أصداء النيل
أما اليوم فسأحدثك عن شعر جديد كل الجدة، قديم مع ذلك ممعن في القدم، هو جديد لأن صاحبه معاصر يعيش الآن وهو في ريعان الشباب، ما أحسبه جاوز الثلاثين إلا قليلًا، وموضوعاته كلها معاصرة، نتحدث عنها حين يلقى بعضنا بعضًا، يكتب فيها كتابنا وينظم فيها شعراؤنا وتضطرب بها خواطرنا؛ فهو يذكر مصر المعاصرة التي نعيش فيها، ويذكر السودان المعاصر الذي يعيش فيه، وهو يذكر بلاد الإنجليز التي أقام فيها أعوامًا، فعرف مدنها وقراها ومطرها وضبابها وبلا من خصال أهلها فنونًا وألوانًا، وهو يبكي هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأخيرة رغم إقامته في بلاد الإنجليز واتصال الأسباب بينه وبينهم، وهو يصف أشياء كثيرة يألفها الناس جميعًا في هذه الأيام؛ فليس في موضوعات شعره شيء تنبو عنه طباعنا، أو تنفر منه أذواقنا، ولكنه على هذا كله ممعن في القدم؛ لأنه يصطنع لغة وأساليب لا يذوقها إلا الأقلون الذين يذوقون الشعر العربي القديم، والقديم جدًّا، هذا الذي نقرؤه للجاهليين والإسلاميين من شعراء القرنين الأول والثاني.
ولا بد من أن أتحفظ حين أذكر شعراء القرن الثاني؛ فشاعرنا لا يصطنع لغة أبي نواس ومسلم ومن إليهما وأساليبهم، وإنما هو يصطنع لغة الذين يؤثرون جزالة اللفظ والأسلوب منهم كبشار ومروان بن أبي حفصة، وعسى أن يُؤْثر الغريب أكثر من هذين الشاعرين ومن يذهب مذهبهما، وهو لا يتعمد ذلك وإنما يدفعه إليه طبعه وذوقه وبيئته جميعًا، وهو لا يُحس العجز عن سلوك الطريق التي يسلكها أهل هذا العصر في البلاد العربية، أو في المهاجر الأمريكي، وإنما يُحس القدرة كل القدرة على ذلك، وقد جربه وأطال تجربته، ولكنه صدَّ عنه صدودًا؛ لأنه كرهه وضاق به ورأى أنه لا يلائم طبعه ولا ذوقه ولا مذهبه في الجمال.
ذلك أنه بدوي النشأة بدوي الثقافة في الطور الأول من حياته، درس اللغة العربية فأتقن درسها وتعمق الشعر العربي القديم كما لم يتعمقه أحد من المعاصرين، وقرأ الشعر العربي في العصور المختلفة ودرسه درس المتقن له، ولكن شعرنا القديم وحده هو الذي استأثر بمكان الرِّضَى من قلبه وعقله وذوقه جميعًا، وقد خُلق شاعرًا دقيق الحس ثائر العاطفة حاد الشعور مرهف المزاج قوي الخيال، ولكنه حين أراد أن يُعرب عن ذات نفسه إعرابًا يلائم طبعه وهواه سلك إلى ذلك طرقًا مختلفة فلم يعجبه من هذه الطرق إلا نهج القدماء من شعرائنا، فآثرها وأمعن فيها كأنه خُلق لها وكأنها خُلقت له، والعجيب من أمره أنه وُفق من ذلك إلى أروع ما يُتاح لشاعر أن يبلغه من الإجادة والإتقان، وأعجب من هذا أنه طوع الحضارة الحديثة للغته القديمة أو طوع لغته القديمة لهذه الحضارة الحديثة، فلاءم بينهما ملاءمة لا تُحس فيها نبوًا ولا اعوجاجًا.
وأنت تقرؤه حين يصف مظاهر الحياة في بلاد الإنجليز فلا تجد في وصفه تكلُّفًا ولا تعمُّلًا، وإنما تراه يمضي مع طبعه الخصب في يسر وإسماح لا يشق عليه وصف ولا يعيبه تصوير، وإنما يشق عليك أنت في كثير من الأحيان أن تسايره أو تتبعه؛ لأنك تشعر بالحاجة إلى أن تقف لتفهم عنه أو لتبحث عن هذا اللفظ أو ذاك في معجم من معجمات اللغة، أو لترد هذا الأسلوب أو ذاك إلى ما ألفت من صور التعبير؛ فأنت لا تُقدِم على قراءته إلا إذا كنت من أُولي العزم أولًا، ومن أصحاب العلم الدقيق العميق الواسع باللغة العربية وأسرارها وغريبها وأساليبها حين يلتوي بها الشعراء عن منهجها الواضح المألوف.
وليس في هذا كله شيء من الغرابة، فقد قلت إنه بدوي النشأة والبيئة والثقافة في الطور الأول من حياته، وأضيف إلى ذلك أني لا أعرف معاصرًا عربيًّا تعمق مثله درس الشعر العربي وأوزانه وقوافيه ودقائقه وموسيقاه، وهو قد درس هذا كله أوفى دراسة وأشملها في كتاب ضخم يقع في جزأين عظيمين وهو كتاب «المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها».
وقد وصفت الجزء الأول من هذا الكتاب منذ قريب من عامين، فأي عجب في أن يكون صاحب هذا الكتاب مُؤْثرًا بطبعه لمذهب القدماء في شعرهم، وهو قد فُتن بالشعر العربي القديم فتنة لا حد لها ولا غاية؛ فهو ينبئنا بأنه قرأ الشعر الإنجليزي على اختلاف ألوانه وعصوره فلم يجده قادرًا على أن يثبت للشعر العربي، ولم يستثنِ من ذلك شعر شكسبير على غرابة الموازنة بين الشعر العربي والشعر الإنجليزي وشعر شكسبير خاصةً؛ لأن الأمر مختلف بين الشعرين، ولأن أسباب الموازنة بينهما لا تتصل ولا تستقيم؛ فلم يخطر لشاعر عربي قديم أن من الممكن أن يذهب شاعر بشعره مذهب شكسبير أو ملتون أو بيرون أو غيرهم من شعراء الإنجليز والأوروبيين عامة.
كل شيء بين الشعرين مختلف والموازنة بينهما عبث من العبث، ولكن الافتنان بالشعر العربي قد ملك على شاعرنا أمره ودفعه إلى هذا الغلو الذي لا ينتهي إلى شيء، وقد آن لنا أن نصل إلى شعر صاحبنا وأن نقف عنده وقفاتٍ قصارًا تعطيك منه صورًا إلا تكن دقيقة كل الدقة فهي مقاربة أشد المقاربة، وأعترف بأني أجد في هذا شيئًا من الجهد، مع أني أحب هذا الشعر وأستعذبه وأرضى عنه ولكن كما أذوق شعر جرير وأستعذبه وأرضى عنه، ولو كنت شاعرًا لما سلكت طريق شاعرنا الأديب؛ لأني أوثر أن أصل إلى قلوب الذين يقرءونني وأذواقهم.
وإذا تكلفت أنا هذا الجهد لأقرِّب إليك هذا الشعر، فلا أقل من أن تتكلف أنت هذا الجهد لتقرأ وتفهم وتذوق وتعلم آخر الأمر أن الشعر العربي القديم ما زال حيًّا في بعض المواطن العربية؛ كان حيًّا في أوائل هذا القرن حين كان الكاظمي — رحمه الله — ينظم قصائده الغر وهو حي في هذه الأيام حين نقرأ هذا الديوان ودواوين أخرى لم ينشرها شاعرنا المجيد بعد، وكنا نقول: إن شعراءنا الذين عاشوا في أواخر القرن الماضي وفي الثلث الأول من هذا القرن من أمثال البارودي وشوقي وحافظ قد أسرفوا على أنفسهم وعلى الناس في تقليد العباسيين، فكيف بمن يذهب مذهب الجاهليين والإسلاميين غير مقلد ولا متكلف.
واقرأ معي هذه الأبيات:
وأول ما يلاحظه أيسر القُرَّاء علمًا بالشعر العربي القديم هو هذه القافية التامة المطمئنة لهذه الأبيات، وكل من له إلمام بالأدب العربي يذكر حين يقرؤها أو حين يقرأ البيت الأول منها شعرًا قديمًا يُنسب إلى امرئ القيس جاء على هذا الوزن وعلى هذه القافية وأوله:
وما أشك في أن شاعرنا قد نظر إلى هذا الشعر القديم حين نظم هذه الأبيات أو هذه القصيدة التي اختار لنا منها هذه الأبيات؛ فبينه وبين شعره نوع من العهد يملكه الفن فلا يستطيع إلا أن يستجيب له ويكتب ما يُملي عليه، فإذا انجلى عنه شيطان الشعر نظر هو في هذا الشعر فأثبت منه ما يختار ومحا منه ما لا يختار.
وهو لا يكاد ينظم قصيدة جادة إلا نظر على نحوٍ من الأنحاء إلى نموذج قديم.
وانظر بعد ذلك إلى البيت الثاني فسترى فيه ميلًا ظاهرًا إلى الغريب؛ فصوت البلابل الصادحة يثيره ويهيج عواطفه وحنينه إلى وطنه، ولكن البلابل وحدها لا تكفيه، فهناك أسراب أخرى للطير بعضها ضعيف الصوت وهي ذات الوصيع، والوصيع صوت صغار الطير كما يقول هو في شرح الديوان، وبعضها الآخر له أرنان وهو الصوت الرفيع؛ فانظر إلى هاتين الكلمتين الوصيع والأرنان، يرى الشاعر أنهما لفظان فصيحان لا غبار عليهما، وهما من ألفاظ الشعر القديم فيُقبِل عليهما مبتهجًا بهما ولا عليه أن يسيغهما القارئ المعاصر أو لا يسيغهما؛ فهو كغيره من ذوي الأصالة في الشعر يُفكر في فنِّه ويستجيب له قبل أن يفكر في قارئه وفيما يسيغ أو لا يسيغ.
وانظر إلى البيت الثالث فسترى في شطره الأخير أسلوبًا ألفه الشعراء القدماء وعُني به النحويون عناية شديدة، ولكن المحدثين لا يألفونه ولا يكرهون الإعراب عنه حين ينشئون الشعر والنثر، وذلك قوله: وخان وما خنت المودة خلاني.
يريد أن يقول: وخان خلاني المودة وما خنتها أنا، فآثر الإيجاز في هذا الأسلوب الجميل كما فعل امرؤ القيس حين قال:
أراد أن يقول: كفاني قليل من المال ولم أطلب كثيره.
وهذه الزرافات والأحدان في البيت الرابع نعرفهما في الشعر القديم، ولا يكاد الشعراء المعاصرون يلمون بهما، والشاعر بالطبع يريد أن يقول إن الأحداث ألمت به مفردة ومجتمعة.
وفي البيت الأخير أنَّث مر الليالي؛ لأن القدماء يفعلون ذلك في شعرهم واضطُر إلى أن ينبهنا إلى ذلك، واتخذ الصوان قافية له إيثارًا لجزالة اللفظ ورصانته، وأي شيء أمتن وأرصن من الصوان! ولكن انظر إلى ما كلفته هذه القافية من تشبيه نفسه بالصخور الصُّلبة التي لا توهنها أحداث الزمان؛ فهذا الشعر جزل رصين فيه إيثار للغريب من اللفظة والغريب من الأساليب وهو مع ذلك يؤدي به معانيَ قريبة كل القرب يسيرة كل اليسر، وأي شيء أقرب وأيسر من أن يذكر الغريب من أبناء النيل في لندرة نهره العزيز فيطرب لهذه الذكرى ويحن للنيل ويهيج عواطفَه غناءُ البلابل وأصوات صغار الطير وكبارها، ثم يدعوه هذا الحنين في غربته إلى أن يشكوَ انفراده ووحدته، لا لأنه غريب فحسب، بل لأن إخوانه قد خانوا عهده ونسوا مودته وهو لهم ذاكر ولعهدهم وفيٌّ، على أنه لا يشكو الغربة وتضييع إخوانه للعهد والود فحسب، وإنما يشكو معهما هذه الأحداث التي ألمت به جماعاتٍ وأفرادًا وهو يستقبلها ثابتًا لها جلدًا صبورًا عليها!
كل هذه المعاني قريبة يسيرة كما ترى، وهي جديرة أن تُؤدَّى في ألفاظ وأساليب قريبة يسيرة مثلها تبلغ القلوب في غير مشقة ولا جهد، ولكن ماذا تصنع وصاحبنا قد خُلق للحَزن لا للسهل، وهو بالطبع يرى هذه الألفاظ والأساليب قريبة كل القرب يسيرة كل اليسر، ويستطيع أن يقول لنا: إنكم تنكرون هذه الألفاظ وهذه الأساليب لأنكم لم تألفوها في شعركم ولا في نثركم ولا فيما تعودتم قراءته من الكتب والدواوين، وما عسى أن تقولوا لو أني آثرت ألفاظ رؤبة والعجاج وأساليبهما، فلم أُتِحْ لكم أن تقرءوا شعري إلا مع مراجعة المعجمات وكتب النحو والغريب لتفهموا كل بيت من أبياته.
والحمد لله على أنه لم يفعل، ولو قد فعل لكان إنما ينشئ الشعر لنفسه ولأمثاله الذين يُحصَون.
وشاعرنا شديد الحب للنيل، لا تكاد تخلو من ذكره قصيدة أو مقطوعة من شعره، وهو يُؤْثر النيل على كل شيء، ويؤثر الحياة في وادي النيل على كل ألوان الحياة مهما تكن الظروف، وهو مع ذلك شاعر يشتاق إلى النيل فيطرب لذكره ويحنُّ إليه ما أقام في بلاد الإنجليز، فإذا عاد إلى النيل شاقته لندرة وما عرف فيها من علم وجمال وسحر، وأي غرابة في ذلك! فالشعراء يرضَوْن فيقولون خير ما يعلمون، ويسخطون فيقولون شر ما يعلمون، وقديمًا قال رسول الله: إن من البيان لسحرًا وإن من الشعر لحِكَمًا.
وانظر إلى أبيات أخرى من هذا الديوان يصف فيها الشاعر حنينه إلى النيل، ويصوِّر فيه الطبيعة تصويرًا جميلًا رائعًا مؤثرًا في النفوس حقًّا ويحذو فيها حذو امرئ القيس أيضًا في الوزن والقافية، ولكنه لا يصطنع اللفظ الغريب إلا قليلًا:
أترى إلى وصفه لالتقاء النيل الأزرق بالنيل الأبيض وقد شبهه هذا التشبيه البدوي الذي بعُد به العهد وحجبته عنا القرون لولا أنَّا نقرؤه في الشعر القديم، فأحد النهرين عذراء مكسال والآخر يسعى إلى خدرها كأنه امرؤ القيس في لاميته المشهورة:
وفيها يقول:
أو كأنه عمر بن أبي ربيعة في رائيته التي أولها:
وانظر إليه كيف وصف اصطخاب النيل الأبيض بأمواجه الزاخرة وقطع السحاب الرقيق من فوقه كأنها الطير تهفو إلى الماء لتحسو منه، وكيف وصف السواقيَ وهي تبكي على الشاطئ بكاء الحزينة ذات الدموع الغزار، وانظر إلى النخل وقد أطل البدر من خلفه فخيل إلى رائيه أنه عنق قد أطاف به الحُلي.
وانظر إلى هذه الصورة الشعرية الرائعة، وهي صورة شجر السيال يلمع النور فوق شوكه طرائق دقاقًا كأنه الذر يلمع في السراب.
ثم اسمع إلى الشاعر كيف يتمنى ويسأل نفسه هل يتاح له أن يبيت ليلة على تلك الكثبان التي تقوم عليها داره حيث ينظر منها إلى هذه الطبيعة الحلوة التي خالطت قلبه، وهل يتاح له أن يسمع ولو مرة تغريد الطائر أول الليل وآخر الصبح وصوت المؤذن وصوت من يتلو القرآن من آخر الليل وعند أسفار الصبح.
وليس عليك بأس من كلمة الطخا؛ فهو قد فسرها لك في الديوان بأنها السحاب الخفيف، والشاعر يُحس إحساسًا قويًّا أنه غريب في شعره أيضًا؛ لأنه يؤثر جزالة اللفظ ورصانة الأسلوب، والمعاصرون لا يحبون هذه الجزالة، وإنما يكلفون بهذا الكلام الهين اليسير المهجن الذي لا تزينه الفصاحة الخالصة.
فاسمع له كيف يقول:
ولو قبل الشاعر منا لرددنا عليه بعض حزنه؛ لأنه يستطيع أن يكون جزلًا رصين القول رائع اللفظ والأسلوب دون أن يُورط نفسه ويُورطنا معه في الطخا وفي السبنتاة وفي الوصيع وأمثالها من هذه الألفاظ الغلاظ التي تسجل في المعجمات لنستعين بها على فهم النصوص القديمة، ولكن جريان الألسنة بها حتى في أجمل الشعر وأروعه قد انقضى عصره منذ عهد بعيد.
ولغات الناس صورة لحياتهم، فإذا اتخذوها وسيلة إلى الفن تخيروا منها أصفاها وأنقاها وأحسنها مسًّا للسمع وموقعًا من القلب وملاءمة للذوق.
وليس يكفي أن يقرأ الإنجليزي شعر شكسبير ليتخذ ألفاظه وأساليبه نماذج يحتذيها، ولا أن يقرأ الفرنسي المعاصر شعر راسين لينظم الشعر على مثاله، ولا أن يقرأ الإيطالي شعر دانتي ليصطنع ألفاظه وأساليبه التي كانت تجمل وتروق في القرن الرابع عشر وما زالت إلى الآن تجمل وتروق حين يقرؤها الممتازون من العلماء والأدباء، ولكنها لا تُقبل من كاتب أو شاعر معاصر.
واللغة العربية كغيرها من اللغات؛ تحيا مع الناس الذين يتكلمونها وتخضع لما يخضعون له من أطوار الحياة وخطوبها، تغلظ حين تغلظ الطباع وتلين وتعذب حين تعذب الطباع وتلين.
وليحدثني الشاعر المجيد كيف السبيل إلى أن يفهم القارئ المعاصر ذو الثقافة المعتدلة من الأدب العربي مثل هذا البيت دون أن يرجع إلى المعجمات ويفهم ما تروي من الأمثال، والشواهد من شعر جرير والذين عاصروه — وأين نحن من جرير ومعاصريه:
أي الناس يستطيع أن يفهم هذا البيت إذا لم يكن من أساتذة الأدب الذين عرفوا دقائق اللغة وتعمقوا شعر القدماء من شعرائها، ولا سيما حتى استمر مريرها هذه! وما على الشاعر لو قد آثر اليسر فقال: حتى اشتدت قوتها وعرفت كيف تحتمل الأحداث وتصبر لها!
والبيت الذي يلي هذا البيت كيف السبيل إلى فهمه دون الرجوع إلى المعجمات:
لفهم كلمة الشقور هذه، والشاعر نفسه يفسر لنا هذه الكلمة بأنها الأمور، فما ضره لو اصطنع كلمة الأمور نفسها فأقام وزنه وقافيته ولم يُغير من جمال الشعر شيئًا!
وهذا البيت وكلمة السبنتاة خاصةً فيه كيف يستطيع المعاصرون أن يفهموها دون الرجوع إلى معجم من المعجمات؟! وكيف السبيل إلى أن يذوقوها بعد أن يفهموها؟!
وأشهد لقد صادفت هذه الكلمة في شعر قديم رُثِيَ به عمر بن الخطاب رحمه الله فضقت بها أشد الضيق؛ لأني قرأت هذا الشعر في إيطاليا ولم يكن لسان العرب قريبًا مني، وإنما كان بيني وبينه البحر أو بيني وبينه السفر إلى روما في البيت المشهور:
والشاعر الذي يرثي عمر يذكر الغلام الفارسي الذي طعنه.
أما شاعرنا فيصطنع السبنتاة هذه في وصف عذراء حسناء قد أسكرها الشباب، وأي بأس عليه لو اصطنع كلمة أخرى تؤدي معناه ولا تشق على الأساتذة والطلاب وأوساط الناس جميعًا!
وعلى رغم هذا كله فشاعرنا فذٌّ ما في ذلك شك، ليس في ديوانه على طوله بيت واحد يمكن أن يُطرح أو يُهمل، وهو يعرف أحيانًا كيف يعذب ويلين حين يعبث وحين يداعب الطبيعة أو يتحدث إلى الأطفال؛ فهو قد مارس التعليم وهو الآن أستاذ، ولكنه مع الأسف حين يعبث لا يلبث أن يسأم السهولة ويضيق بها ويقول في آخر مقطوعة من مقطوعاته: هذا كلام فارغ ونُؤْثر اطِّراحه.
وليست المقطوعة كلامًا فارغًا، وإنما أفرغها عنده أنها لا تشتمل على الطخا ولا على السبنتاة، ولا على ما يشبهها من هذه الألفاظ التي هي إلى نوادر أبي زيد الأنصاري أقرب منها إلى أي شيء آخر.
وللشاعر غناء رائع كنت أحب أن أقف عنده وأن أطيل الوقوف، ولكن إن فعلت لم أفرغ ولم يفرغ القارئ ولم يجد هذا الحديث مكانه في الجمهورية.
ومن حق كل مثقف في الأدب العربي أن يقرأ هذا الديوان، فسيجد فيه متعة لا شك فيها وروعة قلما نظفر بها في شعر معاصر، ولكنه محتاج دائمًا إلى أن يكون المعجم قريبًا منه.
ولي بعد هذا كله عتب على الشاعر المجيد وعتب لا يخلو من مرارة ومن بعض ما يجد الصديق من خيبة الأمل؛ فما هذا التعريض بمصر في بعض شعره أو ما خوفه أن تستأثر مصر بالنيل من دون السودان؟! ومتى خطر لذي عقل أن مصر يمكن أن تستأثر بخير دون جيرانها من قرب منها ومن بعد عنها؟!
والتاريخ لم يعرف مصر منذ أقدم عصورها إلا مُؤْثرة على نفسها لا تكره أن توسع على غيرها وإن ضاق بها العيش، وما أعرف أن مصر استأثرت بشيء دون جيرانها في يوم من الأيام، والشاعر نفسه فيما أعلم مدين لمصر بالكثير؛ فبعلمها عرف العربية وتثقف فيها وبلغ من الفقه بها ما بلغ.
والشعر الذي يغمز فيه مصر هو قوله:
عفا الله عنك أيها الشاعر الصديق، ما أكثرَ ما ذكرت خيانة الود ونقض العهد والإخلال بحق الإخاء! وها أنت ذا تورط نفسك في بعض ما أنكرت على من خان عهدك من الإخوان والخلان، فاردد على نفسك بعض حلمك ولا تُطِعِ الهوى فيضلك عن سبيل الله، واذكر قول الشاعر القديم:
وأنا على رغم هذا كله أهنِّئك بشعرك الرائع، وأتمنى أن يذوق منه قراؤك مثل ما ذقت، وأن يجدوا فيه من الروعة مثل ما وجدت وإن كان هذا على أكثرهم عسيرًا.