وحي الحرمان
والمحروم هنا أمير ذو وزارتين، جده ملك عظيم، وعمه ملك كريم، وأبوه أمير ووزير خطير قد أتاح الله له من أسباب السعادة ونعمة البال الكثير الذي نتمنى له منه السعة والمزيد، وهو الأمير عبد الله الفيصل.
وقد حاول أن يُبين لنا حقائق الحرمان الذي أضناه وأشقاه وأوحى إليه بديوانٍ من الشعر هو الذي سأحدِّثك عنه اليوم، ولكنه لم يُبِنْ من هذه الحقائق شيئًا، وما كان له أن يُبين منها شيئًا، شأنه في ذلك شأن شعراء كثيرين عرفهم وطنه نجد ومستقره الحجاز في عصور قديمة مضت عليها قرون طوال، وليس هو إلا واحدًا منهم يجب أن يُضاف اسمه إلى أسمائهم، وكلهم أحس الحرمان وشقي به ولم يستطِعْ أن يُبين عنه لأنه لم يعرف حقائقه، وإنما اتخذ التصوير الرمزي وسيلة إلى الشكوى منه والتبرم به والتمرد عليه أحيانًا. وقد قلت في غير هذا الموضع إن الشعراء العذريين الذين ظهروا في العصر الإسلامي الأول في نجد والحجاز وملَئوا الدنيا بكاءً وشكاة ولوعة وحزنًا ورددت العصور أصداء حزنهم، وما زالت ترددها إلى الآن؛ قلت إن هؤلاء العذريين ليسوا إلا جماعة المحرومين الذين أحسوا أنهم يفقدون شيئًا ويألمون أشد الألم لفقده، ولكنهم لم يستطيعوا أن يتبيَّنوا حقيقة الشيء الذي فقدوه، فاتخذوا المرأة رمزًا لِمَا فقدوا، واتخذوا الحب رمزًا لِمَا أحسوا من لوعة وحسرة وألم، واتخذوا الغزَل وسيلة إلى الأنين والحنين والشكاة والبكاء:
كذلك كان يقول شاعر من هؤلاء الشعراء في القرن الأول للهجرة، يريد أن ينسى حبيبته ويبذل في ذلك ما يستطيع من جهد، ولكن ذلك لا يتاح له لأن هذا الشيء الذي أحبه وهام به قد ملك عليه قلبه ولُبه وملأ عليه الدنيا من حوله وأخذه من جميع أقطاره؛ فهو لا ينظر إلا رآه، ولا يخلو إلى نفسه إلا فكَّر فيه، ولا يسمع صوتًا من أصوات الطبيعة إلا وجد فيه صدًى لصوت هذا الأمل البعيد عنه جدًّا القريب منه جدًّا والذي يُسمِّيه ليلى.
وكذلك كان يقول كُثَيِّر وقد خيل إلى نفسه أو خيلت إليه نفسه أنه قد تسلى عن عزة، وأن عزة قد تسلت عنه، ولكنه كذَّب نفسه أو كذَّبته نفسه؛ فهو لم يتسلَّ عن شيء ولا يستطيع أن يتسلى عن شيء؛ لأنه موكل بالأمل الكاذب يتبعه في كل مكان، ولكنه لا يكاد يدنو منه حتى ينأى ذلك الأمل الكاذب عنه، كالذي يرى غمامة يريد أن يستظل بها ساعة من وهج الصحراء الذي أحرقه وأضناه، ولكنه لا يُحس ظلها حتى تمضيَ عنه وتخليَ بينه وبين القيظ المحرق المرهق يذيقه من العذاب ألوانًا.
كذلك شاعرنا الأمير أُتيحت له الدعة والسعة، وبسط الله له في الأمل وأسبغ عليه نعمة حياة رضيَّة كانت جديرة أن تهيئ له من نعمة البال ورِضَى النفس واطمئنان القلب ما ينعم به كثير من أمثاله، ولكنه لم ينشأ في نجد وحده، وإنما نشأ معه هذا القرين المجهول الجميل الخلاب الذي يتراءى له من قريب حتى يُغريَه بنفسه ويُطمعه في قربه والاستمتاع بعِشرته، فإذا حاول أن يظفر بما تمنى لم يجد إلا سرابًا ووجد عند السراب حرمانًا وعذابًا، فنفثت نفسه المحزونة بقول جميل:
واقرأ معي هذه الأبيات لشاعر قديم من هؤلاء العذريين فستُحس فيها هذا الحرمان المُشقي المُضني، سترى نفس الشاعر حية أمامك تتبع أملها الكاذب الخائب في غير طائل ولا جدوى، وقد أفلت منه بعد أن خُيِّل إليه أنه قد أتيح له، فهو ينظر إليه مولِّيًا كما ينظر الإنسان إلى النجم حين يغرب في أعقاب الليل منهزمًا أمام نور الصبح المُشرق، وستعجب من هذا الشعر بصوره ومعانيه وألفاظه الجزلة الرصينة وشكواه اليائسة الحزينة:
واقرأ بعد ذلك هذه المقطوعة لشاعرنا الأمير، فستُحس فيها مثل ما أحسست في هذه الأبيات القديمة من الأنين والحنين واللوعة والشكاة، وسيحيط بك جو يشبه الجو الذي أحاط بك في تلك الأبيات؛ جو وادٍ عربي في الطائف أو في مكان قريب منها، وسترى الشاعر يودِّع صاحبته بعد أن سعد بلقائها سعادة نقية يملؤها العفاف، وستراه بعد فراقها شاكيًا باكيًا تحرق اللوعة قلبه تحريقًا لا يستطيع أن يرجوَ اللقاء، ولكنه واثق بأنه لن يستطيع نسيان هذه الحبيبة التي لم تكد تتراءى له حتى تنأى عنه، ولكنك ستجد فرقًا عظيمًا في الصورة الشعرية عند الشاعرين، فأما أبيات الشاعر القديم فرصينة جزلة، وأما أبيات الشاعر الحديث فيسيرة سهلة لا تخلو من بعض ما ينبو عن الذوق البدوي القديم؛ لأن الشاعر الحديث لم يتأثر بالجو النجدي وحده، وإنما تأثر بشيء من الجو الحضري الذي يألفه المعاصرون في مصر ولبنان، فهو يثنِّي الوداع في غير حاجة إلى تثنية؛ لأن الوداع بطبعه لا يكون إلا بين واحد وغير واحد، وهو يصطنع ألفاظًا وأساليب يحبها المعاصرون الذين لا يحفلون بجزالة اللغة ولا بصفائها، مع أن الشعر العربي شديد الحاجة إلى الجزالة والصفاء لا يقبل من الإسماح كل ما يمكن أن يقبله النثر. واقرأ معي هذا الشعر:
شاعرنا إذنْ بدوي النزعة في هذا الحب النقي العفيف القريب البعيد في وقت واحد، ولكنه على ذلك مصري اللغة أو لبنانيها، فهذان الوداعان وهذه الرؤيا التي تسعده وهذا الضمير المتصل بعد إلا وأشباه هذه الهنات ليست من لغة البادية في شيء، وليس في ذلك عجب؛ فالشاعر متأثر بشيئين واضحين كل الوضوح في ديوانه كله؛ أحدهما طبعه العربي الخالص الذي يأتيه من نسبه ومن وطنه الذي نشأ فيه وهو نجد والذي يعيش فيه الحجاز، والآخر هذه الحواضر العربية التي يلم بها بين حين وحين، والتي ترسل إليه أدبها السهل اليسير في كل وقت، فيقرؤه في يسر وإسماح لا يُتاحان له حين يقرأ شعر أسلافه من القدماء النجديين والحجازيين، وقديمًا تنازع العراق والشام في المتنبي لأنه وُلد في الكوفة وأنشأ أكثر شعره في الشام، وتنازعت مصر والشام أبا تمام لأنه وُلد قريبًا من دمشق وألمَّ بمصر وسمع من شيوخها، ويُخيَّل إليَّ أن شاعرنا الأمير سيكون موضوع نزاع بين الجزيرة العربية التي وُلد ونشأ فيها وبين لبنان ومصر لأنه ألمَّ بهما غير مرة، وقرأ شعر المعاصرين من شعرائهما، وقد ادَّعاه للبنان بالفعل شاعر لبناني كريم، هو الصديق صلاح لبكي — رحمه الله — في المقدمة التي صدَّر بها الديوان، ولم ينكر الشاعر من هذا شيئًا، ولكني أنا أزعم أن الشاعر مصري اللغة بدوي النزعة كما قلت، وأكاد أعتقد أنه تأثر باثنين من شعرائنا المعاصرين خاصةً، هما علي محمود طه وإبراهيم ناجي — رحمهما الله. وتأثير هذين الشاعرين في شعر هذا الديوان أظهر من أن يحتاج إلى دليل، ولولا أن هذا الحديث لا يحتمل إطالة ولا تفصيلًا لبسطت القول في ذلك، ولوازنت بين كثير من شعر الديوان وشعر الشاعرين المصريين، ولكن هذا العصر لا يحتمل مثل هذا النزاع؛ فليكن شاعرنا نجديًّا أو حجازيًّا أو مصريًّا أو لبنانيًّا، فليس لشيء من هذا كله خطر، وحسْبه أنه شاعر عربي مجيد.
واقرأ معي هذه الأبيات:
•••
•••
•••
أرأيت إلى هذا الشعر الجميل الجيد الذي يعترضه أحيانًا بعض الضعف في القافية، لقد أوحى به الكرنك إلى الشاعر كما يقول، وأنا مع ذلك لا أجد من الكرنك في هذا الشعر إلا لفظه، فأما صوره ومعانيه وألفاظه فقد أوحى بها النيل وأوحت بها الشمس التي جعلت أعراض الشحوب تأخذها في الأصيل، وأوحى به الليل الذي جعل النور يذوب في أعطافه، وأوحى به الحب الذي سعد به الحبيبان ساعة بعد فراق طويل وقبل فراق طويل آخر كانا يُحسانه ويشفقان منه، فهما ينعمان ويختلسان الوصل ويعيشان في حلم، وتعقد السعادة لسانيهما حينًا كما يعقده خوف الفراق حينًا آخر فتسكت الأفواه وتتناجى القلوب وتشهد نجوم السماء على هذا كله، ثم ينقضي هذا كله ولا يبقى منه إلا الذكرى التي يحتفظ بها الشاعر ويتمنى لو لم ينسَها حبيبه. فأما آثار الكرنك وبيئته والذين يعيشون فيه ويلمون به فلم يُحس الحبيبان لهما حسًّا ولا وجودًا، شغلهما الحب عن كل هذا، والحب أثر بطبعه، وما أكثرَ ما يعجز الإنسان وآثاره مهما تكن عظامًا عن لفت العاشقين عما هم فيه من سعادة بالقرب وإشفاق من البعاد.
وقد وقفت عند كل ما في هذا الديوان من مقطوعات قصار وقصائد طوال، وإن كان شاعرنا قلَّما يطيل وقلما يبلغ العشرين من الأبيات وإن بلغها لا يعدوها.
وقفت عند هذا الشعر كله وقفات فيها كثير من الرِّضَى الذي يمازجه غالبًا شيء من القلق؛ لأني أجد فيه من عذوبة الروح وصدق اللهجة ما هو جدير أن يُحب، ولكني أجد فيه أحيانًا ألفاظًا وأساليب تنبو عن هذا الطبع الذي خُلق للإجادة والإتقان.
وانظر معي في هذه الأبيات فسترى فيها اختلافًا عجيبًا، ولكنه يَعذُب ويُحبَّب إلى النفس لولا نبوات للفظ تعرض لك فتقلقك عن مواطن الرِّضَى، سترى شاعرنا بدويًّا كأنه ينظر إلى امرئ القيس في الأبيات الأولى من مقطوعته حين يصف رحيل الأحبة وما أثار هذا الرحيل في نفسه من حزن وأسًى، وما انهلَّ في آثار أحبائه من دمع غزير كأنه الجمر، ثم ترى الشاعر ينظر فيه إلى المتنبي في أول قصيدته المشهورة:
ثم تراه آخِر الأمر يصير إلى الشعر المعاصر في مصر ولبنان ويوشك أن ينتهيَ إلى غير شيء، وليس بهذا الاختلاف بأس لو اتسق الشعر ولم يظهر فيه هذا الاضطراب القلق الذي يأتي من التناقض بين طبع شعري بدوي ولغة معاصرة أسرفت عليها الحضارة فكادت تدنو بها من لغة الحديث:
فانظر إلى أول هذا البيت، إلى هذه الأشعار الحائرة التي لا تدري ماذا تقول، وإلى هذا الفكر الشارد وكيف أدَّى الشاعر هذا المعنى بلغة الحديث في أندية الشباب، ثم انظر إلى ختام البيت فسيعيدك فجأةً إلى هذا الرحيل الذي جد كأنك ترى إبل الظاعنين وقد دفعت بهم إلى أعماق الصحراء.
ثم اقرأ:
فسترى هؤلاء الظاعنين وقد أزمعوا بينًا، وكنت أتوقع أن يقول الشاعر بعد هذا شدوا أرحلًا.
ولكن الشاعر لم يرَ أمامه إلا رحلًا واحدًا شده هؤلاء الظاعنون، فاستقام له شطر الوزن الأول من البيت، ولكن بعد أن انحرف عما كان ينبغي له من رصانة اللفظ والصورة جميعًا.
والشاعر يؤنِّث الروح في ديوانه كله ماضيًا مع كثير من المعاصرين في ذلك، ولو قد ذكَّره لمضى مع الفصحاء من شعراء البادية ولزاد بيته جمالًا:
وانظر إلى ختام هذا البيت الأخير كيف أدركه الضعف بعد أن ابتدأ البيت قويًّا متينًا، وكيف تُحس أن الشاعر إنما ختم بيته على هذا النحو لأنه كان في حاجة إلى هذا الفعل يقيم به الوزن والقافية جميعًا:
فانظر إلى هذه الظلال التي يبست أغصانها، إلى ما فيها من تكلف، وأحسب الشاعر أراد أن يضع جنانًا مكان الظلال فأخطأه اللفظ:
وكذلك ترى الشاعر حائرًا بين طبعه البدوي الذي يمده بدقة الحس ورقة الشعور وصدق اللهجة، ولغته المتحضرة التي لا تكاد تلائم طبعه الصادق الشاعر الخصب إلا في شيء من القصور.
وأستطيع — لو استجبت لنفسي — أن أرويَ كل ما في هذا الديوان؛ فهو كله جدير أن يُروى على ما يشع فيه من قلق لا يقتصر على الشاعر وإنما ينال القارئ، ولا سيما إذا كان هذا القارئ قد ألف من أهل نجد والحجاز في عصورهم المزدهرة تجاوبًا قويًّا بين أرواح الشعراء وألسنتهم. ولكني أختم هذا الحديث بهذه المقطوعة الحلوة التي غنى فيها المغنون وليتهم لم يفعلوا؛ فقد خرجوا بها عما ينبغي لها من الصدق في تصوير الحزن والحنان إلى هذا النحو من التلاعب بالصوت والعبث بالألفاظ وإفساد بعضها لسوء النطق بها، كما يفعلون بكلمة الأمر في البيت الثاني فيفتحون بالهمزة في أولها أفواههم وحلوقهم إلى أقصى ما يمكن أن يفتحوها، ثم يضمون شفاههم فجأة على الميم، ثم يفخِّمون الراء شيئًا فيقرعون الأذن ويصدمون الذوق صدمًا مزعجًا، وهذه الأبيات هي:
وليت الشاعر وضع نفسه مكان روحه في هذا البيت:
ألا ترى معي أن هذا الشعر يسيل عذوبة ورقة وخفة روح، وأنه غناء نفس محرومة حقًّا، وأنه صالح للغناء لو حسن الغناء في هذه الأيام.
وما من شك في أن لشاعرنا الأمير طبعًا خصبًا وقلبًا ذكيًّا وشاعرية ممتازة لو استطاع أن يفرغ لها ويمنحها من وقته وجهده وعنايته وأناته ما ينبغي لها؛ إذنْ لبلغ من الشعر ولبلغ به من نفوس القُرَّاء أقصى ما يُريد، وما أظن أنه يستطيع أن ينصرف عن هذا الشعر؛ لأنه سيظل محرومًا دائمًا هذا اللون من الحرمان القاسي، وسيُضطَر إلى أن يسريَ عن نفسه ويفرج عن قلبه بهذا الغناء، ولقد أُتيح له نجح حسن في هذا الديوان، ولكني مطمئن إلى أنه سيبلغ أضعاف هذا النجح في ديوانه المقبل إن شاء الله.