيدمروا ما بَنَوْا تدميرًا، ويحاولوا قتل غيلان نفسه لولا أن الآلهة صهباء تنجيه منهم لعله أن يثوب إلى رشده ويثوب عن محاولة ما ليس إليه سبيل، وغيلان على ذلك لا يثوب ولا يثوب، وإنما يستأنف العمل كأنه لم يلقَ إخفاقًا، يعينه على ذلك خياله الذي لا يعرف كلالًا ولا ملالًا، وقد تم السد للمرة الثانية — أو كاد — وغضبت صهباء فبطشت بالسد بطشًا لا معقب عليه؛ فهذه الطبيعة كلها قد ثارت؛ فالريح تعصف والرعد يقصف والبرق يخفق والمطر ينهل، والجبل يضطرب ثم يزلزل بما عليه ومن عليه وينشق فتخرج من جوفه نار لا تريد أن تُبقيَ على شيء، وهذا غيلان وخياله الحبيب مياره لم يكفَّا عن عنادهما، ولكن العاصفة تحملهما إلى غير طريق.
وهذه ميمونة وحيدة تنحدر إلى السهل وأين هي من السهل! يُخيَّل إليها أنه قريب، ولكنه ينحط عنها ويبعد منها كلما ظنت أنها قد كادت تبلغه.
ولست أدري أفهمتُ القصة أم لم أفهمها، ولكني أعلم أن هذا التلخيص الموجز أشد الإيجاز مقارب إن لم يكن دقيقًا! ولا غرابة في أن أشك في أني قد فهمت عن المؤلف حق الفهم بعد أن قرأت قصته مرتين أو ثلاثًا؛ فهذه طبيعة الرمز وهي كذلك طبيعة الشعر، لا يقتله الفهم السريع اليسير، وإنما يحييه هذا الغموض الخصب الذي يضطرك إلى أن تقرأه وأن تقرأه، ويعطيك في كل قراءة شيئًا لم تظفر به في القراءة الأولى. وكم كنت أتمنى أن تكون لغة المؤلف أيسر شيئًا مما هي؛ فهو قد نحتها من صخر كأنه اشتقها من الجبل الذي تجري عليه القصة، فأضاف عسر اللفظ إلى عسر المعنى وعسر الأسلوب.
والقصة — كما قلت — شعر كلها، ولكنه شعر غير منظوم، وربما عرض فيه النظم أحيانًا، ولكنه نظم يبتكره الكاتب ليُعرب به عن ذات نفسه لا يعتمد فيه على شيء مما عرف القدماء والمحدثون في شعرهم التقليدي، وهو إلى الشعر الفرنسي المطلق أدنى منه إلى أي شيء آخر.
وقد قدَّم لهذه القصة أستاذان جليلان من الأساتذة التونسيين؛ أحدهما الأستاذ محجوب بن ميلاد — أستاذ الفلسفة — والآخر الأستاذ الشاذلي الفليبي — أستاذ اللغة والأدب — وكلاهما قد فهم القصة وأُعجب بها ومسها بشيء من النقد.
فلْأشاركْهما في الإعجاب بالقصة وفي تهنئة الكاتب والثناء عليه، وإن لم أثق كل الثقة بأني فهمت القصة في يسر كما فهماها.